هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
من فقه الدعاء
يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه".
وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين.
والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان.
جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك".
انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل:
يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه
ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - لم -: (أن يكون مثواه بجواره).
يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر).
وروى الترمذي بسنده عن النبي - لم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)).
وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).
قلوب أصبحت كقلب أبي ذر لا يصبر على الكتمان فيرفع دويه بالإيمان..وكقلب بلال يتلذذ بالسياط الظالمة وهو يقول: أحدٌ أحد، الله الصمد..
وكقلب ياسر أو سمية يتجرع كأس الشهادة معتزًا على الأرض لتتلقاه الملائكة بالسعادة والسرور في السماء..
حكاية رجل باع نفسه لله بجنة عرضها السماوات والأرض..حكاية رجل جاء من أقصى المدينة يسعى ويهتف: ربي الله، لا أعبد إلا إياه مخلصًا له ديني..
حكاية رجل في زمن قحط الرجال..حكاية رجل والرجال قليل..
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:01
عزيزي القارئ! أخي المسلم أختي المسلمة! هذا الكتاب في الواقع رسالة أقدمها إلى جميع إخواني من الشيعة وإلى الشباب والجيل الجديد، وإلى رجال المستقبل الذين يبحثون عن الحقيقة، والذين تعبوا من ألاعيب أهل الباطل والضلال، وكرهوا مكر أصحاب الأهواء من تجار المذهب والدين، وقد نذرت نفسي - بإذن الله - لأكون دومًا في خدمة كل من يبحث عن الحقيقة، وأنا أعلن استعدادي التام للقاء ومدارسة كل من يتعطش إلى الحق، ولمناظرة كل من يشك فيما أعتقده، وقد كتبت بحوثًا في المواضيع الآتية:
- زواج المتعة وآثاره على عالم التشيع.
- تحريف القرآن في عالم التشيع.
- هل أهل السُّنَّة والشيعة إخوان متساوون؟
- الجيل المحروق (دراسة تبحث في عقيدة وإيمان الجيل الجديد بعد الثورة الخمينية في إيران)، وستنشر قريبًا وتصل إلى أيدي طلاب الحقيقة بإذن الله عز وجل.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:01
عزيزي القارئ..
كما ترى فإنه لم يكن لي أي صلة بأي اتجاه مذهبي أو سياسي، ولم أكن أتبع أي شخصية سياسية أو مذهبية، وما قدمته إليك من أوراق سيرتي الذاتية لا تدعو إلى أي اتجاه سياسي، وليست دعاية لحزب على حساب آخر، أو لجماعة على حساب أخرى، وإنما واقع عشته وحقائق عايشتها، لا أريد منها إلا أن أكشف عن وجوه لابد للعالم أن يعرفها.. وأن أترجم مأساة الإنسان الحر الأبي الذي يأبى أن يرضخ تحت نيران الظلم والتقليد الأعمى في إيران وفي عالمنا الثالث كما يسمونه.
وأن أقول لإخواني الشيعة الذين يعيشون في ظلمات التقليد ولا يتعبون أنفسهم بفتح عيونهم على الواقع المكلوم، والحقيقة الضائعة في مجتمعاتهم: أن درب الهداية مفتوح على مصراعيه، وها أنا قد وضعت بين أيديكم تجربتي الذاتية في هذه الرحلة، لا لأصور لكم معاناة الطريق، وإنما لتكون نبراسًا تعرفون في ضوئها الطريق، ومن خلالها تأخذون درسًا في التعامل مع المجتمع الذي تعيشون فيه، لئلا تثوروا ثورة عاطفية مثلي؛ بل لتأخذوا طريقكم نحو الحقيقة على شاطئ الأمان، ولأقول لكم أولًا وأخيرًا بأن طريق الجنة محفوف بالمخاطر، وأن المسلم لابد أن يمر في حياته على بعض العقبات التي هي بمثابة امتحانات ربانية يضعها الله عز وجل على طريقه: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة:214]، وقوله تعالى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت: 2- 3].
وبما أنني لم أكن أملك حين كتابة هذه الأوراق مراجع ومصادر علمية فلم أدخل في تفاصيل القضايا الفقهية والعقدية التي جاء ذكرها خلال سردي لسيرتي الذاتية.
وحاولت قدر جهدي أن أراعي جانب الحيطة فلا أذكر أسماء بعض الأشخاص الذين ساعدوني أو الأماكن التي اختفيت فيها فترة من الزمن لئلا يمسهم خبث الشياطين بسوء.
وأعود لأجمع ما قلته في النقاط الآتية:
أولًا: من الولادة إلى الجامعة:
كما أشرت فقد ولدت في أسرة شيعية، من أب شيعي وأم شيعية، وهما طبيبان مشهوران، فأبي جراح ومتخصص في أمراض المخ والأعصاب، وأمي جراحة ومتخصصة في أمراض القلب، وكلاهما من أساتذة الجامعات في طهران.
وبما أن والدي كان قد قضى فترة طويلة من حياته في خارج البلد، فقد تربيت تحت رعاية خاصة من أمي الحنونة، التي كانت تعتبر نفسها من أسرة «السادات الحسينية» - نسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام - وكانت عائلتها يضرب بها المثل في التعصب والالتزام بالعقائد والتقاليد الشيعية.
وقد درست إلى مرحلة «حجة الإسلام» ولبست العمامة في «الحوزة العلمية الفيضية» في قم وكنت ملتزمًا بجميع العقائد والتقاليد المذهبية الشيعية ومؤمنًا بها تمام الإيمان..
وكنت في جميع مراحلي الدراسية سواء في الدروس العلمية أو العصرية في المدارس الابتدائية والجامعة، والدروس الدينية في «الحوزة» طالبًا متفوقًا ومجتهدًا..
كنت دائمًا تحت رعاية خاصة من أساتذتي في الحوزة العلمية بقم، وتحت اهتمام خاص من إدارة الحوزة..
كان اسمي دائمًا على رأس قائمة الطلاب المتفوقين في كلية الطب وفي الحوزة العلمية؛ مما جعلني موضع اهتمام الجميع، فقد كان لي دور خاص في برامج إلقاء المحاضرات، والمشاركة في البحوث العلمية، والمناظرات والمناقشات الدينية أو العلمية.
ثانيًا: تغيير المذهب أو العقيدة:
ذكرت هنا أهم الأمور التي ساقتني إلى الدراسة والبحث والتدقيق العلمي والتفكير العميق في عقائدي، وكيف أنني وصلت إلى أن المذهب الشيعي مذهب لم يبن على أسس عقدية سليمة، وإنما هو عبارة عن كتلة بدعية نضجت تحت الأهواء السياسية، والمصالح الشخصية مع الزمن، ولم يخرجني من الظلمات إلى النور ولم يفتح عيوني للحقيقة إلا الدراسة والتفكير الجاد والحيادي، ولم يكن هناك أهداف ولا أطماع ولا أمور أخرى، وإنما الحرص على رضوان الله عز وجل والطمع في جنانه..
ثالثًا: نهاية المطاف:
عزيزي القارئ! أخي المسلم أختي المسلمة! أقاربي وأصدقائي وزملائي! أمي الحنونة وأبي المحترم! أستسمحكم عُذرًا واستأذنكم في أن أطرح أمامكم هذه التساؤلات رجاء أن تفكروا فيها مليًا:
ما السبب وما الهدف ومن الذي استطاع أن يجعل شخصًا مثلي كان يومًا «حجة الإسلام» وكان من أشهر الخطباء وملحني الأدعية البكائية - روضة خوان - ممن يبكون الناس ويضحكون على عقولهم لفترات طويلة.. وكان شيعيًا متعصبًا معتزًا بمذهبه ودينه.. ما الذي جعله يتغير مئة وثمانين درجة، وينقلب على كل ما كان يؤمن به، فيضرب به عرض الحائط ويقبل طائعًا مختارًا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة؟!
أي فيلسوف أو حكيم أو مفسر أو محلل للمسائل العقدية أو متخصص في العلوم النفسية يستطيع أن يكشف عن الأسباب والدواعي التي تجعل شابًا في اللحظات الأخيرة من كلية الطب ليس بينه وبين أن يصير طبيبًا مشهورًا تدق له الطبول من أسرة غنية لا تعاني من أية مشاكل اقتصادية أو اجتماعية، من أب طبيب متخصص وأستاذ جامعي وأم طبيبة متخصصة أستاذة جامعية ويترك كل هذه المظاهر المادية والحياة المرفهة ليعيش حياة الفقر والزهد، بعيدًا عن الناس جميعًا من أجل شيء واحد ليس إلا عقيدته التي يعتز بها؟!
ما الذي يجعل هذا الشاب يفضل هذه الحياة الصعبة مع هذه العقيدة الجديدة، بل ويعتز بها ولا يفكر أبدًا في العودة إلى ذلك النعيم، ولا يحزن عليها بل يشعر بالخزي والعار من نفسه كيف أنه قضى تلك الفترة كلها في تلك الضلالات والبدع، ولم يهتد إلى الحق المبين، ويستغفر ربه دومًا، ويسأله أن يغفر له كل ما سبق من أمره.
عزيزي القارئ!
لعل الإجابة على هذه التساؤلات تصعب على الفلاسفة والمحللين والمفكرين والمتخصصين في المسائل العقدية، أو غير العقدية أو علماء النفس الذين ينظرون إلى الحقائق من زاوية واحدة لا تكاد تتجاوز أرنبة أنوفهم، مما يسمونه بالعلم والتحقيق المختبري والتحليل النفسي.
لكنني أنا «حجة الإسلام» الشيعي السابق من طلاب الحوزة العلمية بقم، والطالب السابق بكلية الطب من جامعة الشهيد بهشتي بطهران، والمهاجر المجهول في هذه الديار المجهولة، أستطيع أن أجيبك بكل صراحة على هذه التساؤلات:
لا يخرج هذا الإنسان من أن يكون:
- مجنونًا، وهذا ما يعتقده والدي وأصدقائي وأقاربي الشيعة، وما يقول به أساتذتي من علماء الحوزة العلمية في قم وإدارة الحوزة، والجامعة في طهران، فهم جميعًا يظنون بأنني قد جننت، لكن المشكلة التي يواجهونها هي أنهم لا يجدون تفسيرًا لجنوني، ولا يستطيعون أن يقدموا جوابًا لمثل هذه التساؤلات التي تطرح نفسها، من أو ما الذي جعل هذا الشاب النشيط المتفوق الذكي يجن هذا الجنون؟!
ونفسي مضطرًا أن أعترف بما يقولونه، أي: حقًا أنني أصبحت عاشقًا إلى درجة الجنون، أصبحت أعشق الحقيقة، وأعشق الصدق، وأكره الكفر والنفاق والشرك والبدع، فقد زُيِّن قلبي بالإيمان وكُرِّه إلي الكفر والعصيان..
وأزيد لأكشف لهم عن أسباب هذا الجنون، أو ما الذي جعلني أتمرد على الواقع الذي كنت أعيش فيه، فأقول:
ليس هناك سبب أو عامل جعلني أتغير كل هذا التغير إلا تلك القوة أو القدرة التي استطاعت أن تجعلني أميز بين الزيف والحقيقة، وبين الصدق والكذب، وبين الإيجابيات والسلبيات، وبين الهتافات الجوفاء وبين إظهار المحبة الكاذبة وعدم الاتباع، والحب الصادق والإتباع، وبين التباكي والضحك على الأذقان والآلام الصادقة، وبين التلاعب بالدين والعقيدة في سبيل المصالح الآنية، وبين التقوى والصدق، وبين الدين والعقيدة السليمة والشهوات والمصالح الدنيوية، وبين أعداء أهل البيت عليهم السلام الحقيقيين وبين الرموز الصادقة ومحبي الرسول وأصحابه، وبين من يشتم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لشهواته ويعتبرهم أعداء دين الله، وبين أتباع الشهوات وعبيد المصالح، وبين الإفراط والتفريط، وأصحاب الشك والتردد.
أجل! ليس السبب إلا تلك القوة التي حطمت جسور الجهالة من أمامي، ورفعت ستار الظلمات من أمام عيني.
تلك القوة التي رفعتني إلى حيث رأيت الحقائق بأم عيني ونفثت في قلبي وروحي الإيمان الصادق...
أجل! تلك القوة هي التي جعلتني أعشق الحقيقة هذا العشق الجنوني...
تلك القوة التي ساقت سلمان الفارسي من عبادة النار إلى عبادة رب النار..
تلك القوة التي ساقت أبا ذر من بطون الفيافي والصحراء إلى حيث الإيمان والتقوى..
تلك القوة التي أخرجت عمر من عبادة الأصنام إلى عبادة الرحمن..
تلك القوة التي تخرج الناس على مر الدهور وكر الأزمان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد...
أجل! ليست هي إلا مشيئة الله عز وجل وقدرته ورحمته بي، الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام: 59]، ومالك الملك والملكوت، ربنا ورب كل شيء.
أرى نفسي قد جننت من شدة محبتي لله عز وجل، ونذرت حياتي له فلا أرجو سواه، وبعت له كل ما أملك رجاء أن يهبني رضاه، ولا أقيل في بيعي ولا أستقيل، إن شاء الله.
لست أبدًا نادمًا على ما ضاع مني، بل إنني فخور جدا على ما حصلت عليه، وأرجو ربي أن يجعلني بجوار سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي ترك الدنيا ونعيمها طمعًا لرضوان الله وجنانه، ومات ولم يجدوا له كفنًا.
قطعت آمالي ورجائي من الخلق كلهم، وليس لي أمل إلا إليه، ولا رجاء لي إلا بين يديه، فهو ربي ومولاي وهاديي ونصيري، فنعم المولى ونعم النصير.
ولي من الله عز وجل سؤالين أرجوه ألا يحرمني منهما:
الأول: أرجوه سبحانه رجاء من كثرت ذنوبه وقلّت حسناته ولم يجد إلا إياه سامعًا مجيبًا أن يكتب إخواني «محمد رضا موسايي» و«علي رضا محمدي» و«أرسطو رادمهر» في الشهداء وأن يجمعني شهيدًا بهم تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إخوانًا على سرر متقابلين.
الثاني: أن يهدي كل هؤلاء الذين يعيشون في ظلمات الضلالة، وفي براثن الجهل والبدع والخرافات والأساطير والإفراط والتفريط، والشك والتردد، ولا سيما والديَّ العزيزين إلى الحق المبين والصراط المستقيم؛ فإنه الهادي وهو الذي ((يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [يونس:25].
وإذا كان قد كتب لي أيامًا أخرى لأعيش فيها على هذه الأرض فليملأها صبرًا وثباتًا وإيمانًا وصلاحًا وتقوى، ويوم أن يأخذ هذا العاشق الولهان - أو المجنون - إلى الدار الأبدية، أسأله ألا يحرمه من رحمته ومغفرته؛ فإنه ولي ذلك والقادر عليه، وحسبي الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير..
وأرى من واجب الشكر أن أتقدم بجزيل شكري وامتناني لأخي العزيز أبي عبد الله الذي تحمل لأجلي الكثير والكثير..
مـــرتضــــى رادمـهــــــر
«حجة الإسلام» الحوزة العلمية بقم سابقًا
وطالب كلية الطب بجامعة الشهيد بهشتي
في طهران سابقًا - والمهاجر المجهول حاليًا
19/3/ 1380ش الموافق لـ27/ربيع الأول/1423هـ
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:02
بعد الهروب من السجن كما أشرت، لم يكن لي ملجأ ولا مكان آوي إليه.
كنت أعاني من وضع نفسي سيئ جدًا، وآلام وأمراض شديدة، فقررت أن أسافر إلى بلوشستان الإيرانية ومنها إلى بلوشستان الباكستانية في سفر كله مخاطر وحكايات مؤلمة..
وصلت إلى باكستان دون أن أعرف أحدًا أو مكانًا ألجأ إليه، ودون أن أعرف لغة تمكنني من التفاهم بها لا الأردية ولا البلوشية أو البشتوية..
كان الجو الأمني في باكستان متدهورًا جدًا نتيجة الحرب الأمريكية على طالبان والقاعدة، والغارات المتتابعة على أفغانستان.. فأثَّر هذا كله علي عكسيًا، وزاد الطين بلة بالنسبة لي.
كلما كنت أطرق باب أي مدرسة دينية للالتحاق بها كانوا يرفضونني، وحتى أحيانًا ما كانوا يتركونني أستريح في المساجد، فلم أكن أستطيع أن أتفاهم معهم لعدم معرفتي للغاتهم..
قضيت أيامًا صعبة جدًا، فقد كانت تمر عليَّ في السفر أيام لا أجد فيها لقمة خبز جاف لآكلها..
قضيت ليالي عديدة في الصحاري والفيافي والجبال بين باكستان وإيران، ولم يكن لي من يصاحبني في وحدتي إلا الحيوانات الوحشية من الذئاب والثعالب والثعابين..
كنت وأنا أتنقل من قرية إلى أخرى في المناطق الحدودية بين إيران وباكستان أشعر أحيانًا وكأن المخابرات تتبعني، فكنت ألتجئ إلى الجبال الموحشة، فقد كان خطر الحيوانات الوحشية أقل بكثير من خطر المخابرات وسجونها الشيطانية..
هكذا مرت عليَّ أيام عصيبة..
وبعد فترة طويلة بقيت في باكستان مهاجرًا ألتحف سقف السماء وأتقلب على فراش الأرض، اتصلت بأحد أصدقائي السابقين في طهران وشرحت له وضعي الصحي وظروفي الصعبة، وأعطيته عنواني الكامل في باكستان عسى أن يساعدني، لكنه - سامحه الله - خاب ظني فيه.
لا أدري لماذا؟
هل كان تحت ضغط من المخابرات أو كان عميلًا لهم، أو أنهم وعدوه بمال أو مقام أو لأي سبب آخر؟! لا أدري.
قدم صديقي عنواني إلى المخابرات وأخبرهم بحكايتي وما كان من المخابرات إلا أن بعثوا فريقًا من جنودهم لاغتيالي.
لم أكن أدري عن حكايتهم شيئًا، وكنت في إحدى الليالي أتوضأ في المسجد الذي آويت إليه، وأستعد للصلاة، وإذا بشاب أفغاني دخل المسجد وسلم عليَّ وقال لي: هل أنت إيراني؟ قلت: نعم. وعرَّفته بنفسي ظنًا مني أن الفرج قد جاء..
تحدثنا قليلًا وأخبرته بمشاكلي الصحية وما أعانيه من الأمراض - هدايا السجون وشياطين الإنس - وأن الأدوية التي كنت استعملها قد انتهت من زمن بعيد.
فقال لي الشاب الأفغاني: بأنه يعرف مكانًا يمكننا أن نحصل على الأدوية من هناك.
خرجت معه عسى أن نحصل على بعض الأدوية، وكانت سيارة أجرة فيها عدد من المسافرين تنتظر أمام المسجد، كان الجو مظلمًا، فلم أستطع التعرف على من في السيارة، فركبنا السيارة وبعد أن قطعنا شيئًا من الطريق وإذا بصوت يخاطبني من ورائي: السيد رادمهر! حضرتُ من طهران لآخذك معي، فلا تعمل لي ولا لنفسك مشاكل ورافقني مثل أي إنسان محترم..
كان هذا صوت عمي «فرشيد رادمهر» فعرفت أنني وقعت في الفخ، وبدأت أتضارب وأتقاتل معهم في السيارة عسى أن أتمكن من الهروب، لكن عمي بدأ يطعنني بالسكاكين ويقول بأن أباك أوصاني إن لم تستطع أن تأتي به حيًا فأتني برأسه، ثم بدأ يرش على جسمي «ماء النار»([1])، وجرحني في يدي وقطع الوريد في رقبتي، لكنني لم أصبر وكنت أضربهم بيدي وأركلهم برجلي..
ضربت السائق ضربة فانحرفت السيارة من الشارع وتوقفت، واستطعت أن أخرج من السيارة وأتضارب معهم في الشارع، واجتمع الناس حولنا فصرخت فيهم بما تعلمته من الكلمات الأردية والبلوشية: أنا سني وهؤلاء شيعة يريدون قتلي..
تدخل الناس وأخرجوني من بين أيديهم، واستطاع المجرمون أن يهربوا من هناك..
وهكذا فشلت مؤامرتهم وباءت قضية اغتيالي أو إرجاعي إلى إيران بالفشل، فالحمد لله رب العالمين..
بعد ذلك، أخذني الناس إلى المستشفى وبقيت عدة أيام في المستشفى تحت الرعاية الطبية الشديدة إلى أن التأمت جروحي وخرجت من المستشفى..
تركت هذه الحادثة الرخيصة وهذا الاغتيال الفاشل آثارًا سيئةً عليَّ، أصبحت كثيرًا ما أُصاب باختلال نفسي خطير، وكثيرًا ما يغمى عليَّ، وبدأت حالتي تزداد سوءًا، فأراجع المراكز الطبية للعلاج، لكن لأنني لم أكن أملكُ مالًا فكانوا لا يهتمون بي اهتمامًا كبيرًا ولا يعالجونني كما يجب.
راجعت المراكز الطبية للعلاج وأخذت عدة تحليلات طبية، ودخلت المختبر الطبي أكثر من مرة، وكانت النتيجة الأخيرة أنني أعاني من مشكلة خطيرة في المخ - التومور -.
حكاية ما عانيته في بلوشستان الشرقية والغربية - أو الباكستانية والإيرانية - حكاية مؤلمة تحتاج إلى صفحات كثيرة لأصور فيها قصة الضياع والوحدة، وما عانيته من الأمراض والمشاكل النفسية والروحية، ولا داعي لفتح هذه الصفحات المؤلمة وأكتفي بهذه الإشارة السريعة، وأترك الصفحات الموحشة عسى أن تكون صفحات نور وثواب وأجر في صفحات آخرتي، يوم أن أستلم بإذن الله كتابي بيميني وأصرخ بين الخلائق معتزًا فخورًا: ((هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ)) لأنتقل بعدها إلى ((فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)) [الحاقة: 19- 24].
([1]) تيزاب أو الأسيد.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:02
بعد استشهاد أخي «أرسطو» أصبحت مدينة صباي وأحلامي «طهران» الكبيرة بالنسبة لي جحرًا صغيرًا لا يسعني، فلم يكن فيها من تعجبه رؤيتي، حتى أسرتي ووالدي.
وبعد فترة وجيزة ذهبت إلى «كرمانشاه» لأذهب من هناك إلى «كردستان»..
ماذا حدث لي في «كرمانشاه»؟ وكيف قضَّيت أيامي هناك؟
حكاية طويلة لا داعي لذكرها هنا، فيكفي أن أُشير إلى أنني قضَّيتُ فيها أيامًا شديدة، كان كل يوم منها كألف سنة، هكذا قضيت عدة أشهر هناك.
وكان من سوء الأمر أني كنت في بيت رجل كانت بينه وبين زوجته مشاكل، وفي إحدى الأيام اشتد الخلاف بينهما فخرجت الزوجة من البيت، واتصلت بالمخابرات وأخبرتهم بأن زوجها آوى رجلًا هاربًا من القانون، ومن معارضي الحكومة، وأنه الآن في البيت..
لم نعرف الحكاية إلا بعد أن نزل جنود المخابرات كالصاعقة علينا، وبدأت حكاية جديدة من المآسي، تعذيب لا يطاق، وعذاب لا يحتمل في سجون شيطانية لا توصف..
قضيت أيامًا عصيبة بين مخالب المخابرات في سجن «ديزل آباد» في مدينة «كرمانشاه» ثم نقلوني بالطائرة إلى طهران.. إلى مكاني الأول «المخابرات الدولي» وإلى نفس مكان التعذيب، دار الشياطين وقلعة العذاب الملعونة.
كانت وجبات التعذيب هذه المرة أشد من سابقتها، لا أستطيع وصفها، كلما تأتي تلك الصور الموحشة إلى خاطري يقف شعر رأسي خوفًا لمجرد ذكراها..
قضيت قرابة ثلاثة أشهر تحت نيران عقابهم وعذابهم، ليس لي ذنب إلا قولي: «ربي الله، لا أعبد إلا إياه، مخلصًا له ديني».
وبعد ذلك نقلت إلى المحكمة الخاصة بالعلماء التي أصدرت قرارها بأن أنقل إلى سجن «أوين» في طهران وبعد فترة نقلوني إلى سجن «القصر» في طهران فخطبت فيه بين المساجين، فنقلوني منه إلى السجن الرئيسي في «أراك» ثم أرجعوني أخيرًا إلى سجن «أوين» في طهران.
لم تمر عليَّ أيام في «أوين» وإذا بذلك الدكتور الملعون - الدكتور حكاكيان - يأتي لزيارتي إلى السجن، حاول أن يربط قضيتي بأسرتي من جديد ليعذبهم مرة أخرى، وكانت في رأسه خطة خبيثة، فقد كان يحاول أن يجبرني على أن أطلق زوجتي.
ظل يكرر في زياراته لي أن زوجتي طلبت من المحكمة الطلاق مني، كان يذهب إلى زوجتي ويقول لها: لم يبق أمل في نجاة زوجك وحياته أبدًا، ولن يخرج هذه المرة من السجن إلا إلى المشنقة، ويحرّضها على رفع القضية إلى المحكمة والمطالبة بالطلاق..
