ما حكم من وَصَفَ النبي صلى الله عليه وسلم بالمسكين ؟
أتمنى من فضيلتكم الإجابة على هذا السؤال: كنَّا في مجلس وذكر أحد الجالسين حديثاً نصه :"اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" فقال له آخر هذا الحديث لا يصح ومن قال أن النبي مسكين يُقتل من قبل ولي الأمر,, والسؤال: ما صحة الحديث المذكور أعلاه. وهل يصح أن من قال أن النبي مسكين يُقتل؟ وجزاكم الله خيراً.
الحمد لله :
الجواب :
أولاً : سبق الكلام عن هذا الحديث ودرجته في جواب السؤال (45146) ، وبيَّنا فيه أن الحديث رواه الترمذي (2352) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
وعامة علماء الحديث على تضعيفه ، وممن ضعفه : الترمذي ، وابن الجوزي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن كثير ، والحافظ ابن حجر.
وممن ضعفه أيضاً ممن لم نذكره في الإجابة السابقة : النووي في " المجموع " (6/196) ، والذهبي في " ميزان الاعتدال" (4 / 427) ، وابن رجب الحنبلي ، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (4/218) ، وابن الملقن في "البدر المنير" (7/367) ، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" صـ154.
ومَن حسنه أو صححه من العلماء حمل معناه على المسكنة التي هي بمعنى : التواضع والخشوع لله ، لا بمعنى الفقر والحاجة .
قال ابن عبد البر : " والمسكين ها هنا المتواضع الذي لا جبروت فيه ، ولا كِبْرَ ، الهَيِّنُ ، اللَّينُ ، السَّهل ، القريب ". انتهى "الاستذكار" (2/540) .
وقال ابن قتيبة : " معنى المسكنة في قوله : ( احشرني مسكيناً ) التواضع والإخبات ، كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ، ولا يحشره في زمرتهم ، والمسكنة حرفٌ مأخوذ من السُّكون ، يقال : تمسكن الرجل إذا لان ، وتواضع ، وخشع ، وخضع ". تأويل مختلف الحديث صـ 167.
ومع وجاهة هذا الحمل إلا أن آخر الحديث يأباه ، فسياق الحديث كما في سنن الترمذي (2352) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ : ( إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا ، يَا عَائِشَةُ لَا تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
فهذا يدل على أن المراد بالمسكنة هنا : قلة المال .
قال الحافظ ابن رجب : " وقد يطلق اسم المسكين ويراد به من استكان قلبه لله عز وجل ، وانكسر له ، وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته ، وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اللهم أحييني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين )... وفي حمله على ذلك نظر ؛ لأن في تمام حديثه ما يدل على أن المراد به المساكين من المال ، لأنه ذكر سبقهم الأغنياء إلى الجنة ، مع أن في إسناد الحديث ضعفاً ". انتهى من "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" صـ20.
والحاصل : أن الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج بها بحال من الأحوال ، سواء صح حمله على المعنى الأول أم لا .
ثانياً : لا يصح إطلاق القول بأن من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بـ " المسكين " فحكمه القتل .
فهذه الكلمة تحتمل جملة من المعاني ، فلا بد أن يُستفسر من قائلها عما يقصده منها .
فإن قصد التواضع وعدم التكبر ، فهذا حق لا شك فيه .
وإن قصد " قلة المال " ، فهذا محتمل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش حياة الكفاف ، ومات ودِرعه مرهونة عند يهودي ، وكان يقول : ( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) ، وفي لفظ آخر: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا ) رواه مسلم (1055).
قال الحافظ ابن حجر : " أَيْ اِكْفِهِمْ مِنْ الْقُوت بِمَا لَا يُرْهِقُهُمْ إِلَى ذُلّ الْمَسْأَلَة , وَلَا يَكُون فِيهِ فُضُول تَبْعَث عَلَى التَّرَفُّه وَالتَّبَسُّط فِي الدُّنْيَا ". انتهى "فتح الباري" (11/275) .
قال النووي : " وَفِيهِ فَضِيلَة التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا ، وَالِاقْتِصَار عَلَى الْقُوت مِنْهَا ، وَالدُّعَاء بِذَلِكَ ". انتهى "شرح صحيح مسلم" (7 /146) .
وأما من أطلق هذه الكلمة على النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الانتقاص والازدراء والاستخفاف به ، فقد وقع في الردة الموجبة للقتل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فما كان في العرف سبَّاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء ، وما لا فلا ...
ولا شك أن إظهار التنقص والاستهانة عند المسلمين سب ، كالتسمية باسم الحمار ، أو الكلب ، أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة ". انتهى "الصارم المسلول على شاتم الرسول" صـ32.
والله أعلم