أما بعد : فوصيتي لنفسي ولكم عباد الله هي تقوى الله سبحانه ، في السر والعلن ، والسفر والحضر ، والفرح والحزن ، في خلواتكم وجلواتكم إن الله يحب المتقين . أيها الناس : لقد ابتليت المجتمعات الجاهلية في غابر الأزمان ، برجس الأصنام والوثنية ، والخمر والميسر، والأنصاب والأزلام ، يتخرج منها رجال ونساء ، في الشرك والتضليل ، والجهالة والعبْيَّة الجاهلية ، حتى لقد أصبحت مقاصد الحج عندهم عبارة عن تجمعات مكثفة ، في سوق عكاظ، يقصدها الناس من شتى أنحاء البلاد ، وكان يقام فيها السوق ، شهر ذي القعدة نحوا من نصف شهر ، ثم يأتون بعد ذلك موضعا دونه إلى مكة ، يقال له : سوق مجنة ، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ، ثم يأتون موضعا قريبا منه ، يقال له : ذو المجاز ، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية ، ثم يصدرون إلى منى . كانت تجتمع في هذه الأسواق قبائل العرب ، ووفود ملوكهم ، بالهدايا والقرابين إلى الأصنام ، يتناشدون الأشعار ، ويفتخرون بالسلب والنهب ، وقتل الأنفس البريئة دون ما ذنب أو جريمة، ويمارسون وأد البنات إبان حياتهن ، ويعدون ذلك من المكرمات ، التي تهون دونها الحرمات. عباد الله : لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج ، مواقف مخزية ، إنما هي خليط ممزوج ، من الأضداد والمتناقضات ، يظهر ذلك جليا في بعض المواقف المتكررة ، ومن ذلك مثلا تلبيتهم في الحج، التي يخلطون معها الشرك فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . وكانت قبيلة عك إذا خرجت حاجة ، قدمت أمامها غلامين أسودين من غلمانهم ، فكانا أمام ركبهم فيقولان : نحن غرابا عك ، فتقول عك من بعدهما : عك إليك عانية ، عبادك اليمانية ، كيما نحج الثانية ، هذه هي تلبيتهم . ولقد كانت قريش ومن دان بدينها ، يقفون بالمزدلفة ، وسائر العرب يقفون بعرفات ، حتى أنزل الله على رسول ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [سورة البقرة:199]. ومن مظاهر الجاهلية في الحج – عباد الله – ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً [سورة البقرة :200]. وفي خضم الجاهلية الجهلاء يمن الرب الرحيم القادر الحليم على عباده ، بالنبي الختم ذي النفس الطاهرة ، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، فأنزلت آيات الكتاب المتلوة ، وأبلغ الرسول دعوته ، فسمع الأصم نبراته ، وأبصر الأعمى آياته ، جاء البشير النذير والسراج المنير ، فاقتلع الوثنية من جذورها واستأصل شأفتها ، بعد أن سفه أحلامهم وعاب آلهتهم في مدة من الزمن وجيزة هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [سورة الجمعة :2]. ويمن الله عليه بفتح مكة ، وتحطيم ما فيها من أصنام وأوثان ، ثم يرسل أبا بكر في السنة التاسعة حاجا ، لينادي بالناس ، ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، ثم يأتي صلوات الله وسلامه عليه حاجا في السنة العاشرة ، ليختم دعوته ، بلقاء حافل مع جموع المسلمين ، في عرصات المشاعر المقدسة ، ويقول لهم : (( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ، وفي عرصات عرفة ، في اليوم الذي أكمل الله فيه دينه وأنزل قوله اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [سورة المائدة:3]. في يوم عرفة عباد الله ، يرى الحبيب أن هذا الجمع العظيم ، وهذه القلوب الصافية الخاشعة، فرصة عظيمة ؛ لأن تعي ما سيقول لها ، من قواعد عظيمة ، ربما عدوها وصية مودع مشفق ، فيقف على راحلته ، ويخطب الناس خطبته المشهورة ، كما جاء في السنن لأبي داود وابن ماجة وغيرهما ، فكان مما قال فيها : ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمانا ، دم ابن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أضع ربانا ، ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .. )) الحديث . إن هذه الكلمات ، المنبعثة من، مشكاة النبوة ، ليؤكد المصطفى حتمية المخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية ، ويبين بذلك أن مسمى الجاهلية ، يعني أن يكون الأمر إسلاما اولا إسلام ، فالجاهلية والإسلام أمران نقيضان ، لا يمكن أن يجتمعا في نفس واحدة البتة . إن كلمة الجاهلية ، لم تكن نشازا من حديث النبي لا وكلا ، بل هي كلمة مطروقة ، تكرر ذكرها في غير ما موضع من كتاب الله وسنة رسوله ، فقد قال سبحانه أفحكم الجاهلية يبغون [سورة المائدة :50]. وقال عز وجل يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية [سورة آل عمران:154]. ويقول جل شأنه ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [سورة الأحزاب :33]. ويقول أيضا إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية [سورة الفتح :26]. ولقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : باب المعاصي من أمر الجاهلية . وذكر فيه قول النبي لأبي ذر لما عير رجلا بأمه ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) ، قال الحافظ ابن حجر : إن كل معصية تؤخذ ، من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية . وعن