بدأ اللعين يجري بيننا إلى أن استطاع أن يُهيئ جوًا متوترًا بيننا، ودون علم مسبق مني ودون إكمال الإجراءات القانونية للطلاق أصدرت المحكمة حكم الطلاق والفصل بيني وبين زوجتي..
تعرفت في السجن على مجموعة من المثقفين والمتنورين والمفكرين الكبار مما جعلني أشعر بشيء من الراحة.
وكانوا قد عينوا لي محاميًا ليدافع عني، لا أدري كيف كان وكيف دارت الأمور وراء (الكواليس)، وكيف طرح المحامي قضيتي، أُخذت عدة مرات إلى المحكمة التي وصلت في النهاية إلى قرار الإعدام..
أبلغ المحامي حكم الإعدام إلى أسرتي، لكنني حتى ذلك الوقت لم أكن أعرف بأن المحكمة أصدرت قرارها، إلى أن طلبتني المحكمة يومًا، فأخذني مجموعة من حراس السجن إلى مكتب القاضي.
دخلنا مكتب القاضي وكان هناك نزاع ومشاجرة شديدة بين واحد من قضاة المحكمة ورجل آخر، فجر النقاش بينهما إلى الصراع والضرب، وكانت أيدي مرافقي من حُرَّاس السجن مربوطة بالقيد الحديدي الذي بيدي، فاضطروا لحفظ النظام أن يفتحوا القيد ليتدخلوا في الأمر..
وهكذا وجدت فرصةً مناسبة، فدخلت في الزحام واستطعت أن أهرب من هناك بطريقة لا أجد لها تفسيرًا إلا الرعاية الربانية.
كان من قدر الله عز وجل أن أعيش أيامًا أخرى، فيسر لي سبيل النجاة من أيدي هؤلاء الحراس شياطين العذاب.
هكذا استطعت بعون من الله عز وجل بعد تسعة أشهر قضيتها في السجن والعذاب أن أهرب من أيديهم..
اتصلت بأسرتي بعد فترة، وعرفت بأن المحكمة أصدرت حكم الطلاق دون علمي..
ذهبت إلى زوجتي لأخبرها بحقيقة الأمر، لكنها قالت لي: بأنها بدأت حياة جديدة هادئة بعيدة عني وعن مشاكلي، وطلبت مني أن أتركها ولا أعكر عليها الجو..
من أجل راحتها ومن أجل سعادة ابني الوحيد عسى أن يعيش في جو من الهناء والمحبة، أنهيت صلتي بزوجتي للأبد، رجاء أن يعيشا في أمان وراحة ورجاء أن يأخذ الله عز وجل بأيديهما إلى الصراط المستقيم.
بحمد لله عز وجل منذ عام 1378ش (2000م/1420هـ) إلى كتابة هذه السطور لم أزل على قيد الحياة، وانقطعت صلتي بأسرتي كلها، وأحيانًا أتمكن من الاتصال بوالدتي، أما والدي فلا يرغب في الحديث معي أبدًا..
بقيت في هذا العالم الكبير المكتظ بالناس وحيدًا فريدًا ليس لي من البشر أحد يؤنسني في وحدتي، وانقطع رجائي إلا من الله عز وجل، أصبحت مهاجرًا يرعاني ويحفظني ويرزقني من حيث لا أحتسب.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:03
ظل عملاء المخابرات يبحثون عني في كل مكان، كنت أتحرك خفية بين بيوت الأقارب والأصدقاء..
لم أكن أذهب إلى بيتي ولا ألتقي بأسرتي، بلغ الأمر بوالديَّ مبلغه فكانا في شدة الغضب والحزن، ولعلهم كانوا يتمنون أن يتم القبض علي ليتخلّصوا من شري..
كانت أجنحة المخابرات تراقب حركاتهم وسكناتهم وتحاول أن تصل إليَّ بأي طريق كان، ليغتالوني أو ليقبضوا علي..
في هذه الظروف الصعبة وقد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت لم يكن لي من يواسيني إلا أخي الشقيق «أرسطو»..
لم يكن يوافقني في أفكاري وعقائدي لكن صلة الرحم ورابطة الدم والحب الفطري الذي وضعه الله بيننا كان يجعله يهتم بي ويفكر في نجاتي من هذه الورطة، إلى أن حدثت لنا هذه الحادثة:
سبق لي أن رتبت مجموعة من المقالات تحت عنوان «الجيل المحروق»([1]) تتحدث عن عقائد ورؤى الشباب بعد الثورة، وكنت قد كتبت بعضها في السجن، والبعض الآخر في أيام اختفائي وهروبي عن أعين المخابرات، وكنت سلمتها لمؤسسة «سروش» لتنشرها، وجدتها فرصة لأذهب إلى المؤسسة لأستلم الكتاب إن كانوا قد طبعوه، ويبدو بأن أخي شعر أنني وقعت في فخ المخابرات، وأنهم وصلوا إليَّ، وعَلِمَ بخروجي إلى مؤسسة سروش..
فجأة وجدته دخل «دار نشر سروش» خائفًا مضطربًا ومعه الدكتور «هدايت» ويبدو أنه رافقه دون أن يعرف ما يجري حوله، وقال لي: المخابرات وراءك، هيا اهرب والحق بي بسرعة..
خرجنا مباشرة وركبنا سيارته وتحركنا، وقد رآنا جنود المخابرات فكانوا يتبعوننا بسيارتهم..
كنَّا نتحرك نحو طريق «قم» ولم نبتعد كثيرًا فإذا بسيارة المخابرات اقتربت منَّا وبدءوا يطلقون النار علينا..
نزل وابل من الرصاص على السيارة فمزقها تمزيقًا، وأصيب أخي في رأسه ورقبته..
بعدما رأيت نزيف الدم الذي أُصيب به عرفت بأنه انتقل إلى رحمة الله عز وجل من ساعته، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
أخذت أخي الشهيد في نفس السيارة إلى البيت، وأخبرت والدي بكل ما حدث من سماعة جرس البيت - آيفون - وكنت أخاف أن ألتقي به، فتركت جثمان الشهيد في السيارة وهربت من هناك، ولم أتمكن أن أشارك في صلاة الجنازة على أخي الشهيد رحمة الله عليه..
بعد استشهاد أخي لم يبق لي من يساندني أو يقف بجواري في طهران، وكأن المدينة الكبيرة التي ولدت فيها وقضيت فيها أجمل أيام صباي أصبحت لي موحشة لا مأوى لي فيها ولا ملجأ، فقررت أن أخرج من البلد إلى تركيا، ولكن الظروف لم تسمح بذلك، فاضطررت إلى الذهاب إلى مدينة «كرمانشاه»، وبعد أشهر قليلة تم القبض عليَّ في «كرمانشاه» وأدخلت السجن، فقد ضعت في مدينة «كرمانشاه» وبقيت تحت ظِلال الخوف والهروب من مكان إلى آخر، وفي النهاية ألقي القبض عليَّ، وتجدد السجن والتعذيب.
حكاية مؤلمة لا تتحملها هذه الخواطر السريعة، ولا أرى ضرورة لسردها هنا، فعالم المأساة سماء داكنة سوداء تقذف نارًا، وأرض ضيقة لا تتجاوز سم الخياط وتحمل فوقها ألوان العذاب..
كنت أعيش هذه المآسي وحدي، وقد ذهب شهيد آخر ممن كانوا يواسونني.. أخي «أرسطو» الذي لم يتركه أعداء السعادة أن يذوق حلاوة عرسه، فقد استشهد في السادس والعشرين من الشهر، وكانت الأسرة قد رتبت برنامج زواجه في التاسع والعشرين، فلعنة الله على أعداء الحرية.. شياطين الإجرام.. عشاق الظلام..
([1]) نسل سوخته.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:04
بعد الرجوع من كردستان في مساء إحدى الأيام خرجت مع صاحبي علي رضا محمدي بسيارتي الخاصة، وكنَّا نريد الذهاب إلى «كرج»، فشعرنا في ميدان «ولي عصر» في طهران بأن سيارة المخابرات تراقبنا، فأخذنا عدة لفّات في ميادين المدينة وأسواقها وشوارعها المزدحمة وأزقتها الضيقة، وبعد أن شعرنا بأنهم افتقدونا دخلنا في طريق «كرج»، لكن الأجهزة الاستخباراتية كانت قد رتبت أمورها بشكل جيد، ففي الطريق وجدناهم قد سدوا علينا الطريق بسيارة من سيارات المخابرات ينتظروننا، فبسرعة شديدة غيرنا اتجاهنا صوب طهران مرة أخرى، ولم نكن قد ابتعدنا عن المكان كثيرًا فإذا بسيارة أخرى اقتربت منا ورشت علينا وابلًا من الرصاص.
أصيب أخي علي رضا في كتفه وصدره، فأخذت السيارة إلى جانب الطريق وأوقفتها، وظن رجال المخابرات بأنهم قد تخلصوا منَّا، فلم يقفوا وأكملوا طريقهم إلى طهران.
كانت الإصابة شديدة، وكان الدم ينزف بشدة من أخي علي رضا، فأخذته مباشرة إلى مستشفى «لبافي نجاد»([1])، وتقريبًا كانت الساعة الثالثة مساءً عندما نقلوه إلى غرفة العمليات، ولم تنجح مساعي الأطباء، وفي الساعة الثانية عشرة ليلًا صعدت روح صديقي ورفيق دربي الوحيد علي رضا محمدي إلى بارئها، وتركني في هذه الدنيا وحيدًا من غير مؤنس يؤنسني ومن غير صديق يرافقني، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
الظروف الأمنية لم تكن تسمح لي بأن أحضر صلاة الجنازة عليه، وإن كان برنامج دفنه برنامجًا بسيطًا للغاية.
وبعد يوم أو يومين ذهبت خفية إلى بيت والد الشهيد لأعزيه، وعرفت من خلال ما قاله لي والد الشهيد، ومن خلال تعاملهم معي أنهم يعتبرونني السبب الأول في استشهاد ابنهم، لكنني كنت في قرارة نفسي أرى بأنها كانت مشيئة الله وقدره أن أخذه إلى نفسه، فهذه الدنيا الدنية لا تستحق أن يخلد فيها الأبرار الصالحون، وأن أخي وصاحبي علي رضا كان أفضل مني فاختاره الله عز وجل للقائه ولم يخترني..
هكذا ذهب أخي وصاحبي علي رضا محمدي شهيدًا إلى ربه لينعم في جنان الخلد إن شاء الله، وبقيت أتحمل المصائب والآلام وحدي من دون صاحب يؤنسني ومن دون رفيق يرافقني، ومن دون صديق يشاركني آلام المحنة ويصبرني على البلاء، ويرفع عني بعض ثقله.
([1]) بيمارستان لبافى نثراد.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 17:05
بعد تسليم الضمان إلى المحكمة تم الإفراج عني عام 1377ش (الموافق لـ 1999م/ 1419هـ).
لكن وضعي الجسمي والصحي لم يكن مناسبًا أبدًا.
كان أبي قد تغير كثيرًا، فكنت تحت إشراف طبي مباشر منه، بدأت صحتي تتحسن شيئًا فشيئًا.
كان أبي يحاول أن يرتب المستندات والأوراق اللازمة ليبعثني إلى خارج البلد لإكمال دراستي هناك..
لم تكن هناك أية مشكلة تعرقل برنامج أبي إلا إصراري على عقائدي، وعلى أنني لن أتنازل عنها أبدًا، وأنني سأبقى عليها إلى أن ألقى الله بها ولن أتنازل عنها قيد أنملة.
حاول والديَّ كثيرًا، لكنهم لم يفلحوا في أن يؤثروا فيَّ شيئًا.. في نهاية الأمر شعروا بأن الأمر قد خرج من أيديهم، وبناءً على معتقداتهم الشيعية رأوا أن يلتجئوا إلى سيدنا الإمام الرضا عليه السلام في مدينة مشهد، ليطلبوا من حضرته أن يتدخل في أمري ويرجعني إلى الصواب.
قررا أن نسافر معًا إلى زيارة مرقد الإمام الرضا عليه السلام لعله يجيب دعوتهم..
كانوا قد رتبوا برنامج السفر إلى مشهد بطريقة سرية بعيدًا عني؛ لئلا أشعر بما يدور في رؤوسهم؛ فطرحوا الفكرة بحيث أننا بجاجة إلى سفر سياحي نمرح فيه بعض الوقت حتى يذهب عنا هذا التعب الجسمي والروحي، وقالوا بأن أفضل مكان للسياحة هي مدينة مشهد المقدسة، فسافرنا إليها..
وفي إحدى الأيام التي قضيناها في مشهد طرحوا فكرة زيارة مرقد الإمام الرضا عليه السلام، فذهبنا إلى هناك، وعند المرقد أخرجت أمي سلسلة حديدية كانت معها وحاولت أن تضعها على رقبتي لتربطني بالشبكة الفولاذية عند المرقد..
وعرفت من هذا الموقف أنهم يريدون أن يربطوني بالمرقد ثم يطلبوا من الإمام أن يشفيني أو يتشفع عند الله عز وجل ليذهب عني ما أجده من الأفكار الضالة ويرشدني إلى المذهب الشيعي الذي كنت عليه على حسب زعمهم.
أثَّر هذا الموقف عليَّ كثيرًا وتأسفت جدًا، وكدت أموت حزنًا على ما أجده من أمي وأبي المثقفين، فقلت: يا أماه! هل أنا كلب حصور لتضعي هذه السلاسل على عنقي وتربطيني بهذا الحديد؟!
حاولت أن أُفهم والديَّ وقلت لهما: يا أبي العزيز! ويا أمي العزيزة! أنتما مثقفان وعاقلان، ما هذه الترهات التي تؤمنان بها، توبا إلى الله عز وجل والتمسا منه كل ما تريدانه، فهو يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، فلم تتركانه وتلتجئان إلى هذه الخرافات والبدع؟
لكن أمي كانت مصرةً على موقفها وتقول: يا بني! ما أشرف أن يكون الإنسان كلبًا للإمام الرضا، هذا فخرٌ وليس عيبًا.
كنت أحاول أن أُقنع أمي لكنها لم تكن تسمعني، ولما عجزت أمامها وغلبتني العواطف والحب والاحترام الذي كنت أُكنه لها، قلت والحزن يفتت قلبي: يا سيدي الإمام الرضا! إذا كنت تقدر على المعجزات فها أنا بين يديك خذ روحي لأتخلص من أمي!
هذا الكلام أثَّر في والدتي فتنازلت عن لجاجتها وموقفها.. وابتعدت عن والدتي ولا أدري ماذا صنعت هي وكيف أكملت زيارتها للإمام الرضا، ذهبت بعيدًا عنها وجلست في زاوية أقرأ القرآن وأطلب من خالق «الإمام الرضا» أن يهدينا جميعًا إلى الحق والصراط المستقيم..
وهكذا انتهت رحلتنا وزياراتنا لمشهد وعدنا إلى طهران.
تحسنت في طهران أكثر من ذي قبل، وبدأت الصحة تعود إليَّ وكنت أشعر بالراحة والطمأنينة بين أسرتي، وإذا بالدكتور حكاكيان رمز الخبث والدجل والشر يظهر في بيتنا من جديد.
جاء بخبثه ونفاقه الدفين يعتذر عما حدث ويقر بأخطائه ويريد أن يُصلح ما أفسد لتعود الصلات والروابط الاجتماعية من جديد، وليثبت صدق نواياه قدم إليَّ مسدسًا وقال: أصبح كثير من الناس يعادونك الآن، فخذ هذا المسدس عندك، وأنا أعاهدك أن أحصُل لك على وثيقة رسمية تسمح لك بحمل السلاح.
لكنني عرفت فيما بعد أن هذا المنافق كان يريد مني أن أرتكب جريمة قتل أو أن أُمسك وأنا أحمل المسدس فتزداد علي جرائمي التي يزعمونها جريمة أخرى.
وهنا لابد أن أشير إلى أنه يوم أن أُصيب صديقي الشهيد ورفيق درب هدايتي علي رضا محمدي وكنت أنقله إلى المستشفى، قال لي والدم ينزف منه: بأنه عرف قضية المسدس الذي قدمه لي الدكتور حكاكيان المنافق، وعرف بأن الرجل يكيد لنا، فأخذ المسدس من سيارتي دون علم مني وأخفاه في مكان آمن..
وبعد الرجوع من «مشهد» إلى طهران تعبت من كثرة المكوث في البيت وقررت مع صاحبي علي رضا أن نسافر إلى كردستان..
وفي كردستان قدَّمنا أربع محاضرات في أماكن مختلفة في زي علماء الشيعة، ولم نكن ندري أن المخابرات تراقبنا، وتتبعنا في كل خطواتنا، وأن محاضراتنا كانت تُسجل.
بعد هذه المحاضرات شعرنا بأن عملاء المخابرات يراقبوننا في كل مكان، وعرفنا بأنهم وصلوا إلى قناعة بأننا أصبحنا كالغدة السرطانية ولابد أن يتخلصوا منَّا بأي طريق كان.
فلما شعرنا بالخطر رجعنا مباشرة إلى طهران، كانت الأجهزة الاستخباراتية تراقبنا في كل مكان، فشعرنا بأن الأمر قد حُسم وأنهم يريدون القبض علينا أو اغتيالنا لا محالة، فلم نكن نذهب إلى بيوتنا وكنَّا نختفي في بيوت الأقارب والأصدقاء.
دخولنا في سجن أوين كان فرجًا كبيرًا بالنسبة لنا، كنَّا كمن يخرج من الجحيم إلى الجنة، أو من النار إلى الحدائق الجميلة!!
على الأقل لم نكن نرى هنا تلك الوجوه الشيطانية وتلك النعرات الوحشية لزبانية قلعة الأشباح، ولم نكن نتوقع مثل ذلك التعذيب في هذا المكان.
بقينا فترة طويلة نعاني من الضعف الشديد، والتعب والجراح، بدأت القوة والصحة تعود إلى أجسامنا شيئًا فشيئًا.
كان «أوين» سجنًا كبيرًا، ترى فيه كل أنواع البشر من كل فئات المجتمع، ومن كل الألوان والثقافات والأقوام، لكن التعذيب ترك آثاره الخطيرة على أنفسنا ومشاعرنا، فلم نكن نرغب بالاقتراب من أحد من الناس أو بالحديث مع أحد من السجناء.
وبعد فترة طويلة زارني والديَّ في السجن، كنت أشعر بأنهما أُرغما على هذه الزيارة فلم يكونا يرغبان في اللقاء معي، كما لم تكن نفسيتي ترغب برؤية أحد من الناس، شعرت خلال هذا اللقاء أن مواقف أبي لانت قليلًا، وإن كنت لا أهتم كثيرًا بحديثه..
بعد فترة زارني كذلك والد صديقي محمدي، وبعد مقدمة طويلة قال لي: إن طلبوكم إلى المحكمة مرة أخرى، أرجو أن تضع كل شيء على نفسك، وقل بأنك وحدك المتهم وأن علي رضا بريء من كل شيء، فإن خرج هو من السجن، نحاول نحن جميعًا في البحث عن طريقة نخرجك بها من السجن، وحاول أن يقنعني بذلك وحلف لي عدة مرات.
لم يكن حديثه وكلامه يهمني، ولم أكن أُصدِّق حلفه ولا ألتفت إلى عهوده، لكنني كنت أتمنى أن يخرج محمدي قبلي، وذلك لسببين:
الأول: أن تلك الصورة العاطفية التي شاهدتها يوم القبض علينا من وداعه لابنته الصغيرة، وتلك الدموع التي كانت تجري على خد الطفلة البريئة كانت دائمًا في خاطري، وكنت دائمًا أراها في أحلامي وأنها تحاول أن تفك يدي والدها ولا تستطيع.
الثاني: كنت أشعر بأن والد صديقي محمدي ما زال يفكر في ولده ويحبه.
عاهدت والد محمدي بأنني سأعلن في المحكمة بأنني أنا المجرم الوحيد وأنني خدعت السيد محمدي، وليس له دخل في كل هذه الجرائم، وهو بريء منها علمًا بأن صديقي محمدي لم يكن على علم بما جرى بيني وبين أبيه من العهود والمواثيق.
عندما حضرنا إلى المحكمة للمرة الثانية، أعلنت عن مسؤوليتي تجاه كل تلك الاتهامات، وقلت بأن صديقي محمدي لم يكن له في كل هذه الأمور شيء، وإنما أنا خدعته، فصدر حكم المحكمة على براءته، وأفرج عنه بعد ثلاثة أشهر بعد أخذ المواثيق والضمان.
وبعد ستة أشهر -تقريبًا - من البقاء في سجن «أوين»، بدأت آثار الصدمات الكهربائية تظهر على مخي وأعصابي، فعدة مرات أصبت بجلطة في مخي وسقطت مغشيًا علي.
تدهورت صحتي مع الأيام وكثرت حالات الإغماء والاضطرابات العصبية إلى درجة أن رفع المساجين تدهور حالتي الصحية إلى إدارة السجن، ولما رأت إدارة السجن خطورة حالتي الصحية والنفسية رفعت الأمر إلى المحكمة.
أُخذت إلى المحكمة للمرة الثالثة وكان قد حضرها عدد كبير من أقاربي ومعارفي وأصدقائي، كان بينهم الدكتور حكاكيان الملعون وقد عرفت فيما بعد أن كثيرًا منهم أحضروا ليشهدوا عليَّ، وأصدرت المحكمة قرارًا بالإفراج عنيَّ شريطة وضع ضمان يساوي خمسًا وثلاثين مليون تومان..
وهكذا انتهت هذه الفترة الرهيبة وقد تركت آثارها في جسمي وأعصابي، وما زلت أعاني من آثار ذلك التعذيب الهمجي وتلك الصدمات الكهربائية في رأسي.
بعد هذه الفترة التي قضيناها في التحقيق - قرابة اثني عشر يومًا - نقلونا إلى قسم التعذيب، وكان مكانًا مخيفًا يشبه قلاع الأشباح، وبيوت الشياطين، سلَّمونا إلى أناس آخرين، كانت عيوننا مربوطة.
تركنا من كان يرافقنا وبدؤوا يذهبون، فإذا بمن استقبلنا يخاطبهم بصوت ضخم يشبه صوت زبانية النار أو شياطين العقاب: هل هؤلاء هم أصحاب عمر وأعداء علي؟!
ذهب هؤلاء الجنود وبقينا في هذا المكان الموحش بين أيدي أناس آخرين، سمعنا نفس الصوت المخيف يخاطبنا بغرور وخبث: هل تعرفون إلى أين جئتم؟
سكت قليلًا ثم أصدر ضحكة شيطانية وقال: هنا مصنع الرجال، يحضرون لنا الحمير والبغال لنصنع منها بشرًا سويًا..
كان صوت هذا الرجل الذي كانوا ينادونه بـ«الحاج» وطريقته في الكلام مخيفًا جدًا، شعرنا بشيء من الخوف يدب في قلوبنا.
وضعوا كل واحد منَّا في زنزانة انفرادية لوحده، ويبدو أن الزنازين كانت بعيدة عن بعضها، فبعد جهد كنا نستطيع أن نسمع أصوات بعضنا.
كانت الزنازين تشبه كهوف الأجنة قد كانت رائحتها نتنة قبيحة جدًا، وكأنها قبور مفتوحة تعفنت فيها أجساد الأموات، وكان الجو فيها رطبًا..
بقينا فيها فترة طويلة جدًا، وبعد هذه الفترة العصيبة التي تعذبنا خلالها في هذا المكان المخيف أخذونا إلى الحساب والكتاب كما كانوا يسمونه..
في البداية أخذوا السيد محمدي، ولا أدري ماذا فعلوا به، ثم بعد فترة قصيرة جاؤوا إليَّ وجرّوني إلى هناك.
صرخوا فيَّ: إنك تزعم أنك لا تعترف وبدؤوا يكيلون لي اللطمات والركلات.
كان المضحك في الأمر أنني لم أكن أفهم ماذا يقصدون بـ«الاعتراف»، وبماذا يجب أن أعترف؟
لأنني كنت قد قلت لهم كل ما كنت أعرفه، وما كنت أؤمن به دون محاباة ولا خوف..
قلنا لهم كل شيء في لقائنا الأول في قسم المخابرات الدولية، فلم يبق عندنا ما نقوله بعد ذلك.
فهم في الواقع كما كان يقول السيد محمدي: كانوا يريدوننا أن نعترف بأشياء لا نعرف عنها شيئًا!!
كان الاعتراف لغزًا وسرًا مجهولًا بالنسبة لنا، لا ندري ما كنهه، فما كنَّا نعرف ماذا يجب أن نعترف حتى يرضى عنَّا زبانية العقاب، فيرفعوا عن ظهورنا سياطهم، أو يخففوا عنَّا بعضًا من ألوان عقابهم.
تركونا يومًا أو يومين في آلامنا ثم أعادونا للاعتراف مرة أخرى.
بدأ الضرب والتعذيب مرة أخرى، وركزوا هذه المرة على الفلق - الضرب بالسياط تحت الأقدام - وكان الدم ينزف من وجوهنا وأقدامنا..
لم نكن نعرف ماذا يجب أن نعترف به..
شعروا مرة أخرى باليأس من الاعتراف، أرجعونا إلى زنزانتنا لتندمل الجروح بعض الشيء..
في المرحلة الثالثة أخذونا بعد عدة أيام إلى صالة كبيرة، وكأنها كانت سردابًا تحت الأرض، وكان بها أجهزة خاصة للتعذيب تعمل من تلقاء نفسها، وتقوم تلقائيًا بما يجب عليها من العقاب.
