أنواع البدعة وأحوال أهلها
البدع ليست على مرتبة واحدة، فمنها البدعة الكفرية المخرجة من الملة، ومنها البدعة التي لا تخرج من الملة، ولكن صاحبها على خطر، ومنها البدعة العلمية، ومنها البدعة الاعتقادية، ومنها البدعة الحقيقية، ومنها البدعة الإضافية. وهكذا تختلف مراتب البدع وتتفاوت، واختلاف مراتب البدع هو باختلاف متعلقاتها، وهذه المتعلقات تنحصر في:
1- مسائل الأصول ومسائل الاجتهاد.
2- القواعد والأصول الاعتقادية والعملية، والفروع الاعتقادية والعملية.
3- الضروريات والحاجيات والتكميليات.
4- الكليات والجزئيات.
5- البدع الحقيقية والإضافية.
6- البدع التي يظهر مأخذها والتي يشكل مأخذها(1).
وباختلاف هذه المتعلقات تختلف مرتبة البدعة، وتختلف طريقة التعامل مع الواقع في البدعة والحكم عليه، ولا بد من مراعاة هذه الفروق والاختلافات والمراتب.
ومن خلال هذه المتعلقات يمكن تقسيم البدع إلى: صغرى وكبرى، ويرجع ما سبق إلى كونه إما أن يكون بدعة صغرى أو بدعة كبرى.
وقد قرر الشاطبي رحمه الله انقسام البدع إلى بدعة كبيرة وصغيرة، بتقرير ماتع من وجوه.
فقال: "ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة، نخرج عنها الثلاثة - يقصد الوجوب والاستحباب والإباحة - فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين: فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات، لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك، هذا وجه.
ووجه ثان: أن البدع إذا تؤمل معقولها؛ وجدت رتبها متفاوتة:
- فمنها ما هو كفر صراح؛ كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن؛ كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ [الأنعام:136]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ [الأنعام:139]، وقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾ [المائدة:103]، وكذلك بدعة المنافقين، حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.
- ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو يختلف: هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة.
- ومنها ما هو معصية، ويتفق عليها، ليست بكفر؛ كبدعة التبتل، والصيام قائمًا في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
- ومنها ما هو مكروه، كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال، وقراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة -على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي... - وما أشبه ذلك.
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة.
ووجه ثالث: أن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينيات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين.
ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمِّل، ولا يمكن في المكمِّل أن يكون في رتبة المكمَّل؛ فإن المكمِّل مع المكمَّل في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد؛ فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات.
وأيضًا: فإن الضروريات إذا تؤملت؛ وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه:
فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، ولذلك تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين.
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص، فالقتل بخلاف العقل والمال .. وكذلك سائر ما بقي.
وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو.
وإذا كان كذلك؛ فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثله في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات، أي: أنه إخلال بها، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات"(2).
وقال أيضًا في وجه آخر: "أن البدع تنقسم إلى: ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية، ومعنى ذلك: أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًا في الشريعة؛ كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارًا على القرآن، وبدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا الله... وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا من فروع الشريعة دون فرع؛ بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئيًا، إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض؛ كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين... وما أشبه ذلك، فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلًا لها.
فالقسم الأول إذا عُدَّ من الكبائر؛ اتضح مغزاه، وأمكن أن يكون منحصرًا داخلًا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصًا به لا عامًا فيه وفي غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من واحد، وقد ظهر وجه انقسامها"(3).
وقال أيضًا: "غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر، والعكس، فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد"(4).
وقد اشترط الشاطبي شروطًا لكون البدعة صغيرة، إذا انتفى شرط منها صارت هذه البدعة كبيرة؛ فقال رحمه الله: "وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة، فذلك بشروط:
أحدها: أن لا يداوم عليها؛ فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه؛ لأن ذلك ناشئ على الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)(5)، فكذلك البدعة من غير فرق ...
والشرط الثاني: أن لا يدعو إليها؛ فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها، فيكون إثم ذلك كله عليه؛ فإنه الذي أثارها وسبب كثرة وقوعها والعمل بها؛ فإن الحديث الصحيح قد أثبت أن كل من سن سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته، فربما تساوي الصغيرة من هذه الوجه الكبيرة أو تربي عليها.