ابن مسعود قال :قال رجل : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال : ((من أحسن في الإسلام ، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر )) رواه البخاري ومسلم . وقد قال ثابت بن الضحاك : نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة ، فسأل النبي : ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ )) قالوا :لا ، قال : ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ )) قالوا : لا ، فقال رسول الله : ((أوف بنذرك …)) الحديث ، [رواه أبو داود] . فيؤخذ من هذا الحديث وغيره – عباد الله – التحذير الشديد من أمور الجاهلية ، أو مشابهة أهلها ، في أي لون من ألوانها ، كيف لا ورسول الله يقول : (( ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع )) ، ولو لم يكن من ازدرائها وشناعة قبحها ، إلا حكم النبي بأنها تحت قدميه لكفى . لقد أكد رسول الله مخالفة ما عليه أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين ، مما لا غنى للمسلم في أن ينبذها وينأ بنفسه عن الوقوع في هوتها ، وأن ينسل بنفسه ، عن أشدها خطرا وآكدها ضررا ، وهو عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول ، ناهيكم عما ينضاف إلى ذلك ، من استحسان ما عليه أهل الجاهلية ، الذي تتم به الخسارة والبوار كما قال تعالى والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون [سورة العنكبوت :52]. أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرهاً وإليه يرجعون [سورة آل عمران :83]. عباد الله : إن مسائل الجاهلية برمتها ، قد بسطها أهل العلم في كتبهم ، وسطروها بأقلامهم وألسنتهم ، حتى لقد أوصلها بعضهم إلى مائة وثلاثين مسألة ، وهي إلى الثلاثمائة أو تزيد أقرب . وإن من أعظم التشبه ، بما كان ، عليه أهل الجاهلية ، وأكثرها إيقاعا للخلل في دين الناس ودنياهم ، أمورا ثلاثة : أولها : أن كثيرا من الناس يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته ، يريدون شفاعتهم عند الله في حين أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ؛بل إنهم لأحوج إلى عفو الله ورحمته من أولئك الذين يدعونهم ؛ كما قال سبحانه أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [سورة الإسراء:57]. وهذه – عباد الله – هي أعظم مسألة خالف فيها الرسول ما كان عليه أهل الجاهلية ، وعندها بدت بينه وبينهم العداوة والبغضاء أبدا حتى يؤمنوا بالله وحده ، ومن هنا افترق الناس إلى مسلم وكافر ، ولأجل هذه القضية العظمى شرع الجهاد في سبيل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [سورة البقرة :193]. وثاني الأمور الثلاثة : هو أن أهل الجاهلية ، متفرقون في دينهم ودنياهم ، وهم في ذلك فرق وأحزاب ، كل حزب بما لديهم فرحون ، كل منهم يرى أنه على الحق دون سواه ، فمحق الخير ، وأحيي الشر ، حتى أصبح المرء لا يعرف إلا نفسه ، ولا يهتاج بالفرح والحزن ، إلا لما يمسه هو من خير أو شر ، فماتت العاطفة ، وقل الاكتراث المبتوت الصلة ، بمشاعر الأخوة الإسلامية العامرة . فجاء الإسلام ودعا إلى الأخوة الدينية وتلا رسول الله قول ربه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [سورة الشورى :13]. وتلا قول خالقه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء [سورة الأنعام:159]. ويعلن المصطفى قولته المشهورة : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) رواه مسلم . ويكون بذلك مؤكدا أخوة الدين ، التي تفرض تناصر المؤمنين المصلحين ، لا تناصر العبية العمياء ، والجاهلية الجهلاء ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإجارة المهضوم ، وإرشاد الضال ، وحجز المتطاول ، وهذا كله هو ثمرة قول المصطفى : ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما )) رواه البخاري . إن الله سبحانه رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ، فهم جميعا من جهة التمثال أكفاء، أبوهم آدم وأمهم حواء ، وإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به ، فهو الطين والماء ، ليجعل الله من هذه الرحم ، ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق العرى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [سورة الحجرات:13]. إنه التعارف لا التفاخر ، والتعاون لا التخاذل ، وأما الشرف والرفعة فإنما هو في قوة الدين ، وتمكن التقوى من قلب العبد ، في إزالة الفوارق البشرية ، فرسول الله من أشراف قريش ، يقف مع الناس ويقول لقومه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [سورة البقرة :199]. تحقيقا للمساواة بين المسلمين ، وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل من عامة الناس ، فيأتي رسول الله ويزوج ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ، من مولاه زيد بن حارثة ، ويقول عن رجل من أصحابه: ((يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه )) ، وقد كان حجاما ، رواه أبو داود والحاكم إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10]. |