أما بعد: أمة الإسلام: لقد كانت وفاة النبي – - مصيبة حلت بكل مسلم. وللمصائب سلوان يهونها وما لما حل بالإسلام سلوان روي عن النبي – - أنه قال: ((أن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد من مصيبتي)) يعني مصيبته بموتي، رواه ابن ماجة [1]. اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد وإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مصابك بالنبي محمد نعم أيها الإخوة إذاً! كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة رسول الله – - فكيف بقلوب المؤمنين؟!. لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه النبي – - قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه، وصاح كما يصيح الصغير حتى تصدع وانشق، فنزل النبي – - من على المنبر فاعتنقه، فجعل يهدؤه كما يهدئ الصبي، وقال: ((لو لم أعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة))[2]. حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان كان الحسن إذا حدث بهذا بكى، وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله – - فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. جعل النبي – - في آخر عمره يعرض باقتراب أجله. فإنه لما خطب في حجة الوداع، قال للناس: ((خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا))[3]. وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع. ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس فخطبهم وقال: ((أيها الناس: إنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب))[4]. وعن أبي سعيد الخدري – - قال: خرج رسول الله في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر فقال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها، فاختار الآخرة))، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر – - فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا يا رسول الله. ثم هبط رسول الله من على المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة))[5]. ورأى العباس بن عبد المطلب – - عم النبي – - في المنام كـأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان [6] شداد – يعني حبال – فقصها على رسول الله – - فقال: ((ذاك وفاة ابن أخيك)) رواه الطبراني [7]. كل هذا توطئه لوفاة النبي – -. بدأ المرض برسول الله – - في أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما أو قريبا من ذلك. وكان أول ما ابتدئ به رسول الله – - من مرضه وجع رأسه، وكان صداع الرأس يعتريه كثيرا في حياته، ويتألم منه أياما. وفي مرضه اشتدت عليه الحمى، فكان يجلس في مخضب، ويصب عليه الماء من سبع قرب، يتبرد بذلك. وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على القطيفة، ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه، ثم يفيق. قالت عائشة – رضي الله عنها – ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله – - [8]. واشتد عليه الوجع ليلة الاثنين، وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت)). قالت عائشة رضي الله عنها: وكان يقول: ((لا إله إلا الله، وإن للموت لسكرات))[9]. وفي حديث معضل أنه قال: ((اللهم أعني على الموت وهونه عليّ))[10]. لما ثقل النبي – - جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة – رضي الله عنهما-: واكرب أبتاه! فقال لها: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم))[11]. ولم يقبض رسول الله- - حتى خير بين الدنيا والآخرة، غشي عليه ساعة، وهو على فخذ عائشة – رضي الله عنها – وكانت تنظر إليه متحيرة حبيبها بين يديها يموت، ولا تملك له نفعا، ولا تدفع عنه ضرا. ثم أفاق، فاشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))[12]. فاختار لقاء ربه. وأصابته بحة شديدة، وقال: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء:69]. اختار رسول الله – - الآخرة على الدنيا، وأحب لقاء ربه. والله لو أنك توجتني بتاج كسرى ملك المشرق وقلت لي: لا نلتقي ساعة اخترت يا مولاي أن نلتقي قال عبد الله بن مسعود – -: نعي إلينا حبيبنا ونبينا – بأبي هو ونفسي له الفداء – قبل موته بست، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت آمنا عائشة – رضي الله عنها – فنظر إلينا فدمعت عيناه. رواه البزار [13]. حق والله لتلك العينين أن تدمع، إنها صعوبة الفراق والنأي عن الأحباب. ومدت أكف للوداع تصافحت وكادت عيون للفراق تسيل وفي أيامه الأخيرة وقد عصبت رأسه قال للفضل: خذ بيدي فأخذ الفضل بيد النبي حتى انتهى إلى المنبر ثم قال للفضل: صح في الناس فلما اجتمعوا، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ((يا أيها الناس إني قد دنا مني أجلي فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله – - ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حق إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ألا وإني لا أرى ذلك مغنيا عني حتى أقوم فيكم مرارا)) رواه الطبراني [14]. وكانت وفاته – - في يوم الاثنين ثاني