ماذا حدث لنا في تلك الصالة اللعينة؟!
وماذا صنعوا بنا وكيف عذبونا بصور وحشية يعجز قلمي عن تصويرها، بل أكاد أجن كلما تعود تلك الصور إلى خاطري؟!
أسأل الله عز وجل ألا يسوق أي إنسان مهما كان من أمره إلى هذا المكان.
انقطعنا في هذا المكان عن الأسباب الدنيوية كلها، وكنَّا نستغفر الله ونبتهل إليه ونتضرع بين يديه...
عدنا إلى الزنازين ليأخذونا بعد عدة أيام إلى الرحلة الرابعة من الضيافة.
كانت هذه الوجبة أخبث الوجبات السابقة، تعذيب لم يخطر لنا على بال، التعذيب بالقرصات أو اللدغات أو الصدمات الكهربائية على أطراف الرأس والمخ، كنَّا لأول مرة نواجه مثل هذه المواقف العصيبة.
كلما كانوا يوصلون الكهرباء إلى رؤوسنا كنَّا نشعر وكأن آذاننا تنفجر ويخرج منها الدم بغزارة.
كنَّا نصبر على هذا العقاب الشديد ونحتسبه عند الله، ونحاول أن نقاوم هذه الهمجية لكن سرعان ما يغمى علينا.
لا ندري بعد ذلك ماذا يفعلون بنا، إلى أن نعود إلى الحياة، ويعودوا إلى العقاب.. أعادوا إلينا هذا التعذيب عدة مرات، ثم أخذونا إلى وجبة جديدة..
ربطوا أرجلنا وعلّقونا على أعمدة حديدية طويلة، فكان يخرج ما في بطوننا من أفواهنا وأنوفنا ويعيدون الحركة بشدة وعنجهية ووحشية لا توصف، إلى أن بدأ الدم يخرج من أفواهنا وعيوننا وآذاننا وأنوفنا.
وفي المرحلة الأخيرة من العقاب أخذوا السيد محمدي أولًا، ولا أدري ماذا صنعوا به، ولما جاء دوري وأخذوني إلى المجزرة رأيت الدماء تجري على مكان تعذيب علي رضا محمدي، وتوقعت بأنه استشهد قبلي.
بدأت أحسده إذ سبقني إلى الجنة والسعادة الأبدية، وتركني أتحمل هذا العقاب وحدي.
كانت قطرات الدم الطازج على المنصة والمكتب الذي أجلسوني عليه، شعرت بأنني اقتربت من نهاية المطاف، واعتناق الموت..
كنت أشعر بشيء من السعادة من جانب وبشيء من الحسرة من جانب آخر، فلم أكن قدمت لديني ما أعتز به عند ربي!!
لا أدري ماذا حدث هناك، لكن ما إن فتحت عيني وجدت نفسي في زنزانتي وجسمي كله يؤلمني ألمًا شديدًا، ولا أستطيع الحراك، كنت أشعر بالضعف الشديد، كنت كالميت الجامد الذي لا يقدر على الحركة، ليس فيه من الحياة إلا الروح.
بعد هذا التعذيب الذي يبدو أنها المرحلة الأخيرة، تركونا لمدة ثلاثة أيام لا يعذبوننا.
وبعد ذلك عرفنا أنهم كانوا يعدوننا للذهاب إلى المحكمة، فتركونا لتندمل الجروح شيئا ما، ولنتقوى على الوقوف على أرجلنا.
بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام بعد أن استطعنا أن نقف على أرجلنا، أخذونا إلى المحكمة الخاصة بالعلماء.
وأول ما دخلنا المحكمة رأيت بأن والديَّ قد حضرا، كنت أحاول ألا يراني أبي، وكنت أختفي خلف الجنود الذين أحضرونا إلى هذا المكان، لكن أبي شعر بي، ولم أتبادل التحيات مع أحد من أقاربي أو أصدقائي حتى والدي، لا أدري إن كنت لا أرغب في ذلك، أو أنني لم أكن أستطيع أن أفعل ذلك، أو أنه لم يكن مسموحا أن أسلم على أحد منهم حتى لا أكشف للناس عما فعلوه بنا.
كنّا صامتين لا ننطق بشيء.
وبعدما حضر السيد «سليمي» رئيس المحكمة، قرئت موارد الاتهام وكان كالآتي:
1. الارتداد عن الدين الحنيف.
2. إعلان الحرب على الله عز وجل.
3. الإفساد في الأرض.
4. التجسس لأمريكا وإسرائيل.
لا أدري كيف دافعنا عن أنفسنا، ولا أذكر ما قلناه هناك، كل ما أذكره أننا تركنا أمرنا لله وتوكلنا عليه سبحانه وتعالى، وقطعنا رجاءنا عن جميع المخلوقات، ولم يكن في قلوبنا إلا الله.
أصدر القاضي «سليمي» رئيس المحكمة حكمه بأن ننقل إلى سجن «أوين» إلى أن تنظر المحكمة في الاتهامات من جديد..
ومع أن المحكمة أصدرت حكمها بنقلنا إلى سجن «أوين» إلا أن أصحابنا كأنهم لم يشبعوا منا فأخذنا الجنود إلى نفس المكان ونفس الزنازين وإلى مرحلة جديدة من التعذيب..
استضافونا هذه المرة كذلك بألوان جديدة من التعذيب وبوجبة أخرى من الصدمات الكهربائية في المخ وأطراف الرأس، ثم لما شبعوا منَّا نقلونا إلى سجن «أوين».
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:19
كنت جالسًا في بيت السيد محمدي، وما زالت تلك الصورة أمام عيني كانت بنته الصغيرة - ذات الأربع سنوات - واضعة أمامها طستًا كبيرًا من الماء، آخذةً تلعب بالماء..
فجأة طُرِقَ باب البيت بوحشية شديدة، ثم دخل البيت مجموعة من رجال المخابرات ووضعوا القيد في يديَّ ويدي صديقي محمدي، وبدؤوا يجروننا إلى الخارج.
جرت البنت الصغيرة نحو أبيها تصرخ وتبكي وتحاول بسذاجتها وطهرها الطفولي أن تخرج القيد من أيدي والدها، ولما شعرت بأن محاولاتها في فتح القيد قد باءت بالفشل أخذت برجل أبيها تحاول أن تجره إلى داخل البيت، وتصرخ وتبكي بصوت عال.. كانت صورة مؤلمة جدًا، كانت لوحدها كافية في أن تدمع عيون كل إنسان وتجرح مشاعر أي بشر وتفجِّر قلبه، لكن أنى يكون لزبانية النار ولدعاة السجون قلوب في الصدور!!
لم يكن أمام الأب إلا أن يحضن بنته بأيدٍ مكبلة، ويقبلها على جبينها ورأسها ويودعها إلى أجل غير معلوم وإلى مصير مجهول..
طفلة بريئة لا تدري ماذا يجري حولها، وأب يودعها إلى حيث لا يدري، إلى مكان الذاهب إليه مفقود والقادم منه مولود..
صورة كلها مشاعر حب وحنان في جو يحكمه ظلم وطغيان.. صورة لو أدركتها الصخور الصامتة في الجبال الراسيات لتفجرت عيونًا تجري منها الدماء، لكن أنى لقلوب الحديد أن تعطف على العينين فتدمع.. فهذه القلوب تتلذذ بمصائب الناس وترتوي من عويلهم وبكائهم.
أخذونا إلى حيث لا ندري، وعرفنا فيما بعد بأنها كانت وحدة المخابرات الدولية.
لم يكن تعاملهم هناك سيئًا، فلم يضربونا ولم يعذبونا، وكان معظم وقتنا يقضى بين السين والجيم، يسألوننا ونجيب، يستفسرون ونشرح، ثم يعودون من جديد إلى نفس الأسئلة لنعيد نفس الأجوبة.
كانت معظم الأسئلة تدور حول محور: كيف ضللتم؟ من الذي أضلكم؟ ما هي أسباب ضلالتكم؟
أعتقد أن هذه المسرحية دامت عشرة أيام إلى اثنى عشر يومًا، نسمع نفس الأسئلة ونفس الهتافات ونعيد نفس الأجوبة.
ظلت عيوننا مربوطة في كل تلك الفترة، إلا عندما كانوا يعيدوننا إلى الزنزانة!
قال لي صديقي محمدي رحمه الله: إني شعرت في إحدى جلسات التحقيق بوجود عمك «فرشيد».
ومن هنا عرفنا بأن عمي عميل للمخابرات.
لم يكن ينتظرني في البيت بعدما عدت من هذا السفر القصير من بلوشستان، إلا والدي الغضبان الثائر الذي نسي كل معاني الأبوة والعطف وحتى مكانته الاجتماعية كرجل طبيب أكاديمي، ونزل علي بالضرب والشتم واللطم والركل وأخذ سلكًا كهربائيًا قويًا وضربني به حتى شبع.
لم تستطع أمي أن تصبر على هذا الموقف العدائي الشديد، وهذا الضرب والتعذيب فأرادت أن تتدخل، فلم يكن حظها أفضل مني، حيث ضربها أبي ضربًا شديدًا.
أغمي علي في ذلك اليوم واليوم التالي عدة مرات، فكانوا يسكبون على رأسي ماءً باردًا لأعود إلى صوابي.
لما تعب أبي من ضربي، وأراد أن يخرج من البيت ربط يدي ورجلي وعلّقني كما يعلق الجزار الكبش الذي ذبحه ويريد سلخه.
اتصلت والدتي بصديقي «محمدي» وشرحت له حكايتي كلها، وطلبت منه أن يحضر ويخرجني من هذه الورطة.
وصل محمدي وكنت في حالة ضعف وإغماء شديد، فحملني على ظهره وأخرجني من البيت.
لم تمر من هذه الحادثة إلا بضعة أيام وتم القبض علي وعلى صديقي محمدي رحمه الله.
عدد مرات القراءة: 122882
0
السفر إلى بلوشستان الكاتب: مدير الموقع
بعد الفصل من الجامعة وشتائم الأهل ولومهم وغضبهم - ولاسيما غضب الوالدين - أصبح جو البيت لا يطاق، فقررت مع صاحبي «محمدي» أن نسافر إلى بلوشستان مرة أخرى.
وفي بلوشستان التقينا ببعض المشايخ وشرحنا لهم وضعنا وقلنا بأننا كنا من الشيعة وأصبحنا الآن من أهل السُّنَّة والجماعة، ورجوناهم أن يسمحوا لنا بأن ندرس في مدارسهم الدينية، لكنهم لم يستطيعوا أن يصدقونا وظنوا بأننا من رجال المخابرات نريد التجسس عليهم، فاعتذروا عنَّا بكل احترام وقالوا بأن المدرسين والطلاب هنا يتحدثون بلغاتهم المحلية، وأن العدد قد اكتمل عندنا فليس هناك مجال في السكن الطلابي، وأننا نواجه مشاكل اقتصادية، وإمكاناتنا ضعيفة لا نستطيع أن نستضيفكم و... وهكذا رفضونا بتبريرات واهية، لكننا كنا نشعر بالحقيقة في قرارة أنفسنا، فهم لم يكونوا يصدقونا ولم يكونوا يستطيعون أن يثقوا بكلامنا، فمن كثرة ما كذب الشيعة وجعلوا الكذب والدجل شعارًا لهم على طوال التاريخ لم يعد أحد من المسلمين قادرًا أن يصدق شيعيًا!!
لم نجد أمامنا فرصة للبقاء، فاضطررنا للرجوع إلى طهران مرة أخرى..
كنَّا في بداية الفصل الثالث عشر الجامعي، وقد كثرت الإشاعات عن المحاضرة التي ألقيت في مسجد «كاشان» وعن الوهابيين الذين قاموا بهذا العمل، ثم جاء خبر استشهاد الزميل «محمد رضا موسايي» فقررنا أن نتجنب أي عمل قد يحدث بلبلة في البيئة الجامعية، فتركنا إقامة الصلاة جماعة، فقد كان المسؤولون يخافون منها كثيرًا، ويشعرون بالضيق والحنق الشديد تجاهنا كلما أقمنا الصلاة جماعة، ولاسيما مسؤولي اللجنة الدعوية، فقد كانوا يظهرون عنادهم ويعارضوننا أكثر كُلَّما أدينا الصلاة جماعة.
كان وقع خبر استشهاد الزميل «محمد رضا موسايي» شديدًا على جميع الطلاب، لم نستطع أن نتجاهل هذه الحادثة فأردنا أن نقيم جلسة ذكرى لهذا الشهيد البريء.
أقمنا برنامجًا لذكرى هذا الشهيد حضره عدد كبير من الطلاب ولعل طلاب الشيعة الذين حضروا كانوا يتجاوزون التسعين طالبًا.
جرنا الكلام في المحاضرات التي ألقيناها بهذه المناسبة الأليمة إلى الحديث عن الوهابيين الذين خطبا في «مسجد كاشان»، واعترفنا على الملأ بأن هذين الوهابيين لم يكونا إلا أنا والسيد محمدي رحمه الله.
في اليوم التالي استُدعينا إلى مكتب اللجنة الدعوية في الجامعة، ومرة أخرى وجدنا رأس الأفعى يرقد هناك السيد، وهو الدكتور حكاكيان.
كان هذا اللقاء بمثابة التحذير الأخير والإنذار الشديد إن أقمنا برنامجًا آخر على هذا المنوال فسوف تضطر الإدارة أن تتخذ مواقفًا شديدة تجاهنا.
بعد فترة وجيزة ولمناسبة أخرى أرادت الجامعة أن تعقد برنامجًا آخر، وكان أحد العلماء مسؤولًا عن التخطيط لهذا البرنامج وإدارته.
جاء إليَّ وبدأ يرفع من شأني ويذكرني بمناقبي وصفاتي العالية وأنني كذا وكذا!! ثم بدأ يحكي قصة البرنامج الذي رتبه، وقدَّم لي ظرفًا كان فيه خمسين ألف تومان كهدية تذكارية ثم قال: نرجو من حضرتكم أن تتكرموا مشكورين بتلاوة بعض آيات كلام الله المجيد في هذا البرنامج، ولكن حضرتك تعرف جيدًا أن الأجواء عكرة، وألْسن الناس طويلة لا ترحم، فلو تتكرم وتختم قراءتك بقولك «صدق الله العلي العظيم» تكون قد مننت علينا.
أول ما جاء الرجل بدأت أشك في نواياه، وهنا تأكد لي أن هناك دسيسة وراء الحكاية، وأنهم يقصدون شيئًا من وراء هذه الحكاية، لعلهم عرفوا أنني أصبحت من السنة وهم يظنون بأن أهل السُّنَّة يكرهون عليًا كما يكرهون هم سائر صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم يأبون أن ينطقوا اسمه حتى ولو في القراءة! ([1]).
كان موقفًا مضحكًا مبكيًا، عقلية في غاية الحمق والجهل، وهل هناك أحد من مسلمي السُّنَّة يكره اسم «علي»؟
السنة هم الذين يدعون لاتباع علي، ويدرسون سيرته ويبجلونه، ويرون حبه من علامات الإيمان وكرهه من علامات النفاق([2]).
لكنني أردت أن أذل هذا الرجل الأحمق وأغيظه، فقلت له: لا يا سيد، أنا لن أقول «صدق الله العلي العظيم» وسأقول معتزا «صدق الله العظيم» فقط.
بدأ السيد رضايي هذا يجادلني وأنا أصر على موقفي ووصل الأمر بنا إلى أن وضعت الظرف الذي جاء به في يده وقلت له: يا صاحبي! كفى الله المؤمنين القتال، أنا لن أحضر جلستك هذه ولن أقرأ فيها القرآن.
بدأ البرنامج ويبدو أنهم لم يجدوا من يفتتح البرنامج بآيات من القرآن الحكيم، فمن ثم أتوا إليَّ يرجونني وأنا أرفض القراءة، إلى أن تدخل بعض الأساتذة ولاسيما السيد الدكتور «هدايت» المحترم، فاضطررت أن أقوم وأتلو بعض الآيات ثم أردفت قراءتي بقولي «صدق الله العظيم» ليكون شوكة في حلوقهم.
بعد هذه الحادثة بيومين أو ثلاث استدعيت إلى مكتب رئيس الجامعة وبعد نصف ساعة أصدروا قرار فصلي من جامعة «الشهيد بهشتي» بعد سبع سنوات من الدراسة فيها، وهكذا تم فصلي من الجامعة.
ثار صديقي محمدي عند سماع هذا الحكم الجائر وحزن حزنًا شديدًا وأراد أن يتشاجر مع الرجل الذي قدم لي قرار الفصل، لكن الرجل المسكين قال بكل بساطة: ليس لي من الأمر شيء، أما أنا فقد كُلِّفت أن أبلغكم هذا القرار، وأنا لم أصدر الحكم، وإنما جاء الحكم من قبل إدارة الجامعة والمجلس العلمي.
وبعد استلام قرار الفصل اتصلت بالوالد وأخبرته بالأمر، فغضب غضبًا شديدًا وبدأ يستهزئ بي ويقول: مبروك عليك! هل ارتحت الآن؟! اذهب اذبح بقرة وارقص فرحًا..
رجعت إلى البيت وكنت حزينًا ومضطربًا، وبدأ أبي وأمي وجدي وجدتي والأسرة كلهم يلومونني ويخرجون غيظهم وغضبهم على رأسي.
حاول والدي إصلاح الأمر لأعود إلى الجامعة، فقبلت إدارة الجامعة ذلك شريطة أن أتوب، ووضعوا شروطًا تعجيزية أمامي لم يكن لي أن أخضع لها أبدًا..
وفي إحدى الأيام لقيني أحد المشايخ من أعضاء اللجنة الدعوية في الجامعة، وقال لي: رأيت في المنام أنك تبت ورجعت إلى الحق، وعدت إلى الجامعة مرة أخرى، فأجبته: أبعدك الله من الشرور يا سيدي، هذا من نفثات الشيطان، ولا تعبير له.
([1]) الشيعة ينهون قراءتهم للقرآن بقولهم «صدق الله العلي العظيم»، ويظنون أن لفظ «العلي» هنا يعني سيدنا علي المرتضى رضي الله عنه، وبما أن السنة عادةً ينهون تلاوتهم للقرآن المجيد بعبارة «صدق الله العظيم» فيظنون بأن السنة يكرهون عليًا، فمن ثم لا يذكرون اسمه في هذا الموضع.
([2]) عن زر قال: قال علي رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) رواه مسلم.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:22
سافرت برفقة صاحبي علي رضا محمدي بسيارتنا إلى «كاشان»..
كنا قد وضعنا خطة محكمة لنطبقها في هذا السفر، فقد اتفقنا أن نذهب إلى ابن «آية الله مدني» رئيس الحوزة العلمية هناك، ونستأذنه في إلقاء محاضرة هناك.
كنَّا ندرك جيدًا أن هذه الحركة قد تسبب لنا مشاكل عديدة، وقد نفقد رؤوسنا في هذا الطريق، فطرح القضايا العقدية والحديث عن التوحيد في مثل هذه المدينة التي اشتهرت بالتعصب والعناد واللجاجة ليس أمرًا هينًا، لكننا كنا شعلة من الاعتزاز والفخر بما وصلنا إليه من الحق.
كنَّا نحاول أن نترجم ما في صدورنا بالخوض في مثل هذه المواقف الصعبة والحرجة..
كنَّا نرى بأن موقفنا هذا يشبه العمليات الاستشهادية في أعمق أراضي الأعداء وفي جمع من أكبر قياداتهم، وأننا إن عدنا من هذه الرحلة سالمين فسوف تكون هي بداية المعركة الحاسمة..
أعترف أن هذه العواطف والإحساسات التي كانت تترجم اعتزازنا وفخرنا بما نؤمن به جعلتنا لا نقرأ الواقع قراءة حكيمة، ولا نفكر جيدًا بالآثار التي قد تتركه مثل هذه المواقف، كنَّا نجازف بأنفسنا دون دراسة منهجية للواقع.
وصلنا إلى «كاشان» للخوض في هذه المجازفة الخطيرة، وذهبنا مباشرة إلى بيت السيد «المدني» ابن آية الله المدني، وكانت لنا صداقة قديمة معه، فاتحناه في قضية المحاضرة، وطلبنا منه أن يرتب لنا برنامجًا للمحاضرة.
لم يكن السيد المدني قد اطلع على المجريات الأخيرة وعلى أننا أصبحنا من أهل السُّنَّة والجماعة، ولم يكن سمع بما حدث لنا في الجامعة وما أحدثناه هناك، فرحب بنا..
وفي إحدى المناسبات المذهبية الخاصة رتب لنا برنامجًا حافلًا نحاضر فيه في إحدى المساجد الكبيرة في مدينة «كاشان».
واستطعنا أن نقدم برنامجًا أحر من الجمر أخرجنا فيه كل ما في جعبتنا، وتحدثنا عن كل حق وصلنا إليه خلال دراساتنا وبحوثنا على الملأ..
لا أنسى أن أشير بأن السيد محمدي رحمه الله كان يعاني من مشكلة في لسانه لا يستطيع أن يفصح جيدًا، فكان يقدمني في المحاضرات.
حاولت في بداية حديثي أن أتحدث بشكل عام وأشرح الأصول العقائدية بشكل مجمل، ومن هناك أدخل في المبادئ والعقائد الصحيحة دون أن أثير مشاعر الناس وأحاسيسهم، لكن الأمر فيما يبدو خرج من يدي وقلت كل شيء أؤمن به بكل صراحة وصدق، ووضعت عدة علامات استفهام بارزة على المذهب الشيعي، كانت جديرة بأن تقلعه من جذوره وتصرخ ببطلانه.
تحدثت بإسهاب عن شخصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن مناقبه وعن مكانته بين الخلفاء الراشدين، وبين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم زدت الطين بلّة بأن قلت: لم يكن إسلام سيدنا علي عليه السلام بتلك الأهمية التي يتحدثون عنها، فلا يستدعي الأمر كل هذه الدبدبة والكبكبة والاعتزاز والتفاخر والمباهاة والضجيج، فقد كان علي عليه السلام، صبيًا يعيش في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ربَّاه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان ولابد أن يتجلى صدى أخلاقه وأفكاره وعقائده صلى الله عليه وسلم في هذا الصبي الذي يعيش في كنفه.
لكن الإسلام الذي لابد أن نفتخر به هو إيمان عمر رضي الله عنه، الذي كان قائدًا يستطيع أن يحرك قبيلة وراءه، فهذا الذي كان كجلمود صخر صلب تغير وصار ذلك الأمير الذي غير العالم وسطر على صفحات التاريخ كل هذا المجد والعز للإسلام والمسلمين([1]).
ثم تحدثت عن «أبي لؤلؤة» المجوسي الملعون، وتلك المؤامرة النجسة التي أدت إلى استشهاد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
ولعل الحضور لم يكونوا قد سمعوا مثل هذا الكلام في حياتهم أبدًا، ولم يكونوا قط يتصورون أن يسمعوا مثل هذا الحديث من عالم شيعي على منبر مسجد شيعي وفي مدينة مثل «كاشان»، فكانوا كمن ضربته الصاعقة يحترق في جلده فلا يستطيع الحراك.
كان الناس ينظرون إليَّ بأفواه فاغرة ملأتها الحيرة والتعجب، ولا يكادون يصدقون آذانهم فيما يسمعونه.
ولعل في صدور الجميع كان يدور: ماذا أصاب هذا العالم الشيعي؟ هل جن أم دخل في جلده العفاريت، يتحدث عن عمر عدو أهل البيت بهذا الاحترام والتبجيل، ويعتز بذكر اسمه والحديث عن سيرته.
شعرت بحركات مريبة في الحضور، فرأيت من الأفضل أن أكتفي بهذا فجمعت أطراف الحديث وأنهيت محاضرتي، ثم استطعنا أن نخرج من المسجد بسرعة، فركبنا سيارتنا وانطلقنا نحو طهران.
لم يمر وقت طويل إلا والإشاعات تنتشر في كل مكان عما حدث في «كاشان»، وصل الكلام إلى جامعتنا بأن مجموعة من الوهابيين من علماء السنة لبسوا زي علمائنا الشيعة وخطبوا في مسجد في «كاشان»، طعنوا في عقائد الشيعة ودعوا إلى عقائدهم الوهابية.
ما وصل إلى جامعتنا من الخبر كان صدى لخطبة إمام جمعة مدينة «كاشان» الذي وضع المسؤولية على عاتق المخابرات، وأمن الدولة التي لا تؤدي واجباتها كما ينبغي إلى درجة أن تجرأ اثنان من الوهابية أن يلبسا زي علماء أهل البيت ويلطخوا منابر مساجدنا ويتحدثوا عن أعداء أهل البيت حديثًا يفتت القلوب، فقد رفع هؤلاء الوهابيون شأن عدو أهل البيت الأول ومجدوه ووضعوا له فضائل ومناقب على منبر من منابر عشاق أهل البيت أصحاب المذهب الشيعي المبارك، وتباكى على غزوه في عقر داره.
لفترة طويلة ظلت أخبار ما دار في «كاشان» حديث مجالس الطلاب ينفخون فيها ويزيدون وينقصون ويعلقون ويفسرون حسب ما يحلوا لهم..
وما إن هدأ الجو حتى وصلت الأخبار بأن الطالب السني السجين «محمد رضا موسايي» الذي فقدنا أخباره من يوم أن دخل زنازين المخابرات الموحشة فقد عقله تحت التعذيب الروحي والجسمي ولاسيما الصدمات الكهربائية في الرأس والمخ، ونقل قبل أيام إلى مستشفى المجانين في طهران فذهبت برفقة صديقي «محمدي» إلى عيادته هناك.
