القوامة تكليف لا تشريف
بقلم :أعادل بن سعد الخوفي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقول م . م : " أنا متزوجة منذ سنتين ، ولدي طفلة ، زوجي يتحكَّم في كل شيء من أمورنا ، لا أجد لي مساحة لتحقق ذاتي ، حتى أمور المطبخ كلها تحت سُلطته وقناعاته ، وأنا فقط أنفِّذ ما يريد ".
ويقول ع . م : " إذا كانت الزوجة تماثل زوجها بالمستوى التعليمي ، ولديها إمكانيات مادية جيدة، هل يسقط عنها شرعاً واجب طاعة زوجها ، لكونها مثل الرجل تفهم الأمور بصورة كبيرة".
نموذجان لشريحة من مجتمعنا، أزواج أحالوا العلاقة الزوجية؛ نديَّةً، و محاصصةً ،واختلافاً ، وفرض آراء، وتناسوا، أو غفلوا عن أن حكمة الله اقتضت أن تكون هناك أدواراً لكل منهما ؛ تضمن بقاء سفينة الأسرة وادعة مستقرة مطمئنة ناجحة .
إن للمرأة مكانة عُظمى في التشريع الإسلامي ، فقد أعلى الله مكانتها ، ورفع شأنها في كتابه ، فجعل سورة كاملة باسمها : " سورة النساء " ، وكانت وصية رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ( اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا )[1] ، ثم هي : نصفُ المجتمعِ ، وعصبُ الحياةِ ، وشقيقةُ الرجالِ ، ومربيةُ الأبطالِ ، وهي : الأختُ ، و البنتُ ، و الزوجةُ ، و الأمُّ ، وفي سعادتِها سعادةُ هذا الكونِ بأَسرِه ، وفي نجاحِها وعفافِها واستقرارها نجاحُه وعِفَّتُه واستقراره .
لأجل هذا,وغيره كان تَشريف المرأة بأن جعلَ الله لها قَيِّماً يقوم على شؤونها ، يدفع عنها ما يسوؤها ، ويعمل على تحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة ، فيقوم تكليفاً بما يُصلح حال بيته وزوجته ومن هم تحت ولايته ، قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ).[2]
وليست القوامة مغنماً للزوج ، ولا مغرماً للزوجة ، فللزوج حقوق وواجبات ، وللزوجة حقوق وواجبات ، وما من سفينة إلا ولها قائد واحد يُديرها بالتشاور والتعاون مع صحبته المرافقين له ، فللرجل إدارة أمر الأسرة ، والمرأة نائبة له ومعينة ، يلزمها طاعته والاستجابة لأوامره في غير معصية الله ، ويلزمه احترامها وحفظها وتقديرها ، فنؤمن بحكمة الله في توزيع هذه الأدوار، وهذا ما ينبغي أن يتم التوافق عليها منذ بدء الحياة الزوجية ، يقول صلى الله عليه وسلم : ( كل نفس من بني آدم سيد ، فالرجل سيد أهله ، والمرأة سيدة بيتها ).[3]
لقد كانت القوامة للرجل لأمرين :
أولاهما بما فضل الله به الرجل على المرأة ، قال تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )[4] ، فالرجل في الغالب ينظر إلى الأمور بتبصُّرٍ وعقلانية ، أكثر من المرأة التي يغلب عليها في الغالب الجانب العاطفي المتلائم من وظيفتها كأًم .
وثانيهما لكونه هو المطالب بتأمين المهر ، والنفقة ، والكسوة ، والمسكن ، وغيرها من مستلزمات الحياة المعيشية ، قال تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ).[5]
والمتأمل لكلام أهل العلم في تِبيانِ معنى قوامة الرجل على امرأته ، يجدها بحسب بُنيَة كلٍ منهما، وبحسب تركيبته المناسبة ، وهي لا تكاد تخرج عن : أن عليه تأمين المهر ، والنفقة ، والكسوة ، والمسكن ، وأن عليه حُسنُ عشرتها ، وأمرها بطاعة الله ، وتعليمها الشرائع ، مع الأخذ على يدها إن احتاجت إلى ذلك ، فهو الحاكم والأمير والمؤدب لها ، وأن عليها طاعته في غير معصية ، وحفظه ، وحفظ ماله ، والإحسان إلى أهله ، وعدم الخروج من البيت إلا بإذنه ، ولا تأذن لأحد يكرهه بدخول بيته ، ومراعاة شؤونه .
قال الشوكاني رحمه الله : " أنهم يقومون بالذب عنهنّ ، كما تقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية ، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن ". [6]
وقال ابن العربي رحمه الله : " فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَهَا ، وَيَأْمُرَهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ ، وَيُنْهِيَ إلَيْهَا شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ إذَا وَجَبَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ ، وَالْإِحْسَانُ إلَى أَهْلِهِ ، وَالِالْتِزَامُ لِأَمْرِهِ فِي الْحَجَبَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَبُولِ قوله في الطاعات ".[7]
وقال ابن كثير رحمه الله : " الرجل قَيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت ".[8]
وقال أبو جعفر الطبري رحمه الله : " الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم ".[9]
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أُمَرَاءُ عَلَيْهِنَّ، أَنْ تُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةٍ، وَطَاعَتُهُ أَنْ تَكُونَ مُحْسِنَةً إِلَى أَهْلِهِ حَافِظَةً لِمَالِهِ ".[10]
وقد جاءت المشكلات والمنغِّصات في العلاقة بين الزوجين نتيجة الضبابية أو الجهل الذي يسود طريقة التعامل بينهما ، فإنَّ القائد الناجح ( الأب ) يتميز بإشراك أفراد أسرته في اتخاذ القرارات التي تمسهم ؛ فالمشاركة تشعرهم بأهميتهم ، وانتمائهم لأسرهم ، ورضاهم واعتزازهم بأنفسهم ، وتدفعهم للإنتاج بفاعلية , ثم إن أسلوب التحاور البنَّاء والإقناع وعدم فرض الرأي المباشر ، يجعل العلاقة مع الزوجة متينة ومستقرة ، فلا يلغي شخصيتها ، ولا يجرح إرادتها ، ويعطيها مساحة لتحقيق ذاتها في إدارة بيتها ، فهو مملكتها ومُتَنَفَّسها الكبير .