والشرط الثالث: أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة.
فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدي به أو ممن به الظن؛ فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام.
والشرط الرابع: أن لا يستصغرها ولا يستحقرها وإن فرضناها صغيرة؛ فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب"(6).
إلا أن الذي يظهر من كلامه رحمه الله أن هذه الشروط متعلقة بحجم الإثم الذي يلحق صاحب البدعة، وليس الكلام عن حجم هذه البدعة في نفسها.
والحكم على صاحب البدعة يكون بحسب نوع البدعة الواقع فيها ومرتبتها، مع النظر إلى حال هذا الشخص وما عرض له من شبهة أو تأويل، وكذلك درجته ومرتبته في العلم والسنة.. إلى اعتبارات أخرى ينبغي مراعاتها عند الحكم على الواقع في البدعة.
متى يكون الرجل -أو الطائفة- مفارقًا لأهل السنة:
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء: ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة"(7).
وقال الشاطبي: "وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعًا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات نص من الجزئيات غير قليل، وشأنها في الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب.
وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له؛ كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين، حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون). ولكن إذا قرب موقع الزلة؛ لم يحصل بسببها تفرق في الغالب، ولا هدم للدين، بخلاف الكليات"(
.
وقال شيخ الإسلام: "ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.. إلى أن قال: ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.. إلى أن قال: بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتل مخالفه دون موافقه؛ فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات، ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون..."(9).
رواية المخالف وحكم قبولها:
ومما يلحق هذا مسألة رواية المخالف، فإن كثيرًا من العلماء يفرقون في هذه المسألة بين المخالفين باعتبار بدعتهم، وباعتبار نشاطهم وتحمسهم لهذه البدعة، فيفرقون بين صاحب البدعة المكفرة وصاحب البدعة المفسقة، وبين الداعية للبدعة وغير الداعية.
قال الإمام النووي: "قال العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق"(10).
وقال المعلمي(11): "لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته؛ لأن من شرط قبول الرواية الإسلام"(12).
ثم لو كانت البدعة غير مكفرة فينظر فيها؛ فيفرق بين البدعة الصغرى والبدعة الكبرى، ويفرق كذلك بين من أوقعته بدعته في استحلال الكذب، وبين من كانت بدعته بعيدة عن استحلال الكذب.
قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي الشيعي: "أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.
وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غاليًا في التشيع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلًا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع(13) أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضًا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلًا صادقًا ولا مأمونًا؛ بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذه حاله؟! حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية، وطائفة ممن حارب عليًا رضي الله عنه، وتعرض لسبهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضًا، فهذا ضال معثَّر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلًا، بل قد يعتقد عليًا أفضل منهما"(14).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب، والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة"(15).
وقال النووي رحمه الله: "ومن لم يكفر قيل: لا يحتج به مطلقًا، وقيل: يحتج به إن لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه"(16).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء"(17).
وقال رحمه الله: "العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة ... حتى إن أصحاب الصحيح كالبخاري لم يرو عن أحد من قدماء الشيعة، مثل عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، وعبد الله بن سلمة، وأمثالهم، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروى عن أصحاب الصحيح حديث علي عن أهل بيته؛ كالحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع، أو عن أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، أو عمن يشبه هؤلاء. وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى، وأخبرهم بالناس، وأقولهم بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم.
والبدع متنوعة، فالخوارج مع أنهم مارقون يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، واتفق الصحابة وعلماء المسلمين على قتالهم، وصح فيهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه رواها مسلم في صحيحه، روى البخاري ثلاثة منها - ليسوا ممن يتعمد الكذب؛ بل هم معروفون بالصدق، حتى يقال: إن حديثهم من أصح الحديث، لكنهم جهلوا وضلوا في بدعتهم"(18).
وقال ابن حجر ضمن حديثه عن حكم رواية المخالف وأقوال العلماء فيها: "وقيل: يقبل مطلقًا إلا إن اعتقد الكذب"(19).
ويقول السيوطي معلقًا على كلام النووي: "وقيل: يحتج به إن لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه": "سواء كان داعية أم لا، ولا يقبل إن استحل ذلك"(20).