وجدناه مسكينًا ذليلًا فقد عقله تمامًا، فما كان يعرفنا ولا يشعر بما يدور حوله أبدًا.
ظل أكثر من نصف ساعة يحملق في وجوهنا ويضحك بصوت عال.
تأثرنا جدًا بما رأينا من وضع زميلنا محمد رضا موسايي، وكدنا نموت حزنًا وغيظًا على حالته، فقد كان صاحب ذكاء وعقل لم نجد له مثيلًا، كان أبرز الوجوه العلمية بين طلاب كلية الطب، وكان من الممكن أن يصبح من عباقرة الطب في هذا العالم الضائع..
في منتصف الفصل الدراسي الثاني عشر سمعنا بأن الطالب «محمد رضا موسايي» استشهد على تلك الحالة المؤسفة فإنا لله وإنا إليه راجعون..
أسأل الله القدير أن يغفر له ذنبه ويكتبه في الشهداء الأبرار، ويجمعنا به في عليين إخوانًا على سرر متقابلين، وأن يعوض الأمة خيرًا منه، وألا يحرمنا أجر جهاده وصبره وثباته رحمة الله عليه..
([1]) صدر مؤخرًا كتاب للأستاذ حسن العلوي بعنوان: (عمر والتشيع) وهو كتاب رائع في بابه.
قال لي آية الله وحيد الخراساني في مكتب اللجنة الدعوية: تعالوا إلى قم في أول فرصة تجدونها، ليكون لنا لقاء آخر هناك، نتحدث فيه بالتفصيل.
وبعد بضعة أشهر من بدء الفصل الدراسي الحادي عشر سافرنا إلى قم لنلتقي بآية الله وحيد الخراساني.
ذهبنا مباشرة إلى الحوزة العلمية بقم، لكننا شعرنا بغربة عجيبة في المكان وإن كنا قد قضينا هناك عدة سنوات من عمرنا نعرف الأساتذة والطلاب ويعرفوننا، إلا أن هذه المرة كان الجو يختلف تمامًا، فقد لاحظنا العيون تراقبنا في كل مكان وتنظر إلينا بشيء من الريب والشك وشيء من التحقير والتذليل.
كانت الشفاه تتحرك بعبارات فيها تعريض أو استهزاء أو استنكار لما نحن عليه من الحق، فلم نجد رغبة في البقاء في الحوزة العلمية.
ذهبنا إلى بيت السيد آية الله وحيد الخراساني، أشعرنا آية الله بحركاته ونظراته أن تلك الصلة الودية التي كانت بيننا من صلة الطالب والأستاذ وتلك الروابط الصادقة وذلك الحب والود قد انتهى دوره.
مع هذا كله لم نقصر في حقه فكنا نشعر بعظيم حقه وبفضله الكبير علينا، فقد كان أستاذنا وشيخنا.
اهتم بنا اهتمامًا خاصًا طول فترة دراستنا، وكنَّا نخصه بالاحترام والتبجيل ونشعر تجاهه بالعطف والمحبة، ولاسيما وأنه تدخل شخصيًا في قضيتنا، فلم نخرج من السجن إلا بشفاعة وتزكية وتوصية منه.
أيًا كان الأمر فتح باب المناقشة والبحث.
قال لنا السيد آية الله وحيد الخراساني مستهزئًا بنا: مرحبًا بكم! فقد كنتم أفضل طلاب «الحوزة» أخلاقًا ودراسة وتفوقًا ونشاطًا، وكأنكم سادة الطلاب وأمراءهم، وها أنتم الآن قد جرحتم مشاعري وأخجلتموني، فمرحبًا بكم يا سادة الطلاب وأمراءهم!
لابد لنا أن نفتخر بكم فقد خيبتم ظن الأساتذة فيكم، وضيعتم رسالة «الحوزة العلمية» بقم، أكبر قاعدة ننطلق منها نحو العالم.
كنَّا نثق بكم ونحترمكم ونعرف لكم مكانتكم، كنَّا نبعثكم للمناظرات والمناقشات إلى المناطق السنية، كنَّا نرى فيكم رجالا يعتزون «بحوزتهم العلمية» ويفتخرون بحملهم لواء المكتب العلوي، ويتباهون بحبهم لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن مع الأسف الشديد لم تكونوا عند حسن الظن، فها أنتم ضيعتم آمالنا، نكّستم رؤوسنا ورأس جامعتكم العلمية ورأس المكتب العلوي كله.
ماذا سيقول الناس عنَّا؟ ماذا سيقول التاريخ عنكم؟ رجال كان من المفروض أن يحملوا راية أهل البيت عليهم السلام إلى العالمين، فإذا بهم ينقلبون أعداءً لأهل البيت سلام الله عليهم؟!
كنَّا نتصور أن ذهابكم إلى المناطق السُّنِّية وأنتم طلاب نشيطون ومتفوقون في الدراسة سوف يؤثر في هؤلاء الناس، وسوف تنيرون الدروب أمامهم وتأخذون بأيديهم إلى نور الحق وتصححون أفكارهم وعقائدهم الخاطئة، ولكنكم جعلتمونا نستحيي من أنفسنا، فقد كان التأثير سلبيًا تمامًا خلاف ما كنا نظنه، قد أثرت فيكم دعايات مجموعة من الوهابيين الذين جُبلوا على اللجاجة مع المذهب العلوي، وعلى عداوة أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فبدل أن تخرجوهم من الظلمات إلى النور وقعتم في شراكهم، وأغمضتم أعينكم عن النور، وسقطتم في دياجير الظلمة، وخنتم عقائدكم الشيعية المباركة بدل أن تفتخروا وتعتزوا بها.
بدأتم تلعبون بأصول المذهب وثوابته، وجعلتمونا وجعلتم «الحوزة العلمية» والمكتب العلوي وحتى أسركم وعوائلكم أضحوكة أمام الناس.
جعلتم بحركاتكم الصبيانية طلاب الجامعة في طهران يشكون في صحة معتقداتهم ومذهبهم!
أصبح الطلاب البسطاء يشكون في كل شيء، ولم يعودوا يرغبون في المشاركة في البرامج التعبدية والجلسات المذهبية، وها أنتم تتحملون جريرتهم ووزرهم.
أهنتم المذهب الشيعي المبارك، وبحماقتكم طعنتم في معتقداته وأصوله وأفكاره.
لم يشهد تاريخ المذهب نكسة وضربة من أبنائه مثل ما شهده منكم، ألا تستحيون من مواقفكم؟
كيف ستقابلون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ بأي وجه ستقفون أمام الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف؟
ماذا سيكون موقفكم أمام أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بعد هذا الكلام العاطفي بدأ آية الله يخفض صوته. وقال بنبرة فيها شيء من العطف: يا أولادي، قد يواجه المرء مشاكل اقتصادية، وقد يلعب الشيطان برأسه ويحاول الهروب من مشاكله فينجر إلى ترك مذهبه الشيعي المبارك طمعًا لدراهم معدودة، يقدمها إليه بعض الوهابيين من أعداء أهل البيت الذين تفننوا في شراء الذمم، لكن من يعشق أهل البيت يترك لنفسه خطًا للرجعة، وأنا مستعد أن أقدم لكم ما تريدونه من المال، أستطيع أن أساعدكم بخمسة ملايين تومان وإن شئتم حتى بعشرة ملايين!
كنت أنا وصاحبي علي رضا محمدي نُكِنُّ لآية الله الخراساني احترامًا خاصًا، لم نكن نبدي أية حركة أو ننطق بأية كلمة يمكن أن تحمل على قلة الأدب والاحترام، لكن الأمر في هذا الموقف كان يتعلق بالعقيدة وبالدفاع عن الحق، فمع مراعاتنا لكل المفاهيم الأخلاقية التي تقتضيها علاقة الطالب بشيخه، كان ولابد أن نجيب على هذه النصائح الكريمة وهذا الطعن الشديد الذي وجهه إلينا سعادة آية الله الخراساني، فكسرت حاجز الصمتِ وقطعتُ كلام السيد الخراساني وقلت: سعادة الشيخ! حضرتكم تعرفون أكثر من غيركم مدى حبنا لسيدنا علي المرتضى عليه السلام ولأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، والقضية ليست عداوةً لأهل البيت كما صورتموها، وإنما قضيتنا هي قضية العقيدة لا غير.
فنحن بعد دراسة وتعمق وبحث أدركنا أننا كنا نعيش في ظلمات من الخرافات والبدع والشركيات، ووجدنا بأن أهل السُّنَّة على الحق الذي كان عليه سيدنا علي عليه السلام، وأنهم هم هواة أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم هم حاملوا لواء أهل البيت وأصحاب عقيدة أهل البيت لا نحن.
ماذا تعني الدنيا أمام هذه المفاهيم؟!
يا سعادة الشيخ! والله لا تساوي الدنيا كلها أمام ما أدركناه من الحق حبة خردل ولا أقل من ذلك، لم نكن يومًا ما بفضل الله عز وجل بحاجة أن نبيع ديننا بثمن بخس دراهم معدودة، ولن نبيعه.
بهذا أفهمنا الشيخ بأننا لم نخرج في هذا الطريق لنرجع منه، وأننا مصرون على عقيدتنا ولن نرجع عنها وإن قُطِّعنا إربًا إربًا، أو وضعت المناشير على رؤوسنا وقسمونا نصفين أو حرقونا بالنار كإمام الموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم تجرأت وقلت للشيخ: أعتذر جدًا من حضرتكم أنني أطرح هذا الكلام أمام سعادتكم، ولكن بما أن حديثنا عن العقيدة، فلابد من الاعتزاز بما نؤمن به..
حضرتكم تتحدثون عن خمسة ملايين تومان، وها نحن مستعدون أن ندفع لكم عشرين مليون تومان لترجعوا عما أنتم فيه إلى الحق الذي وصلنا إليه وتصبحوا من أهل السُّنَّة والجماعة.
شعرنا بأن الاستمرار في الحديث مع آية الله الخراساني وبقاءنا مع حضرته لن يحل مشكلتنا معه ولن تتغير نظرته إلينا، ولن يفهمنا، بل حديثنا يزيد الفجوة بيننا ويضع بذور الكره والبغضاء بيننا، فرأينا أن نجمع أطراف الحديث ونستأذن من حضرته، فودعناه وخرجنا من عنده.
قال لنا عند الخروج: أوصاني السيد آية الله «أستادي» بأن أقول لكم أن تذهبوا إليه بعد لقائكم معي.
سمعنا كلامه وخرجنا من عنده أكثر إيمانًا بما نحن عليه من الحق.
ذهبنا إلى بيت السيد آية الله أستادي، وكان في حضرته السيد آية الله مكارم الشيرازي.
كان السيد آية الله أستادي رئيسًا للحوزة العلمية بقم، دامت جلستنا معه أكثر من ساعة كرر فيها نفس الكلام الذي قاله لنا آية الله الخراساني... لم نصل في هذا اللقاء كذلك إلى شيء، فودعناه وعدنا إلى طهران.
شعرنا عند وداع هؤلاء المشايخ وكبار آيات «قم» أنهم تألموا جدًا وحزنوا وتأسفوا كثيرًا على ضلالنا كما يزعمون!
عدنا من مدينة «مشهد» وبدأنا في إجراءات التسجيل في الجامعة، وبدأ الفصل الدراسي العاشر.
ذات يوم استدعيت أنا وصاحبي علي رضا محمدي إلى مكتب اللجنة الدعوية في الجامعة.
ذهبنا إلى مكتب اللجنة فوجدنا هناك رئيس اللجنة وأعضاء المجلس العلمي في الجامعة، وإمام مسجد الجامعة، وبعد الجلوس والتعارف والمجاملات المعروفة إذا برئيس اللجنة الدعوية يخاطبنا بشدة ويقول: اصدقوا، ولا تحاولوا إنكار الحقائق وتجاهل ما يجري في الجامعة، من الذي ضحك على عقولكم وحرَّف أفكاركم وسبب لنا هذه المشاكل والاضطرابات في البيئة الجامعية - كان يقصد الشعارات التي كتبت على السبورة - اكشفوا عن حقيقة الأمر أمام الجميع؟
تحدث السيد «الحسيني» بإسهاب عن مسائل كثيرة ثم عاد ليكرر: احكوا لنا الحكاية كما حدثت، لعلنا نستطيع أن نحل المشكلة قبل أن تكبر وتصل إلى الأماكن الخطيرة - كان يقصد المخابرات - فنحن أولى أن نعرف مشاكلنا ونحلها دون أن تتدخل في شؤون الجامعة الجهات الثانية، فذلك لا يليق بالمجتمع الجامعي والعلمي.
كان المسؤولون يحاولون بالإشارة أو الكناية أن يظهروا لنا بأن قضية تغييرنا للمذهب وانتقالنا من التشيع إلى أهل السُّنَّة والجماعة لا يهمهم كثيرًا، فالأمر يتعلق بنا، ولكنهم في دائرة واجبات اللجنة الدعوية لابد أن يعرفوا أسباب التوترات والاضطرابات التي بدأت تفسد النظام في الجامعة، وكانوا يقولون بأنهم لا يتابعون القضية ولا يهمهم إلا من هذا الباب.
لكننا أدركنا الأمر جيدًا، فلم تكن هناك أية اضطرابات ولا تشويش في المجتمع الجامعي، وكانت الأمور تجري على ما كانت، ولم نكن قد أحدثنا أية مشاكل بين الطلاب، ولم نُثِر أية اضطرابات ولا انقلابات طلابية.
كنا نشعر جيدًا بأن مسؤولي اللجنة الدعوية وإدارة الجامعة حزنوا جدًا على تحولنا من التشيع إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وهذا الأمر هو الذي يهمهم لا غير، وهذا هو الذي جعلهم يثورون بهذا الشكل ويحاولون لم شمله عسى أن يعيدونا إلى ما كنا فيه، لكننا أفهمناهم بأنه هيهات هيهات لما توعدون!!
مع هذا كله وضحنا للسيد «الحسيني» والحضور أننا لم نغير مذهبنا إلا بعد دراسة وبحث وبعد اعتقاد جازم، فليست هناك مؤامرات ولا أيادٍ خفية تخطط لتضليلنا وراء (الكواليس)، وإنما هي مشيئة الله وفضله وحكمته التي أدركتنا ونحن في ظلمات بعضها فوق بعض، فأخذت بأيدينا، رحمة منه سبحانه وتعالى بنا، وهي التي حملتنا إلى نور الإيمان.
لكن السادة كانوا يحاولون تهديدنا ويقولون: انتبهوا، إذا لم تكشفوا حقيقة الأمر ولم تعترفوا بالحقائق والأيادي المجرمة فسوف تخرج الأمور من أيدينا وتنتقل المسألة إلى المخابرات، ثم لا نستطيع أن نفعل شيئًا.
لم يرتح السادة لكلامنا، وفي نهاية الجلسة قدم رئيس اللجنة الدعوية قلمًا وورقة إلى السيد علي رضا محمدي رحمه الله، وقال له: اكتب بأننا أخطأنا ولن نعود إلى مثل هذه الأخطاء أبدًا.
فأخذ السيد محمدي الورق والقلم وكتب: لم نرتكب أي خطأ إلى الآن، اللهم إلا خطًا واحدًا وهو أننا أصبحنا نعشق دين الله عز وجل، ونريد أن نكون من الموحدين لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين.
قدم الورقة إلى السيد الحسيني، فثار السيد الحسيني غضبًا وحقدًا أكثر من ذي قبل بعد قراءة الورقة، ثم قام وأخرجنا من مكتب اللجنة الدعوية.
وبعد بضعة أيام من هذا الحديث، كنا نقف مع مجموعة من الزملاء في ساحة الجامعة، وإذا بسيارة من سيارات المخابرات المعروفة وقفت أمام الجامعة.
نزل منها رجلان دخلا الجامعة، ودون سؤال أو جواب أخذا بيدي وبيد السيد محمدي وأرادا أن يرغمانا على ركوب السيارة.
بدأنا نتشاجر معهم ونقاومهم، فاعتبر الطُّلَّاب هذا الموقف إهانةً للطلاب وللجامعة؛ فتجمعوا حولنا وكادوا يتضاربون مع الجنود.
لكن الجنود اعتذروا وقالوا بأنه ليس لهم من الأمر شيء، وإنما هم موظفون يجب أن يؤدوا ما أُمروا به، وبعد نقاش طويل ركبنا معهم السيارة وذهبنا إلى المخابرات.
وكان مما أفسد الجو الجامعي أكثر أن رجال المخابرات سبق وأن قبضوا على طالب سني من أهل «جرجان»([1]) كان يسمى «محمد رضا موسايي»، وكان هو الطالب النموذجي المتفوق دائمًا في كلية الطب في الجامعة، كان زميلًا لنا في الفصل العاشر، وكان يؤدي صلواته معنا جماعة.
ويبدو أنه نقل إلى المخابرات في نفس اليوم أو بعدنا بعدة أيام، أو قبلنا ببضعة أيام.. لا أذكر جيدًا.
أول ما وصلنا إلى المخابرات ربطوا أعيننا ونزعوا ملابسنا وألبسونا زي السجناء، ونقلوا كل واحد منا إلى سرداب فردي.
كان جو السجن مظلمًا ومخيفًا جدًا أكثر بكثير مما كنا نتصوره.
بعد فترة شعرنا أنها كانت طويلة جدًا، أخذونا إلى مكتب الرئيس أو شخص آخر كانوا ينادونه «الحاج».
بدأ «الحاج» يتحدث يمينًا وشمالًا ويحاول أن يُذكِّرنا بما قمنا به من الجرائم والخلافات، ويقرأ على آذاننا الاتهامات التي اتهمنا بها، وأخيرًا طلب منا أن نخبره بمن كان سببًا في ضلالنا.
وبما أننا لم نكن نعرف سببًا لهدايتنا غير المشيئة الإلهية ورحمته تعالى بنا، قلنا له بأن الأمر أولًا وأخيرًا يرجع إلى الله عز وجل وإلى لطفه ورحمته بنا.
وأن انتقالنا من التشيع إلى مذهب أهل السُّنَّة ليس وراءَه عاملٌ أو سبب غير أننا درسنا الأمر بتمعن وتعقل مدة طويلة، وناقشنا في الأمر أناسًا كثيرين، ودرسنا في الموضوع كتبًا كثيرة إلى أن هدانا الله عز وجل للحق المبين.
لكنه كذّبنا فيما نقوله واعتبر كلامنا كله نوعًا من الهروب عن الحقيقة.
قال لنا في وقاحة وتبجح وتكبر لا يوصف: أنا الآن قاضيكم، وأنا الآن ربكم والعياذ بالله إذا صدقتموني في الحديث أستطيع أن أساعدكم، وبغير هذا أستطيع أن أفعل بكم ما أشاء، واعلموا أنني لن أرحمكم.
ما كان «الحاج» يتوقع أن أمامه يجلس رجل بشجاعة السيد محمدي، فتحدث المحمدي بكلام في غاية الشجاعة والرجولة، وكان حقًا أفضل مني شجاعة وبسالة لا يخاف في الله لومة لائم، فغضب «الحاج» على علي رضا فثار في وجهه ولطمه لطمة شديدة، وبدأ يصرخ كالمجنون: أعرف كيف أخرج الحقيقة من حناجركم؟! هل تتصورون أننا جئنا بكم هنا للوليمة، أو لنقدم لكم الحلوى؟!
لما عجز الحاج أن يحصل منا على شيء، ووجد السيد محمدي يقاومه بهذه الصراحة والشجاعة حاول أن يجرب أسلوب اللطف والنصح والإرشاد، فقال في لين ولطف: يا أولادي! هل تعرفون من أنا؟ فقال السيد محمدي مباشرة: لا يهمني من حضرتك، كل ما يهمني أنني أحبك جدًا! اقترب الحاج وهو يبتسم كالمنتصر إلى السيد محمدي وقال له في لين: أشكرك جدًا يا ولدي، ولكن لماذا تحبني يا حبيبي؟ فقال السيد محمدي في شجاعة: لأنك رجل أحمق جدًا.
ثم بعد ضيافة مفصلة أعادونا مكسورين منهكين والدماء تنزف من أنوفنا ووجوهنا إلى زنازين انفرادية.
بعد ذلك كانوا يأخذوننا واحدًا واحدًا إلى التحقيق.
كان السجن عالمًا آخر لا نهار فيه، فقد كان الجو ليلًا أبدًا، لا نعرف أوقات الصلاة ولا نرى بصيص نور من الشمس، فقد كنا نسمع أصوات بعضنا البعض ولا نرى شيئًا.
بعد عشرة أيام لا ندري ماذا حدث، فإذا بهم ألبسونا ملابسنا وربطوا أعيننا ثم خرجوا بنا في سيارتهم، وعلى مقربة من الجامعة فتحوا أعيننا وتركونا وانصرفوا!
استدعينا في نفس اليوم إلى اللجنة الدعوية، وكان قد حضر هناك السيد آية الله وحيد الخراساني والوالد، فأول ما رآني أبي قام إلي وبدأ يضربني ويشتمني ويلومني على تصرفاتي.
فقال السيد محمدي للوالد: قد ضربوه بقدر الكفاية، وقد شبع ضربًا وشتمًا، على الأقل حضرتك لا تضربه أكثر.
فثار الوالد في وجه السيد «محمدي» وبدأ يشتمه بألفاظ ركيكة وقال له: بأن الأمر لا يهمك.
بعد هذه الرحلة إلى مدرسة سيدنا يوسف عليه السلام، قررنا ألا نقوم بأية حركات حماسية مثيرة، ولابد أن ندرس أي عمل نقوم به مسبقًا لنعرف عواقبه وآثاره.
قررنا ألا نصرح بعقائدنا على الملأ وألا نقيم صلاة الجماعة في الجامعة، وألا نكتب الشعارات على السبورة وقد رجعت - كما كان يقول هؤلاء السادة - عقولنا، وأصبحنا ندرك الواقع.
وكنت أشعر بأن السبب الرئيسي وراء كل ما حدث لنا هو الدكتور حكاكيان عضو المجلس العلمي في الجامعة، ولعله كان من عناصر المخابرات كذلك.
([1])گرگان.
أردنا أن نبتعد عن الأجواء المضطربة والسيئة التي كانت مسيطرة على الجامعة في تلك الأيام، فقررنا السفر إلى «مشهد»..
بعد يوم أو يومين من وصولنا إلى «مشهد» ذهبنا إلى مكان «مسجد شيخ فيض محمد»([1]) لأهل السُّنَّة الذي هدَّمته الحكومة وأقامت مكانه حديقةً عامةً للتنزه.
وجدنا هناك شابًا سنيًا من منطقة «خواف» كان يلبس زي منطقته، ودون معرفة سابقة ودون مقدمات بدأنا نتحدث معه عن المسجد وعن أسباب تخريبه وعن نوايا الحكومة في القضاء على الأقلية السنية، وتذويبهم في المجتمع الشيعي.
كنَّا نشعر تجاه المسجد بحنين خاص وذلك لأننا - أنا وصاحبي علي رضا محمدي - كنَّا يوم أن خربوا المسجد طلابًا ندرس في حوزة «نواب صفوي» العلمية في «مشهد»، ورأينا بأم أعيننا كيف تجمعت الأقلية السنية في الشارع العام أمام بناية البنك المركزي في مشهد، وكانوا قد فرشوا عمائمهم على الشارع ليصلوا عليها، وكانوا يبكون بكاء المرأة الثكلى ويسكبون الدموع ويرفعون عويلهم إلى السماء على فقدان مسجدهم، لكن دون جدوى..
فقد كانت الجالية السنية في (مشهد) تعيش مأساة لم تعشها في تاريخها، فقد سلبوا منهم مركزهم التبعدي الوحيد الذي كان يجمعهم وكانوا من خلاله يتعارفون، وفي رحابه يرفعون أكفهم إلى خالقهم يدعونه ويتضرعون أمامه..
خرجت الجالية يومذاك عن بكرة أبيها في الشوارع شباب وشيوخ، صغار وكبار، يلبسون ملابس قديمة بالية كالأيتام على موائد اللئام!
كان أحد الطلاب من منطقة «تقي آباد» يقول: رأيت ذات يوم رجلًا عجوزًا يمشي متذلِّلًا مسكينًا، يلبس ملابسًا ممزقة، فتقدمت إليه وأردت أن أقدم له شيئًا من الطعام.
نظر العجوز إليَّ والدموع تنهمر من عينيه، فقال لي بصوت حزين خافت: يا بني! دمروا مسجدنا.. غص بالحسرة فسكت لحظة ليصرخ بعدها: خربوا بيت الله ملأ الله بيوتهم وقلوبهم نارًا.. وتريدني أن آكل الطعام.. لا طعام بعد اليوم، وما قيمة الحياة بعد بيت الله؟!
صورة العجوز وحالته الرثة كانت تجرح كل قلب فيه ذرة من الرحمة.. كانت كافية لتجعل كل إنسان حر في قلبه ذرة إيمان أن يتفاعل معه..
بعد الحديث عن مسجد «شيخ فيض» مع ذلك الشاب ومراجعة تلك الأيام العصيبة والخواطر المؤلمة جرنا الكلام إلى الحديث عن مكانة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأن كثيرًا من الجهال ينسبون إليه الكثير من الكذب والخرافات، فيهينونه ويحرفون شخصيته دون أن يشعروا، ويقدمونه وكأنه أسطورة خرافية لا محل له من الحقيقة وليس رجلا يمكن اتباعه.
