الآثار الواردة في موقف اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: الآثار الواردة في موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم
المطلب الأول: الآثار الواردة في موقف اليهود قبل الهجرة
تعاونهم مع قريش
الآثار:
قولـه تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)} [سورة النساء 4/51]
7735- حدثنا ابن حميد قال: ثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: الجبت كعب بن الأشرف والطاغوت: الشيطان كان في صورة إنسان. ([1])
7736 - حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا ابن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر 108/3] وأنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ}إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [سورة النساء 4/53]
7740 - حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق عمن قاله قال: أخبرني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع صلى الله عليه وسلم والربيع بن أبي الحقيق صلى الله عليه وسلم وأبو عامر ووحوح بن عامر وهوذة بن قيس؛ فأما وحوح وأبو عامر وهوذة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ} ([2])
17230 - حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما - فيما يروي أبو جعفر الطبري - قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا : إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول.... قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [سورة الكهف 18/1] يعني محمداً إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوته {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قِيَماً} أي معتدلاً ، لا اختلاف فيه. (باختصار) ([3])
الدراسة:
لا شك أن اليهود يعلمون بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الروايات الكثيرة، ففي ترجمة بحيرا الراهب عند ابن حجر قال: إن أبا طالب خرج في ركب تاجراً إلى الشام فخرج رسول صلى الله عليه وسلم معه، فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان إليه علم النصرانية فلما نزل الركب وكانوا كثيراً ما ينزلون فلا يكلمهم، فرأى بحيرا محمداً صلى الله عليه وسلم والغمامة تظله، فنزل إليهم وصنع لهم طعاماً وجمعهم عنده، فتخلف محمد صلى الله عليه وسلم لصغره في رحالهم، فأمرهم أن يدعوه فأحضره بعضهم، فجعل بحيرا يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها عنده من صفته، فلما فرغوا جعل يسأله عن أشياء من حاله وهو يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه فأقبل على عمه فقال: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه من يهود فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده، ويقال إن نفراً من أهل الكتاب رأوا منه ما رأى بحيرا، فأرادوه فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم لا يستطيعون الوصول إليه، فلم يزل بهم حتى صدقوه ورجعوا، ورجع به أبو طالب إلى بلده بعد فراغه من تجارته بالشام. ([4])
وكذلك اليهود من أهل يثرب كانوا يتوعدون الأوس والخزرج بمقدمه صلى الله عليه وسلم ومن أدلة ترائيهم له صلى الله عليه وسلم ما قاله حسان بن ثابت _: ((والله إني لغلام يفعة ابن سبع أو ثمان سنين، أعقل ما سمعت، إذ سمعت يهودياً وهو على أطمة يثرب يصرخ يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا قالوا: ويلك ما لك؟ فقال: قد طلع نجم الذي يبعث الليلة.)) ([5])
ومثل ذلك يحدث في مكة ويحاول اليهود اختباره صلى الله عليه وسلم لتبين أمره أو إحراجه فقد روى ابن مسعود _ قال: ((مرّ يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي، فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي، قال: فجاء حتى جلس ثم قال: يا محمد مم يخلق الإنسان؟)) قال: ((يا يهودي من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم. فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول من قبلك.)) ([6])
ومع ذلك لما بعث في مكة وبان أنه من العرب ولم يكن منهم، ناصبوه العداء، وتمثل ذلك في صور كثيرة تتبين من الروايات التي ذكرت معاونة اليهود مع قريش في إخراجه وتلبيس أمره على الناس، والشهادة بأن أمر قريش أهدى منه سبيلاً كما مرّ في الآثار السابقة، وخاصة اعتقادهم أنه سيصعب عليه إجابة الأسئلة، ولذلك استبشروا مع قريش لما فتر الوحي ولم يؤمنوا لما نزلت الإجابة.