ويقول المعلمي في حكم رواية المخالف: "...وأنه إن استحل الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق، فإن عذرناه فمن شرط قبول الرواية الصدق، فلا تقبل روايته"(21).
فإن كان المخالف خارجًا عن الأصناف السابقة -أي: لم يكن من أصحاب البدع المكفرة الكبرى، ولم يكن ممن يستحل الكذب- فقد وقع خلاف بين العلماء في قبول روايته وعدمه.
قال ابن الصلاح رحمه الله: "اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته: فمنهم من رد روايته لأنه فاسق ببدعته، وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول، يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن، وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي لقوله: "أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم".
وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية. وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء. وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافًا بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدع إلى بدعته، وقال: أما إذا كان داعية فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته.
وقال أبو حاتم بن حبان البُستي أحد المصنفين من أئمة الحديث: "الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبةً، لا أعلم بينهم فيه خلافًا".
وهذا المذهب الثالث أعْدَلُها وأوْلاها، والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول. والله أعلم"(22).
فالتفريق بين الداعية وغير الداعية هو قول الأكثر كما تقدم؛ بل نقل ابن حبان الإجماع على هذا القول، وإن كانت دعوى الإجماع غير صحيحة.
وممن نقل عنه هذا القول عبد الله بن المبارك رحمه الله، على ما روى الخطيب بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: "قلت لعبد الله بن المبارك: سمعت من عمرو بن عبيد؟ فقال بيده هكذا، أي كثرة، قلت: فلم لا تسميه وأنت تسمي غيره من القدرية؟ قال: لأن هذا كان رأسًا"(23).
وهذا القول يروى عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، فقد روى الخطيب عنه أنه قال: "من رأى رأيًا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيًا ودعا إليه فقد استحق الترك"(24). وروى البيهقي عنه أنه قال: "يكتب العلم عن أصحاب الأهواء وتجوز شهادتهم ما لم يدعوا، فإذا دعوا إليه لم يكتب عنهم، ولم تجز شهادتهم"(25).
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد رحمه الله: روى الخطيب بسنده إلى أبي داود سليمان بن الأشعث قال: قلت لأحمد بن حنبل: "يكتب عن القدري؟ قال: إذا لم يكن داعيًا"(26).
وفي طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى عن جعفر بن محمد قال: قلت: "يا أبا عبد الله! تحدث عن أبي معاوية وهو مرجئ؟ قال: لم يكن داعية"(27).
قال البغوي: "سئل أحمد بن حنبل: يكتب عن المرجئي والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: نعم. إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعيًا فلا"(28).
وروي هذا القول عن الإمام مالك رحمه الله على ما روى ابن عبد البر عنه أنه قال: "لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه معلن السفه، وصاحب هوى يدعو إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به"(29).
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد".
وقد عزا الخطيب إلى الإمام مالك القول برد رواية المخالف مطلقًا على ما تقدم، والقول برد رواية المخالف الداعية دون من لم يكن داعية هو المشهور عنه عند المحققين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت"(30).
وقال العلامة عبد الرحمن المعلمي: "فأما غير الداعية فقد مر نقل الإجماع على أنه كالسني؛ إذا ثبتت عدالته قبلت روايته، وثبت عن مالك ما يوافق ذلك، وقيل عن مالك: إنه لا يروى عنه أيضًا، والعمل على الأول"(31).
قال البغوي في شرح السنة: "وكذلك اختلفوا في رواية المبتدعة وأهل الأهواء، فقبلها أكثر أهل الحديث، إذا كانوا فيها صادقين، فقد حدث محمد بن إسماعيل عن عباد بن يعقوب الرواجني، وكان محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب!!
واحتج أيضًا البخاري في الصحيح بمحمد بن زياد الألهاني، وحزيز بن عثمان الرحبي، وقد اشتهر عنهما النصب، واتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وعبيد الله بن موسى، وقد اشتهر عنهما الغلو.
وأما مالك بن أنس فيقول: لا يؤخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا تتهمه بأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر هذا الاختلاف في قبول رواية هؤلاء الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه.
وسئل أحمد بن حنبل: يكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: نعم. إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعيًا فلا"(32).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات، كالصحاح والسنن والمسانيد، الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع، وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة، كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية؛ وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد"(33).