ونحن نتحدث عن مناقب سيدنا علي عليه السلام ومكانته في الإسلام إذا برجل عجوز كان يجلس على مقربة منَّا ويلبس عمامة خضراء - ولعله كان ممن يزعم نفسه سيدًا - ظنًا منه أننا من السُّنَّة وأننا نطعن في مقام الإمام علي عليه السلام، فرمانا بحجر كبير أصاب رأس علي رضا محمدي وجرحه جرحًا عميقًا وبدأ الدم يتدفق منه..
بعد هذا السفر الذي دام يومين رجعنا إلى طهران..
انهينا هذا الفصل الدراسي، ونجحنا فيه بدرجات لا بأس بها.
وبعد خمسة أيام فقط طلبونا إلى اللجنة الدعوية، وطلبوا منَّا أن نقدم توضيحًا كاملًا عن أعمال الشغب التي ارتكبناها، فكان هذا الموقف بداية الصراع المباشر وأحداث الفصل العاشر الجامعي..
([1]) «مسجد شيخ فيض» كان المسجد الوحيد لأهل السُّنَّة في «مشهد» يرجع تاريخ بنائه إلى بضعة قرون، وكان المركز التبعدي الوحيد الذي يجمع أهل السُّنَّة في هذه المدينة ويحفظهم من الضياع والذوبان في المجتمع الشيعي الكبير، دمرته الحكومة في (3/1/1994م) الموافق لـ(23/رجب/1414هـ).
بعدما رجعنا من سورية اتفقت مع صاحبي علي رضا محمدي رحمه الله أن نخرج إلى سفر آخر عن طريق كردستان (مدينة سنندج) إلى مدينة السليمانية في العراق.
كانت الامتحانات قد اقتربت وكاد الفصل الدراسي أن ينتهي، لكننا كنَّا نعيش في أجواء غير أجواء الدرس والجامعة والامتحانات.
سافرنا إلى «سنندج» ومن هناك إلى منطقة «مريوان» لكن مع الأسف سُرق ما كنا نحمله من المال لنتزود به في سفرنا هذا، فاضطررنا أن نعود إلى طهران، ففشلت هذه المحاولة.
وبعد ما أكملنا الاختبارات، عدنا نفكر في السفر إلى مدينة «السليمانية»، واستطعنا أن نذهب إلى سنندج ومن هناك إلى «مريوان» وندخل «السليمانية» في العراق عن طريق التهريب، الحدود غير الرسمية.
وكانت مدينة «السليمانية» من أهم مراكز منظمة «مجاهدي خلق» المعارضة للحكومة الإيرانية، فبمجرد وصولنا إلى هناك استطاعوا أن يكشفوا أمرنا، ورحبوا بنا كطلاب هربنا من بطش السلطة الإيرانية، وطلبوا منَّا أن ننضم إلى جماعتهم. لكننا كنَّا نحمل مبادئ أخرى، ونبحث عن شيء آخر غير ما يبحثون هم عنه، وكان طريقنا وأهدافنا غير طريقهم وأهدافهم، فاعتذرنا منهم ورفضنا كل ما اقترحوه علينا..
وتعرفنا في أيام وجيزة على بعض علماء السُّنَّة الإيرانيين ممن هاجروا إلى هناك أمثال: «الشيخ إبراهيم» و«الشيخ عبد القادر» وقد كانوا في بداية أمرهم يرفضون اللقاء بنا، والاستماع إلينا، لكننا كنَّا نتشبث بهم ونُصِرُّ على مواقفنا، وفي النهاية بعد الحلف والقسم استطعنا أن نقنعهم إلى حد ما، فقد كانوا يرفضون أن يتحدثوا عن المسائل العقدية في مذهب أهل السُّنَّة والجماعة.
قضينا أربعة أيام حافلة بالبحث العلمي والدراسة الجادة والمناقشات الثرية والمفيدة مع هؤلاء الكِرَام، ولم يبق أمامنا أية شبهة، لذا اقتنعنا أننا كنَّا على ضلال مبين، وأن الحق هو ما يعتقده هؤلاء الناس، وأنه يجب أن نرمي تلك الأوهام والأفكار التي ملأت عقولنا وقلوبنا، وظننا بأنها هي العقيدة السليمة والدين المبين وأن نعتنق العقيدة الجديدة: عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة..
رجعنا إلى طهران وإلى الجامعة وأعلنا على الملأ دون خوف ولا وجل أننا أصبحنا من أهل السُّنَّة والجماعة، وأننا تبنا إلى الله عز وجل مما كنا نعتقده من الضلالات والأوهام.
وهنا لا بد أن أذكر شيئا آخر وهو: عند رجوعنا من العراق كنَّا في «مريوان» وكنَّا قد بتنا في إحدى القرى الحدودية، وفي منتصف الليل صرخ صاحبي علي رضا وقام من نومه مذعورًا في حالة عجيبة، وكان خائفًا مضطربًا يرتجف ويتصبب عرقًا، وقمت أنا كذلك خائفًا مستغربًا أسأله: ماذا حدث لك؟ فبدأ يصرخ ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام. فسألته مستغربًا: ماذا رأيت؟ فأجابني: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جالسًا في جمع من أصحابه، فقال لهم: أخبروا حبيبي ليحضر عندي، ورأيت بعد قليل «الشيخ»([1]) ومن شدة الحيرة شعرت وكأنه أغمي علي، ولما عدت إلى حالي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّم مصحفًا وقلمًا ودفترًا للشيخ وانصرف، فتبعته وقلت له: يا رسول الله! هل أنا من أمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرخ في وجهي غاضبًا: ليست الشيعة من أمتي.
بعد هذا المنام في تلك الليلة البهية زدنا إيمانًا على أننا كنَّا على باطل، وعاهدنا ربنا على الرجوع عما كنا فيه، وعلى التمسك بحبل الله المتين ودينه القويم مذهب أهل السُّنَّة والجماعة المبين، ومن ذلك اليوم بدأنا نؤدي صلواتنا على طريقة أهل السُّنَّة والجماعة.
وفي طهران شعر الناس بما طرأ علينا من التحولات والتغييرات في حركاتنا وسكناتنا وكلامنا، فبدأنا نستقبل ألوانًا من سوء التعامل والضغط من اللجنة الدعوية في الجامعة، وكانت كلها بمثابة ردود أفعال على مواقفنا.
وبدأ الأساتذة والطلاب في الجامعة يسخرون منَّا ويحتقروننا، ويُسمعوننا بعض طعنهم وشتائمهم: السني.. الوهابي.. أعداء أهل البيت و.. و.. و..
لا يستطيع قلمي أن يصور ما كنا نعانيه من الضغوط النفسية في تلك الأجواء، فقد نبذنا المجتمع وأصبحنا وحيدين نعيش في عالم كبير يكرهنا إلى جذوره، عسى أن يخلعنا من جذورنا.
لم يكونوا يدركون أننا لم نصل إلى ما نحن فيه بين عشية أو ضحاها، وإنما وضعنا حياتنا وأرواحنا ثمنًا لما وصلنا إليه من الحق، الذي وهبه الله لنا وتفضل علينا به، ثم بالبحث والدراسة والتأمل في القرآن الكريم والتاريخ، ولم نعد نخاف في الله لومة لائم، ولا يمكن أن تُزعزِع أفكارنا وعقائدنا تلك الضغوط والمؤامرات.
كنَّا نستقبل كل تلك الضغوط وتلك الطعونات بقلوب راضية بما يقدره الله عز وجل، فنصبر على ذلك ونحتسب ونشعر برضىً في قلوبنا وسعادة لا توصف.
وبعدما أعلنا عن عقيدتنا حرَّضنا طلاب السُّنَّة الذين كانوا يدرسون في الجامعة وكانوا قرابة خمسة عشر طالبًا، وبدأنا نقيم صلاة الجماعة في الجامعة.
وبلغ بنا الحماس والاعتزاز بما نحن عليه من الحق أن كتبنا في إحدى الأيام على السبورة «ليس التشيع إلا مذهب الخدعة والمكر والأوهام»، وكتبنا تحته: «ورمز الإسلام ليس إلا العشق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقته ومنهجه في الحياة، ومذهب أهل السُّنَّة والجماعة يعني: العمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم».
مثل هذه المواقف العاطفية والحماسية منَّا خلقت جوًا متوترًا ومضطربًا في المجتمع الجامعي، وصل الأمر بالإدارة إلى أن أعلنت بأنها لن تسكت على هذه الحركات المشبوهة، وأنها لا تستطيع أن تتحمَّل مثل هذه المواقف في الجامعة.
وفي هذه الأيام ونحن نستعد لامتحانات نهاية الفصل الدراسي قرَّرنا - أنا وصاحبي علي رضا محمدي رحمه الله - أن نسافر إلى مدينة «مشهد».
([1]) أي الشيخ الذي ذهبوا إليه في بلوشستان وهو الشيخ محمد عمر سربازي المعروف بشيخ الجبال، شيخ كبير يقارب الثمانين من عمره، من خريجي جامعة الديوبند بالهند، وله مؤلفات كثيرة.
هذا ما وصلت إليه من خلال تتبعي لسيرة المؤلف، من بعض الإخوة البلوش الذين ساعدوا الشهيد مرتضى رادمهر - المؤلف - في باكستان، وكان مقيمًا عندهم. (م)
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:23
لا أدري كيف رتبت الأمور ومن أين جاءت الفكرة.. كل ما أذكره هو أن الأسرة قرَّرت أن أرافق جدتي - والدة والدي - في سفرها إلى زيارة الأماكن المقدسة، وزيارة المرقد المطهر للسيدة زينب عليها السلام، ففرحت بهذا الأمر جدًا، وشعرت بأن هذه الرحلة ستنفعني من جهتين:
الأولى: الابتعاد عن جو الجامعة والدراسة - ولو لفترة قصيرة - لعلي أستطيع أن أرتاح نفسيًا في ابتعادي عن رؤية تلك النظرات المريبة وتلك الوجوه الكالحة وتلك الأجواء القاتمة.
والثانية: أن أجد فرصة أخرى - ولو قصيرة - لآخذ فيها نفسًا آخر في البحث عن أصول المذهب السني ومعرفة جوانب أخرى من مسائله الاعتقادية، فهذا السفر إلى سورية سوف يفتح لي آفاقًا معرفيةً أخرى أستطيع من خلالها أن أستزيد بحثًا وتحقيقًا فيما أنا بصدده.
وكان من حُسن حظي كذلك أن صديقي الحميم «علي رضا محمدي رحمه الله» كان يرافقنا في هذا السفر.
وفي أول ليلة لنا في هذا البلد حدثت لي حكاية لم تكن مهمة، لكنها كانت لطيفة بالنسبة لي وهي أننا وجدنا مجموعة من النساء الإيرانيات في إحدى المحلات الراقية في المدينة يتشاجرن مع صاحب دكان، ويبدو أنهن اشترين شيئًا لم يعجبهن ثم أردن إرجاعه، فتدخلنا نحن وحللنا المشكلة.. هذه الحكاية البسيطة أصبحت سببًا في أن نعقد نوعًا من الصداقة مع صاحب المحل الذي أُعجب بنا.
ولابد أن أشير هنا بما أنني - أنا وصاحبي علي رضا محمدي رحمه الله - كنَّا من العلماء عند الشيعة فقد وضعونا على رأس هرم المسؤوليات في القافلة، فكان ولابد أن نشترك في كل المحاضرات والمجالس المذهبية والبرامج المُعدَّة حتى نشير إلى الزوار بما ينبغي عليهم، وأي تأخير في هذه البرامج أو أي تكاسل منَّا كان يسبب غضب المشاركين والزوار ولاسيما جدتي التي لم تكن تستطيع أن تتحمل أي تقصير منَّا في هذه الجوانب التعبدية!
استطعنا من خلال صديقنا الجديد - صاحب المحل - أن نتعرف على أحد مشايخ السُّنَّة هناك، وقلنا له بأننا كُنَّا من الشيعة وقد هدانا الله عز وجل إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وحضرنا هنا لا لشيء، وإنما لمزيد البحث والدراسة؛ لكن الشيخ عبد الله لم يُصدِّقنا، ونحن كذلك لم نكن نتنازل عن موقفنا..
عدنا إليه مرة تلو أخرى نحاول أن نقنعه لكن دون جدوى، حتى اضطررنا أن نضع أيدينا على المصحف ونحلف له على صدقنا، وكل هذا لم يغير موقف الشيخ عبدالله تجاهنا، بل قال: الشيعة لا يؤمنون بالقرآن، فكيف لي أن أصدقكم؟!
لكننا لم نكن نستطع أن ننكر عليه ذلك، ولا أن نتنازل عن موقفنا حتى استطعنا في النهاية أن نقنعه إلى حد ما، وظللنا نتردد عليه في تلك الأيام القليلة التي كنا هناك، نناقشه فيما يطرأ علينا من الشبهات والمشاكل.
كان الرجل بحرًا في العلم لا ساحل له، وآية في القرآن حفظًا ومدارسة وبحثًا لم نجد له مثيلًا إلا الشيخ الذي تشرفنا بزيارته في بلوشستان، ومع أن الشيخ عبد الله كان عربيًا، لكنه كان يجيد اللغة الفارسية جيدًا.
قال لنا: بأنه قضى سنتين من عمره في السجون الإيرانية وذلك بسبب مواقف له مع علماء الشيعة ومناظراته لهم.
وقال بأن الاستخبارات الإيرانية حاولت اغتياله، لكن محاولتهم باءت بالفشل ولم تصبه رصاصاتهم والحمد لله رب العالمين.
وكنَّا نستمتع بالحديث مع الشيخ عبدالله، وانشغلنا به عن سائر برامجنا في ذلك الأسبوع، ولم نكن نرغب في المشاركة في البرامج المُعدَّة من قبل إدارة القافلة كزيارة القبور وما إلى ذلك، بل أصبحنا نكره المشاركة فيها.
تفاجأت بأن مسؤولي القافلة اختاروني لقراءة دعاء كميل على مرقد «السيدة زينب عليها السلام» وقد كنا وصلنا من خلال دراستنا في مذهب أهل السُّنَّة إلى أن الاستعانة يجب أن تكون بالله وحده، ولا ينبغي للمسلم أن يسأل غير الله عن حاجاته ويدعو غيره سبحانه وتعالى، وأن السؤال من الأشخاص والرموز الدينية مهما علا شأنهم خلاف للشرع المبين، وباب من الشرك يخرج من الدين، فلم يرق لي أن أشارك في هذا البرنامج، فاعتذرت عن قراءة دعاء كميل هناك..
هذه الأيام القلائل التي قضِّيناها في سورية ومجالسنا ومناظراتنا مع الشيخ عبد الله أحدثت فينا ثورة روحية وتحولًا عقديًا لم نجده في أنفسنا قبل ذلك، فقد تغير كل ما كُنَّا نعتقده رأسًا على عقب، وكأننا أصبحنا أُناسًا آخرين.
تلك الرحلة التي قمت بها إلى بلوشستان أحدثت فيَّ انقلابًا عجيبًا وزادتني عطشًا على عطش لمعرفة المزيد عن عقائد السُّنَّة ومعتقداتهم..
كنت أعيش توترًا نفسيًا وفكريًا عجيبًا، أدقق في كل شيء، أحاول أن أدرسه من كل جوانبه قبل أن أعتنقه، فلم أعُد ذلك الإنسان العاطفي الذي يصدق كل شيء يقرؤه دون تمعنٍ وتفكر.
وبعد دراسة عميقة ومراجعة لما حصلت عليه من الحقائق وصلت إلى أنه لم يبق أمامي إلا أن أترك ما أنا فيه من المفاهيم الخاطئة والعقائد الكاذبة والضلالات وأنسلخ من مذهبي الشيعي، وأعتنق الحقائق الثابتة وألتحق بالركب السني الكبير المبارك.
هذه التغييرات الفكرية والعقدية، وهذا التحول من إنسان خرافي إلى إنسان موحِّد كان ولا بد أن يظهر آثاره في أخلاقي وتصرفاتي وتعاملي مع الناس والمجتمع، فما طرأ عليَّ من التغييرات جعلت أسرتي وأصدقائي وزملائي في الجامعة، وأساتذتي - ولاسيما أعضاء اللجنة الدعوية في الجامعة - يهتمون بما يظهر مني، ويتابعون كل حركاتي وسكناتي ليكشفوا ما يدور في خلجات قلبي وصدري..
كانت الامتحانات على الأبواب، ومع أنني كنت من الطلاب المتفوقين في الدراسة إلا أني لم أعد أرغب في المذاكرة والاهتمام بالدراسة، فقد كنت أعيش مع أفكاري ومشاعري الخاصة.
كنت أتحرك في الجامعة وأروقتها وفصولها ومكتباتها بجسمي لكن روحي كانت تطير في أجواء عالية من البحث عن الحقيقة الخافتة خارج الجامعة..
وبعد فترة الامتحانات وتراجعي في الدراسة أدرك الأساتذة ما أعانيه من المشاكل والتوترات الروحية والانفصام في الشخصية، وشعروا بأن شخصيتي بدأت تتغير، فلم أعد ذلك الطالب النشيط المرح، وأصبحت أحبذ العزلة والابتعاد عن الناس، فشعروا بشيءٍ ما يدور في داخلي من التوتر والاضطراب، فاتصلوا بأسرتي وأخبروهم بما أعانيه من الاضطرابات النفسية؛ حرصًا منهم أن يصلوا إلى حلٍ لهذه المشكلة.
وبما أن اهتماماتي لم تكن تنحصر في الجامعة أو الدراسة بل كانت تدور خارج هذا النطاق الضيق في دائرة أوسع بكثير لم يستطع أساتذتي ولا أسرتي أن يصلوا إلى حلٍ لها، ولم يستطيعوا أن يُرشدوني إلى شيء.
في هذه الأجواء المتوترة، وهذه الاضطرابات الروحية سنحت لي الفرصة للسفر إلى سورية برفقة قافلة الزائرين للأماكن المقدسة، فقررت السفر إلى هناك عسى أن أجد شيئًا أكثر مما أبحث عنه في كل مكان، على رغم أن موعد امتحانات نهاية الفصل كان قد اقتربت ودرجاتي في امتحانات منتصف الفصل لم تكن جيدة.
في العام السادس الهجري وصلت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق بدؤوا يجمعون جيشًا كبيرًا ليغيروا على المسلمين على حين غرة منهم؛ فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد وأعد جيشًا من المسلمين ليُطفئ نيران الفتنة في عقر دارها، وليلقِّن بني المصطلق درسًا فيعلموا بأن المسلمين ليسوا لقمة سهلة يطمع فيها كل من هب ودب، وليكون درسًا لغيرهم من الأعداء.
وكانت من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُقْرِع بين أزواجه في أسفاره، فمن خرجت القرعة باسمها خرجت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرجت القرعة هذه المرة باسم عائشة رضي الله عنها، فخرجت ترافق الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة إلى الجهاد.
وفي الرجوع إلى المدينة توقف الركب للراحة في مكان ما، وابتعدت عائشة رضي الله عنها عن رحلها لقضاء حاجتها؛ لكنها أضاعت عقدًا لها وبقيت تبحث عنه، فتأخرت عن القافلة، ولما وصلت وجدت القافلة قد غادرت المكان فعرفت أنهم لم يكونوا يعرفون عن غيابها، وأنهم عندما يدركون أنها ليست في رحلها سيبعثون وراءها، فجلست في مكانها وتغطت بخمارها تنتظرهم.
وكان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا أنه يؤخر رجلًا يتابع مسيرة القافلة، فإن كان أحد نسي شيئًا أو سقط منه شيء أحضره، وفي هذه الرحلة وكِّلت هذه المهمة إلى الصحابي الجليل: (صفوان بن المعطل السلمي).
لما رجع صفوان إلى مكان القافلة شعر بوجود شيء هناك، فلما اقترب عرف أنها امرأة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. فقرَّب إليها ناقته وأناخها، ولم ينطق بشيء، وأركب عائشة على راحلته وأمسك بزمام ناقته وتابع مسير الجيش إلى أن وصلا إليهما؛ فاستغل المنافقون هذه الواقعة وبدؤوا يبثون سمومهم، فصنعوا حكاية الإفك، فقالوا: رجل شاب وامرأة شابة؟! فرموا أم المؤمنين الصديقة والصحابي الجليل صفوان بالزنا، وحاشاهما رضوان الله عليهما من هذا الإفك الكبير، وفي هذا الامتحان الصعب نجح المسلمون كلَّهم، ما عدا ثلاثة منهم.
وأما المجتمع الإسلامي الذي تربى على يد الرسول صلى الله عليه وسلم فبقي معتزًا بأخلاقه، لم ينطق بشيء من الطعن أو الافتراء أو القذف في المحصنات الغافلات، وإنما ظل يدافع عن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وينتظر حكم الله عز وجل ورسوله.
وظل الامتحان الإلهي الصعب شهرًا كاملًا يمحص المجتمع الإسلامي والنفوس المؤمنة التي عاشت فترة حرجة مضطربة حزينة إلى أن جاء الفرج ونزلت آيات البراءة في سورة النور، فانكشفت الغُمَّة عن النفوس، وانشرحت الصدور، بعد شهر كامل قضاها المجتمع الإسلامي وهو في تلك الحالة الحرجة، فنزلت الآيات «11» إلى «26» من سورة النور تشهد ببراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وبقي أناس من أحفاد عبد الله بن أبي رئيس المنافقين وصاحب الإفك اللعين يثيرون الضغائن والافتراءات على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى اليوم، ويتطاولون بألسنتهم النجسة على مقام أمِّنا الطاهرة العفيفة.
ويعتبرون اسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها شتيمةً وقبحًا لأنفسهم؛ وينكرون هذه الآيات الصريحة من كلام الله عز وجل، ويجلبون لأنفسهم العذاب الإلهي الشديد واللعنة الأبدية!
ونحن ننتظر ذلك اليوم الذي تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على كذبهم ثم يلقون في نار جهنم جزاءً بما افتروه على الطاهرة الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
ثم أضاف الخطيب وقال: يا من تزعمون بأنكم شيعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشيعة أهل بيته، وتقذفون أم المؤمنين زوجة الرسول الكريم وحميراءه رضي الله عنها بالزنا، وتفترون عليها الكبيرة والفحشاء، إذا كنتم صادقين فيما تزعمونه فيجب أن تجيبوا على هذين السؤالين:
السؤال الأول: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم طاهرًا أم لا؟
فإن كنتم تقولون بطهارة الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن تقروا بطهارة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وذلك لأن التاريخ يشهد وأنتم كذلك لا تستطيعون إنكاره بأنها كانت زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم وظلت وفي عصمة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فطهارتها وعفتها ترجع إلى طهارة الرسول صلى الله عليه وسم وعفته؛ لأنها كانت عرض الرسول صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثاني: وإن كنتم تزعمون - والعياذ بالله - أنها لم تكن طاهرة، فكيف تواجهون كلام الله عز وجل؟
فما تقولونه لا يخرج عن أمرين: إما أن تنكروا تلك الآيات الصريحة من كلام الله عز وجل، وإما أن تنكروا طهارة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فإن قلتم بهذا أو بذاك لم يبق لكم من الإيمان حبة خردل، وتخرجون من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية، فإن شروط الإيمان: أن تصدقوا القرآن الكريم وتخضعوا أمامه، وأن تصرحوا بطهارة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وتعترفوا بطهارة زوجته الطاهرة العفيفة أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها.
وها أنتم أحرار، اختاروا ما تشاءون إما الإقرار والإيمان وإما الضلالة والعصيان.
وبعد هذه المحاضرة العلمية القوية قام أحد العلماء في المسجد النبوي وتحدّث عن فضائل ومناقب الخلفاء الراشدين، وبيّن بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة على أنهم كانوا أفضل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله عز وجل قد بشرهم بجنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله على حسن إسلامهم وجميل مناقبهم وثباتهم.
إن هذه الرحلة التي كانت لحج بيت الله عز وجل كانت بالنسبة لي رحلة ممتعة ثرية، حصَّلتُ على علم غزير فيها، وأُزيلت من أمام عيني كثير من الشبهات وكثير من ستائر الحجب والتعصب الأعمى التي كانت تخيم على مجتمعاتنا في بلاد الرفض والنفاق (إيران).
بعد ما رجعت من رحلتي إلى بلوشستان، كنت أشعر بحنين شديد إلى السفر إلى حج بيت الله عز وجل فتهيأت لي أسباب السفر واحدة تلو أخرى، وفي النهاية سافرت إلى مكة المكرمة لأداء شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام.
التقيت في مكة بأناس قطعوا صلتهم بالدنيا كلها.
كانوا رموزًا في التوحيد يجب أن يضرب بهم المثل في الإيمان الصادق.
ثم انتقلت إلى المدينة المنورة وكنت أحضر محاضرات مشايخها، وصلت من خلالها إلا أن هؤلاء القوم لا يعبدون إلا الله ولا يرجون سواه، وقد وهبوا أنفسهم لعبادة الله عز وجل وطاعته.
أدركت في ظِلال ما سمعته منهم معنى قوله تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].