المطلب الثاني : الاثار الواردة في موقف اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة
المسألة الأولى: سوء الاستقبال
الآثار:
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [سورة البقرة 2/89]
1254 - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة، يعني: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قالوا: كنا قد علوناهم دهراً في الجاهلية، ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبياً الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم! فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. يقول الله: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}. ([7])
1255-حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا! فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. ([8])
1256 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما : {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب - يعني بذلك أهل الكتاب - فلما بعث الله محمدا ً صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه. ([9])
1257 - وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي في قول الله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: اليهود، كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس؛ {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون به على الناس. ([10])
1265 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله عز وجل : {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} قال: كانت يهود يستفتحون على كفار العرب يقولون: أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى أحمد لكان لنا عليكم. وكانوا يظنون أنه منهم والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به ويستنصرون به {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} وحسدوه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: {كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [سورة البقرة 2/109] قال: قد تبين لهم أنه رسول، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبياً خارج. ([11])
الدراسة:
كان اليهود في المدينة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله، وخاتم الأنبياء، وأنه ما جاء إلا بالدين الحق لجميع الناس، ولكن هذه المعرفة لم تكن لتهديهم إلى الحق واتباعه، بل على عكس ذلك، كانوا أول من عاداه، وأضمر الشر له صلى الله عليه وسلم وللإسلام والمسلمين، وهم الذين كان حديثهم في التبشير به كما روى عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال سمعت أبي مالك بن سنان يقول: ((جئت بني عبد الأشهل يوماً لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبي يقال لـه أحمد يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزيء به: ما صفته؟ فقال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره، قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع فأسمع رجلاً منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده كل يهود يثرب يقولون هذا، قال أبو مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة فأجد جمعاً فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الزبير بن باطا قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلى لخروج نبي أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد وهذا مهاجره، قال أبو سعيد: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود، إنما هم له تبع.)) ([12])
والزبير هذا هو أعلمهم بقدومه صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول: "إني وجدت سفراً كان أبي يختمه علي، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ، صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بعد أبيه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث، فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة حتى عمد إلى ذلك السفر فمحاه، وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ليس به." ([13])
وفي السير: "لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة فبعث إلى أحبار اليهود، فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب، قال فقال لـه سامول اليهودي -وهو يومئذ أعلمهم- : أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل مولده مكة، اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، إن منزلك هذا الذي أنت به، يكون به من القتلى والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع: ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون؟ قال يسير إليه قومه فيقتتلون ههنا، قال: فأين قبره؟ قال بهذا البلد، قال: فإذا قوتل لمن تكون الدبرة؟ قال: تكون عليه مرة ولـه مرة، وبهذا المكان الذي أنت به تكون عليه ويقتل به أصحابه مقتلة لم يقتلوا في موطن، ثم تكون العاقبة له ويظهر فلا ينازعه هذا الأمر أحد، قال وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يركب البعير ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى أخاً أو ابن عم أو عماً، حتى يظهر أمره، قال تبع: ما إلى هذا البلد من سبيل، وما كان ليكون خرابها على يدي، فخرج تبع منصرفاُ إلى اليمن." ([14])
والنصوص في ذلك كثيرة جداً، كما في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وغيرها، وهذا يدل على خبث طوية هؤلاء اليهود، وحسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى مهاجره كان اليهود على فرقتين:
1- من استجاب له وهم النادر.
2- ومن توعد بمعاداته والكفر بما جاء به.
