أسباب وقوع العذاب على الأمم:
أسباب العذاب والمهالك التي تحيق بالمجتمعات كثيرة، ومنها:
1. الظلم والكفر:
والظلم هو تجاوز الحد، وله صور أعظمها الشرك كما قال الله: {إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، قال ابن حجر: "تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه , وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به".[فتح الباري 8/355]
ومما يوقفنا على عظم جريمة الشرك والكفر قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلاْرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً} [مريم:89-91].
قال تعالى محذراً من الشرك الذي أحل العقوبة بالأمم السابقة: {وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَـٰهُمْ لما ظلموا} [الكهف:59]. قال ابن كثير: "الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم... وكذلك أنتم أيها المشركون: احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر". [تفسير ابن كثير 4/169].
وقال تعالى يحكي عن مصارع الأمم المعذبة بسبب كفرها: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ * تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:18-20].
وقال عن قوم فرعون وغيرهم: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَـٰتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ} [آل عمران:11].
يقول ابن كثير: "فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم فقلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل" [تفسير ابن كثير 2/320].
وقد جعل الله العقوبة للأمم الكافرة سنة له في خلقه، فقال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم به أليم العقاب، يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم" [الطبري 22/146].
وقد جاءت الآيات تتوعد الأمم الكافرة بسنة الله الماضية في أهل الشرك والكفر {وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ} [الإسراء:58].
قال ابن كثير: "هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاباً شديداً إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين {وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود:101]. وقال تعالى: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَـٰهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَـٰهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8، 9]" [تفسير ابن كثير 3/47].
وهذه السنة لا مهرب منها ولا محيص عنها، إذ هي قدر الله الذي لا يغلب، وقد يؤخره الله ليبلغ أجله، لكن {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "أي: أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره" [تفسير القرطبي 14/360].
2. الطغيان وظلم العباد:
ومن الأسباب التي تحل العذاب في الأمم استضعاف العباد وظلمهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَـٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59].
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [أبو داود ح4902، الترمذي ح2511، أحمد ح19861]. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) [أبو داود ح4338، الترمذي ح2168، أحمد ح30].
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) قال ثم قرأ: {وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] [البخاري ح4409].
وحكى الله عن مصارع الأمم الظالمة الطاغية كقوم عاد وثمود وفرعون، فقال: {وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ} [الفجر:9-14]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـٰلِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ} [الأنبياء:11]. وقال: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج:45].
3. كثرة المعاصي والمنكرات وقلة الأمر بالمعروف:
ومن الأسباب التي تحل العذاب العاجل في الأمم فشو المنكرات وشيوعها، وذلك عندما تقصر الأمة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله: {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} [الأنفال:25]. وعن زينب بنت جحش أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)) [البخاري ح3346، مسلم ح2880].
يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب)) [أحمد ح2629، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 10/193].
والمنكرات إنما تفشو وتظهر حين تقصر الأمة عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصبح المعصية في المجتمع ظاهرة مألوفة، وحينها تعم العقوبة الجميع ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [ الترمذي ح2169، وقال: هذا حديث حسن، أحمد ح22790]
وعن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح4019، وصححه الألباني ح3246 ].
قال القرطبي: "وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع". [تفسير القرطبي 1/401].
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقابٍ)) [أبو داود ح3775، أحمد ح16]. قال أبو الطيب الآبادي: "قال القاري: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثر من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمهم العذاب. وقال العزيزي: لأن من لم يعمل إذا كانوا أكثر ممن يعمل كانوا قادرين على تغيير المنكر غالبًا، فتركهم له رضًا به" [عون المعبود 11/329].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة أن تغيره ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله تعالى في هلاك العامة والخاصة)) [أحمد ح،17267، الطبراني 17/138، ورجاله ثقات، قال ابن حجر: إسناده حسن، فتح الباري 13/4]. قال المباركفوري: "تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم" [تحفة الأحوذي 6/329].
قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكرين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم" [تفسير البغوي 2/241].
