الشجرةُ الطيبةٌ ؛ ستثمر.
بقلم/أ. سارة السحيباني .
حين يغترب أحدٌ عن أهله ووطنه فيسافر بعيداً تنأى به الديار لعالم غريب لا يشعر نحوه بألفة ولا سكون، نجده يحن دوماً لأهله، يتحين الفرصة للعودة كثيراً، يحس للغربة مرارة لا تُذهبها سوى حلاوة لقاء الأهل والأحباب؛ تلك هي غربة الديار والأحباب ؛ فما بالها غربة الدين .
حين تعيش أمة لله، تخشى الله وتتقه، في بيئة تعج بالمنكرات والمغريات والملهيات, تُصعِّد النظر فتجد من حولها بعيد عن الهدى والصلاح، أباها بعيد عن الحق لا يعي من التربية سوى مأكل ومشرب, وأمها مشغولة خرّاجة ولاّجة، لا تلتفت لمراهقة عطشى، تلهث باحثة عن ما يروي عاطفتها بعلاقات محرمة؛ لتخفف شعورها بالجوع؛ وهي كعطشان يشرب ماءً شُبِّع بملح يهلكه عطشاً، ولا تلتفت لشاب قد هجر البيت، واتخذ أخِلاّء ليس همهم في دنياهم سوى سفر للخارج لإشباع غريزةٍ بطريق الحرام، إضاعةٌ للصلوات، ملاحقةٌ للفتيات، إدمانٌ للمخدرات والمسكرات، يتفطر القلب لحالهم.
أخواتها؛ عن دينهن معرضات، لا حشمة في لباسهن ولا ستر في حجابهن، علاقات محرمة، لا يجدن غضاضة في نتف حواجبهن، ظناً بأنه جمالاً، حفلات محرمة وتعري فاحش، والله المستعان ,في بيتهم يصدح الغناء الماجن من التلفاز وغيره، متابعة للمسلسلات الهابطة، والأفلام الساقطة، لا ينكرون منكراً ولا يعرفون المعروف, حين يزورهم أقاربهم؛ فلا مانع من دخول الرجال على النساء فهم كالإخوان وينعتونها؛ متشددة، معقدة، كلما فتحت فاهاً لتنهاهم عن منكر أو تأمرهم بأوامر مولاها، يسكتونها، لا يحتملوها أن تتحدث هكذا؛ فتعكر صفوهم، وتقطع متعتهم، تخيفهم، إن الله غفور رحيم دعينا نأنس بحياتنا كيفما نشاء.
غربة وما أقساها من غربة:
تنزوي في ركن قصي، تنحدر دموعها، قلبها يحترق، خوفاً عليهم، شفقة بهم، لا تعلم ما تصنع، حالهم مزري، تخبطٌ وضياع، يارب هؤلاء أهلي وسندي، أحبهم ولا أريد عصيان والداي وأرحامي، إنهم يدفعون بي لارتكاب ما حرمته دفعاً، لكنك في قلبي أكبر، ورضاك هي حياتي كلها، كن لي عوناً، لا تدعني وحدي فأغرق؛ فلا حول لي ولا قوة إلا بك , سبحانه حين قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام95] ، ينبت في الصحاري القاحلة نخلة طاب ثمارها، يفجر من بين الصخور ماءً عذباً زلالاً يروي ظمأً، وينعش أرضاً تزدان خضرة نضرة.
ولنا في رسول الله أسوة، صلوات ربي وسلامه عليه، وقبله إبراهيم عليه السلام، وغيرهم كثير، ذكرهم مولانا في كتابه تسلية لرسولنا عليه الصلاة والسلام لغربته في دعوته، وهو بين أهله وعشيرته، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغرباء) حديث صحيح, حين تستشعر تلك الطيبة أنها خلف لخير سلف، صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، وكيف ذاق النبيون الأذى من أقرب الناس لهم؛ قاسوا وتحملوا مصابهم في سبيل إنقاذ أقوامهم وأحبابهم وأهلوهم من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، يُسقى أهلها القيح والصديد، طعامهم الزقوم كأنه رؤوس الشياطين، تتفحم أجسادهم من لهب نيرانها فيُبْدلون جلوداً غير جلودهم ليذوقوا العذاب، نسأله أن يُحَرِّمنا ووالدينا ووالديهم وأهلونا والمسلمين على النار، اللهم يارب آمين.
استشعر ذلك الأنبياء فتحملوا في سبيل الدعوة أصنافاً من العذاب، يرون أقوامهم بعين الشفقة والرحمة؛ فقد عميت أبصار المعاندين عن الحق، فباتوا مكذبين بما هو مغيب عنهم من أهوال سيقبل عليها كل المخاليق، يشيب منها الولدان، وتطير منها الأفئدة، فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه يقول : (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا ضَرَبَهُ قَوْمُهُ ؛ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ : {يَا رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}) .
حين نحكي لتلك التقية النقية قصص أنبياء الله إنما ذاك لتتخذ منهم قدوة، نسليها بأن أفضل الخلق الأنبياء، وهم أشدهم ابتلاءً، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه، ويكفيها بأن الله وليها ونصيرها ولا يخذلها أبداً جل في علاه, اصطفاها لدينه، أرادها داعية لشرعه، تذود عن حماه، تحمل هم تبليغ أوامره ونواهيه، تنهج منهج الأنبياء، تسير على خطى رسولها الكريم، صلوات الله وسلامه عليه.
نعم لابد للأذى أن يصيبها؛ فقاطف الورد يؤذيه شوكها، لو لم يكن ثمة أذى لما اصطفى ربنا أنبياؤه لتلك المهمة العظيمة، ولما وعدهم أعالي الجنان, فحين تعزم على الدعوة والتغيير بعد التوكل على الله، تبدأ بالأقربين؛ فوالداها وأهل بيتها ومن قرب فالأقرب, تليّن لهم الجانب، تستحمل أذاهم، تشاركهم أفراحهم وأتراحهم، تبادرهم المساعدة من غير طلب، تبتسم في وجوههم صباح مساء, نعم، لابد وأنها تتعامل مع مخلوقات من لحم ودم، لابد وأن تتأثر، فقط مسألة وقت، تستعين بربها وتفعل الأسباب، وتتخذ السبل الموصلة للهدف، تستفيد من تجارب غيرها، خاصة فيما يتعلق بالأمور النفسية والتعامل مع الشخصيات المختلفة، تضع في حسبانها ثقل التغيير على النفس، فالاعتياد حجر عثرة، يحتاج لصبر ومصابرة، وجهد ومجاهدة.
والهداية إنما هي من الله لكن لانملك بأيدينا إلا الدلالة لها لا التوفيق إليها؛ فقد قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ} . [القصص56]
والدعاء الدعاء، خير ما لجئ إليه المؤمن، عبودية وافتقار, وإظهار عجزه للغني القادر المتفضل سبحانه، بعيد أن يخذل الكريم من دعاه ملحاً صادقاً في نجواه، لا يكل ولا يمل, فربنا يحب المُلحِّين، ومن أدام قرع الباب يوشك أن يُفتح له, وإنما الحياة جهـاد ,وفي الجـنة المستراح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