أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السراء والضراء، وفي الخلوات والجلوات، ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. أيها الناس، إن الناظر المتأمل، في تاريخ الأمم والشعوب، ليعجب أشد العجب ولتأخذه الحيرة أخذا مسرعا، لما يظهر له مما يطرأ على الأمم والشعوب، من التغيرات والتقلبات، أمة قائدة رائدة، دهورا مديدة من الزمن، تعثر ركابها فسقطت رايتها، فإذا هي في مهاوي التقليد الأعمى، تتبع آثار الأمم سواها في كل نهج وسلوك، على حين أنها أمة في أعلى مراقي الحياة، وأوج العزة والقوة، إذا هي تتدهده في الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد، تموت بعد حياة، وتسفل بعد علو، وتذبل بعد إزهار. كانت قد وردت مناهل هذا العلم، وتلك الحضارة الإسلامية البريئة، فصدروا عنها بملء سجلهم، وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم، إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم، وظهر من مشكاة الغرب مصابيح محرقة، فكأنما حيل بينهم وبين مصدر الرفعة الأسبق، وتسلط على عضدهم لسان من يعرف ((من أين تؤكل الكتف)). فأخذ المسلمون عنهم رسوما هي من حضارتهم مسترقة، وعلقوا أشنانهم بطبقاتهم، فوافق شن طبقه، فيالها من غنيمة باردة! لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، ولم يزحف إليها بعدو عَيْدِيَّة، ولا بلحاق لاَحِق، وانسكاب سَكاَب [1]. أيها المسلمون، المقلد المحاكي لأهل الكفر والشرك إنما هو أذن وعين ولسان وقلم لنهجهم وفكرهم، يصلح بإفساد، ويداوي الحمى بالطاعون، فهو (كغاسل الحيض ببول أغيرا) ويعمل بتبعيته المهزومة ما يشبه قطع ثدي الأم، وهو في شفتي رضيعها المحضون. وما علم هذا الغِرُّ وأمثاله أن التقليد الأعمى للغرب، فيه ألغام مخبوءة، وأن حقوقنا ومروءاتنا مقتولة بتقليد أعمى، وغرور بليد. أيها المسلمون، قال رسول الله : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) رواه البخاري ومسلم [2]. وللبخاري عنه أنه قال: ((لا تقوم الساعة، حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟))[3]. فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم. كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰدًا فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلَـٰقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَـٰقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ [التوبة:69]. قال ابن عباس : (ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم). وقال ابن مسعود : (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟). عباد الله، لقد كان النبي ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة؛ بل قد تواتر عنه أن طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة. فالمسلمون هم أهدى الناس طريقا، وأقومهم سبيلا، وأرشدهم سلوكا في هذه الحياة. وقد أقامهم الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. وإن هذا المقام مقامٌ عزيز كريم، كيف يتناسب معه أن يكون المسلمون أتباعا لغيرهم من كل ناعق؟ يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم، ورسول الله نهى المسلمين جميعا أن يتلقوا عن أهل الكتاب. فعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى إلى النبي بكتاب أصحابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه أحمد وابن أبي شيبة [4]. إن الله تعالى جبل بني آدم بل وسائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط؛ ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، بل إن الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه؛ ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة والوقار في أهل الغنم، وصار الجمالون البغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس، من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة. وإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم؛ لأن المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدرج الخفي، وهذا ما يشهد به الواقع، فضلا عن بيان الشرع وموافقة العقل، وقديما قيل: (الطيور على أشكالها تقع)، وهذا مثل صحيح، يوافق سنة الله في خلقه، وصدق رسول الله حيث يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داود [5]. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وقد رأينا اليهود والنصارى، الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام. عباد الله، إن التشبه بأهل الكفر والشرك في أزيائهم وعاداتهم وأحكامهم وسياساتهم واقتصادهم قد جرى في كثير من أوساط المسلمين جريان الدم في العروق، وسرى سريان النار في يابس الحطب، بل ولربما صار المتفرنج المحاكي موضع إجلال الدهماء وإكبارهم، يحتذيه لهازم الناس وأغرارهم، حتى يساير ذلك كله الغوغاء من أبناء هذه الأيام، مترفهم ومثقفهم، بل وحتى من كان على فراش الإملاق منهم. أفٍّ للتقليد والتبعية! ما أثقل أغلالهما! وما أشد عتمة مسالكهما! وما أبخس صفقة الذين لا يتزحزحون عنها! نعم، أف ثم أف، للتقليد ومسايرات الغرب! فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة، من التبعية الماحقة، وحجبت عنهم أنواع التفكر والتبصر والعزة، وغممت عليهم مطالع السعادة الحقيقية للنفوس. أف ثم أف للتقليد والتبعيات! فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول، تزج بها في مهاوي العدم، أو تذرها في سجن أقفر، ممنوعا عنها كل ما يحييها. إن الأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، ويجب ألا تغتر بما تراه من زخرف الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عراها وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوٰجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [طه:131]. وإن حضارة الغرب، كالسراب، الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد، كأنه بحر طام وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْانُ مَاء حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ [النور:39]. ألا فليعلم الضعفاء والمغفلون منا، الذين يحاولون في تبعيتهم أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد، ينتزعونه من المدنية الغربية، ألا فليعلموا أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وإذا كان البعض يشعر في قرارة نفسه أنه لابد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ، أعظم ما يصلح لنا من التغير، وما نصلح به منه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]. إننا إذا أخذنا في أسباب القوة، وتمثلت فينا الأخلاق المتينة، من الإرادة والتقوى والإقدام، والحمية الإسلامية، وإذا جعلنا لنا صبغة خاصة تميزنا عن سوانا، وتدل على أننا أهل دين وخلق، إذا كان ذلك كله، فلعمر الله، أي ضير في ذلك كله، وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الحقة، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ [البقرة :138]. أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]. وأما أن نأخذ من الغرب الكافر عادات وطبائع أجنبية عن ديننا، فلنتذكر أن الإسلام إسلام، وأن الكفر كفر، وأن القوم في نصف الأرض، ونحن في نصفها الآخر، ولقد كنا سادة قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا فيها ومن أثرها في المجتمعات المسلمة الحرة ما أفسد رجولة بعض رجالها وأنوثة بعض نسائها خاصة، لأنهن يندفعن اندفاعا محموما وراء المجهول، في حلبة التقليد الأعمى، لقد راعهن من الغرب بريق مصانعه وطرافة منتجاته، فرضين بالسير وراء الهابطات من نسائه، حتى أصبحن لا يرضين عن أثوابهن إلا بمقدار انطباقها على نماذجهن، الواردات في أزياء نساء الغرب وأشباههن، فإذا رأيت ثوب إحداهن كاسيا يستر بعض العورة، فاعلم أنه صورة من ذلك الأنموذج الجديد. قال عنهن المصطفى : ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن)) رواه البخاري ومسلم [6]. ولما أنشده الأعشى أبياته التي يقول فيها: ((وهن شر غالب لمن غلب)) جعل النبي يرددها ويقول: ((وهن شر غالب لمن غلب)) رواه أحمد [7]. ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]. وقال: فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـفِظَـٰتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ [النساء :34]. أيها المسلمون، إن القيود التي يفرضها الدين على الإنسان، لا يريد بها عذابه ولا حرمانه، إنما يريد بها أن يرتفع بها من الحيوانية الهابطة، إلى الإنسانية الصاعدة، وبذلك ينتصر المسلم على التبعية التحررية، ويتغلب الإيمان والتقوى على الشهوة البَهَميَّة السبعية، وإن كل مجتمع يخرج على هذه القيود أو يهون من شأنها، فإنه يعرض نفسه للخطر ويقرب بها من حافة الهاوية وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [البقرة:229]. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [القصص:50]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
[1] لاحق وسكّاب فرسان للعرب مشهوران ، والعيدية هي النوق النجائب ، منسوبة إلى بني العيد. [2] صحيح البخاري ح (7320) ، صحيح مسلمح (2669). [3] صحيح البخاري ح (7319). [4] حسن ، مسند أحمد (3/338) ، مصنف ابن أبي شيبة (6/228). [5] صحيح ، مسند أحمد (2/50) ، سنن أبي داود (4031) ، وانظر فتح الباري (10/274). [6] صحيح البخاري ح (304) ، صحيح مسلم ح (79). [7] مسند أحمد (2/201-202) . قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (ح6885) : إسناده صحيح. |