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله : " إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني, ولا إلغاء وضعها « المدني » - كما بينا ذلك من قبل - وإنما هي وظيفة - داخل كيان الأسرة - لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة ، وصيانتها وحمايتها, ووجود القيم في مؤسسة ما ، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها ، والعاملين في وظائفها . فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية ، وصيانة وحماية ، وتكاليف في نفسه وماله ، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله ". [11]
والمتأمل في كلمات من عايش هذه الأجواء ، وتفيأ ظلالها ، واستنشق عبيرها ، يجد سعادة وأنساً وانسجاماً ، وهو ما عبَّرت عنه الأخت " د . ح " إذ تقول : " أنا وزوجي نشترك في اتخاذ القرارات الخاصة بالأسرة وبحياتنا معًا، لا يتخذ قراراته أبدًا بشكل فردي، وأرى أن ذلك يعد ذكاءً من الرجل، فغالبًا الذي يتخذ القرار هو الذي يتحمل مسئوليته، فلماذا يتحملها الزوج وحده، وخاصةً إذا كان لدى زوجته قدرة على الحكم الجيد على الأمور؟! وهي بهذه المشاركة لن تحمّله ما لا يطيق – من ناحية الإنفاق وغيره – فهي تعرف كل صغيرة وكبيرة عن الأسرة . "
إن العلاقة بين الزوجين يجب أن تكون علاقة مسؤولة من طرفين لا من طرف واحد، علاقة شريكين مسؤولين عن تحقيق أهداف الزواج التي شرعها الله تعالى، ومنها تحقيق أجواء المودة والرحمة التي هي سر نجاح البيت المسلم، من خلال الكلمة الطيبة، والنصيحة الدافئة، والقدوة الحسنة، والأدوار المتكاملة .
لذا نحتاج أن نحفظ لكل زوج شخصيَّته التي ارتضيناها حين ارتضيناه زوجاً، نحتاج إلى علاقة مبنيَّة على التكامل لا التصادم؛ فمعيار التكامل يعني أن يستفيد كل طرف من المهارات والصفات الإيجابية لدى الطرف الآخر، ويرى أن نجاح شريك حياته نجاح له، يسعى إلى تحفيزه، ومساعدته، وتهيئة الأجواء الإيجابية لتنمية هذه المهارات، وتوظيف هذه الصفات في بناء شخصياتهما، وتربية أولادهما.
هذا التناغم في الأدوار القيادية لدى الأسرة ، يعطيها دفئاً ومودة ، ويدفع عنها التنافر ، والخصام، والعناد ، والندية ، وهو محصور في مصلحة الأسرة المسلمة ، وحقوق الزوج ، وعبادة الله تعالى ، لا يتعدها ليمس حرمة المرأة ، أو كرامتها ، أو ذمتها المالية ، فلا يجوز مثلاً للزوج أن يأخذ مال زوجته دون رضاها ؛ فللزوجة ذمتها المالية الخاصة، وهو فعل يُؤرِّقُ الزوجة ، ويؤثِّر على المحبة، وينزع الود؛ بل ويؤثر على أمان الأسرة واستقرارها وحميميتها، فضلاً عن أن الزوج مأمورٌ برعاية زوجته والإنفاق عليها مهما كانت ميسورة الحال ، يقول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ). [12]
ولعل في سجل سيرة نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم ما يُبين روعة هذا التشريع ، وجماله ، وبهائه ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع زوجاته رضوان الله عليهن ، معاملة فيها غاية الاحترام لرغباتهن ، وأحاسيسهن ، وشخصياتهن المستقلة ؛ بل وتقدير رؤاهن وعقولهن ، والتبسط معهن ، وخدمتهن ، فعَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ : (سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ : كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ ).[13]
ولكي تبقى جذوة الحب قائمة، وليرتد شياطين الإنس والجن على أعقابهم صاغرين، وليُحقق الزواج أهدافه التي شُرِعَ من أجلها، كان لا بد من أرضية واضحة صلبة يلتقي فيها الزوجان، يتفقان فيها على خطوات تتزاوج من خلالها نفوسهم، وتتلاقح أفكارهم، وتتلاقى همومهم وأهدافهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : رواه مسلم .
[2] : سورة النساء : 34 .
[3] : صححه الشيخ الألباني . حديث رقم : 4565 في صحيح الجامع
[4] : سورة البقرة : 228 .
[5] : سورة النساء : 34 .
[6] : فتح القدير .
[7] : أحكام القرآن .
[8] : تفسير ابن كثير رحمه الله .
[9] : جامع البيان في تأويل القرآن .
[10] : تفسير ابن أبي حاتم رحمه الله.
[11] : في ظلال القرآن .
[12] : أخرجه البيهقي ، وصححه الألباني رحمهما الله .
[13] : رواه البخاري رحمه الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