وكذلك أيضًا مما يتفرع عن اختلاف البدع ومراتبها: باب العقوبات والتعزيرات للمخالفين لأهل السنة والجماعة، فقد جاءت آثار كثيرة عن السلف في عقوبة المخالفين بعقوبات مختلفة؛ من حبس وضرب وجلد ونفي وتغريب وإهانة وهجر.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في القدرية: (لو رأيت أحدهم لأخذت بشعره)(34)، وقال: (لو رأيت أحدهم عضضت أنفه)(35).
وقيل لنافع: (إن هذا الرجل يتكلم في القدر.. فأخذ كفًا من حصى فضرب بها وجهه)(36).
ويروى عن سالم بن عبد الله رحمه الله أنه فعل ذلك برجل جاءه فقال له: (رجل زنى، فقال سالم: يستغفر الله ويتوب إليه، فقال الرجل: الله قدّره عليه؟ فقال سالم: نعم. ثم أخذ قبضة من الحصى فضرب بها وجه الرجل، وقال: قم)(37).
وعن مالك بن أنس رحمه الله قال: "القرآن كلام الله عز وجل. وكان يقول: من قال: القرآن مخلوق، يوجع ضربًا ويحبس حتى يموت"(38).
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "سألت أبي عن رجل ابتدع بدعة يدعو إليها، وله دعاة عليها، هل ترى أن يحبس؟ قال: نعم. أرى أن يحبس وتكف بدعته عن المسلمين"(39).
وجاء عن أبي الحسن اللخمي رحمه الله -من أئمة المالكية- أنه سئل عن قوم من الإباضية سكنوا بين أظهر المسلمين وبنوا مسجدًا يجتمعون فيه بحلق ويظهرون مذهبهم، فأجاب: "إذا أظهر هؤلاء القوم الذين ذكرت مذهبهم، وأعلنوه، وابتنوا مسجدًا يجتمعون فيه وصلوا العيد بناحية عن المسلمين بجماعة: فهذا باب عظيم يخشى منه أن تشتد وطأتهم، ويفسدوا على الناس دينهم، ويميل الجهلة ومن لا تمييز عنده إليهم، فوجب على من بسط الله قدرته أن يستتيبهم مما هم عليه، فإن لم يرجعوا ضربوا وسجنوا، ويبالغ في ضربهم، فإن أقاموا على ما هم عليه فقد اختلف في قتلهم، وأما هدم المسجد الذي بنوه فحق، وجميع ما يتألفون فيه كذلك..."(40).
وفي المقابل هناك آثار أخرى عن السلف تختلف عما ذكر..
قال أبو داود: قلت لأحمد: "لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء، فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله لماذا لا تقرئهم؟".
وفي رواية قال: قلت لأحمد: "نكلمهم؟ قال: نعم. إلا أن يكون داعيًا ويخاصم فيه"(41).
بل وجاء عن الإمام أحمد رحمه الله كما بوب ابن مفلح الحنبلي رحمه الله في كتابه الماتع الآداب الشرعية فقال: "فصل في حظر حبس أهل البدع لبدعتهم: قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن قوم من أهل البدع يتعرضون ويكفرون؟ قال: لا تتعرضوا لهم، قلت: وأي شيء تكره من أن يحبسوا؟ قال: لهم والدات وأخوات!
قلت: فإنهم قد حبسوا رجلًا وظلموه، وقد سألوني أن أتكلم في أمره حتى يخرج، فقال: إن كان يحبس منهم أحد فلا، ثم قال أبو عبد الله: هذا جارنا حبس ذلك الرجل فمات في السجن، وأظن أنه قال غير مرة: كيف حكى أبو بكر بن خلاد؟ فقلت له: قال: كنت عند ابن عيينة قاعدًا فجاء الفضيل فقال: لا تجالسوه -يعني لابن عيينة- تحبس رجلًا في السجن؟ ما يؤمنك أن يقع السجن عليه؟ قم فأخرجه، فعجب أبو عبد الله وجعل يستحسنه"(42).
وهذا الاختلاف في مواقف السلف تجاه المخالفين من جهة عقوبتهم والتنكيل بهم، يرجع إلى اختلاف البدع واختلاف أحوال أصحابها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر بعض عقوبات المخالفين: "وإذا عُرف أن هذا هو من باب العقوبات الشرعية؛ عُلم أنه يختلف باختلاف الأحوال؛ من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع قد يكون هو التأليف تارة والهجران أخرى. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقوامًا من المشركين ممن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطي المؤلفة قلوبهم ما لا يعطي غيرهم.