ولمَّا تشرفت بزيارة الروضة المطهرة وسلَّمت على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رأيت كيف يحاول الشيعة أن يبتعدوا عن قبري: سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما، ويحاولون ألا تقع عيونهم على قبور صاحبي الرسول صلى الله عليه وسلم.. قلوب تفيض حسدًا وكرهًا، وصدور ملئت ضغينةً وحقدًا.
تعرفت على جوانب عديدة من شخصية أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها من محاضرة لأحد العلماء المشهورين في بلاد الحجاز.
وعرفت بأن التهم التي وجهت إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها، كانت مكرًا دبَّرها بليل بهيم مجموعة من أعداء الإسلام للطعن في هذا الدين من خلال الطعن في أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان المنافقون يظنون أنهم يستطيعون أن يطعنوا في قلب الإسلام بحادثة الإفك المشهورة.
وحقًا لو لا أن الله تدارك هذا الأمر ونصر المسلمين فيها، ولو لا صبر المؤمنين وحلمهم وتقواهم وحسن تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم لحدثت تحدث في الصف الإسلامي فتنة عظيمة ما كان يعلم مداها إلا الله.
في تلك الظروف الطاغية وتلك الإشاعات الخبيثة استطاع المسلمون أن يتمالكوا أنفسهم في حلم وثبات وصبر عميق، ويدرسوا الواقع دراسةً موضوعية للكشف عن الأيادي الآثمة التي كانت تلعب وراء الكواليس.
جعل الله هذه الواقعة تنتهي بنفع المؤمنين بعد أن كادت تصبح فتنة تعرقل الصف الإسلامي.
وقد كانت فيها حكم ودروس يجدر بي أن أشير إلى شيء منها:
1) كانت هذه الحادثة امتحانًا للمؤمنين الذين تربوا في ظلها وصقلت أخلاقهم، وأدركوا كيف يجب أن يتعاملوا مع مثل هذه الظروف الحرجة، وفهموا مكانة المؤمن في الإسلام، وأن أعراض المسلمين لا ينبغي أن تكون عُرضةً للتطاول والإهانة، وأن الكلمة لها وزنُها في ديننا، وأن اللسان قد يجر صاحبه إلى الضلال المبين ويكبه في النار، لم يقع في هذه المكيدة وهذا الشراك الذي نصبه المنافقون إلا ثلاثة من المؤمنين فقط!([1])
2) كانت هذه الحادثة سببًا في أن يُشَرَّع للمسلمين عدد من الأحكام والقوانين الاجتماعية.. تلك الأحكام والقواعد التي لو التزم بها المسلمون لصفت مجتمعاتهم من ألوانٍ من الفساد الاجتماعي والمنكرات الأخلاقية، وكثير من الفتن والاختلافات.
3) أدرك المسلمون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فلو علم الغيب لأعلن براءة زوجته وطهارتها مما يطعنها به المنافقون في أول الأمر.
4) وأدركوا بأن كل ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأتي به من عند الله عز وجل، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر وأحبهم وأعلاهم مكانة عند الله لا يعلم الغيب، فكيف يمكن أن يعلم علي أو أهل بيته عليهم السلام الغيب؟!
5) ارتفعت مكانة أم المؤمنين عائشة وأسرتها في أعين المؤمنين وتضاعفت مناقبها؛ إذ سجل القرآن حكايتها فنزلت فيها عشر آيات من سورة النور يتلوها المؤمنون إلى يوم القيامة ويشهدون بطهارتها وعفتها وحيائها، فأصبح احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه المطهرات، أمهات المؤمنين، رمزًا وواجبًا وشعارًا للمسلمين إلى يوم القيامة.
6) من أهم الأمور التي يجب أن نشير إليها هي موقف إجماع المسلمين.. صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الواقعة إذ وقفوا جميعًا صفًا واحدًا أمام تلك الإشاعات المغرضة، وتلك الافتراءات الرخيصة التي كان يتفوه بها المنافقون.
وجاءت الآيات القرآنية توقع على صدق نواياهم، وتشهد على صحة مواقفهم، فكأن الآيات تحوي في أحشائها تزكية لهؤلاء الصحابة كذلك إذ لم ينزلقوا مع المنزلقين([2]).
([1]) هم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثه، وحمنة بنت جحش رضي الله عنهم، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الحد فجلدهم ثمانين جلدة.
([2]) حكى الله عز وجل مقولة المؤمنين في الإفك في سورة النور: ((وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا)) الآية.. أي: ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد: ((سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)) أي: سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله صلى الله عليه وسلم.(م)
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:24
كنَّا نستقبل الأيام التي ترمز إلى حادثة تاريخية مهمة جدًا لدى الشيعة وحدهم، وهي الأيام الموافقة لشهادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بنت الرسول صلى الله عليه وسلم حسب ما تعتقده الشيعة.
كانت الأقمشة السوداء تغطي أبواب المساجد وجدرانها رمزًا للحداد والحزن، امتلأت الشوارع والجدران باللافتات، إما كتبت عليها جملات دعائية تلعن قتلة فاطمة الزهراء عليها السلام ومن ظلمها، أو عبارات تذكارية تشير إلى هذه الحادثة المؤلمة وتسلّي الأمة المسلمة وتعزيها فيما أصابها.
كنت أسمع بعض العلماء على المنابر يصرخون بأننا «نؤمن بوحدة الأمة» ونسعى إليها، وكنت أشم رائحة النفاق والتناقض في كل مكان.
خططت الحوزة العلمية بقم لبرامج تعزية وتسلية وقراءة للأذكار وللأناشيد الدينية (الروضة) لمناطق مختلفة من مناطق السُّنَّة، وكان منها برنامج أعد لمنطقة كنكان([1]) من محافظة «بوشهر» من مناطق أهل السُّنَّة، وعيّنتُ أنا والسيد حجة الإسلام والمسلمين «محمد حسين فاطمي» لإجراء هذا البرنامج.
وكنَّا نعقد في كل ليلة جلسة نتحدث فيها عن حقد الحاقدين، وظلم الجبابرة الذين أبوا إلا أن يلطخوا التاريخ بجريمتهم في استشهاد بنت الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.
كنا نحاول أن نكشف الستر عن وجوه تلك العصابة المجرمة التي ارتكبت هذه الجريمة.. وبما أن المنطقة في الأصل منطقة سنية أحدثت محاضراتنا ضجة صامتة في المدينة وعكرت الجو هناك.
وفي إحدى الليالي بعد المحاضرة والجلسة البكائية وقراءة الأناشيد الحزينة ذهبنا إلى بيت أحد أصدقائنا، وكان يسكن في تلك المدينة وكان على صلة بنا وبإدارة البرنامج.
حضر عنده رجل كان يبدو مضطربًا حزينًا، فجلس أمام السيد فاطمي، وقال: السيد المحترم لدي بعض الاستفسارات، فهل تسمح لي؟ فقال السيد فاطمي: تفضل. قال الرجل المضطرب وهو يحاول أن يتماسك نفسه: هل حضرتك متزوج؟ أجابه السيد فاطمي مستغربًا: نعم. سأله الرجل: وأتصور بأن زوجتك جميلة جدًا.
طريقة الرجل في طرح أسئلته وكيفيتها جعلت السيد فاطمي يثور ويغضب غضبًا شديدًا، وفي ثورة الغضب لم يتمالك نفسه فلطم الرجل لطمة شديدة في وجهه، وهكذا انقلبت جلسة الحوار والبحث إلى ساحة صراع وعراك.
استطعنا بعد تدخل من أسرة صاحب البيت أن نُهدئ الموقف.
لكن الرجل الذي تبين لنا أنه سني كان يصرخ في غضب شديد ويقول للسيد فاطمي: أنت لست غير رجل متطفل على العلم والعلماء وتغار على زوجتك إلى هذه الدرجة فلا تستطيع أن تتحمل كلامًا بسيطًا فيها.
فيا أيها الرجل الأحمق ويا.. كيف تفتري على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه صهر الرسول صلى الله عليه وسلم وفاتح خيبر والبطل الذي سماه الرسول بأسد الله، هل كان مثله يسكت وهو يرى أعداءه يضربون زوجته ويشتمونها ويهينونها؟!
ألا تستحي من نفسك وأنت تكذب وتفتري على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ما تقوله وما تفتري به على التاريخ وعلى الصحابة ليس إلا شتمًا وإهانة لشخصية علي رضي الله عنه؟!
ثم التفت إلينا نحن جميعًا وصرخ فينا: يا أيها الخبثاء! اخرجوا من مدينتنا بسرعة. ثم قال لمن ضيّفنا: أخرج هؤلاء الأشرار من بيتك لئلا يحاسبنا الله بخبثهم ودجلهم فينزل علينا عذابه الشديد وعقابه الأليم.
أثَّر هذا الموقف فيّ إلى حدٍ كبير، كانت خاطرة مريرة ترسخت في رأسي ولا أظنني أستطيع أن أنساها أبدًا.
رجعنا إلى قم ورفعنا تقرير سفرنا إلى إدارة «الحوزة العلمية» وشرحنا تفاصيل ما حدث لنا هناك، ولم يكن من المسؤولين إلا أن قالوا: لا بأس عليكم... لا تهتموا بالموضوع أبدًا فالسُّنَّة على طول التاريخ كانوا يكرهون أهل البيت ويعادونهم، فلا تتعبوا أنفسكم وحاولوا أن تنسوا ما حدث لكم.
كل حاول أن يرفع عنَّا شيئًا لما حدث بتفسير أو تأويل يكشف عن عداوة السُّنَّة لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الحادثة أثرت فيّ تأثيرًا كبيرًا وجعلتني أراجع نفسي كل حين، وأشك في كل ما أعتقده وما أؤمن به من الأفكار والعقائد الشيعية.
([1]) منطقة کنكان.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:25
دخلت عام (1369ش) (الموافق لـ1988م/1408هـ) الامتحان العام للالتحاق بالجامعة، واستطعت بعون الله الحصول على درجات جيدة كانت تؤهلني للالتحاق بستة عشر تخصص علمي منها: الطب والبيطرة والصيدلة و...
فرح والديَّ بهذا الإنجاز ولاسيما والدي، وقد رحب بهذا النجاح واعتبره محور انطلاق إلى أحلامه فيَّ، فأصَّر على التسجيل في تخصص الطب، وبناءً على رغبته التحقت بكلية الطب من جامعة «شهيد بهشتي» بمدينة طهران في بداية شهر «مهر» عام 1369 ش (الموافق لأيلول 1988م/ صفر 1409هـ).
ولكن.. انشغالي بأمور الجامعة والالتحاق بها وبدء الدراسة فيها جعلني أضطر إلى إيقاف دراسة العلوم الدينية ولو لفترة وجيزة.
كان جو الجامعة عالمًا آخر غير ما كنت اعتدته في «الحوزة»، وتماشيًا مع الجو الجديد والبيئة الجديدة خلعت الزيَّ الحوزوي وبدأت أرتدي لباس عامة الناس.
وبعد فترة قصيرة اتصلت لجنة الدعوة الإسلامية في الجامعة بحوزة «فيضية العلمية» بقم، وبما أنني كنت من النشطين والمتفوقين في الحوزة، أُقْتُرِحَ عليَّ أن أنضم إلى اللجنة الدعوية وأصير عضوًا فيها.
ما طرأت لي من الأفكار وما حدثت فيَّ من التحولات الفكرية والعقدية جعلتني لا أميل إلى الانضمام والمشاركة في تلك الأنشطة، فلم أُبد رغبة في المشاركة في اللجنة الدعوية الجامعية، واعتذرت منهم، لكن إدارة اللجنة لم يعجبها موقفي هذا، وكانت حريصة على انضمامي إليها.
اتصلت بوالدي وصوَّرت له الأمور بطريقة جعلت والدي يرتاح لهم وبدأ يحرضني للانضمام إليهم، فاضطررت للانضمام إليهم مرغمًا.
أيًا كانت الأمور.. انتهى الفصل الدراسي الأول في سكون ودون حدوث أية مشاكل.
بدأ الفصل الثاني من العام الدراسي الأول وكنت قد ألفت جو الجامعة، وتعرفت على مداخل الأمور ومخارجها وعلى الجو المحيط بي..
انضمامي إلى الاتحاد الطلابي، ومن ثم الاحتكاك باللجنة الدعوية الجامعية زادني رسوخًا في البيئة الجامعية والتعرف على الأفكار والنظريات والفلسفات الموجودة في المحيط التعليمي، وأحيانًا كان يحدث نوع من الصراعات الفكرية والمناقشات بين أصحاب الرؤى المتباينة، ومن موقعي في الاتحاد الطلابي كنت مضطرًا للخوض في تلك الميادين.
لا أنكر بأن كثيرًا من مواقفي من خلال اللجنة الدعوية مع البيئة الطلابية كانت صدى لسوء الفهم أو بعبارة أخرى لم تكن نتيجة التعقل والتفكير السليم، بل كانت مواقف تصنعها الثورات العاطفية والإحساسات الفردية، ولم تكن تتجاوز رؤيتها المطالب الآنية للطلاب فحسب.
هذه المواقف جعلتني موضع اهتمام الطلاب واحترامهم، كما جعلتني في موقف حرج مع إدارة الجامعة والمسؤولين عليها، لكنني كنت سعيدًا بما أقوم به، إذ كان همي الوحيد الاهتمام بمشاكل الطلاب والسعي للحصول على ما يريدونه، دون مصالح الجامعة أو مشاكل الإدراة أو...
ولعل هذه المواقف الشديدة وهذا التعنت والإصرار على مطالب الطُلَّاب جعلتني شخصية محبوبة في الوسط الطلابي.
كانت رؤيتي - ولعلها رؤية الآخرين كذلك - إلى الجامعة أنها مكان أُعِدَّ للتربية العلمية والتربوية في نفس الوقت، ويجب عليها أن تهيئ الجو العام لبزوغ المواهب، وظهور الابتكارات الفردية والاختراعات، وبالتالي يتطور المجتمع.
لابد للإدارة أن تراعي الجوانب الفطرية لطلاب الجامعة الذين يتمتعون بالقدرات الفطرية والغريزية الحادة في هذه الأعمار، فإن تجاهل هذا الجانب الفطري أو قلة الاهتمام به قد يؤدي إلى مزالق خطيرة وإلى الفساد الاجتماعي والأخلاقي.
وقد كان ظِلال هذا الاتجاه الفاسد مهيمنًا على البيئة الطلابية بشكل واضح، فجعل من الجو الدراسي جوًا مسمومًا صالحًا لظهور أية بوادر تؤدي إلى ألوان من الفساد الاجتماعي والأخلاقي.
ومن موقعي في الاتحاد الطلابي واتصالي المباشر باللجنة الدعوية الجامعية، وشعوري بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقي ناقشت مسؤول اللجنة الدعوية في الجامعة «سيد محمد رضا حسيني» فيما يحدث في المجتمع الطلابي، ولعل مواقفي لم تكن تعجب اللجنة، أو أنها كانت رؤى سطحية ضعيفة، مما جعلت اللجنة لا تعجب بمواقفي، وكان بيني وبين السيد حسيني هذا عدة مشاجرات ومواقف، منها:
أ) قبض الشرطة على طالبة من طالبات الجامعة، كانت لها صلات غرامية غير أخلاقية مع مجموعة من الشباب في خارج البيئة الجامعية، وفي التحقيق اعترفت الطالبة أنها تدرس في جامعتنا، فمن ثم كان ولابد أن تتدخل الجامعة في الأمر.
حُولِّت المسألة إلى اللجنة الدعوية التي حققت بدورها مع الطالبة، وفيما يبدو أن الطالبة استطاعت أن تبرر موقفها، وبالتالي حُلَّت المشكلة وتم الإفراج عنها.
وقد شاع بين الطلاب بأنه كان لرئيس اللجنة الجامعية السيد الحسيني صلات غرامية وصولات وجولات مع هذه الطالبة، مما جعل اللجنة تتستَّر عليها وتفرج عنها.
ب) وفي إحدى المرات تم القبض على طالب وطالبة بتهمة الفساد الأخلاقي، والصلات الغرامية في البيئة الجامعية، وحوِّلت المسألة إلى اللجنة الدعوية التي حققت بدورها معهما، فنفى الطالب والطالبة أية صلات غير مشروعة فيما بينهما، وقالا: بأنهما يفكران في الزواج من بعضهما، ولم تتجاوز علاقتهما صلة الحب العذري البريء.
لكن اللجنة الدعوية لم تقتنع بكلامهما وأبت إلا وأن تُرسل الطالبة إلى الجهة الطبية للتأكد!
وخرج التقرير الطبي يصدق كلامهما!
ورأيت - بأم عيني - الطالبة وهي تصرخ باكية في وجه مسؤولي الجامعة واللجنة الدعوية وتقول: أخجلتمونا أمام الناس وأهنتمونا على الملأ، ألا تخافون الله؟! أليس لكم شيء من الحياء والغيرة؟!
وفي نهاية الأمر لم تؤثر كل هذه الأمور في قرار اللجنة، وتم فصل الطالبة والطالب من الجامعة.
أظهر طلاب الجامعة سخطهم واعتراضاتهم على هذا القرار الظالم، وأحدثوا بلبلة في الجو الجامعي، مما جعلت إدارة الجامعة تقيم جلسة توضيحية لتخفف عن مشاعر الطلاب، وقمت في هذه الجلسة ودافعت عن حقوق الطُلَّاب بشكل قوي.
بعد هذا الموقف استدعيت إلى المخابرات وأجبرت على التوقيع على وثيقة الندامة، وعلى أنني لن أقوم بمثل هذه الحركات، وأن أُعلن في الجلسة القادمة أمام الطُلَّاب بأنني أخطأت وأن موقف الإدارة كان صحيحًا.
ثم رتبت الجامعة جلسة أخرى، وقمت أمام الطلاب في حالة خجلة منكسرة، وما إن نطقت ببعض الجمل المكسورة، وإذا بطالب يقوم ثائرًا هائجًا يصرخ في وجهي بكل غضب: السيد رادمهر! كم دفعوا لك؟ ماذا دهاك يا رجل؟ لم تمر بضعة أيام وقد تغيرت تمامًا؟
فبعد أن كانوا يرون فيَّ مناضلًا يدافع عن حقوقهم إذا بهم ينظرون إليَّ شزرًا ويرمونني بسخطهم وكرههم الصامت، وكأنني عدوهم الشرس.
انتهى العام الدراسي الأول وكانت تلك المواقف وما حدث فيها من القبض والسجن والتعذيب مقدمة للمشاكل والمصائب التي واجهتها فيما بعد وإلى يومي هذا..
أكملت الفصل الثاني من العام الدراسي الأول في كلية الطب على نفس النمط.. عدة مشاجرات كلامية ومواقف مع اللجنة الدعوية - من موقف الشعور بالمسؤولية - ومواقف وصراعات كلامية مع السيد «كاشاني» وفشل إحدى الجلسات التوضيحية، وما حدثت بعد ذلك من غضب الوالد عليَّ، ورفع قضيتي إلى المخابرات والتوقيع على وثيقة الندامة، والرجوع إلى حوزة «فيضية العلمية» بقم، وما حدث في مدينة قم..
كل هذه المواقف جعلتني أشعر بالخجل والضياع وأن شخصيتي في الجامعة أصبحت شخصية غير مرغوب فيها.
لم أعد أطيق الجو الجامعي والاستمرار في الدراسة، ولهذا لم أسجل في الفصل الصيفي.
لم أكن أرغب كذلك في إكمال الدراسات الدينية في الحوزة، لكنني كنت أشعر أن الجو الحوزوي يتلاءم مع حالتي النفسية أكثر من الجو الجامعي، وأن ذهابي إلى هناك قد يخفف من ضغوطي النفسية، ولهذا ذهبت إلى حوزة «فيضية العلمية» بقم، وبدأت أكمل دراستي التي توقفت في الفترة الماضية في فصل «الخارج»، فقد كنت أشعر بأن بقائي في الحوزة أفضل لي من الرجوع إلى الجامعة.
وبعد فترة وجيزة من بقائي في الحوزة لبست العمامة، وقرَّرت أن أُكمل الدراسات الدينية إلى مراحلها الأخيرة، لكن والدي حَضَرَ إلى قم وأصَّر على رجوعي إلى طهران لإكمال الدراسة في كلية الطب.
لم أستطع المقاومة أمام والدي فاضطررت أن أبدأ الفصل الأول من السنة الثانية في شهر «مهر» (1370ش) (الموافق لأيلول1989م/ صفر1410هـ)، لكن هذه المرة لم أكن ذلك الطالب النشيط الطموح الذي كنت يوم أن قدمت إلى الجامعة لأول مرة، وإنما كنت أشعر بأني إنسان ضعيف حقير لا هدف له من الدراسة ولا يشعر بقيمة لحياته.
في الفصل الثاني كنت ألبس جلباب العلماء والعمامة - الزي الحوزوي - في الجامعة، وكنت أشعر بالوحدة في المجتمع الطلابي، وكأن الطلاب قد نبذوني بعيدًا عنهم ولا يريدون الاحتكاك بي والتعامل معي.
كنت أقرأ الكره والغضب في عيون زملائي وأشعر بأن وجودي في جلساتهم ولقاءاتهم يضايقهم، لكن لم يكن أمامي إلا أن أتعايش مع الوضع الجديد وأتحمَّل كل ذلك.
في هذا الفصل الدراسي كنت أشارك في برامج الاتحاد الطلابي والنشاطات الدينية، وحتى في غياب إمام مسجد الجامعة كنت أؤم الناس، وكنت أشعر بكل ما يدور في عيون الطلاب وصدورهم من كرههم الشديد وغضبهم عليَّ، وفي المقابل كنت أشعر بأنني على قدر ما سقطت في عيون الطلاب ارتفعت في عيون إدارة الجامعة واللجنة الدعوية.
وكان أبي كل ما يجد فرصة يسمعني بأنه فخور بي ويعتز بولد مثلي.
كنت أشعر تمامًا بأن ما يقوله الوالد ليس إلا مجاملات يحاول بها رفع معنوياتي المنهارة، وعلاج ما أعانيه من التدهورات الروحية، ومن التناقضات الفكرية والعاطفية.
كنت مع كل ما أعانيه من التباين والتضاد أحاول ألا أُبدي شيئًا منها، وأظهر في المجتمع وكأن الأمور تجري على ما يرام.
أذكر جيدًا يوم أن كنت أُكلَّف من قبل الاتحاد الطلابي بالإشراف على السكنات الطلابية، ولاسيما مهجع الطالبات، وكنت أذهب إلى المهاجع الطلابية أرى الطالبات ينظرن إلي وكأنني رجل مخابرات أو من حزب الله، ومن أصحاب الثورة المنبوذين، أو من الأصوليين المتشددين، وأنهن كن يتضايقن بوجودي بينهن، وكنت أرى الغضب والكره يصرخ من نظراتهن.
كانت عجلة الزمان تدور بسرعة شديدة حينًا وببطء قاتل أحيانًا.
انتهى الفصل الدراسي الثاني، وكان يحمل في أحشائه وقائع كثيرة وخواطر مؤلمة وذكريات مريرة من أبرزها:
أولًا: خرجت برفقة «علي رضا محمدي رحمه الله» من زملائي في الحوزة في قم، وطالب بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة طهران، و«أبي طالب صالحي» من زملاء صديقي محمدي في كلية العلوم الاجتماعية، خرجنا من «تجريش» إلى جنوب طهران - ساحة توبخانه - للتجول وقضاء بعض الوقت، وفي ساحة توبخانة أردت أن أتصل بأسرتي فدخلنا مركزًا للهواتف، وبعد دخولنا مركز الاتصالات جلسنا في صالة الانتظار ننتظر دورنا للاتصال.
كان هناك رجل يلبس الزي البلوشي، وكان يُرى على سماته أنه من علماء أهل السُّنَّة، وكان يجلس بجواره عدد من الشباب، ولعلهم كانوا ينتظرون دورهم للاتصال.
بعد فترة وجيزة رأيت أحد هؤلاء الشباب التفت إلى العالم البلوشي وسأله بشيء من التعنت: هل حضرتك سني أم شيعي؟
رد العالم السني: أعوذ بالله أن أكون شيعيًا.
فقال الشاب مستغربًا: ولم؟ وما عيب الشيعة؟
رد الرجل السني: بالله عليك، قل لي ما هي العيوب التي يمكن أن تكون في إنسان وليست في الشيعة؟
بدأ النقاش يشتد بين الفريقين، وأخذنا ننظر إليهم من بعيد.
قال الشاب للعالم السني: عيبكم أنتم «عمر» لا غير، عمر الذي أحلَّ الحرام وحرم الحلال.
سأله العالم السني: قل بالله عليك: ما هو الحلال الذي حرمه عمر، وما هو الحرام الذي أحلَّه عمر؟
رد الشاب: كانت المتعة حلالًا فحرمها عمر([1]).
سأله العالم: أريد أن أسألك، هل في رأيك أن المتعة شيء جيد مبارك؟
قال الشاب: نعم، وألف نعم.
رد عليه الرجل السني: إذا كانت المتعة حلالًا وأمرًا مباركًا كما تفضلت، فها أنا أخوك المسلم، وأنا منذ زمن بعيد عن أهلي وأسرتي وأشعر بحاجة شديدة إلى المتعة، فهل تتكرم وتقدم مشكورًا أختك إليّ، ولك في ذلك الأجر والمثوبة التي تتصورها.
