التعايش بين المشروع الشيعي الحاضر والمشروع السني الغائب
(1)
لا يختلف اثنان في أن لإيران مشروعاً يخضع ظهوره وانكماشه للمتغيرات السياسية التي تعيشها إيران والمنطقة، وباستقراء تاريخ إيران فيما بعد الثورة ومواقفها السياسية من الأحداث - بحسب رأي المحللين للسياسة الإيرانية - هناك ثلاثة محاور تبنتها إيران تمثل الإطار العام لمشروعها الشيعي وأهدافه:
المحور الأول: محور إسقاط بعض الأنظمة.
المحور الثاني: محور دعم الحركات.
المحور الثالث: محور تشييع السنة.
ومنذ قيام الثورة الإيرانية وحتى يومنا هذا دأب المشروع الإيراني على السير وفق هذه المحاور الثلاثة بخطى تغير وتيرتها بحسب المعطيات السياسية.
المحور الأول: محور إسقاط بعض الأنظمة:
فعلى هذا الصعيد كانت وتيرة سير المشروع الشيعي لإسقاط بعض الأنظمة دائماً، تعرقلها معطيات الواقع الذي تضطر معه إيران إلى تغيير سياستها مكرهة مغلوبة على أمرها! فمع استتباب الحكم الثوري الإيراني اندفعت إيران بكل قوتها في محاولة جادة لإسقاط بعض أنظمة دول المنطقة وتشييع أهلها من خلال البوابة العراقية، لكنها اصطدمت بحرب أوهنتها تسع سنين دأباً، ألا وهي الحرب مع العراق خرجت منها منهكة مثقلة بالمتاعب والمشاكل! فأبدت بعدها مواقف لينة تجاه دول المنطقة، فخبت بعدها نيران تصدير الثورة والمشروع الشيعي لكنها لم تنطفئ.
وما إن سنحت لها الفرصة لتكون شريكاً في دمار العراق وأفغانستان السُّنيتَيْن حتى انخرطت في ذلك، كما أكد ذلك أحد زعماء إيران في خطابه ممتناً على أمريكا بما قدمته إيران من دعم في هذا الشأن، فكانت إيران أول المهللين لهذه الشراكة لما لها من أهمية كبرى في بعث مشروعها، ولم تجد حرجاً في التصريح بذلك علناً!! والحق يقال أنها عرفت من أين تؤكل الكتف، وبرهنت أن لها مشروعاً شيعياً استراتيجياً تفعل من أجله كل ممكن، حتى لو أدى بها الأمر إلى استضعاف وقهر أهل السنة في العراق، وإحكام القبضة على أكثر من ستة عشر مليون سني إيراني.
فأمريكا التي وضعت في سلتها مجموعة من العملاء الليبراليين والعلمانيين (غير المقربين لإيران) الذين هيأتهم لحكم العراق بعد الاحتلال لم تفلح في ذلك؛ فقد وجدت نفسها مرغمة - تحت وطأة المقاومة السُّنية - على إقصاء أولئك العلمانيين واستبدالهم بعملائها الشيعة المقربين من إيران، بل بعضهم إلى إيران أقرب منه إلى أمريكا، وهنا كان المستفيد الأكبر من هيمنة الشيعة على تمثيل الاحتلال هو إيران، وهو ما أعطى بُعداً آخر للمشروع الإيراني في المنطقة، فظهر على مسرح الأحداث من جديد، وظهرت حقيقته لأول مرة في مشهد قسوة التعامل مع أهل السنة.
المحور الثاني: محور تقديم الدعم السياسي للحركات المعارضة:
فقد تبنت إيران هذا الاتجاه بعد نجاح الثورة، وأسَّست على خلفية ذلك شبكة علاقات بحركات (إسلامية) معارضة في بعض الدول الإسلامية، كما أنشأت تنظيمات تابعة لها تبعية مباشرة في كل من لبنان والعراق وفلسطين واليمن ودول الخليج في إطار ما سمي وقتها (بمشروع تصدير الثورة)، فكان حزب الله أقوى التنظيمات التي استطاعت إيران أن تستلها من رحم حركة أمل الشيعية، ثم استطاعت أن تكون منه حزباً سياسياً وعسكرياً فاعلاً، إلى أن أصبح اليوم يمثل دولة الجنوب اللبناني بكل ما للدولة من مقومات، وإن كان لم يعلن عنها بعد!
