إرشاد المسلمين إلى حُرمَة المماطلة في سداد الدَّين
الكاتب :محمد سعيد عواد المعضادي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، والصلاة والسلام على النبي المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً-، وبعد:
فقد ندبنا الله إلى فعل الخير، قال تعالى : )وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( 1 .
والدَّين،أوالقرض الحسن من هذا الخير ، وهو مندوب إليه في حق المقرض ، مباح للمقترض ؛ ففيه تفريج عن كربة من الكرب التي تمر بأحد من المسلمين ، قال النبي r ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة))2 فكان مندوبا إليه كالصدقة عليه ، وليس بواجب ، فلا إثم على من سئل القرض فلم يقرض .
كما إن من المعلوم عند أهل العلم : وجوب وفاء الدَّين بالموعد الذي حدده الإنسان لنفسه فيما بينه ، وبين من اقترض منه قبل حلول الأجل .
ولكنَّ كثيراً من الناس يتساهلون في الدَّين تساهلاً كبيراً ، فتراهم يشترون البضاعة ، ويطلبون من البائع أن يمهلهم حتى استلام رواتبهم نهاية الشهر ، أو نحو ذلك ، ثم يماطلون ويسوفون في سداد الدَّين ، وقد تمضي عليهم الشهور والسنون ، وهم كذلك مع مقدرتهم على قضاء الديون.
(إن ما يقوم به هؤلاء الناس من المماطلة في تسديد الدَّين ما هو إلا أكل لأموال الناس بالباطل ، قال تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (3 .
فلا ينبغي لأحد من الناس أن يتساهل في الدَّين ، وخاصة أن الإنسان قد يموت ، وعليه دَّين ، ويكون بذلك على خطر عظيم) 4؛لأن نفس المؤمن تكون معلقة بدينه كما قال النبيr (( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه))5.
وكذلك فان المؤمن يحرم من دخول الجنة إن مات، وعليه دَّينً حتى يقضى عنه ، فقد صلى رسول الله r يوماً الصبح فنادى ((ها هنا أَحدٌ من بني فُلانٍ؟ إن صاحبَكم محبُوسٌ ببابِ الجنّةِ بدََّينٍ عليه))6 وفي رواية ((إن صاحبكم محبوس بباب الجنة بدَّين عليه إن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله وإن شئتم ففكوه))7
وكذلك فالدَّين لعظمه لن يُكَفَّرُّه الله إلا بسداده ، يقول الرسول r ((يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَّين)8. وفي رواية ((القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدَّين)9.
وقد حذر النبيr الذين يأخذون أموال الناس ، ويماطلون فيها في أحاديث عدَّة ، منها قوله r:
((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ))10
((من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثمَّ دينار ولا درهم ))11.
· ((أيما رجل يدين دينا وهو مجمع أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقا))12.
والدَّين كان النبي r يتعوذ منه كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري t الذي يقول:
(دخلَ رسولُ اللَّه r ذاتَ يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يُقال له أبو أمامة، فقال : (( يا أبا أُمامَةَ ! ما لي أرَاكَ جالِساً في المَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ ؟)) قال : هموم لزمتني وديون يا رسول اللّه ! قال : ((أفَلا أُعَلِّمُكَ كَلاماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وقضى عَنْكَ دَيْنَكَ ؟ )) قلت : بلى يا رسول اللّه ! قال : (( قُلْ إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ : اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمّ والحُزن، وأعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخلِ، وأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرّجالِ )) . قال : ففعلتُ ذلك، فأذهبَ اللّه تعالى همّي وغمّي وقضى عني ديني)13.
كما أنه r كان يمتنع عن الصلاة على من عليه دَّين حتى يقضى عنه دَّينه.فعن جابر t قال : تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ ، ثُمَّ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ r لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَخَطَا خُطًى ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ ، قُلْنَا : نَعَمْ دِينَارَانِ قَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَيْنُهُ عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هُمَا عَلَيْكَ حَقُّ الْغَرِيمِ وَبَرِئَ الْمَيِّتُ ، قَالَ : نَعَمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنَ الْغَدِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ ثُمَّ لَقِيَهُ مِنَ الْغَدِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟ ، فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَضَيْتُهُمَا فَقَالَ : الآنَ بَرَدَّتْ عَلَيْهِ جِلْدَهُ14. (فَأَخْبَرَ r في هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ بَرَدَ عَلَيْهِ جِلْدُهُ)15.
حرمة المماطلة في سداد الدَّين:
ويجب أن يعلم الذين يماطلون في سداد الدَّين ، ويتلاعبون بأموال الناس:أن المماطلة في أداء الدَّين محرمة مع القدرة على الأداء ، قال رسول r مطل الغني ظلم))16 يقول الإمام النووي (رحمه الله) (والمطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغني ظلم وحرام )17.
لذا فيحرم على الغني القادر أن يماطل بالدَّين بعد استحقاقه بخلاف العاجز،و(الغني المماطل يعدُّ فاسقاً عند جمهور أهل العلم ، ويدل على ذلك : بأن منع الحق بعد طلبه ، وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب ، والغصب كبيرة ، وتسميته ظلماً يشعر بكونه كبيرة)18.
وقال بعض العلماء إن مطل الغني بعد مطالبته ، وامتناعه عن الأداء لغير عذر يعتبر من كبائر الذنوب19 ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الغني المماطل مردود الشهادة قال سحنون بن سعيد : ( إذا مطل الغني بدين عليه لم تجز شهادته لأن النبي r سماه ظالماً )20.