والعقاب الدنيوي الذي ينزل بالجميع لا يعني الاشتراك في العذاب في الآخرة، بل كل يحاسب عن عمله، فعن أم سلمة مرفوعاً: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله عز وجل بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)) [أحمد ح26056].
قال القرطبي: "فإن قيل فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم قيل يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاءا وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم))" [تفسير القرطبي10/120].
4. العتو والكبر والغرور:
والأمة العاتية المغرورة المستكبرة أمة تعرضت لعقوبة الله ونازعت الله ما يستحقه من الكبرياء والعظمة قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ * وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ} [النجم:50-52].
قال الطبري: " يقول تعالى ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم وأعظم كفراً بربهم وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم" [تفسير الطبري 27/78].
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
قال ابن كثير: "كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم. . وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم" [تفسير ابن كثير3/428].
وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم قصة بني إسرائيل عندما أصابهم شيء من العزة بالكثرة والعدد، فجاءتهم العقوبة من الله، وأصابتهم سنن الله العادلة التي تحيق بمن أصابه شيء من الكبر أو الغرور أو العزة بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطى جنوداً من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء؟ أو من يقوم لهؤلاء؟ - أو غيرها من الكلام - فأوحى إليه أن اختر لقومك إحدى ثلاث أما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم أو الجوع أو الموت، فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنت نبي الله، فكل ذلك إليك، خر لنا، فقام إلى الصلاة، كانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة، فصلى ما شاء الله.
قال ثم قال: أي رب، أما عدو من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت.
فسلط عليهم الموت، فمات منهم سبعون ألفاً، فهمسي ـ أي: همس النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في صدر الحديث ـ الذي ترون أني أقول: اللهم بك أقاتل وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [أحمد ح23972].
5. الغلو في الدين:
((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) [أحمد ح3238، ابن ماجه ح3029،الحاكم 1/456] قال المناوي: "إياكم والغلو في الدين أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها "[فيض القدير 3/125]
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) [البخاري ح6744، مسلم ح2380].
قال النووي: "المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم , وابتداعهم , فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم".
قال ابن حجر عن المسائل الوارد ذمها في الحديث: "ما كان على وجه التعنت والتكلف" [فتح الباري 13/263].
ويفسر ابن تيمية الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لما فيه، قال ابن تيمية: "فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللاً ذلك بأن سبب هلاك الأولين ما كان إلا لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء، كما يقال: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه" [اقتضاء الصراط المستقيم1/36]. ومن غلو أهل الكتاب إطراؤهم المسيح وقولهم أنه ابن الله، ومثله طاعتهم المطلقة لأحبارهم ورهبانهم.
6. كفران النعم:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
يقول الطبري في بيان معنى الآية: "ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي" [تفسير الطبري 13/186].
وحكى الله مصارع الأمم التي كفرت نعم الله فقال: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. قال المناوي: "ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما ثبتت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم، وفي الحِكم: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها. وقال الغزالي: والشكر قيد النعم، به تدوم وتبقى، وبتركه ينعقد وتتحول، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]" [فيض القدير 3/41].
وكما قال الله: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره" [ تفسير الطبري 13/121].
7. التنافس في الدنيا والشح بما فيها:
ومن أسباب العذاب الركون إلى الدنيا والتسابق فيها، وهو الداء الذي أهلك الأمم السابقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) [أبو داود ح1698، أحمد ح2753، الحاكم ح1516، ووافقه الذهبي].
قال ابن حجر: "فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين" [فتح الباري6/263].
وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)) [البخاري ح4015، مسلم ح2961]. وقال: ((إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) [البخاري ح1465، مسلم ح1052].
فبسطة الدنيا على العباد سبب طغيانهم كما قال الله: {كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ} [العلق:6، 7]. قال الطبري: "إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأن رأى نفسه استغنت" [تفسير الطبري30/253].
قال الله: {وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْق لبغوا في الأرض ولمن ينزل بقدر ما يشاءَ} [الشورى:27]. قال ابن كثير: "أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً" [تفسير ابن كثير 4/116].