فإن كان هذا عجباً فإن الأعجب منه هو تعاطف بعض الحركات الإسلامية السنية (المناهضة - مشكورة - للاحتلال الصهيوني) مع سياسة إيران، أو مجاملتها في عدم التصريح بالموقف الصحيح من تلك السياسة على الرغم من احتلال إيران للجزر الإماراتية.
المحور الثالث: محور تشييع الشعوب والأمم، فقد دأبت إيران من خلال إعلامها المرئي والمكتوب على نشر التشيع في بلاد السنة؛ بتوظيف تشكيلة من النوافذ اعتمدتها كطرق للتشيع في الشعوب السنية: (مجلات وفضائيات - منشورات - مواقع على الإنترنت)، ولم يخل ذلك من تنسيق مع دعاتها ورموزها الشيعة، سواء كانوا أفراداً أو أقليات، كما هو الحال في شمال اليمن قرب الحدود السعودية!! الأمر الذي جعل المحللين للسياسة الإيرانية في هذا المحور يتعجبون من وقف الحرب المفاجئ شمال اليمن في ظل شائعات بالحكم الفدرالي، وهو ما يدعو للتساؤل عن سر دعم وتقوية الكتل الشيعية على حدود المملكة بالذات؟!
ناهيك عن خديعة عوام السنة كما فعل حزب الله - مثلاً - من خلال وَهْم انتصارين متتاليين على إسرائيل، استطاع بهما أن يدغدغ عواطف فئام من الناس في البلدان الإسلامية، وهذا ما جعل دعاة الشيعة يستغلون الفرصة باختراق بلاد السنة، والترويج لمذهبهم باعتباره المذهب الأوحد القادر على انتشال الأمة من الضعف والهوان، وتكالب الأعداء، وأولهم اليهود.
(2)
ما من شك في أن الاحتلال الأمريكي للعراق، وكذلك أوهام انتصارات حزب الله في لبنان، هما عاملان مهمان جداً في بعث المشروع الإيراني على مستوى اتساع النفوذ الإيراني في المنطقة، وكذلك تمكينها من اختراق آحاد من أبناء السنة في بعض البلدان العربية.
عملياً أصبحت إيران سيدة الأجواء في العراق؛ تحظى فيه بدعم مطلق من قبل الأحزاب الشيعية، ولها في لبنان (دولة الجنوب)، وتسعى بكل ثقلها لاختراق المنطقة من خلال الأقليات الشيعية، حتى أصبح لها أتباع في دول شتى لم يكن لهم أثر فيها بالأمس القريب؛ ما جعل التحذيرات من المشروع الإيراني الهادف لتشييع المسلمين تتوالى، حتى أطلق الشيخ يوسف القرضاوي مؤخراً صيحات نذير من أن: (إيران بلد مطامع وأحلام الإمبراطورية الفارسية الكسروية القديمة، والمسألة مخلوطة بنزعة فارسية، مع نزعة شيعية مذهبية، مع تعصب)، كما حذر من المشروع الإيراني الهادف لتشييع الدول السنية بقوله: (إن بلادًا كثيرة كانت سنية خالصة أصبح فيها شيعة)، وأوضح قائلاً: (مصر التي أعرفها جيدًا، وأعرف أنها قبل عشرين سنة لم يكن فيها شيعي واحد منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، استطاعوا أن يخترقوها، وأصبح لهم أناس يكتبون في الصحف، ويؤلفون كتبًا، ولهم صوت مسموع في مصر، وكذلك في السودان وتونس والجزائر والمغرب، فضلاً عن البلاد غير العربية مثل إندونيسيا وماليزيا ونيجيريا والسنغال)، وهذا (إذا لم يقابل بالمقاومة، ستجد بعد مدة أن المذهب الشيعي تغلغل في بلاد السنة، وهناك تصبح مشكلة كبرى، وتصبح أقلية شيعية تطالب بحقوقها، وتصطدم بالأكثرية السنية، وهنا تشتعل النار وتكون الحروب).