قال في الحديث الصحيح: «إني أعطي رجالًا وأدع رجالًا، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي رجالًا لما جعل الله في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالًا لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب»(43).
وقال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله على وجهه في النار»(44) أو كما قال.
وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذي خلفوا في غزوة تبوك؛ لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح.
ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقًا من المخالفين لأهل السنة والجماعة المتأولين فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة، ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع، فقوله ضعيف أيضًا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك، فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز، ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف كل ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة: أن الصلوات التي يقيمها ولاة الأمور تصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يحج معهم ويغزى معهم"(45).
هجر المخالف:
ومما يتعلق بهذا الباب قضية مهمة لا بد من معرفة القول الفصل فيها، خصوصًا في هذه الأزمان، وهي: قضية الهجر، وهو: الإعراض عن المخالف وعدم مجالسته وترك مكالمته وعدم السلام عليه وترك الدخول عليه، وهذه القضية قضية لا بد من معرفة المقاصد الشرعية لها؛ حتى يمكن التعامل معها بالطريقة الصحيحة.
مشروعية الهجر:
الهجر أمر مشروع عند الحاجة إليه (قد يستحب وقد يجب)، والأدلة على مشروعية الهجر عند الحاجة إليه كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
أولًا: من القرآن:
1) قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:68]، ففي هذه الآية دلالة على تحريم مجالسة أهل البدع والأهواء وأهل الكبائر والمعاصي.
قال القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج، وأتباعهم، لهم أن يخالطوا الفاسقين، ويصوبوا آراءهم تقية، وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله: قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنًا كان أو كافرًا، قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، وكنائسهم، والبيع ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. ثم ذكر بعض الآثار عن السلف في هجر المبتدعة"(46) اهـ.
2) قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء:140].
قال القرطبي رحمه الله ما محصله: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:140]، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى...
وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة"(47).
3) قوله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ﴾ [هود:113].
قال القرطبي رحمه الله: "الصحيح في معنى هذه الآية: أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم - أي: طرفة بن العبد -:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في: آل عمران، والمائدة، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار، والله أعلم"(48).
4) قول الله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة:22].
قال القرطبي رحمه الله: "استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم، قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية، وعادهم في الله، لقوله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة:22] قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان"(49).
ثانيًا: من السنة النبوية:
1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم»(50).
2) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذي يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»(51).
3) حديث الصحيفة المشهور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين...» الحديث(52).
4) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(53).
5) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:7]. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذرهم»(54).
6) الأحاديث المتكاثرة في هجر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي حتى يتوبوا، ثبت ذلك في وقائع متعددة، رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: كعب بن مالك، وابن عمرو روى حديثين، وعائشة، وأنس، وعمار، وعلي، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم رضي الله عنهم.
فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزاة تبوك، واستمر هجرهم مدة خمسين ليلة، حتى آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عليهم(55).
وهجر صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها قريبًا من شهرين لما قالت: (أنا أعطي تلك اليهودية) تعني صفية رضي الله عنها(56).
وهجر صلى الله عليه وسلم صاحب القبة المشرفة بالإعراض عنه حتى هدمها(57).
وهجر صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه بتركه صلى الله عليه وسلم رد السلام عليه؛ لملابسته الخلوق حتى غسله(58).
وهجر صلى الله عليه وسلم رجلًا بالإعراض عنه؛ لأنه كان متخلقًا بخلوق(59).
وهجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا رأى في يده خاتمًا من ذهب حتى طرحه، وكان هجره له بالإعراض عنه(60).
ونحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه(61).
وهجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا بترك رد السلام عليه؛ وذلك لأن عليه ثوبين أحمرين(62).
تطبيق الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم لهذه السنة النبوية:
وقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم بالهجر في مواضع.
فهجر عمر رضي الله عنه زياد بن حدير لما رأى عليه طيلسانًا وشاربه عافية، إذ سلم زياد فلم يرد عليه عمر السلام حتى خلع الطيلسان وقص شاربه(63).
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يعتقل أصحاب النرد غدوة ونحوها، وينهى عن السلام عليهم(64).