عشر من شهر ربيع الأول. وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر، فهم المسلمون أن يفتتنوا من فرحهم برؤيته حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحب، وظنوا أنه يخرج للصلاة، وأنه شفي من مرضه، جعل النبي – - ينظر إليهم وهم ينظرون إليه. إنها النظرات الأخيرة، نظرة الوداع. هممت بتوديع الحبيب فلم أطق فودعته بالقلب والعين تدمع فأشار إليهم النبي – - أن مكانكم ثم أرخى الستر وتوفي رسول الله – - حين اشتد الضحى من يوم الاثنين. وروي أن ملك الموت استأذن النبي – - في قبض روحه، فقال: ((امضِ لما أمرت به)) فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! هذا آخر موطئي من الأرض وجاءت التعزية يسمعون الصوت ولا يرون الشخص كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [آل عمران:185]. إن في الله عزاء من كل مصيبة. وكانت وفاته – - في يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول بغير خلاف، والمشهور أنه كان ثاني عشر ربيع الأول. ولما توفي رسول الله – - اضطرب المسلمون؛ فمنهم من دهش فخولط؛ ومنهم من أقعد فلم يطق القيام؛ ومنهم من أعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية من شدة وجده عليه. بلغ أبا بكر الصديق – - الخبر، فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة – رضي الله عنها – ورسول الله – - مسجى، فكشف أبو بكر عن وجه رسول الله – - وأكب عليه، وقبل وجهه مرارا وهو يبكي، ويقول: وانبياه! واخليلاه! واصفياه!. إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله. فلو أن رب العرش أبقاك بيننا سعدنا ولكن أمره كان ماضيا ودفن رسول الله – - ورجع أصحابه بعد دفنه. لئن رجعت عنك أجسامنا لقد سافرت معك الأنفس فقالت فاطمة – رضي الله عنها -: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله – - التراب ؟ [15]. لبيك رسول الله من كان باكيا فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا جزى الله عنا كل خير محمدا فقد كان مهديا وقد كان هاديا وكان رسول الله روحا ورحمة ونورا وبرهانا من الله باديا وكان رسول الله بالقسط قائما وكان لما استرعاه مولاه راعيا وكان رسول الله يدعو إلى الهدى فلبى رسول الله لبيه داعيا أينسى رسول الله أبر الناس كلهم وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا أينسى رسول الله أكرم من مشى وآثاره بالمسجدين كما هيا تكدر من بعد النبي محمد عليه سلام كل ما كان صافيا وبعد موت النبي – - دخل أبو بكر المسجد، وعمر يكلم الناس، وهم مجتمعون عنده، وهو يقول من شدة وجده على النبي – -: إن محمدا لم يمت. فتكلم أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر. فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وتلا: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران:144]. فاستيقن الناس بموت النبي – - وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل، فتلقاها الناس، وجعلوا يتلونها. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
[1] رقم (1599)، ضفعه البوصيري في الزوائد (578) وعزاه لابي يعلى الموصلي في مسنده . [2] أحمد (1/249)، وابن ماجة (1415)، والدارمي (1/19) ، والطبراني (12/187)، غيرهم . وصححه ابن كثير وانظر طرقه عنده في البداية : 6/131 فما بعد وكذا الالكائي : 4/797 . وقال البوصيري في الزوائد (500): اسناد صحيح رجاله ثقات . وعزاه لاحمد بن منيع في مسنده وعبد بن حميد والحارث ابن ابي اسامة . وانظر رقم (501). [3] جزء من حديث جابر الطويل رواه مسلم (1297). [4] مسلم (2408). [5] أحمد (3/91) ، وابن حبان (593)، الإحسان ، وابو يعلى (1155)، والدارمي (87) وانظر صحيح البخاري (3904)، ومسلم (2382). [6] الشطن :الحبل. [7] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/24): رواه البزار الطبراني ورجالهما ثقات . [8] البخاري (5646)، ومسلم (2570)والنسائي وابن ماجة كما في تحفة الأشراف :12/307. [9] انظر جامع الاصول لابن الاثير الجزري :11/64. [10] قال العراقي في تخريج للإحياء(3930) : رواه ابن ابي الدنيا في كتاب الموت من حديث طعمة بن غيلان الجعفي وهو معضل سقط منه الصحابي والتابعي . [11] البخاري (4462)، وابن ماجة (1629)، والدارمي :1/41، من حديث أنس – - . [12] البخاري (4437)، ومسلم (2444)،واحمد:6/89. [13] انظر قول البزار فيه في مجمع الزوائد :9/25، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وهو ثقة . رواه الطبراني في الاوسط بنحوه . [14] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/26): رواه الطبراني في الكبير والاوسط وأبو يعلى بنحوه … وفي إسناد أبي يعلى عطاء بن مسلم، وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جماعة ، وبقية رجال أبي يعلى ثقات وفي إسناد الطبراني من لم اعرفهم . اما قصة القضيب والقصاص من رسول الله – - فباطل . انظر مجمع الزوائد للهيثمي (9/31) قال : رواه الطبراني وفيه عبد المنعم بن ادريس وهو كذاب وضاع . [15] البخاري (4462)، وابن ماجة (1629)، والدارمي :1/41 ، من حديث أنس – - . |