ثار الشاب على هذا الجواب، وقام هو وأصحابه وبدؤوا يضربون العالم السني ورموه خارج صالة الانتظار.
خرجت أنا وصاحبيَّ من الصالة وأخذنا الشيخ السني بسيارتنا إلى مطعم «خسام»، ودعوناه لتناول شيء خفيف معنا، وعلى مائدة الأكل بدأ أصحابي يناقشون الشيخ السني فيما حدث بكل احترام وأدب.
ووصل بهم الكلام إلى مناقب الخلفاء وفضائلهم، وأن عليًا هو أفضلهم على الإطلاق، فقال أصحابي: إن فضل علي عليه السلام على سائر الصحابة يرجع إلى أن عليًا عليه السلام كان رجلًا متعلِّمًا ومثقَّفًا، وقد ألف كتابًا في حين أن سائر الخلفاء كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة.
فقال الشيخ السني: يا ناس! إننا نقول بأن عليًا كان من كُتَّاب الوحي، وإذا كنتم ترون هذا رأس مناقبه فلا تنسوا بأن معاوية كذلك كان من كتَّاب الوحي، وكان مُثقَّفًا جدًا.
وأن أبا علي - أبو طالب - لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عليًا بأن يتعلم القراءة والكتابة.
وفي موضوع تأليف أمير المؤمنين علي عليه السلام للكتاب الذي أشارا إليه، قال الشيخ السني: هذا الكتاب - نهج البلاغة - الذي تنسبونه إلى سيدنا علي، ليس من مؤلفات سيدنا علي وإنما هذا الكتاب وضعه «الشيخ الرضي» اللعين، جمع فيه عدة آلاف من الأحاديث الكاذبة ونسبها إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
توقف بنا النقاش، ولم نكن على استعداد لمناقشته والجدال معه فتركناه ورجعنا إلى الجامعة.
لكن موقف الرجل مع هؤلاء الشباب ونقاشه البسيط معهم في قضية المتعة هزَّ ضميري، وجعلني أُفكِّر وأُعيد النظر في قضية المتعة.
ثانيًا: قدرًا التقيت في الباص بالسيد «غلام رضا كاردان»، المشهور بحفظه للقرآن كله في إحدى أسفاري من طهران إلى قم.
ويعد السيد «كاردان» من أبرز الوجوه في وضع الخطط والبرامج لتقريب المذاهب الإسلامية، ومن أبرز المفكرين في برنامج الوحدة بين الشيعة والسُّنَّة.
وكانت تجلس قريبًا إلى كرسي السيد كاردان امرأة زينت نفسها بمساحيق غليظة، وكانت - تبدو - جميلة.
خلال السفر شعرت بأن السيد كاردان بدأ يقترب من تلك المرأة، وفتح باب الكلام والصداقة معها، وإن كنت لا أسمع كلامهما، لكن عندما وصلنا إلى قم ونزلنا من الباص رأيت السيد كاردان وضع ورقة صغيرة في يد تلك المرأة.
بعد ثلاثة أيام زرت السيد كاردان في بيته لعمل كان لي معه ولاستعارة كتاب منه، فرأيت تلك المرأة بلباس البيت في بيت السيد كاردان، وكنت أعرف أن أسرة السيد كاردان ليست في البيت.
تعجبت من هذا الموقف، ولم أكن أريد أن آخذ من وقت السيد أو أُزعجه كثيرًا، لكن لما رأيت هذا الموقف أخذني فضولي لمعرفة الحكاية.
شعر السيد «كاردان» بحرج شديد من وجودي، وكان يبدو مضطربًا، وقال: بأنه كان مشغولًا في كتابة موضوع ما، وانقطعت حبال أفكاره مع حضوري، وأشعرني بأنه يريد أن أخرج بسرعة ليتفرغ لواجباته.
لكنني تمهلت وأشعرته بأنني مصرٌّ على معرفة سبب وجود تلك المرأة في بيته، ويبدو أنه شعر بأنني أرغب في معرفة الحكاية، فقال: هذه المرأة أصبحت حلالًا لي، فقد أخذتها بالمتعة.
وبدأ يشرح لي معنى المتعة وأراد أن يبرهن لي صحة عمله، وأنه أمر مشروع في الإسلام لا غبار عليه، واستشهد لكلامه ببحث للمرحوم آية الله طالقاني، وآية الله هاشمي رفسنجاني، وأكد لي بأن المتعة لا تعارض الشريعة فحسب، بل عمل مشروع يجلب المثوبة والأجر في الدار الآخرة، ونصحني ألا أحرم نفسي هذا الأجر العظيم إن كنت أشعر بالحاجة إليه.
ثم دخل في شرح فلسفة المتعة وتفسيرها، واعتبرها حلًا لكثير من مشاكل المجتمع، وسبيل القضاء على الفساد الأخلاقي والهرج في المجتمعات الإسلامية.
بعد هذا التمنطق والتفلسف الذي أبداه لم أجد أمامي إلا أن أتركه وشأنه وأنصرف راشدًا.
ثالثًا: أراد صاحباي «علي رضا» و«سيد أبو طالب صالحي» من طلاب كلية العلوم الاجتماعية أن يسجِّلا تقريرًا ميدانيًا - كبحث منهجي علمي - عن بعض حالات المجتمع، وحصلا على إذن رسمي من جميع الجهات القانونية لعمل لقاءات مع الناس وتصويرهم.
وكانا قد قرَّرا أن يذهبا إلى الحدائق العامة، وإلى الأحياء المشهورة بالفساد والتجاوزات اللاأخلاقية، فأعجبني موضوع بحثهما واستأذنتهما في المرافقة.
ما إن استقر بنا الأمر في حديقة أكباتان (المشهورة بحديقة الطالب)، وبدأنا نُركِّز أجهزة التصوير على المناظر الجميلة، فإذا بأحد الرفقاء دعا امرأة عجوزًا كانت تمر من هناك، وقال لها: عفوًا سيدتي! نريد أن نسجل تقريرًا عن بعض قضايا المجتمع، فهل تسمحي لنا، نريد أن نتشرف بالسؤال عنك.
كانت المرأة مضطربة وحزينة، فثارت في وجوهنا وصرخت: تعالوا صوروا قلبي، حتى تعرفوا لماذا تنْجَر بنات الناس إلى الفساد لمجرد لقمة أو لقمتين تشبع بها نفسها، أصبحت الفتاة تبيع نفسها وعرضها باسم المتعة لتملأ بطنها!
صورت تلك المرأة العجوز بكل بساطتها وسلامة فطرتها المتعة وما تنتجه من المشاكل بصورة تجرح كل قلب ينبض صلاحًا، وكل ضمير حي ما زال فيه شيء من آثار الفطرة.
رابعًا: في المرحلة الثانية سألنا امرأة شابة عن معنى العشق؟ فقالت: العشق يعني: الخبز. العشق يعني: الماء. العشق يعني: البحث عن حياة كريمة. العشق يعني: ملء البطون الخاوية. ثم بدأت تبكي وتقول: وصل الأمر إلى فتياتنا أنهن يبعن أعراضهن باسم المتعة، للحصول على قطعة خبز يملأن بها بطونهن.
وبدأت تصف المتعة وصفًا تقشعر منه الجلود وتنخلع منه القلوب التي في الصدور، ثم قالت: والسادة الذين يقضون حوائجهم ويشبعون شهواتهم بالمتعة يرفضون الأولاد الذين قذفوهم بشهوتهم في بطون تلك النساء، فلا يسجلون الأولاد بأسمائهم، وتبقى الفتاة الضائعة التي باعت نفسها بثمن بخس دراهم معدودة، تجر وراءها مشاكل رعاية طفل ضائع بريء.
وقد كان وصفها للمتعة وكرهها لها وصفًا بديعًا لا يمكنني تعبيره بالقلم.
خامسًا: سألنا امرأةً أخرى عن العشق: ما هو العشق؟ فأجابت: لا يعني العشق اليوم إلا الجريمة والزنا والمتعة ثم الفراق.
مع أن هذا التقرير الميداني قام به طالبان من الجامعة وسلَّماه إلى القسم الخاص، فلم ينشر لما فيه من الكشف عن سوءة آراء فقهية ضالة تحكم باسم الدين، والدين منها بريء؛ ولِما فيه من الكشف عن أسرار المجتمع المكشوفة التي يراها ويعرفها الجميع لكنهم لا يتجرؤون على كشفها وإبرازها.
كنت يومًا في درس مادة «المعارف الإسلامية» - الدينيات - للأستاذ محمديان، وكان في الفصل عدد من طُلَّاب السُّنَّة، يبدو أنهم حضروا ضيوفًا على الجامعة، كان أحدهم يلبس زيًا كرديًا والآخرون فيما يبدو كانوا من السُّنَّة التركمان.
فجأة طرحت قضية المذاهب وانجر الكلام إلى الخلافات المذهبية.
أذكر أن السيد محمديان في حديثه عن موضوع ما شبَّه الخلفاء الثلاثة (أبوبكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) ببقرة حلوبة أراقت حليبها على الأرض بعد ما استحلبها صاحبها.
وكان أثر هذا التمثيل على الطلاب الضيوف من السُّنَّة سيئًا للغاية إلى درجة أن الطالب الكردي غضب غضبًا شديدًا وترك المحاضرة ولم يرجع.
كل هذه الوقائع التي حصلت خلال الفصل الثاني من العام الدراسي الثاني شغلتني عن الدراسة الجادة، فكنت لا أرغب كثيرًا في المواد العلمية، ولا أهتم بها كما ينبغي، كما كنت أشعر بملل شديد وتعب روحي.
زد على ذلك أن هذه الأحداث جعلتني أكره المتعة وأشعر بالقشعريرة والكره الشديد من مجرد وصفها أو الحديث عنها.
وهكذا انتهى العام الدراسي الثاني..
وكانت بداية السنة الثالثة في الجامعة مع نهاية الفصل الأول من مقطع «الخارج» من الدراسة الدينية في الحوزة، لكن بما أن الدروس الجامعية في هذه السنة كانت دروسًا عملية تستوجب الحضور في المستشفى اضطررت إلى إيقاف دراستي في الحوزة إلى إشعار آخر.
وفي هذه السنة طرحت أسرتي قضية زواجي، وأنني يجب أن أفكر في نفسي وفي مستقبلي.
عائلة الوالد والجد والجدة كانوا جميعًا مصرين على زواجي من ابنة عمتي، وكانت زميلتي في الدراسة في كلية الطب، وكنت أعرفها وتعرفني جيدًا، وكنت أشعر بأن التعايش معها ضرب من المستحيل؛ وذلك لأن رؤيتها للواقع والحياة كانت غير رؤيتي للمجتمع وللناس وللحياة.
لكن.. لم يسمع أحد كلامنا، ورغمًا عن أنوفنا بتدخل من الأسرة تم هذا الزواج، وقررت الأسرة أن نذهب إلى أمريكا لإكمال الدراسة والحصول على التخصص..
كنت أشعر بأن دخولي في الجامعة وحضوري في المجتمع الجامعي في هذه السنة كان أسهل بكثير مما كان في العام الماضي، وكنت أشعر بأن تلك المصائب والمشاكل التي كنت أعيشها في العام المنصرم قد ذهب أوانها.
كان الجو في الجامعة لا يمكن أن يخلو من بعض المصادمات الفكرية وبعض الجدل والنقاش العقيم؛ وذلك لأن الجامعة تعتبر ملتقى الأفكار المختلفة والتصورات المتباينة، ومن هنا فلا يمكن فصل الجامعة عن بعض التطورات وبعض الأمور المهمة، ولعله يجدر بي أن أشير إلى أمرين:
الأول: كنت منكبًا على دروسي في الجامعة ومشغولًا بشؤوني الخاصة وبدراستي، وإذا بالحوزة العلمية في قم تستدعيني للحضور إلى قم عاجلًا.
كانوا قد أعدوا بحث ومناقشة ومدارسة في الأصول والمبادئ العقدية بين المذهب الشيعي والمذاهب السُّنِّية الأربعة، فاستدعيت لكي أكون عضوًا في الفريق الشيعي الذي يناقش هؤلاء السُّنَّة.
يبدو بأن إدارة الحوزة في قم اختارت مجموعة من طُلَّابها السابقين المتفوقين ممن اشتهروا بالعلم والاعتزاز بالمذهب، والقدرة على النقاش والمناظرة والجدل.
ومن هنا جاء اختياري لأكون مع الفريق الذي أُعِدَّ لهذا البرنامج المعد له مسبقًا.
دخلت حلبة المناقشة والبحث برفقة رفقائي من علماء الشيعة مع مجموعة من علماء السُّنَّة أحضروا من منطقة «تركمان صحراء» الإيرانية.
وكان الهدف من هذا البرنامج أن نعد مجموعة من الأفلام عن هذا اللقاء وننشرها بين الناس ليعرفوا ضعف المذهب السني وتفاهته، ويدركوا بأن المذهب الشيعي هو المذهب الحق الذي لا مرية فيه!!
بدأت المناظرة بيننا وطرحنا أسئلتنا وشبهاتنا.. لم تستمر جلسة المناظرة الصورية بضع ساعات وإذا بنا - نحن - نخرج منتصرين كالأسود التي انقضَّت على فريستها في طرفة عين، وكأن علماء السُّنَّة بقوا منبهرين أمام علمنا وشبهاتنا، وكأنهم لم يجدوا جوابًا يردوا به على ما طرحناه من الشبهات والتساؤلات، وبقوا متحيرين وخرجنا وكأننا أفحمناهم.
انتهت المناظرة وملأت أخبارها وتفاصيلها الجرائد، التي ظلَّت لبضعة أيام تهتف لنا بالحياة، وتشيع في العالم خبر انتصارنا على علماء السُّنَّة، وتزين صفحاتها بصور ملونةً لي كأبرز المناظرين!!
ساندت جهات عديدة في تضخيم هذه المناظرة وإبرازها في صورة تليق بالنصر الحاسم الذي حصل عليه المذهب الشيعي، وكأن ثورة وقعت فارتفعت فيها رؤوس كان ينبغي أن ترفع قبل آلاف السنين، وانخفضت رؤوس كان ينبغي لها أن تذل قبل آلاف السنين!!
وكان لهذه المناظرة أصداؤها الإيجابية جدًا بين طلبة العلم في الحوزة، وكأن روحًا جديدة نُفثت في أجسامهم، وكأنهم وُهِبوا حياة وعادوا إلى وجه الأرض بعدما كاد التراب يواريهم، ففي كل مكان وفي كل جلسة كانت ضحكات الانتصار ترتفع، والعُجب يملأ الأجواف والقلوب.
لكنني لم أكن أرى في هذا النصر فخرًا ولا عزًا؛ لأنني كنت أؤمن بأن جلسة صورية مثل هذه لا تستطيع أن تقضي على مفاهيم ومبادئ أكلت عليها الدهور والأزمان، وأن هذا التفوق الذي جنيناه لا يُعدُّ تفوقًا علميًا كما صورته الجرائد والمجلات والمحافل والمجالس المختلفة..
لم أكن سعيدًا على نجاحنا؛ وذلك لأنني كنت أعرف مستواي العلمي أكثر من الآخرين.
كنت أؤمن أن مِثلي لا يستطيع أن يقلع شجرة أثمرت أفكارًا ومفاهيم طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان في مناظرة صورية مثل هذه.
كنت أشعر أن طالبًا شيعيًا بسيطًا مثلي لا يستطيع أبدًا أن يُفحم علماء السنة بهذه السهولة، وكنت أرى في عيون هؤلاء العلماء أنهم يملكون أجوبة وأن في رؤوسهم الشيء الكثير لكنهم لا يبدونه.
ولعل رفقائي - كذلك - كانوا يدركون مثلي تمامًا، أن سكوت علماء السنة كان راجعًا إلى أمرين لم يرد أحد من أصحاب الضجيج الإعلامي أن يشير إليهما:
أولهما: أن الجو بالنسبة لهم لم يكن مساعدًا، فهم كانوا كالصيد في شبكة الصياد، أُحضروا من مناطقهم البعيدة إلى قم في وسط جو شيعي يهتف فيه كل شيء للخصم المناظر، ثم إنهم شعروا بالكاميرات وعدسات التصوير التي تصور وتسجل كل كلمة يتفوهون بها، فلم يكونوا يرغبون أن يدخلوا في النقاش وأن يجادلونا فيما نقول، ولم يكونوا يتطرقون إلى المسائل الاعتقادية إلا مكرهين.
ثانيهما: أنهم لم يكونوا على استعداد للبرنامج، ويبدو أنهم أُرغموا فيها دون أن يعرفوا عن الموضوع وعن السبب الذي من أجله أُحضروا إلى قم، فلما وجدوا أنفسهم في ساحة مناظرة أخذ الخصم فيها عدته كاملة حاولوا ألا تخرج من أفواههم كلمة قد يُعاتبون عليها.
فما كانت تقوله الجرائد والمجالس، وما كنَّا نزعمه من إفحامهم وانتصارنا عليهم كانت مجرد حركة دعائية ليس لها من الواقع شيء.
فهم كانوا يفضلون الصمت خوفًا على أنفسهم، تمامًا كالفريسة بين مخالب العقاب، فأية حركة منهم قد تؤدي بها إلى التهلكة والسقوط في الشعاب الموحشة.
كنت أرى في قرارة نفسي أن هذه الجلسة أو المناظرة وما تبعها من التضخيم الإعلامي والنفخ فيها في قم لم يكن لمجرد إبراز العضلات، وإنما كان برنامجًا دعائيًا إعلاميًا يستغل جميع الأدوات الدعائية والفنية في صناعة بانوراما إعلامي ضخم ينتصر للمذهب الشيعي، ويحرض الناس على اعتناقه.
ولو كان الهدف من مثل هذه المناظرة دراسة علمية لبيان وجه الحق في المسائل المختلف فيها لكان ينبغي أن يُدعى لها مجموعةً من كبار العلماء وسادة الفكر الإسلامي والفقهاء والفلاسفة وأهل المنطق والاستدلال العقلي لا بعض الطلبة أمثالي ممن لا يعرف شيئًا عن الأصول والمبادئ الاعتقادية لدى السُّنَّة!
الثاني: الدعاية والتضخيم الإعلامي الذي تبع هذه المناظرة قدمني للمجتمع كوجه علمي بارز، وجعل الناس يدندنون باسمي وبكلماتي.
فأعدت الجامعة برنامجًا آخر وطلبوا مني أن أحاضر فيها عن المسائل الأخلاقية، ولم يحددوا موضوع البحث أو المحاضرة، فقط قالوا: تحدث بشكل عام عن نتائج فقدان الحس الديني أو بعبارة أخرى عن طرق اجتناب الذنوب والمعاصي.
بدأت المحاضرة بعد أن جمعت شتات أفكاري، وكان فيها تلك التجارب المريرة التي مرَّت عليَّ في نهاية السنة الدراسية الثانية، ولاسيما ذلك التقرير الذي أعده زملائي عن المتعة، وذلك الحوار الذي تم مع السيدات الثلاث في حديقة (اكباتان) - وقد أشرت إليها سابقًا - فتحدثت عن المتعة والآثار التي تسببها وتبعاتها على المجتمع.
كنت أعرف جيدًا أن محاضرتي طعن في الرؤية الشيعية للمتعة، وأنها ستضع علامات استفهام بارزة على المذهب - على الأقل من هذا الجانب - لكنني لم أجد بُدًّا من أن أصرح بكل تلك الخواطر المؤلمة.
كانت القاعة مكتظة بالشباب الجامعيين والمثقفين والأساتذة، ومن بينهم السيد الدكتور حكاكيان - وقد سبق أن تحدثت عنه بالتفصيل - الذي أبى إلا أن يبث سمه، فقال في جلسة حضرها عدد كبير من الأساتذة: بأن محاضرنا هذا ينتمي إلى أسرة متغربة تعتز بالثقافة الأوربية، وما كان ينبغي أن نسمح له أن يتجرأ بالطعن في المتعة وهي من مسلمات المذهب الشيعي، ولا ينبغي لنا أن ننتظر من مثل هذا الشخص مواقف أفضل من هذا، فالمنبت السوء لا يخرج نباتًا حسنًا، وما في النار للظمآن من ماء.
كنت أشعر جيدًا بأنه يحاول الطعن في سمعة عائلتي والانتقاص من أسرتي.
تضايقت جدًا من موقف الدكتور حكاكيان هذا، وكنت أحاول أن أجد سبيلًا لأنتقم منه، فسافرت إلى قم وطرحت مشكلتي على السيد «آية الله وحيد الخراساني» أستاذي وصاحب سري ورجوته أن يساعدني في حل هذه المشكلة العويصة في الانتقام من هذا الرجل المزعج.
فأشار علي السيد آية الله وحيد الخراساني أن أبحث عن أية نقطة ضعف أو حركة مرموزة للدكتور حكاكيان لنتصرف من خلالها، فبدأت في البحث عن شيء يمكن أن أزود به آية الله الخراساني.
قدرًا حصلت على شريط يتحدث فيه الدكتور حكاكيان مع رجل آخر، فيه شيء من الطعن على قيادات الثورة والمرشد العام للثورة الإيرانية، فرفعت الشريط مباشرة إلى آية الله الخراساني، وشفى هذا الشريط غليل صدري قليلًا، إذ سبب مشاكل كثيرة لحكاكيان وظل في السجن لمدة ما.
وهكذا انتهى العام الدراسي الثالث في الجامعة بعد تلك الأمور والخواطر التي سببت لي بعض المشاكل وبعض التحولات النفسية والعاطفية.
كانت لهذه التجارب الأخيرة دورها البارز في صناعة شخصيتي، فقد تعلَّمت منها كيف ينبغي أن أواجه المشاكل، وكيف يجب أن أتحرك في ظروف الحياة المختلفة، وكيف أستطيع أن أتعايش مع مشاكل الجامعة ومسائلها، أو بعبارة أخرى: لم أعد ذلك الشاب المغرور والعاطفي والثوري، بل أصبحت رجلا محايدًا ناضجًا، ومنطقيًا يحتاط في كل شيء، ويضع لكل شيء حسابه.
في هذه الفترة حدثت لي حادثتان كان لهما دور إيجابي في مسيرة حياتي وفي بناء شخصيتي وفي البحث عن وجه الصواب في أفكاري واعتقاداتي، فأصبحتا نبراسين في طريقي نحو الهداية والوصول إلى شاطئ السعادة، وترك ما كنت أؤمن به من العقائد الباطلة.
([1]) الحق أن عمر ليس هو الذي نهى عن المتعة بل الذي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: (حرم رسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة). [الاستبصار للطوسي (3/143)، وسائل الشيعة للحر العاملي (21/12)].
وكذلك الأئمة عليهم السلام نهوا عنها فعن عبدالله بن سنان قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن المتعة فقال: (لا تدنس نفسك بها) [مستدرك الوسائل (14/455)]. وعن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في المتعة: (دعوها، أما يستحي أحدكم أن يرى في موضع العورة فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه) [الكافي (5/453)، وسائل الشيعة (21/22)] وعن محمد بن شمعون قال: (كتب أبو الحسن إلى بعض مواليه: لا تحلوا المتعة، إنما عليكم إقامة السُّنَّة فلا تشغلوا بها عن فرشكم وحرائركم فيكفرن ويتبرين ويدعين على الأمر بذلك ويلعنونا). [الكافي (5/453)]. وقد صرَّح آية الله هاشمي رفسنجاني لمجلة الشراع في عددها (684) في الصفحة الرابعة أنه يوجد في إيران ربع مليون لقيط بسبب زواج المتعة.
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:26
بعد شبه توافق نسبي بين عائلة والدي وعائلة والدتي، وبناءً على نصائح والدتي ورغبتها وشوقي الخاص للدروس الدينية تم تسجيلي في الحوزة العلمية (ولي عصر) في طهران عام (1363ش) (الموافق لـ1984م/1404هـ).
ووصل حكاية تسجيلي في المدرسة الدينية والاختلافات والكلام الذي دار في الأسرة إلى والدي في كندا، وبما أنه كان يتمنى أن أُكمل مسيرته العلمية وأن أصبح طبيبًا متخصصًا حزن على موقفنا هذا وأصر على تركي للمدرسة الدينية والتحاقي بالمدرسة الإعدادية العصرية، وإكمال الفصول المدرسية هناك؛ فأصبحنا في ورطة شديدة، فقد كنت أميل إلى الدراسات الشرعية، ويحرضني على ذلك جو أسرة والدتي واهتماماتها، لكن على عكس من هذا الموقف كان موقف أسرة والدي المتنورة نحو الدراسات العصرية.
كان موقف والدي شديدًا من توجهي للدراسة الشرعية..
وجاء الفرج على لسان والدتي عندما قرَّرت أن أُكمل دراستي في المدرسة الدينية وبجوارها أُكمل دراستي في المدارس العصرية.
واتفقنا مع بعض المعلمين على محاضرات خاصة إضافية في البيت، وبذلك استطعنا أن نُرضي الوالد دون أن نعرقل مسيرتي التعليمية في المدرسة الدينية.
وبما أنني كنت - بحمد الله - أتمتع بذكاء خارق وحفظ وحركة ونشاط وعشق للدراسة أكملت السنة الأولى من الإعدادية والسنة الأولى من المدرسة الدينية بالتفوق في المدرستين، وإن كانت الدروس الخاصة مكلِّفة إلا أن وضع الأسرة الاقتصادية لم يكن يضايقني من هذا الجانب.
وهكذا.. انتهت السنة الأولى من المدرسة الإعدادية والمدرسة الدينية بشكل مُرضٍ جدًا.
وقررت الوالدة أن أُكمل الفصل الثاني من الإعدادية والدينية في إحدى المدارس الدينية في مدينة (قم)، فقد كانت تظن بأن مستوى الدراسة فيها عالٍ، وهكذا التحقت بمدرسة «كرماني ها» للعلوم الدينية بمدينة «قم المقدسة».
وبعد فترة وجيزة حضرت والدتي إلى «قم» لتطمئن على دراستي، ولما زارت المدرسة ورأت بأم عينها السكن الطلابي ونوعية الطعام الذي يُقدَّم للطلاب والجو العام فيها لـم يعجبها الأمر، فذهبت مباشرة إلى حي «زنبيل آباد» واستأجرت بيتًا مناسبًا، وعينَّت أستاذًا خاصًا ليدرسني دروس الإعدادية بجوار ما أدرسه في المدرسة الدينية؛ فأكملت فصل «المرحلة الأولى» في مدرسة «قديرية» الدينية، قرب مسجد «شاه إبراهيم سابق».
وبتوفيق الله ثم ذكائي ورغبتي للدراسة والعلم وإخلاصي في العمل ساعدني ذلك على إكمال مراحل «فصل المقدمات» و«فصل المرحلة الأولى» مع الفصول الثلاثة من الدراسة الإعدادية في وقت واحد، وكنت في كل المراحل الدراسية من المتفوقين في المدرسة، مما جعلني موضع اهتمام خاص من كبار الأساتذة، أمثال: آية الله موسوي، وآية الله أستادي، وآية الله وحيد خراساني، وآية الله حسيني.
ولا أنسى أن أعترف - معتزًا - بأن الفضل في كل هذا التفوق الدراسي وهذا النجاح التعليمي يرجع إلى اهتمام خاص ورعاية عالية كانت تبذلها بكل سخاء وإخلاص أمي العزيزة، فلها مني جزيل الشكر والاحترام أبدًا ما أحياني الله عز وجل.
وهكذا.. على نفس النمط أكملت المرحلة الثانوية من الدراسات العصرية بجانب دراستي في المدرسة الدينية - الحوزة العلمية -.
ودرست مرحلة «السطح» و«الخارج» من دروس المدرسة الدينية في «الحوزة العلمية الرضوية».
وحدثت لي حادثة لطيفة يوم أن كنت أقضي إجازة الصيف في رفقة الوالد الذي عاد إلى البلد بعد اثني عشر عامًا وهي:
كلَّف حجة الإسلام السيد غلام حسين حسيني أحد علماء حوزة «فيضية» العلمية لرحلة دعوية، وللبحث عن الوضع العقدي لمنطقة من مناطق البلوش، منطقة «رمشك» من توابع محافظة «كرمان».
وكنت شعلة من النشاط أرغب في البحث عن كل شيء، والكشف عن كل مجهول، فرافقت حجة الإسلام الحسيني إلى هناك.
ومنطقة «رمشك» يقطنها السُّنَّة، وليس فيها أحد من الشيعة، وفي هذا السفر التقينا بشباب من هذه المنطقة بينهم عدد من طُلَّاب العلوم الدينية من شباب السُّنَّة.
طرحنا بعض المسائل العقدية أمامهم وأطلنا الكلام فيها، وتشجع شباب السُّنَّة فطرحوا العديد من الأسئلة فحميت الجلسة، واشتد النقاش بيننا، وأصبح اللقاء أشبه بجلسة جدال ومناقشة، وأحسست يومذاك أن نبالنا انتهت وبقينا لا نملك جوابًا لتلك الأسئلة الحائرة.
لمَّا عدنا من هذا السفر كنت أشعر في قرارة نفسي بخجل شديد، وشعور عميق بالهزيمة النفسية، فقد أثَّرت هذه الهزيمة أمام شبان -لم يبلغوا الحلم بعد- في نفسي تأثيرًا عميقًا لا أستطيع أن أنساه أبدًا.
وفي عام (1368ش) (الموافق لـ1987م/1407هـ) التحقت بحوزة «فيضية» العلمية بـ«قم» لإكمال السنة السادسة أول الخارج.
وفي هذه المرحلة من الدراسة - أول الخارج - كنت منكبًّا على دروس الحوزة والمطالعة والتحقيق، وقد حدثت لي أمور أخرى جديرة بالذكر:
أ) في إحدى المناسبات الخاصة قدَّم طلاب الحوزة «حوزة فيضية العلمية» مقالاتهم في وصف المرحوم مصطفى خميني - ابن الإمام الخميني مرشد الثورة الإيرانية - وأنا كذلك قدمت مقالة لعلها حظيت باهتمام أكثر من مسؤولي البرنامج، فعُدَّت مقالة نموذجية، فقدَّم لي رئيس محافظة «قم» ميدالية ذهبية.
ب) وفي حفل أقيم في مسجد «جمكران» بـ«قم» بمناسبة منتصف شهر شعبان قدمت مقالةً عنوانها: «الإمام المهدي القائم» وكنت قد أوردت في نهايتها هذا الحديث (وأفضل الأعمال: انتظار الفرج)([1])، وقد حظيت باهتمام الحضور وإدارة الحفل، ففي نهاية الحفل قدم لي حجة الإسلام «توحيدي نيا» خاتمًا وزجاجة عطر كتذكار لتلك المناسبة.
كنت في تلك الفترة مهتمًا جدًا بالدراسة والتحقيق والقراءة وكتابة المقالات، مما جعلني موضع رعاية خاصة واهتمام من الأساتذة والإدارة، ولاسيما أنني استطعت خلال خمس سنوات في الحوزة العلمية بـ(قم) أن أصل إلى مرحلة «الخارج».. هذه كلها ساعدتني لأكون وجهًا متميزًا بين الطُلَّاب وفي ساحة المدرسة، وهذا كله حرَّضني للمزيد من الدراسة والتحقيق والكتابة، فكنت لا أشبع من قراءة الكتب والمقالات والبحث عن المصادر.
إلى أن حدثت لي حادثة مهمة أخرى وهي:
قدَّم لي «السيد حسين عباسي» مجموعة من المقالات أعدها علماء السُّنَّة في مدينة «جابهار» من مدن محافظة بلوشستان الإيرانية بعنوان «راز دلبران» أي: (سر العشاق) رسالة من جابهار إلى قم..
كانت هذه المقالات تتحدث عن الأصول العقائدية لأهل السُّنَّة والجماعة وعما يعتقدونه في أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يؤمنون به تجاه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد قراءة هذه المجموعة من المقالات عادت إليَّ ذاكرتي ما دار في سفري إلى منطقة «رمشك»، وبما أنني لم أكن أغمض عيوني عما يطرأ لي وعما أقرؤه، فقد أثارت تلك الرسالة عدة أسئلة في نفسي، فشعرت أنني بحاجة ماسة للرجوع إلى منبع علمي غني يستطيع أن يُشبع نهمي ويجيب عن أسئلتي الحائرة.
قمت بترتيب الأسئلة وفهرستها، وذهبت إلى إدارة حوزة «فيضية العلمية» وطرحت الأسئلة أمام سادة المراجع.
فلم يجب السادة المراجع على أسئلتي، ونصحوني بأن أراجع فيها مكتب السيد آية الله أميني نائب إمام الجمعة في قم، وكان من العلماء المشهورين في الفلسفة والمنطق، وكان أستاذًا مشهورًا.
وبإشارةٍ ومساعدةٍ من حجة الإسلام «توحيدي نيا» راجعت مكتب السيد آية الله أميني، وطلبت لقاء السيد، لكن مسؤولي مكتب السيد اعتذروا عن إمكانية اللقاء بسعادته، وذلك لكثرة مشاغله الفكرية والعلمية و.. و.. ولكنني لم أيأس واستطعت أخيرًا وبعد ثلاثة أسابيع من متابعة المكتب والإصرار عليهم أن ألتقي بسعادته، فقدمت له فهرس الأسئلة.
وبعدما أخذ ينظر في الأسئلة بدأت معالم وجهه تتغير شيئًا فشيئًا إلى أن ثار غضبه وبدأ يرتجف من شدة الغضب، ويرمي بالشتائم والكلمات القبيحة المستنكرة على كاتب هذه المقالات، وكل من ساهم في نشر هذه المجموعة وطباعتها.
بقيت حائرًا مستغربًا أمام ما أراه، فما كنت أتصور أن عالمًا كبيرًا بمكانة حضرته وقد ملأ الدنيا صيتًا وشهرة في الفلسفة والمنطق أن يثور مثل هذه الثورة الهائجة، وأن يتفوه بمثل تلك العبارات القبيحة والشتائم الغليظة السوقية!
صرخ آية الله أميني في وجهي وقال لي: اذهب واقرأ كتبي ومؤلفاتي، وإذا لم تقتنع فتعال إلى مسجد الأعظم لأجيب على استفساراتك، ويقع مسجد الأعظم في إحدى ميادين حرم السيدة المعصومة.
اغتنمت فرصة أخرى وذهبت برفقة حجة الإسلام (توحيدي نيا) إلى مسجد الأعظم، وكان يعقد آية الله أميني حلقة درسه هناك.
أذن سعادته لي أن أطرح أسئلتي، فطرحت الأسئلة مرة أخرى، فثار السيد آية الله هذه المرة ثورة أشد من سابقتها، وغضب غضبًا شديدًا في جمعٍ من طلابه، و لم يجب على الأسئلة وإنما بدأ بالهجوم الشرس على مؤلفي هذه المجموعة، وأشبعهم شتمًا وافتراءً، وقال فيهم كل قبيح كان يمكن أن يخرج من فم إنسان سوقي لا من فم عالم دين.
لم أستطع أن أتمالك نفسي أمام هذا الموقف الشنيع والمهين، فغضبت غضبًا شديدًا وصرخت في وجه السيد آية الله أميني، وقلت: أستاذ! أحبذ ألا أحضر مجالس الجهَّال بعد اليوم!!
غضب سماحته من هذا الموقف أشد الغضب، وأمر أن يقطعوا منحتي الدراسية.. كانت الحوزة العلمية في قم تقدم كفالات دراسية بين ستة آلاف إلى سبعة آلاف تومان شهريًا للطُلَّاب، وكانت هذه الكفالات تحت إدارة وإشراف من ثلاث شخصيات من المراجع، وكانت كفالتي تحت إدارة آية الله أميني، وآية الله مشكيني، وآية الله وحيد الخراساني.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة من المقالات وما حدث لي في الفصل السادس من الدراسات الدينية في حوزة «فيضية العلمية» بقم، الذي كان مصادفًا لإنهاء مرحلة الثانوية من الدراسات العصرية، وقراءاتي المتنوعة في الكتب والمصادر، كلها تعاونت في بث ثورة فكرية واعتقادية في ضميري.
هذه الأمور كلها جعلتني أرى بأن هناك عالمًا آخر غير ما نحن فيه، وأن دائرة العالم الإسلامي أوسع من دائرة «التشيع» الضيقة، ولعل هذه كانت أولى الشرارات الفكرية التي جعلتني أعيد النظر في أصول ما أعتقده من مذهب التشيع.
([1]) الأمالي للطوسي (ص:436).
نقــاط : 100245
موضوع: رد: رحلة حياتي من دياجير الظلام إلى نور الإيمان الجمعة 8 نوفمبر 2013 - 18:29
لم أزل أذكر يوم أن غادر والدي البلد - في الظاهر - لإكمال دراسته، وللحصول على شهادة التخصص في الطب، وفي الواقع إنما هو هروبًا من الجو الذي اختلقه له زميله وصديقه السابق الدكتور حكاكيان من تشويهٍ لسمعته وبث الإشاعات والافتراءات عليه.
أذكر أن إدارة الأسرة من بعد الوالد وكِلت إلى جدي، ولا أذكر من تلك الأيام شيء آخر ذي بال، إلا أنني أشعر بأن الجو في الأسرة كان جوًا مضطربًا عكرًا، يغشاه التضاد بين أفكار وتقاليد عائلتي والدي ووالدتي، وأن غياب ظِل الوالد كان في واقع الأمر صدى لتلك الاختلافات في الأفكار والأذواق، وكل هذه كانت جديرة بأن تؤثر في تربية الأولاد وأخلاق الأسرة.
ومما أذكره من تلك الأيام: يوم أن أخذت والدتي بيدي عام 1359ش(الموافق لـ1978م/1400هـ)، وسجلت اسمي في مدرسة منطقة «نياوران»، وكانت تسمى في تلك الأيام مدرسة ياسمن.
كنت في تلك الأيام صغيرًا لا أشعر كثيرًا بما يدور حولي، لكنني أذكر جيدًا أنني سعُدت كثيرًا بتسجيلي في تلك المدرسة، وكدت أطير فرحًا.
أيًا كانت الظروف.. أكملت المرحلة الابتدائية في تلك المدرسة ولم يكن يتجاوز عمري اثني عشر عامًا بعد، وأذكر جيدًا بأني في ذلك العمر كنت أجد نفسي أميل إلى الالتزام بالتقاليد الدينية والمذهبية.
لا أدري ماذا وكيف حدث؟
لكنني أذكر بأنه طرحت في الأسرة قضية إكمال دراستي في الحوزة العلمية التي تسمى «ولي عصر».
ولأنني كنت أميل إلى الجو المذهبي والالتزام الحاكم على الأسرة، كنت أشعر بمدى اهتمام والدتي بهذا الجانب، وكنت أشتاق إلى الجمع بين دروس المدرسة الإعدادية ودروس المدرسة الدينية.
وفي عام (1363ش) (الموافق لـ1984م/1404هـ) بدأت في الجمع بين دروس المدرسة الإعدادية العصرية وبين دروس المدرسة الدينية.
أنا المسمى مرتضى رادمهر، ابن الدكتور فرزاد رادمهر، ولدت عام (1351ش) (الموافق لـ1392هـ، 1972م)، في إحدى الضواحي الراقية من مدينة (طهران) عاصمة إيران.
مما أذكره من شجرة نسب أسرتي حسب ما رواه لي والدي ومما هو مشهور في العائلة: أن نسبنا يرجع إلى الأسرة المالكة من سلالة ملوك القاجار، فقد كان جد والدي حفيدًا لفخر الملوك، وهو أخو الملك القاجاري (ناصر الدين)، ولم تزل عائلة والدي تعتز بتقاليدها الملوكية مما ورثتها من الأسرة المالكة القاجارية من السنن والعادات الأشرافية، وتحاول أن تنسجم مع كل ما هو غربي أو أوروبي.
أما والدتي الدكتورة السيدة عالية الحسيني، فيرجع نسبها إلى السادات الحسينيين، وهي تعتز كثيرًا بتقاليدها المذهبية، وتلتزم بجميع العادات والرسوم الموروثة حرفيًا وإن كانت طبيبة مثقفة في الظاهر متنورة تعيش عصرها..
تتباين وجهات نظر عائلة والدي وعائلة والدتي تباينًا واضحًا، وتكاد لا تلتقي في شيء، فلكل عائلة اتجاهها الفكري الخاص، وشخصيتها الاجتماعية الخاصة بها.
أما ما جمع بين والديَّ تحت سقف واحد فحكاية ترجع إلى أيام زمالتهما في كلية الطب، فقد كان والدي ووالدتي يدرسان في كلية واحدة وفي نفس المرحلة الدراسية من نفس التخصص، وكانا طالبين متفوقين نشيطين ذكيين مجتهدين، يُحصِّلان دائمًا على المرتبة الأولى في الدراسة..
هذا التفوق العلمي والزمالة الدراسية والاحتكاك الكثير في المجتمع الجامعي أقام صلة احترام وودٍّ بينهما واستمرت الحكاية إلى أن وقفت على قصة الزواج التي جمعت بينهما في عش الزوجية.
لا شك أن الحكاية لم تكن بهذه البساطة، فالتباين في الرؤية والتفكير الساذج بين الطبقات المختلفة في المجتمع لابد أن يلعب دوره، فقد كانت عائلة الوالد تعتبر نفسها من الأسر الراقية والمثقفة ثقافة عالية ومن سادة المجتمع، ولهذا وقفت سدًا منيعًا تعارض هذا الزواج، وقد اشتد الخلاف بين الأسرتين فكل منهما تعتز بثقافتها ونسيجها، ولا ترى الثاني يضاهيها أو يماثلها، ومع كل هذا وذاك أصر الوالدان على موقفهما، وفي النهاية تم الزواج رغم جميع الموانع والمخالفات، لكن بقي ظِلال هذا التباين الفكري والمنهجي بين العائلتين؛ مما خلق جوًا فكريًا وروحيًا متوترًا ظل يؤثر في كل مواقف الأسرة وبرامجها.
حصل هذا الزواج في ظل تلك الظروف التي أشرت إليها، وبدأت الأسرة الجديدة تخطو مسيرتها في الحياة بشكل طبيعي، لكن بقيت آثار حكاية أخرى تلاحق الأسرة طوال مسيرتها، لعلها جديرة بالذكر هنا، وهي:
أنه في المرحلة الجامعية كان شخص آخر يسمى الدكتور منصور حكاكيان زميلًا لوالدتي في الدراسة، وقد كان من أقارب الأقربين لوالدتي، ويبدو أنه كان يرجو الزواج من والدتي، وقد سعى في ذلك.
ويوم أن تم زواج والدتي من والدي ذهبت أحلام الرجل أدراج الرياح، وحمل في نفسه بغضًا وحقدًا شديدًا على والدي، وكان يسعى دائمًا ليعكر الجو على والدي، فيتشاجر معه كلَّما وجد فرصة؛ لعله يستطيع أن ينتقم منهما أو يشفي غليل صدره..
كان يحاول تشويه صورة الوالد في كل المجالس والمجامع العلمية، ويثير الظنون والشكوك عليه في المجتمع الجامعي، ويحاول أن يُفسد عليه الجو بأي طريق أمكنه..
كان وَقْع هذه المواقف الرخيصة على والدي كبيرًا؛ حتى اضطر أن يتنازل عن كل النجاح الذي حققه إذا كان برفقة حكاكيان، فلقد كان عضوًا في الهيئة العلمية في الجامعة، وكان أستاذًا في كلية الطب، وباحثًا في قسم المختبر والكشف العلمي، فترك هذا كله، بل وترك البلد وسافر إلى الخارج.
ومن الأشياء الطريفة التي حصلت في تلك الفترة: أن الوالد استطاع بعد دراسات وتحقيقات كثيرة أن يصل إلى علاج لسرطان الرئة، ولما سمع الدكتور «حكاكيان» بالموضوع حاول جاهدًا أن يسرق تركيب صناعة الدواء من أبي ليسجله لنفسه، لكن كل مساعيه باءت بالفشل، فثار الحقد والكره الدفين في نفسه من يوم أن خفقت آماله في الزواج من الوالدة، فبدأ يفتري على الوالد ويسعى لتخريب سمعته والتطاول على شخصيته، ولاسيما في المجامع العلمية والجامعية.
وضاقت الأرض على الوالد بما رحبت، إلى أن اضطر في عام (1357ش) (الموافق لـ1978م، و1398هـ) للسفر إلى فرنسا لإكمال الدراسة في تخصص المخ والأعصاب.
قضى الوالد ثلاث سنوات في فرنسا، وكان قد تزوج هناك بفتاة نصرانية تسمى السيدة الدكتورة «ماريلا»، كانت زميلة له في الدراسة.
«ماريلا» كانت بنت الدكتور فريشتر (Frishter) أحد أساتذة الوالد.
سألت «ماريلا» والدي يومًا: من أين أنت؟ فأجابها الوالد بأنه من إيران.
ثم سألت «ماريلا» والدي، هل هو محمدي أو مسلم، وكان والدي يعرف أن «ماريلا» معجبة بمذهب المحمديين - أي السُّنَّة - فقال لها بأنه محمدي، فصدقت الوالد وتم الزواج.
ولكن بعد فترة من الزمن أدركت «ماريلا» بأن الوالد ليس محمديًا بل شيعيًا.
حاول الوالد أن يقنع زوجته بأنه محمدي، لكن كل محاولاته فشلت، وقالت له «ماريلا» بالحرف الواحد: إن المحمدية لا تعني أن المحمديين يعبدون محمدًا، أو أنهم جعلوه رمزًا جامدًا في حياتهم يزينون بيوتهم وحياتهم بصوره وتماثيله، وإنما المحمديون هم الذين جعلوا حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وِفقًا لما كان يقوم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ويُسمون بأهل السُّنَّة والجماعة.
وقالت لوالدي: أنتم أيها الإيرانييون تلعبون على كل الحبال، وتُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ولكم ألف وجه ووجه في الحياة..
وهكذا فُسخ هذا الزواج بعد فترة وجيزة.
بعد هذا ترك الوالد فرنسا وسافر إلى كندا، وظل يعيش في الخارج مدة اثني عشر عامًا.
طوال هذه الفترة الطويلة التي قضاها الوالد في الخارج بقي على صلة دائمة بالأسرة عن طريق الاتصالات الهاتفية، وكذلك سافرت أمي مرتين لزيارة الوالد هناك، وفي فترة غياب الوالد كان والده - جدي - يرعى شؤون البيت ويهتم بنا.
وكان الدكتور حكاكيان يزداد خبثًا على خبث، ووصل به الأمر إلى درجة أنه أكثر من مرة وبطرق مختلفة طلب من والدتي أن تطلب من الوالد الطلاق ليتزوجها هو، لكن والدتي كانت آية في الحياء والوفاء؛ مما جعلت الدكتور حكاكيان يكاد يموت غيظًا، وتفشل خططه كلها.
وفي عام (1370ش) (الموافق لـ1991م، 1411هـ)، رجع الوالد إلى طهران مرة أخرى، ودخل بقوة أكثر في المجتمع الجامعي والعلمي وبدأ يدرِّس في الجامعة.
ووصلت الدكتورة «ماريلا» - مطلقة والدي - بعدما تزوجت من رجل آخر إلى طهران لزيارة والدي، وكانت على صلة جيدة - في دائرة الشؤون الأخلاقية - مع والدي، فكل يحترم الآخر.
وكان من وفائها للوالد أنها أخذت تركيب دواء سرطان الرئة - الذي كاد يضيع بين أوراق الوالد القديمة - إلى أمريكا، وبعد دراسات مختبرية عديدة أخرجت النتائج ضمن عدة بحوث ونشر في كتاب هناك، وأرسلت الدكتورة «ماريلا» نسخة من الكتاب المزبور إلى الوالد، وكان والدي دومًا يُرجع الفضل في هذا النجاح إلى مطلقته الوفية المحترمة الدكتورة «ماريلا» النصرانية.
ولم يُسجل دواء سرطان الرئة باسم الوالد، لكنه كان يعتز دومًا أنه شارك في هذا العمل الإنساني العظيم.
إن غياب الوالد عن الأسرة والبلد طوال هذه الفترة الطويلة لم يكن أمرًا هينًا بالنسبة لنا، فقد ذاقت الأسرة الأمرين، ففي غيابه ظل الناس الذين كانوا يعارضون هذا الزواج يحفرون لنا الحفر ولا يكادون يسكتون عنَّا؛ مما جعل جو البيت جوًا متوترًا دائمًا، وجعلنا نعيش في اضطراب وحيرة، وكانت ثمرة هذا الزواج ثلاثة أولاد: ابنين وبنتًا.
وما أريد أن أقوله هنا: هو أن أسرتنا كانت مزيجًا من ثقافتين مختلفتين، بل متناقضتين تمامًا.
وبعبارة أخرى: حضارتين متعارضتين، وأفكار يناقض بعضها بعضًا، وعاداتٍ وتقاليد لا تستطيع أن تهضم بعضها بعضًا تجمعت تحت سقف واحد، فعائلة الأب كانت رمزًا للرؤية الغربية والانحلالية للحياة، وعائلة الأم على رأس الهرم في الالتزام بالتقاليد والعادات المذهبية الجوفاء، وكانت تحاول جاهدة أن تتفاهم رغم كل هذه التناقضات.
لم نكن نعاني من أي ضيق اقتصادي، بل كنَّا نعيش في مرح وحب، ولا ينقصنا شيء من متع الحياة ولا من الحب والحنان.
ومما لاشك فيه أن من أماني كل أب وكل أم أن يعيش أولادهما في سعادة وصحة، وأن يوفَّقوا في الحياة، وكانت هذه أُمنيَّة والديَّ كذلك.
كان والدي وأسرته الكبيرة يتمنون أن أُصبح طبيبًا متخصصًا مشهورًا، لكن أُسرة والدتي كانت تحرص وتصِرُّ على أن أصبح عالم دين.
وإن كنت اليوم مطرودًا من والديَّ وأسرتي وقد نبذوني بعيدًا عنهم، لكنني لا أستطيع أن أنسى تلك القُبلات الحارة التي كانت تترجم حنان والدتي العزيزة على خدي، ولا تلك النظرات التي كانت تمتلئُ حبًا وحنانًا من عيون والدي العزيز، ويعلم الله عز وجل أن لهما مكانًا في صدري، وأن قلبي يعتز بحبهما بعد حب الله عز وجل والعشق لعقيدتي وإيماني، وأنني أحبهما حب الولد البار لوالديه، حب ابن يحترق حزنًا وألمًا وهو يرى والديه ينكران ويجحدان الحق الذي معه.
وإنني آسف جدًا إذ أصبحت سببًا في أن يترك والديّ بلدهما للأبد، وأعتذر منهما أشد الاعتذار.