خطوات توئيق الدَّين :
إن الخطوات التي يجب أن يسير عليها كل من الدائن ، والمدين ، في توئيق الدَّين هي كالآتي:
الخطوة الأولى:كتابة الدَّين:
ليعلم الدائن ، والمدين أن توثيق الدَّين طاعة لله فيما أمر ،فعليهم أن يعملوا بوصيتة في آية الدَّين ، حيث يقول تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .... (إلى أن قال: )وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا(21ففي هذه الآية أرشدنا الله إلى توثيق الديون والعقود؛ حسماً للنزاع وحفظاً للحقوق وسداً لباب الخصام والفتنة، ولا فرق في هذا بين ما يقع من العقود بين الإخوان ، وما يقع بين غيرهم، بل إن الإخوان أولى بذلك سداً لذريعة قطيعة الرحم إذا ما حصل خلاف بينهم بسبب المعاملات التي لا توثيق فيها22.
الخطوة الثانية: تسمية موعد التسديد:
على المقرض كتابة الدَّين في سجل الديون بتسمية الأجل( أي يوم التسديد) ؛ لأن كتابته من غير تسمية لأجل التسديد يكون دَّيناً غير مسمَّىً ، وهذا لا يصح ، ولا يجوز شرعاً ، وهو عقد فاسد ، يقول العلامة ابن عثيمين (رحمه الله): (وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح ؛ لقوله تعالى: )مُسَمًّى ( - مثل أن أقول لك: «اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد» - وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً ، وقد قال النبي r: ((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم))23 ؛ والدَّين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد، والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية)24.
الخطوة الثالثة :
من كان عليه دين ولم يستطع سداده فالحكم الشرعي هو إنظاره حتى ييسر الله له ما يقضي به دينه، وإذا طلب المدين من أحدٍ أن يعينه في سداد الدين ولم يعطه، فقد فاته الثواب الكثير والخير الجزيل الذي وعد الله به من فرج كربة عن مسلم، خصوصًا إذا كان مقتدرًا25 ،
؛ لذا ففي حالة عجز المقترض أو المشتري عن سداد الدَّين بالتاريخ المثبت عليه في سجل الديون ، عليه أن يراجع البائع ، أو المقرض قبل يوم التسديد؛ لغرض طلب تأجيل سداد القرض الذي بذمته .
وحكم التأجيل في سداد القرض (طلب تأجيل الدَّين) رجح صحتهلب َين ته المقرض ؛ه ، حان موعد تسديده ، ولم يكن قادراً شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) ، وهو ما ذهب إليه المالكية بصحة تأجيل الدَّين ولزومه إلى أجله، سواء كان الدَّين قرضاً أو غيره ، يقول البهوتي في كشاف القناع (واختار الشيخ صحة تأجيله ولزومه إلى أجله، سواء كان الدَّين قرضاً أو غيره، كثمن مبيع أو قيمة متلف ونحوه، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ r: { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ })26.
بخلاف جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة الذين يعترضون على تأجيل الدَّين بقولهم،لكن استحب الإمام أحمد للمقرض الوفاء بوعده في التأجيل فقال: (لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ)27.
وليعلم الدائن والمدين أن : (أي زيادة في القرض، سواء كانت في مقابل تأجيل سداد الدَّين، أو كانت مشترطة قدرا ، تصبح فائدة محرمة في الإسلام )28.
وأخيراً : فاني أذكر كلَّ غني مماطل أن يتوب ، ويعطي الحقوق أهلها قبل أن يخطفه الموت فجأة ، ويبقى الدَّين في ذمته إلى يوم القيامة ، وليعمل بوصية رسولr في التوبة ، والتحلل من المظالم ، حيث يقول((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ)29.هذا ما أردت تنبيه المسلمين إلى العمل به ، والحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
الهوامش:
1 . سورة الحج: آية77 .
2.صحيح مسلم 8 / 71 الرقم 71.
3.سورة النساء الآية 29 .
4.ينظر يسألونك للشيخ د حسن عفانة 5 / 125.بتصرف.
5 .صحيح ابن ماجة 2 /53 الرقم2404 وغلبة الدَّين أي :كثرته واستيلائه..
6.سلسلة الأحاديث الصحيحة 8 / 27الرقم 3415
7. أخرجه الطيالسى ( رقم892)،والبيهقى ( رقم 11192) كذا في.جامع الأحاديث للسيوطي9/ 58الرقم 7904.
8 .رواه مسلم ، مختصر صحيح المسلم - (ج 1 / ص 358) الرقم 1088.
9 .صحيح مسلم 6 / 38 الرقم 4992.
10.صحيح البخاري 3 / 116 الرقم 2387
11.صحيح ابن ماجة 2 / 53 الرقم 2405.
12.صحيح ابن ماجة 2 / 52 الرقم2401.
13.أخرجه أبو داود (1555) الأذكار النووية للإمام النووي 1 / 94 الرقم 21..
14.رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم وقال: صحيح الإسناد ، ،ينظر صحيح الترغيب والترهيب2/168الرقم 1812.
15.ينظر السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي 6 /74 الرقم 11734.
16.صحيح البخاري3 / 118 الرقم 2400،صحيح مسلم 3 / 1197 الرقم 1564.
17. شرح النووي على صحيح مسلم 4/174-175 .
18.فتح الباري 5/372 .
19. ينظر الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي(رحمه الله) 1/570 .
20.الاستذكار 20/270
21.سورة البقرة الآية 282 .
22.ينظر فتاوى الشبكة الإسلامية9 / 3671.
23.أخرجه البخاري ( 2 / 44 ، 46 ) ومسلم ( 5 / 55 )، وغيرهما.
24 ينظر تفسير القرآن للعثيمين 5 /323.
25.ينظر فتاوى الشبكة الإسلامية 5 / 4208
26.ا كشاف القناع عن متن الإقناع 10 / 21..
27.المصدر نفسه 33 / 128.
28.فتاوى الأزهر 6 / 125.
29.صحيح البخاري 8 / 111الرقم 6534.