السؤال
من العلماء عندنا من يفسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري فيمن يخرجهم أرحم الراحمين بأخذه قبضة من النار فيخرجهم وفيه" لم يعملوا خيرًا قط" فأتيته بتفسير الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل حيث قال: إنما هذه اللفظة "لم يعملوا خيرًا" من الجنس الذي يقول العرب ينفي السم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لا على ما أوجب عليه وأمر به، وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي, وأيضًا في حديث قاتل المائة نفس في اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فيه بعد موته تائبًا وهو في طريقه إلى الأرض التي فيها أناس يعبدون الله ففيه قول ملائكة العذاب:" إنه لم يعمل خيرًا قط" ومع هذا لم يرجع عن قوله بأنه لم يعمل خيًرا قط أي: من الصلاة, والزكاة, والصوم, والحج, وغير ذلك مما يجرِّئ الناس على ترك الطاعات, فماذا أفعل؟ جزاكم الله خيًرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقوله صلى الله عليه وسلم: لم يعملوا خيرًا قط في الحديث المذكور، يحمل على أمرين:
الأول: أن المراد أنهم لم يعملوا شيئًا من أعمال الجوارح، ويكون هذا في حق أناس ماتوا ولم يتمكنوا من العمل, جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: وأما ما جاء في الحديث إن قومًا يدخلون الجنة لم يعملوا خيرًا قط، فليس هو عامًا لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه، وإنما هو خاص بأولئك لعذرٍ منعهم من العمل، أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة، وما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب.
والثاني: أن المراد أنهم لم يعملوا على الكمال والتمام، كما قال ابن خزيمة - رحمه الله - ويدل عليه أن هذا اللفظ جاء في أحاديث أخر، ثبت لأصحابها العمل، كما في حديث قاتل المائة، فإنه جاء تائبًا، وكما في حديث من كان يداين الناس ويُنظر معسرهم.
والأصل الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح, وإذا قام بالقلب إيمان لزم أن ينفعل البدن بالممكن من أعمال الجوارح ضرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في مجموع الفتاوى: وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجَب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة, فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجَب ما في القلب ولازمه ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضًا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه.
وقال أيضًا: ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح.
وقال - رحمه الله - في شرح العمدة: فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل، لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئًا فما دان لله دينًا، ومن لا دين له فهو كافر.
وسئل العلامة ابن عثيمين - رحمة الله تعالى - عن قول النبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقول الله - تعالى -: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرا قط . رواه مسلم، ما معنى قوله: لم يعملوا خيرا قط؟
فأجاب فضيلته بقوله: معنى قوله: "لم يعملوا خيرًا قط" أنهم ما عملوا أعمالًا صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل؛ آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيرًا قط, وإما أن يكون هذا الحديث مقيدًا بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر، كالصلاة مثلًا؛ فإن من لم يصل فهو كافر، ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين - والعياذ بالله -, فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل، فماتوا فور إيمانهم، فما عملوا خيرًا قط, وإما أن يكون هذا عامًا، ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية، على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة، فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة، ولا يخرج من النار.
والله أعلم.