لما قهر المسلمون الفرس المجوس وحطموا معابد النيران ومحوا مظاهر الشرك في أرض فارس، ظلت جمرة المجوسية الوثنية تتقد في قلوب بعض المجوس فكانوا يحنون إلى مجوسيتهم ونيرانهم، فأدَّاهم ذلك إلى أن تستَّروا على مجوسيتهم بما عرِف باسم الشعوبية، وأحياناً باسم "الزندقة".
ومن أشهر من اتهموا بذلك البرامكة المشهورون في التاريخ العباسي بوزاراتهم المتعددة والمتصلة، والتي سماها المؤرخون –تجوُّزاً- بدولة البرامكة.
إلاَّ أن تلك العقيدة كانت تظهر أحياناً على ألسنة بعض شعراء الشعوبية، كما في أشعار بشار بن برد الفارسي الشعوبي.
قال الجاحظ: (كان بشارٌ يدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمم، ويصوب رأي إبليس عليه اللعنة في تقديم عنصر النار على الطين، وذكر ذلك في شعره فقال من البسيط:
الأرضُ مظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ والنارُ معبودةٌ مذ كانتِ النارُ
و يُروى أيضاً عن بعض كبراء الشعوبية -أو المتهمين بها- أنه كان إذا رأى النار تمثل بهذين البيتين:
يا دار عاتكة التي أتعزل حذر العدا والقلب فيك موكَّل
إني لأمنحكِ الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأميل
وكذلك فضَّل بشار بن برد الفارسي الشعوبي -في قصيدة أخرى- إبليس على آدم في قوله:
إبليس خير من أبيكم آدم تنبهوا يا معشر الفجار
إبليس من نار وآدم طينة الأرض لا تسموا سمو النار
إلاَّ أنه حتى تلك الشعوبية الفارسية المجوسية كانت تضيق ذرعاً بحماقات الرافضة التي لا يمكن أن يقبلَها عقل، أو يُصحَّح بها نقل، ولعل هذه القصة عن بشار الشعوبي توضِّح هذا المعنى من أن دين الرفض الرفض ليستعصي على أي عقل، حتى على تلك العقول التي اتخذت النار رباً والوثنية مذهباً.
فقد كان بشار جالساً في دار الخليفة المهدي العباسي والناس ينتظرون الإذن للدخول عليه، فقال أحد موالي المهدي لمن حضر: ما تفسيركم لقول الله عزَّ وجلَّ: (( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ ))[النحل:68]؟
فقال بشار: النحل التي يعرفها الناس.
قال: هيهات! النحل بنو هاشم.
وقوله تعالى: (( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ))[النحل:69] يعني العِلْم.
فقال له بشار: جعل الله طعامك وشرابك وشفاءك ممَّا يخرج من بطون بني هاشم!
وقال هلال الرافضي لبشار وكان صديقاً له يمازحه: إن الله عز وجل لم يذهب بصر أحد إلا عوضه منه شيئاً، فما الذي عوضك؟
قال: الطويل العريض.
قال: وما هو؟
قال: لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء، ثم قال له: يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها؟
قال: نعم.
قال: إنك كنت تسرق الحمير زماناً ثم تبت وصرت رافضياً فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير من الرفض.
والشيء بالشيء يُذكر، فإن مهيار بن مرزويه الديلمي الشاعر المشهور كان مجوسياً فأسلم على يد الشريف الرضي وهو أستاذه في الأدب والنظم والتشيع حتى صار من كبار الشعراء الروافض فكان يتعرض لأصحاب رسول الله، فقال أبو القاسم بن برهان النحوي: (يا أبا الحسن! كنت مجوسياً، فصرت رافضياً تسب أصحاب رسول الله، فما صنعتً سوى أن انتقلت بإسلامك -في جهنم- من زاوية إلى زاوية).