على مستوى الخليج لا تزال إيران تحتل الجزر الإماراتية الثلاث، وهذا مما يتناقض مع خطب الزعماء الإيرانيين في شعارات الوحدة الإسلامية! وترفض أي تداول سياسي بخصوصها في العلاقات مع دول الخليج؛ ما يعكس نيتها في الهيمنة على جغرافية المنطقة، كما لا تزال متهمة بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، وتهدد بتعطيل المصالح الاقتصادية (إغلاق مضيق هرمز مثلاً)، وتوسيع دائرة الحرب في المنطقة إذا ما تعرضت لحرب من قِبل أمريكا، بل صدر تصريح من وقت قريب لمساعد وزير الخارجية لشؤون الأبحاث والدراسات يقول فيه: إن الاستقرار لن يحل في المنطقة، وإن الأزمات سوف تستمر، طالما ظلت الأنظمة الملكية في الخليج قائمة! ما جعل مجلس التعاون الخليجي يستنكر تلك التصريحات، ويعتبرها تصريحات تعكس وجهة نظر رسمية لأصحاب القرار، وقريب منه صدر تصريح آخر لمسؤول إيراني كبير.
وإذا تأملنا ذلك كله فسنجد أن المشروع الإيراني بأبعاده الهادفة لتحقيق أحلام الإمبراطورية الفارسية لا يزال قائماً بكل مرتكزاته، وربما تحوجه الضرورة أحياناً للانكماش، لكن ما إن تتاح له فرصة الظهور حتى يكشف ذاته ووجوده، ومن لم يفهم هذا فلن يفهم أسباب حرب الخليج الأولى!
السؤال الذي يطرح نفسه في خضم الحديث عن هذا المشروع هو:
أين المشروع السني المقابل؟
وهل من مشاريع جادة في العمق الإيراني، ودعم المشروع السني إن وجد؟!
وما الذي أعده أهل السنة في بلاد السنة لوأد المشروع الشيعي الزاحف إليها؟
هل أعددنا الدراسات والبحوث عن أسباب تشيع بعض آحاد السنة؟!
هل فكرنا في طرح البدائل وسبل المدافعة؟!
أم أن المشروع السني الذي غاب في العراق سيظل غائباً عن مسرح الأحداث دائماً؟!
(3)
النزاع السني الشيعي ليس حديثاً؛ فهو نزاع قديم قام على خلاف غاية في التعقيد على الأصول العقدية والفقهية التي يراها كل طرف من الطرفين ثابتاً من الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها بحال، وهو ما حوّل النزاع في فترات تاريخية إلى حروب.
ولسنا هنا بصدد الفصل والتفصيل في مشهد الخلاف وأسبابه وتاريخه، ولكن بصدد النظر والكشف عن أسس التعايش والحوار، وما هو الحد الأدنى الذي يمكن معه لأهل السنة القبول بالشيعة طرفاً محاوراً ومسالماً في هذا العالم.
عملياً ظلت طوائف الأقليات الشيعية على اختلاف طرائقها تعيش في أمن وأمان في بلاد السنة، لها حقوقها، وعليها واجباتها، وتتمتع بالشراكة الكاملة في المواطنة، والتمتع بمميزاتها، وإلى يومنا هذا لا تزال تلك الطوائف مكوناً من مكونات الوطن، معترفاً بحقوقه الوطنية العامة، وبخصوصيات مذهبه التي لا تتناقض مع ثوابت الدولة الوطنية والدينية! وهذه الصورة الحية كافية في الدلالة على أن أهل السنة لا ينكرون التعايش مع الشيعة من حيث المبدأ على أرضية احترام الثوابت الدينية، وأسس المواطنة؛ فليس في بنود أهل السنة مبدأ الاستئصال لمجرد الخلاف، ولكن في بنودهم خطوط حمراء لا يمكن معها التسامح أو التساهل! هذه الخطوط الحمر بعبارة بينة مختصرة هي: الثوابت القطعية الدينية والوطنية!