وهجر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلًا رآه يخذف بعدما أعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الخذف، وقال: «والله لا أكلمك أبدًا»(65).
وهجر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه رجلًا يخذف في نحو ذلك، وهجر شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتىً كان يخذف(66).
وهجر عبادة بن الصامت رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه في مخالفته له في مسألة ربوية، وقال عبادة: (أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك! لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة)، ولما خرج شكاه إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قاله؛ فإنه هو الأمر(67).
ونحو هذه الرواية وقعت لأبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنهما(68).
وهجر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلًا رآه يضحك في جنازة، فقال: والله لا أكلمك أبدًا(69).
ثالثًا: الإجماع:
حكاه جماعة، منهم: القاضي أبو يعلى، والبغوي، والغزالي.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: "هو إجماع الصحابة والتابعين"(70).
وقال البغوي رحمه الله بعد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: "وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم"(71).
وقال الغزالي رحمه الله: "وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي، وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظلمة والمبتدعة، وكل من عصى الله بمعصية متعدية منه إلى غيره"(72).
وقال ابن عبد البر رحمه الله: "وأجمع على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه؛ فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده، ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية"(73).
وقال أيضًا في الاستدلال من حديث كعب بن مالك وهجر النبي صلى الله عليه وسلم له هو والمسلمون: "وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه، وقد حلف ابن مسعود رضي الله عنه أن لا يكلم رجلًا رآه يضحك في جنازة"(74).
المقاصد الشرعية للهجر:
يمكن تلخيص المقاصد الشرعية للهجر في الآتي:
1- أن الزجر بالهجر عقوبة شرعية للمهجور، فهي من جنس الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقربًا إلى الله تعالى بواجب الحب فيه.
2- بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم.
3- تحجيم انتشار البدعة.
4- قمع المخالف وزجره، ليضعف عن نشر بدعته، فإنه إذا حصلت مقاطعته، والنفرة منه؛ بات كالثعلب في جحره(75).
5- وأيضًا من المقاصد الشرعية: تنبيه المخالف على خطئه؛ ليستشعر مخالفته للمسلمين، فيتوب ويرجع عن بدعته.
ضوابط الهجر الشرعية(76):
مما ينبه عليه في هذا المجال أن هجر المخالف إنما هو من باب القرب والعبادات، ولذا فلا بد من شرطي القبول، وهما:
1- الإخلاص:
وهو ميزان الأعمال في باطنها، فلا بد أن يقصد الهاجر للمخالف النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين، وأن يقصد سد باب البدعة، وزجر صاحبها ليعود إلى السنّة من غير أن يلتبس ذلك بمقاصد أخرى، حيث يدخل حظ النفس والهوى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرًا غير مأمور به كان خارجًا عن هذا"(77).
2- المتابعة، وهي ميزان الأعمال في ظاهرها.
هجر المخالف له ضوابط تقوم على قاعدة رعاية المصالح ودرء المفاسد، يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: "مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد"(78).
وحتى يتحقق السبب الموجب للهجر لا بد من التأكد من عدة أمور:
1- التأكد والتثبت من وجود البدعة، فلا يكفي بالشائع والمنقول عن فلان، بل لا بد من التثبت بسماع قوله أو رؤية فعلته أو كتابته.
2- أن تكون البدعة مما اتفق على بدعيتها، فلا يهجر في المسائل التي اختلفت آراء العلماء في بدعيتها.
3- بلوغ الحجة للمبتدع، وفهمها، وزوال مانع الجهل، وارتفاع الشبهة، وانقشاع الغفلة(79).
ويمكن تلخيص الضوابط الشرعية للهجر في ضابطين:
الأول: مراعاة المصلحة والمفسدة.
الثاني: أن العقوبة تكون على قدر الجرم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المسلك الحق في الهجر: "فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية؛ بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله سبحانه أعلم"(80).
ويقول الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني: "سياسة الولاء والبراء لا تستلزم معاداة أي فئة من الفئات الإسلامية، أو أي طائفة من الطوائف الإسلامية، ولكن يجب أن تعامل كل واحدة منها في حدود قربها أو بعدها من العقيدة الصحيحة، أو من التمسك بالإسلام الصحيح ككل، والمعاداة لا تأتي إلا في حالة اليأس من صلاحها وهدايتها، فهنا يأتي ما هو معروف بالبغض في الله، أما ابتداءً فلا ينبغي للمسلم أن يعادي أحدًا من الطوائف الإسلامية ولو كانت مخالفة لعقيدته"(81).
فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات(82):
من جهة كونها كفرًا أو غير كفر:
فالمكفرة مثل عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية، وتأتي.
ومن جهة كون صاحبها مستترًا بها أو معلنًا لها، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم؛ فإنه ليس شرًا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، هذا وهم في الدرك الأسفل من النار(83).
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع والداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصيته أو مسرًا لبدعة غير مكفرة فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولًا وعملًا"(84).
ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية.
فالبدعة الحقيقية: هي البدعة التعبدية المحدثة استقلالًا كصلاة الرغائب، وليست بدعة إضافية، ومثل صلاة القدر، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، وبدع الموالد، والأعياد الحكومية، وعيد غدير خم لدى الشيعة.. وهكذا.
والبدعة الإضافية: هي الأمر المبتدع مضافًا إلى ما هو مشروع أصلًا بزيادة أو نقص.
مثاله: الدعاء الجماعي بعد الصلاة، فالدعاء مشروع، وجعله جماعيًا بدعة مضافة لم يرد بها النص، وبناء العبادات على التوقيف. وسجود الشكر جماعة، واتخاذ التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه.. وهكذا.
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة:
أي: كونها ظاهرة المأخذ، فهي بدعة متمحضة كبدع المآتم والموالد، وصلاة الرغائب ... أو بدعة فيها احتمال لاشتباه مأخذها، مثاله: القنوت في صلاتي العشاء والصبح، فإنه كان ثم نسخ، وبقي المشروع فيها عند النوازل، وشبهة الخلاف لا تصيره مشروعًا راتبًا.
والحقيقة أن هذا الوجه صوري لا حقيقي؛ إذ البدع مشكلة المأخذ يلحق بها من الإشاعة والتعصب ما يجعلها بينة. والله أعلم(85).
ومن جهة اجتهاده فيها أو كونه مقلدًا:
فالمجتهد: مخترع للبدعة، فالزيغ أمكن في قلبه من المقلد، وإن كان كل منهما موزورًا، لكن إثم من سن سنة سيئة أعظم وزرًا. والله أعلم(86).
ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه:
أما الإصرار عليها فيجعلها من باب الدعوة إليها، فيكون داعية معلنًا لها.
وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها فلتة، وزلة عالم، إذا كانت منه ثم لم يعاودها(87).
ويختلف باختلاف حال المخالف وما فيه من خير وشر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير، تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة..."(88).
وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة، ولم يتلق عنهم، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالًا، ثم خالط أهل السنة وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين، بل يكون عاشرهم عشرات السنين، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها، ويدعو إليها، ويصر عليها، فهذا قامت عليه الحجة أكثر، واستبانت له المحجة فما أبصر. فهو من أعظم خلق الله فجورًا وغيضًا على أهل السنة. فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال. أما الثاني فلا والله، بل يتعين هجره، ومنابذته وإبعاده، وإنزال العقوبات الشرعية للمخالفين عليه، وأن يهجر ميتًا كما هجر حيًا، فلا يصلي أهل الخير عليه، ولا يتبعون جنازته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حق بعض العصاة المظهرين لفجورهم: "وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانيةً، ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكنًا من ذلك من غير مفسدة راجحة.
وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتًا، كما هجروه حيًا، إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين، فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسمرة بن جندب(89): إن ابنك مات البارحة، فقال: لو مات لم أصل عليه. يعني: لأنه أعان على من قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه. وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير.."(90).
وفرق في حال المهجور بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه، فإن القوي يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين، كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم(91).
وكذلك بالنسبة للأماكن:
"ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك"(92).
وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناءً على هذا الأصل: رعاية المصالح الشرعية.
"ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم"(93).
فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المخالف قائمة على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمخالفين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فلا المخالف ولا غيره يرتدع بالهجر، ولا يحصل المقصود الشرعي؛ لم يشرع الهجر، وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر.
وهذا كحال المشروع مع العدو: القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح(94).
ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث»، فكل مؤمن وإن كان فاسقًا فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه، لأن الهجر حينئذ دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة