نكاح المتعة بين الفقه السنّي والفقه الشيعي
توطئة
علاقة الذكر بالأنثى بكل أبعادها وتفاصيلها كانت حاضرة في الخطاب الإسلامي والتشريع القرآني على وجه الخصوص، فمن لباس المرأة إلى النظر في حقوقها، والعلاقة المتبادلة بينها وبين الرجل، سواء كانت علاقة شرعية كعقود الأنكحة الأولية، أم كانت غير شرعية قد تنشأ بينهما.
وهذه التشريعات القرآنية جاءت واضحة مفصلة، سواء ما كان منها متعلقاً بالحقوق الزوجية والأسرية، كالمهور، والعشرة الزوجية، والطلاق والعِدد، أو ما كان منها متعلقاً بالحقوق الأخرى، كالميراث والولاية وغيرها، وما جاء في الحديث النبوي فالأمر فيه أكثر تفصيلاً وبياناً، وهذه التشريعات الإسلامية جاءت لتؤكد اهتمام الإسلام بالعلاقات المتبادلة بين الرجل والمرأة، وعلى قمة هرمها العلاقة الزوجية وما يصح منها وما لا يصح.
وقد جاء الإسلام بالحث على الزواج الشرعي، وحث عليه لما فيه من المصالح العظيمة، ولما فيه من السكن والمودة والنسل، ولهذا رتب الشارع على هذا العقد العظيم أموراً عظيمة ً، كالميراث والعدة وغيرها من الحقوق المتبادلة بين الزوجين.
المتعة في المدونات السنية
نكاح المتعة هو: أن يتزوج الرجل المرأة مدة محدودة، مؤقتة بوقت معين، تنتهي علاقتهما بانقضاء هذه المدة، وهذا النوع من النكاح عده العلماء من الأنكحة الفاسدة، واتفق الأئمة الأربعة على تحريمه كما نقل عنهم ذلك الإمام ابن تيمية(1)، وهذا النكاح كغيره من الأنكحة الفاسدة، والتي تقوم على إسقاط شرط من شروط النكاح أو تغيير حكم ثابت في الشرع أو غير ذلك من مفسدات عقود الأنكحة. ويفرق أهل السنة بين إسقاط شرط من شروط النكاح حتى لو كان بتراضي الزوجين؛ أو إسقاط حق من الحقوق المتبادلة بين الزوجين باتفاقهما وتراضيهما وسيأتي بيان ذلك قريباً.
والجدل الحاصل في نكاح المتعة بين أهل السنة والشيعة سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في نكاح المتعة في وقت من الأوقات ثم حرمها، فاستمر الشيعة على عدم النسخ، وأجرى أهل السنة نسخ الحكم كما صحت الأحاديث به، على أن هناك فروقاً في جوهرية انعقاد زواج المتعة على القول بجوازه عند أهل السنة والشيعة سيأتي بيانه.
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم أمرنا أن ننكح المرأة في الثوب إلى أجل"(2)، وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألا نستخصي؟" دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن يباح لهم الاستمتاع بها، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل، ثم نهى عنها عام خيبر، فقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية"(3)، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث إلى يوم القيامة، فقد جاء في صحيح مسلم أيضاً عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس، إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فيخلِّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً"(4)، وهذا التحريم كان نهائياً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-:"لا أعلم شيئاً أحله الله ثم حرمه ثم أحله ثم حرمه إلا المتعة"(5).
ومما يدل أيضاً على تحريم المتعة قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون:5-6]، في موضعين من القرآن، ولم يذكر الله تعالى زواج المتعة, ولو كان حلالاً لذكره هنا، وقال تعالى أيضا: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ﴾، إلى أن قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ [سورة النساء:25]، أي أن من لم يستطع نكاح الحرة فلينكح الأمة, ولو كانت المتعة جائزة لأرشد إليها، فهي خير من نكاح الأمة، لأن نكاح الأمة يسبب رق الأولاد منها، وخاصة بعد أن ذكر العنت وهو المشقة مع عدم الزوجة، وقال تعالى أيضاً: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [سورة النور:33]، ولو كانت المتعة جائزة لأرشد إليها حتى يتيسر النكاح المعروف, وقال تعالى في سياق تعدد الزوجات: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء:3]، فمن خاف عدم العدل فليتزوج واحدة أو يستمتع بما ملكت يمينه، ولو كانت المتعة حلالاً لذكرها الله سبحانه في هذا الموضع.
ولم يُروَ في جواز المتعة عن أحد من العلماء ممن يعتد به إلا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه-، وقد فهم ابن عباس أن الرخصة باقية للمضطر, فعن أبي جمرة قال: "سمعت ابن عباس -رضي الله عنه- يسأل عن متعة النساء فرخص فيها، فقال له مولى له: إن ذلك في الحال الشديدة، وفي النساء قلة ونحوه، فقال ابن عباس: نعم" كما جاء ذلك عند البخاري، ومع أن ابن عباس لم يحكم بإباحتها مطلقاً وأنه قال هي للمضطر، وقد قيل لابن عباس: "لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء"، يعني المتعة، فقال: "والله بهذا أفتيت وما هي إلا كميتة لا تحمل إلا للمضطر"(6).
ولكن كبار الصحابة عارضوه في قوله هذا, ولم يعتبروا فتواه، وأنكروا عليه بشدة، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد قيل له: "إن ابن عباس لا يرى في متعة النساء بأساً"، فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية"، كما جاء ذلك في البخاري، وكذلك أنكر عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ونقل الترمذي والطبراني أنه رجع عن فتواه هذه أخيراً.
وقد نقل ابن حجر أيضاً أنه رُوِيَّ رجوعه عن فتواه هذه(7), ونقل القرطبي عن ابن العربي جزمه بثبوت رجوع ابن عباس عن فتواه في المتعة(
, وذكر الترمذي بعد حديث علي المعروف في النهي عن المتعة قال: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم, وإنما روي عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة ثم رجع عن قوله، حيث أُخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم"(9).
وقد يكون ابن عباس قبل رجوعه لم يبلغه المنع، حيث كان يبيح متعة النساء ولحوم الحمر الأهلية جميعاً، كما ذكر ابن تيمية(10)، أو فهم من المنع فهماً آخر, وهذا وارد في غالب النصوص واختلاف الصحابة موجود، ولكن العبرة بما وافق النص، وقد انعقد الإجماع بعد ابن عباس على تحريمها من جمع من العلماء، وحكاه غير واحد من أهل العلم، منهم الخطابي، والقاضي عياض، وابن عبد البر، وغيرهم كثير، والعبرة بالدليل وما عليه جماعة الأمة(11).
والمتعة التي كانت في صدر الإسلام متحققة فيها شروط النكاح الشرعي المعروفة، وهي تعيين الزوجين ورضاهما وتوفر الولي والإشهاد، إلا أن نكاح المتعة يزيد عليه بتحديد مدة للنكاح وأن النكاح ينفسخ بانقضائها، وقد يلتبس نكاح المتعة المنسوخ في أول الإسلام مع ما عليه المذهب الشيعي، لكن المذهب الشيعي لا يشترط الولي ولا الإشهاد على النكاح، وهذا لم يكن موجوداً قط في الإسلام، وقد قال الإمام القرطبي: "من قال المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوماً ـ أو ما شابه ذلك ـ على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك؟! وهذا هو الزنا بعينه، ولم يبح قط في الإسلام"، وقال أيضاً وكل ما حكي عن أن نكاح المتعة قبل النسخ كان بلا ولي ولا شهود ففيه ضعف"(12).
وقد قال الله تعالى في أمر الولي: "﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ [النور:32]، وقال: ﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [سورة البقرة: 232]، ولو لم يكن للأولياء حق الولاية لما خوطبوا بذلك، وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى في هاتين الآيتين: إنهما أصرح آيتين في اعتبار الولي في النكاح(13).
وأما في السنة، فأحاديث اشتراط الولي في النكاح كثيرة، منها ما جاء في السنن عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»(14)، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج، أو زوّج أحداً بدون ولي.
وشرط الولي في النكاح، هو: مذهب الإمام الشافعي، ومالك، وأحمد، والشعبي، والزهري، وجماهير أهل العلم(15).
وأما بالنسبة للإشهاد على النكاح فمن العلماء، -كالإمام مالك رحمه الله تعالى - من صحح النكاح بغير شهود إذا أُعلن، بناءً على أن الزيادة في حديث: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» لا تصح(16)، وأن الإشهاد لا يشترط بعينه، فإما الإشهاد وإما إعلان النكاح، ولأن الحكمة من الإشهاد التفريق بين النكاح الصحيح، والسفاح المبني على الخفية، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(17).
ومن العلماء من اشترط الإشهاد كالشافعي، والمشهور عن الإمام أحمد، وجماهير أهل العلم. على أن جميع العلماء الذين اشترطوا الإشهاد أو لم يشترطوه اتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر(18)، ولذلك جاء ت الأحاديث بالأمر بإعلان النكاح حتى يفترق عن السفاح، كما جاء عن النبي صلى الله غليه وسلم: «أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدف»(19).
وعلى جميع الأحوال فالمتعة التي كانت في صدر الإسلام مع أنها قد اكتملت فيها شروط النكاح الشرعي، إلا أن الترخيص فيها جاء على نطاق ضيق، وفي السفر لا في الحضر، كما تشهد بذلك الأحاديث الصحيحة.
المتعة في المدونات الشيعية
كثرت المرويات في المدونات الشيعية حول المتعة، فمنها ما يتعلق بفضيلتها وأجر المتمتع، ومنها ما يتعلق بأحكامها، والقارئ في تلك المدونات يذهل من كثرة المرويات في أمر المتعة، حتى إنه يحتار أي المرويات أبلغ في صراحتها في الدلالة على المذهب، وهذه المرويات أشهر من أن تذكر، ولذا فسأكتفي بالإحالة عليها في الحاشية، خصوصاً ما يتعلق منها بالنواحي التشريعية ومن المدونات الشيعية نفسها.
فالمتعة عند الشيعة تختلف اختلافاً تاماً عما كان عليه الأمر في صدر الإسلام، فلا يلزم في المتعة الشيعية شهود، ولا إعلان، ولا ولي، ولا يشترط فيها عندهم سوى تسمية المهر، وذكر الأجل وصيغة الإيجاب والقبول(20).
ويجوز على المذهب الشيعي التمتع بذات الزوج! وسؤالها هل لها زوج ليس شرطاً في الصحة، وسؤالها بعد العقد مكروه(21)، ويجوز التمتع بالزانية أيضاً، كما نص على ذلك الإمام الخميني(22)، مخالفين بذلك قول الله عز وجل: ﴿الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:3]، وأيضاً يجوز التمتع بالصغيرة دون تسع سنين، بشرط عدم الإيلاج(23).
وليس للرجل حد في عدد النساء اللاتي يجوز له التمتع بهن، بل له عدد غير محصور من النساء، والمتعة عند الشيعة أقرب إلى الزنا والدعارة، منها إلى أحكام الشريعة الإسلامية، بل إن الزنا غالباً ما يكون عن عوض وعن تراضٍ بين الطرفين، فلا يمكن والحالة هذه التفريق بين الزنا وبين المتعة التي رتب المذهب الشيعي عليها الفضائل العظيمة.
وتوسعُ المذهبِ الشيعي في أمر المتعة راجع إلى اعتبارات عديدة، من أهمها والمتعلق بهذا السياق: حضور الطرح الجنسي في المدونات الشيعية بشكل ظاهر، والمتعة حلقة في هذه المنظومة الجنسية التي يفترض أن يُنزه عنها فقه آل البيت.
فالتوسع في الجانب الجنسي لدى الشيعة في مدوناتهم ظاهر، فمن ذلك إجازة المذهب الشيعي وطأ المرأة في الدبر(24)، وأما وطأ الحائض، فالأفضل أن يكفر عن وطئها في الحيض مع علمه بذلك(25)، أما الأجنبيات فيجوز عندهم النظر إلى الحسناوات من النساء(26)، ويجوز أيضاً النظر إلى نساء أهل الذمة لأنهن بمنزلة الإماء، لكن يشترط عدم التلذذ(27)، وأما النظر إلى أجساد السافرات المتبذلات فيجوز، لكن بشرط عدم التلذذ أيضاً!! ولا فرق في الحكم بين الأعضاء المنظور إليها، ولا فرق أيضاً بين الكافرات وغيرهن(28)، ولا بأس بالخلوة بالمرأة الأجنبية بشرط أمن الفساد(29)، ويجوز على المذهب الشيعي أيضاً إعارة الفرج(30).
وهذه المرويات تزخر بها كتب الشيعة، وإن كان بعض فقهائهم يضعفها، إلا أن تواردها على الفقه الشيعي سواء الشعبي منه أم النخبوي، يشكل ضغطاً لا شعورياً في التوسع في أمر الأبضاع والفروج، والميل إلى ترجيح مسائل من هذا النوع، مما يصعب على المتجرد القول به، كبعض ما ذكر من الأحكام المتعلقة بنكاح المتعة، أضف إلى ذلك مسألة حظ النفس وحب اللذة، والذي يمارس دوره أحياناً في توجيه الترجيح الفقهي إلى ما تنزع إليه الغريزة، وقد كشف بعض علماء الشيعة التصحيحيين جوانب مظلمة من الممارسات الجنسية، والتي تمارس باسم المتعة، وبممارسة فقهاء الشيعة أنفسهم(31).
موازنة:
مما سبق بيانه حول نكاح المتعة عند السنة والشيعة، يتبين لنا إلى أي حد يفترق العقدان، بل نستطيع أن نقول: هما من باب المشترك اللفظي الذي لا يشترك إلا في الاسم فقط، أما الحقيقة فمتباعدان جداً.
ومع أن الفقه الشيعي استغنى بما يرويه عن أئمة آل البيت في المتعة، إلا أنه ربما شوش على بعض السنة في إباحة المتعة في القرآن، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾[سورة النساء: 24]، على أن هذا الحرف من القرآن يبيح المتعة، وهذا الاستدلال فيه نظر، ويتبين فساد هذا الاستدلال عندما نطلع على الآية كاملة، يقول الله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النساء:24- 25]، فالأجور المقصود بها المهور، كما جاء في غير آية من القرآن، كقوله تعالى في شأن جواز نكاح الكتابيات: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة:5]، وقال تعالى أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ [الأحزاب:50]، وقال تعالى في شأن المهاجرات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة:10]، فرتب الله سبحانه وتعالى النكاح على دفع الأجور، وهي: المهور، وطريقة التقديم والتأخير جائزة في اللغة، ويكون المعنى فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن أي إذا أردتم ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة:6]، وها معروف في اللغة.
ومما يبين أن القول في الآية: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء:24]، لا يعني المتعة كما هي عند الشيعة، بل المقصود به النكاح الشرعي المعروف، ولذلك قال في الآية التي بعدها وفي نفس السياق:" فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف.." ومعلوم أن النكاح بإذن الأهل، هو: النكاح الشرعي المعروف، الذي لا ينعقد إلا بالولي والشاهدين، وأما نكاح المتعة فلا يلزم إذن الأهل، ولا يلزم الشهود والإعلان، كما مر تقريره عند علماء الشيعة. ومعنى الآية فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح، فآتوهن أجورهن، أي مهورهن فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملاً كما ذكره القرطبي(32)، أما إذا طلقها قبل أن يستمتع بها ـ أي يجامعها ـ فلها نصف الأجر أي نصف المهر كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة:237].
ولهذا فاستدلال الشيعة بهذه الآية ليس في محله، والمتعة التي كانت في صدر الإسلام كانت بولي وشهود، ولا ينعقد النكاح إلا بذلك، كما سبق بيانه والاستدلال عليه، ولم يوجد في الإسلام متعة دون ولي أو إشهاد، أما متعة الشيعة فلا يجب فيها إلا تسمية المهر والأجل، دون ولي ودون إشهاد، وكانت عدة المطلقة من نكاح المتعة، حيضة واحدة، كما هو رأي ابن عباس، وهو الذي كان يقول بها قبل رجوعه(33)، أما متعة الشيعة فالظاهر من سياق أحكامها ألا عدة فيها على المطلقة.
وبهذا يسقط ادعاء كل من ادّعى أن أهل السنة يمارسون نكاح المتعة مع حذفهم لكلمة (متعة) لما تثيره من حساسية، معتبرين أن الزواج الذي يتفق فيه الطرفان على التنازل عن بعض الحقوق، والذي أجازه المجمع الفقهي في دورته الثامنة عشرة هو زواج المتعة، وهذه مراوغة في التوصيف، تحاول تمرير التشويش، تحت غطاء التدليس(34).
أخيراً:
المتعة الشيعية لا يمكن تمييزها من الزنا، إلا بأنها مشروعة من قبل فقهائهم، ومدعمة بمرويات عن آل البيت، مع أن علماء أهل البيت والأئمة منهم أجل وأرفع من أن يجيزوا هذه الصورة البعيدة عن تشريعات الإسلام، خصوصاً المتقدمين منهم، وعلى رأسهم علي رضي الله عنه وابناه الحسن والحسن، وابناه محمد وجعفر الصادق، وهؤلاء من أكابر الأئمة، وبعضهم من رجال البخاري ومسلم، فالأولى بفقهاء الشيعة أن ينزهوا الأئمة عن هذه المرويات المكذوبة عليهم قطعاً.
مع العلم أنه قد روي عن الأئمة من آل البيت ما يحرم نكاح المتعة، ومسألة المتعة كغيرها من المسائل في الفقه الشيعي التي تتضارب فيها المرويات، فقد جاء عن الإمام الصادق في المتعة قال: "ذلك زنا"، وعن الباقر قال: "هي الزنا بعينه"، وروى الكليني بإسناده عن المفضل ابن عمر قال سمعت أبا عبد الله يقول: "دعوها، أما يستحي أحدكم أن يُرى في موضع العورة، فيُحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه"(35)، وعن الصادق أيضاً أنه سئل عن المتعة فقال: "وما تفعلها عندنا إلا الفواجر"(36)، والزيدية يظهرون القول بالتحريم، فقد جاء عن الإمام زيد عن آبائه عن أمير المؤمنين قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة"(37)، وقد أظهر الإمام علي تحريم المتعة، خصوصاً أيام خلافته، وهو مبسوط اليد ولا يمكن أن يكون ذلك تقية.
والدليل القطعي على حرمة نكاح المتعة عند أهل الدليل من الشيعة، أن الأئمة من آل البيت لم يكن واحد منهم ابن متعة، ولا أحد من أولادهم أو ذرياتهم، وذلك على امتداد مدة زمنية تصل إلى ثلاثة قرون، مع أنهم عقدوا مئات الزيجات وأنجبوا منها مئات الأولاد ذكوراً وإناثاً، وكتب الأنساب مع حرصها على ذكر الأئمة وتعداد زوجاتهم وذراريهم لم تذكر أن واحداً منهم كان ابن متعة، أو أنه تمتع بفلانة، مع أنهم كانوا ينصّون على أن أم فلان كانت حرة، أو أم ولد، ولو كانت المتعة جائزة لمارسها الأئمة، خصوصاً مع ما روي عنهم في فضائلها، كما ورد عنهم أن من تمتع أربع مرات كانت درجته كدرجة الرسول صلى الله عليه وسلم، أيضاً فإن المرويات لم تذكر عن أحد أنه تمتع بامرأة من آل البيت.
مع أنه من الملاحظ بشكل عام أن من يفتي بجواز المتعة ويعدد فضائلها لا يرضاها لبناته وأخواته، بل قد يكون طلب ذلك مما يثير الصراع ويؤجج العداوة، مع أنهم يروون فيها الفضائل العظيمة!
وعلى هذا فالمهمة تقع على عواتق علماء الشيعة في تنزيه علماء آل البيت عن الروايات المكذوبة في المتعة وغيرها، والتجرد في الترجيح وإبعاد حظوظ النفس في تتبع ما يصح من الدليل
ومما يبرر حضور القول بجواز المتعة أنه يمكن أن يوصف به نوع من إثبات الهوية، ومعروف في الفقه الشيعي وجاهة الآراء المخالفة لأهل السنة وتقديمها، فمجرد المخالفة قرينة إيجابية في الترجيح بين الروايات والآراء، وحيث إن ما اشتهر به المذهب السني من القول بحرمتها كان إثباتها من الطرف الشيعي نوعاً من المخالفة، لإثبات الهوية، أكثر من كونه تمسكاً بالدليل، ولذلك ظهرت بعض الروايات عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: " ليس منا من لم يؤمن بكرتنا ويستحل متعتنا"(38)، كنتيجة للصراع الدائر بين السنة والشيعة، طبعاً هذا يقال في اللاشعور الشيعي، فيبقى القول بجواز المتعة هو الظاهر المشهور، ونزل القول بالتحريم من المتن إلى الهامش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مجموع الفتاوى 32/107.
(2) أخرجه مسلم في النكاح باب نكاح المتعة ح (1404)
(3) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر ح(3979)، ومسلم في النكاح، باب نكاح المتعة ح(1407) وغيرهما، مع أن حديث علي مروي في المدونات الشيعية.وسيأتي بيانه.
(4) أخرجه مسلم في النكاح باب نكاح المتعة ح(1406)
(5) انظر: المغني 10/47.
(6) انظر: فتح الباري (9/171)، وانظر البيهقي في النكاح: باب نكاح المتعة (7/205).
(7) انظر: فتح الباري (9/173).
(
انظر: الجامع في أحكام القرآن للقرطبي (5/87).
(9) انظر: سنن الترمذي (3/430).
(10) انظر: مجموع الفتاوى (33/96).
(11) انظر: فتح الباري (9/173).
(12) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(5/87).
(13) انظر: حاشية الروض المربع (6/462).
(14) أخرجه أبو داود في النكاح باب في الولي ح(2083) والترمذي في النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي ح(1102) وابن ماجة في النكاح باب لا نكاح إلا بولي ح(1879)، وصححه ابن حبان 9/384 والحاكم (2/182) وابن حجر في التلخيص (2/156، 157).
(15) انظر: حاشية الروض المربع (6/262).
(16) انظر: نصب الراية (3/181).
(17) انظر: مجموع الفتاوى (32/127).
(18) انظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 20).
(19) أخرجه الترمذي في النكاح باب ما جاء في إعلان النكاح ح(1089)
(20) انظر: جامع الأحكام الشرعية (410)
(21) انظر: وسائل الشيعة للعاملي (14/457). تحرير الأحكام للعلامة الحلي (3/522، 523).
(22) انظر: تحرير الوسيلة للخميني (2/292). تحرير الأحكام للعلامة الحلي (3/519).
(23) انظر: جامع الأحكام الشرعية (405)، وقد أجاز الخمنيني ذلك ومارسه فعلياً لما كان في العراق، بل إنه أجاز التمتع حتى بالرضيعة! انظر: لله ثم للتاريخ للسيد حسن الموسوي (35).
(24) نظر: المسائل المنتخبة للسستاني (42).
(25) انظر: المسائل المنتخبة للسستاني (42).
(26) انظر نهاية المرام للسيد محمد العاملي(56،58).
(27) انظر: نهاية المرام للسيد محمد العاملي (53)
(28) انظر: المسائل المنتخبة للسستاني المسألة (404).
(29) انظر: المسائل المنتخبة للسستاني المسألة (406).
(30) انظر: المقنع للشيخ الصدوق (308)، المبسوط للشيخ الطوسي(4/246).
(31) انظر ما كتبه السيد حسين الموسوي وهو من علماء النجف في كتابه: لله ثم للتاريخ، وأيضاً ما كتبه الإمام محب الدين عباس الكاظمي في كتابه: سياحة في عالم التشيع، وأيضاً ما كتبه موسى الموسوي في كتابه الشيعة والتصحيح وغيرهم كثير.
(32) انظر: القرطبي في أحكام القرآن (5/ 129).
(33) نظر: الجامع لأحكام القرآن (5/87).
(34) انظر ما ادعاه حسن الصفار في جريدة الوطن عدد: (2049) في 12/4/1427 هـ
(35) انظر:خلاصة الإيجاز للشيخ المفيد 57، جواهر الكلام للشيخ الجواهري (30/ 151).
(36) انظر: زواج المتعة للشيخ جعفر مرتضى (2/ 133)، وسائل الشيعة للحر العاملي(21/ 30).
(37) انظر: وسائل الشيعة (21/12).
(38) انظر: من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (3/458).