ما يجري اليوم في سياق المشروع الشيعي الإيراني يراه المتابعون محاولات اختراق مسعورة لبلاد السنة بطرق شتى، وهي تعكس أيديولوجيا ذات عمق عقدي شعبوي، ومحاور مذهبية تعشعش في قلوب الملالي وعقولهم، وهو ما جعل أهل السنة يحذرون بشدة من خطورة ذلك، فقبل أيام صدر كتاب جدّد فيه الأزهر الشريف تحذير الأمة الإسلامية من مخاطر المشروع الإيراني وأهدافه، وبيّن خطورة هذا المشروع على عقيدة الأمة وتوحيدها، كما فصل الجوهر العقدي للمشروع الشيعي الزاحف، ومخالفاته للقطعيات العقدية لدى أهل السنة، ودعا إلى التفكير جدياً في سبل التصدي لهذا الخطر، ومن قبل ذلك بادر الشيخ القرضاوي إلى التحذير الشديد من هذا المشروع وأبعاده العقدية الخطيرة على الدين نفسه، ودعا في بيان تلاه أيضاً إلى وأد هذا المشروع في مهده قبل أن يجد له مكاناً بين أهل السنة، مؤكداً على أن: (الخطر في نشر التشيع أن وراءه دولة لها أهدافها الاستراتيجية، وهي تسعى إلى توظيف الدين والمذهب لتحقيق أهداف التوسُّع، ومد مناطق النفوذ، حيث تصبح الأقليات التي تأسَّست عبر السنين أذرعاً وقواعد إيرانية فاعلة لتوتير العلاقات بين العرب وإيران، وصالحة لخدمة استراتيجية التوسع القومي لإيران. وأنا أردتُ أن أنذر قومي, وأصرخ في أمتي, محذِّرا من الحريق المدمِّر الذي ينتظرها إذا لم تَصْحُ من سكرتها, وتتنبه من غفلتها, وتسدّ الطريق على المغرورين الطامحين الذين يطلقون الشرر فيتطاير, ولا يخافون خطره! فالغزو الشيعي للمجتمعات السنية أقرَّ به الشيعة أنفسهم. لقد أقرَّ بهذا الرئيس السابق رفسنجاني, الذي يعدُّونه الرجل الثاني في النظام الإيراني في لقائي معه على شاشة الجزيرة في 21-2- 2007م.
فقد رفض أن يقول أي كلمة في إيقاف هذا النشاط الشيعي المبيت, وقال: إنسان عنده خير كيف نمنعه أن يبلِّغه؟
ووكالة الأنباء الإيرانية (مهر) اعتبرت انتشار المذهب الشيعي في أهل السنة من معجزات آل البيت!).
يُشكر الشيخ القرضاوي على موقفه الصريح، وبيانه الواضح وموقفه الجريء هذا الذي جعل ملالي إيران، وكذلك وكالاتهم تتعرض له بهجوم كاسح مليء بالاتهامات الجائرة والسب والقذف والتسفيه.
إننا نريد أن ننبه إلى ضرورة تجنيب المنطقة لحرب طائفية، وضرورة نزع فتيلها؛ لأن استمرار هذا المشهد يوحي بقدوم معركة مذهبية شرسة، تعيد إلى الأذهان المعارك التاريخية بين الشيعة والسنة، وهذا ما لا يتمناه عقلاء السنة والشيعة.
إن الشيعة من الناحية الديموغرافية هم أقلية (جداً) مقارنة بأهل السنة في العالم الإسلامي، باستثناء إيران وبعض دول القوقاز، كل الطوائف الشيعية هم أقلية مقابل السنة، وفي كثير من الدول الإسلامية لا وجود لهم أصلاً، وحتى في العراق نفسه ليسوا أكثرية مقابل العرب والأكراد السنة بالأرقام والإحصاءات والواقع، وإن كان الاحتلال والشيعة معه يصورون - بالحديد والنار - الحقيقة على غير ما هي عليه.
وهو ما يعني أن المشروع الشيعي مهما كابر في الاستماتة محاولاً تشييع السنة فلن يجرؤ على تحقيق ذلك، ولن يعدو قدره أمام سواد الأمة وقوتها ويقينها بما هي عليه من الحق، ومهما بلغت طموحاته فمعركته المذهبية والفكرية خاسرة في النهاية. تقول حكمة الجنرالات: (إن أفضل طريق لكسب الحرب هي تفاديها)، وإنما يكون تفاديها بنسف المشروع الشيعي في مهده، والتفكير جدياً في سبل مواجهته، والتصدي لخططه.