روى ابن إسحاق بسنده عن أم المؤمنين صفية - رضي الله عنها - أنها قالت: ((كنت أحبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله e المدينة ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حييُ ابن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغّلِّسين قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين، يمشيان الهوينى، قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت)) ([15])
ومثلهم: أبو ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعون فإن الله قد جاءكم بالذي تنتظرون فاتبعوه ولا تخالفوه، فانطلق أخوه حيي بن أخطب وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بني النضير فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ثم رجع إلى قومه وكان فيهم مطاعاً فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدواً أبداً، فقال لـه أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك، قال: لا والله لا أطيعك أبداً، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.)) ([16])
وهذه العداوة منبعها البغض للإسلام ورسوله، والحسد للمسلمين، فقد منعهم هذا الحسد من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباع دين الإسلام، محاولين أيضاً رد المسلمين عن الدخول فيه، يقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [سورة البقرة 2/109]
قال ابن كثير رحمه الله : "كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} ... الآية ([17])، وقد كانت مثل تلك المقدمات سبباً في إشعال نار العداوة بين المسلمين واليهود بعد ذلك، مما كان له الأثر المباشر في تحديد طبيعة العلاقة التي ظلت تحكم موقف اليهود من الإسلام والمسلمين في ذلك الوقت، وهي العلاقة التي تميزت بالعداء منذ بدايتها، يتضح هذا في رد حيي بن أخطب، حينما سئل عما في نفسه تجاه النبي e فقال: (عداوته والله ما بقيت). ولم تقتصر عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وللإسلام فقط، بل تعدى ذلك إلى معاداة المسلمين، حتى ولو كان من أحبار اليهود ومن علمائهم، ويبرز هذا في موقفهم من عبد الله بن سلام الذي حدث عن إسلامه قائلاً: ((لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مُسراً لذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت، قال: فقلت لها: أي عمه، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بُعث بما بُعث به، قال: فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نُخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم، قال: فقالت: فذاك إذاً، قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.)) ([18])
فماذا كان موقف اليهود منه بعدما علموا بإسلامه؟ روى البخاري بسنده عن أنس _ قال: ((سمع عبد الله بن سَلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهم إلا ..(ثم قال)... قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله ابن سلام، فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.)) ([19])
المسألة الثانية: دعوته صلى الله عليه وسلم لليهود ومعاهدته لهم:
قولـه تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)} [سورة الأعراف 7/157]
11834 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد، قوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} قال: من اتبع محمدا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم. ([20])
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} [سورة الأحقاف 46/11]
24178- حدثني أبو شرحبيل الحمصي قال: ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يا معشر اليهود أروني اثنى عشر رجلا يشهدون إنه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه)) قال: فأسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم ثلث فلم يجبه أحد فانصرف وأنا معه حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قبل أبيك قال: فإني أشهد بالله أنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي تجدونه في التوراة والإنجيل قالوا كذبت ثم ردوا عليه قوله وقالوا له شرا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كذبتم لن نقبل قولكم أما آنفا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم وأما إذ آمن كذبتموه وقلتم ما قلتم فلن نقبل قولكم)) قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وعبد الله بن سلام فأنزل الله فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)} [سورة فصلت 41/53]... الآية. ([21])
قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [سورة الأعراف 7/47]
7689 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا! فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق" فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر. فأنزل الله فيهم: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها}... الآية ([22])
الدراسة:
خص الله محمداً صلى الله عليه وسلم وامته بفضل من عنده ووعد من يؤمن به من أهل الكتاب مضاعفة الأجر ولذلك اجتهد عليه السلام في دعوتهم كما في آيات كثيرة منها:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [سورة المائدة 5/15]
وبين لهم فضل القرآن عليهم بقوله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} [سورة النمل 27/76]
قال الطبري إن هذا القرآن يقص عليكم الحق فيما اختلفتم فيه فاتبعوه، وأقروا لما فيه، فإنه يقص عليكم بالحق، ويهديكم إلى سبيل الرشاد. ([23])
ثم توعدهم بالعذاب ان هم كفروا به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)} [سورة النساء 4/47] قال ابن كثير معناه من قبل أن نطمس وجوها فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار.
وقال العوفي عن ابن عباس في الآية وهي من قبل أي نطمس وجوها وطمسها أن تعمى فنردها على أدبارها يقول نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لأحدهم عينين من قفاه وكذا قال قتادة وعطية العوفي وهذا أبلغفي العقوبة والنكال.
وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقري على أدبارهم. ([24])
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب وثيقة معاهدة اشتهرت بوثيقة المدينة فصل فيها سياسته مع اليهود مالهم وما عليهم و سنورد بعض بنودها باختصار:
ذكر ابن إسحاق هذه الوثيقة فقال: "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم: ((بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس ...... إلى أن قال ... ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولاينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولامتناصرين عليهم،... ثم يقول ... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وإثم، فإنه لايوتغ ([25]) إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ماليهود بني عوف وإن ليهود بني الحارث مثل ماليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ماليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ماليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ماليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ماليهود بني عوف، إلا من ظلم وإثم، فإنه لايوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبه مثل ماليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنه لاينحجز على ثار جرح وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين ، ..... وإنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن الله على أتقى مافي هذه الصحيفة وأبره، ...... وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم، على مثل مالأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لايكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق مافي هذه الصحيفة وأبره، وإنه لايحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )) ([26])
المطلب الثالث : إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقول السيء
الآثار:
المسألة الأولى: قولهم:اسمع غير مسمع وراعنا
قوله تعالى: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاًً (46)} [سورة النساء 4/46]
7667 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاًً} قال: هذا قول أهل الكتاب يهود كهيئة ما يقول الإنسان: اسمع لا سمعت أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشتماً له واستهزاء. ([27])
7668 - حدثت عن المنجاب قال: ثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: يقولون لك: واسمع لا سمعت. ([28])
7669 - حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: غير مستمع. وغير مقبول ما تقول. ([29])
7670 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: كما تقول: اسمع غير مسموع منك. ([30])
7671 - وحدثنا موسى بن هارون قال: ثنا عمرو قال: ثنا أسباط عن السدي قال: كان ناس منهم يقولون: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} كقولك: اسمع غير صاغ. ([31])
قولـه تعالى: {وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)} [سورة النساء 4/47]
7672 - حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك! يستهزئون بذلك فكانت اليهود قبيحة فقال: راعنا سمعك ليا بألسنتهم؛ واللي: تحريكهم ألسنتهم بذلك {وَطَعْناً فِي الدِّينِ} ([32])
7673 - حدثني عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {رَاعِنَا} كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك! يلوي بذلك لسانه يعني: يحرف معناه. ([33])
7674 - حدثنا محمدبن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي عن أييه عن ابن عباس رضي الله عنهما : {وَطَعْناً فِي الدِّينِ}فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون في الدين. ([34])
1438 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} [سورة البقرة 2/104] قال: كان أناس من اليهود يقولوا أرعنا سمعك، حتى قالها أناس من المسلمين. فكره الله لهم ما قالت اليهود، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} كما قالت اليهود والنصارى. ([35])
المسألة الثانية: قولهم: السام عليكم
قولـه تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة المجادلة 58/8]
26144 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا عائشة إن الله لا يحب الفحش))، فقلت: يا رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: ((ألست ترينني أرد عليهم ما يقولون؟ أقول: عليكم)) وهذه الآية في ذلك نزلت {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [سورة المجادلة 58/8].([36])
26145 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} قال: كانت اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون: السام عليكم. ([37])
المسألة الثالثة: قولهم :عند تحويل القبلة
قولـه تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [سورة البقرة 2/142]
1773 - حدثنا أبو كريب قال: ثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة قالا جميعا: ثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد قال: أخبرني سعيد بن جبير أو عكرمة - شك محمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس وقردم بن عمرو وكعب بن الأشرف ونافع بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد وقال أبو كريب: ورافع بن أبي رافع والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فيهم: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ -إلى قوله- إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌٌ} ([38])
1786 - حدثنا به ابن حميد قال: ثنا سلمة قال: ثنا ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال ذلك قوم من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك؛ يريدون فتنته عن دينه. ([39])
1787 - حدثنا بشر بن معاذ قال: ثنا يزيد عن سعيد عن قتادة قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} قال: صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجراً نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} لقد اشتاق الرجل إلى مولده. فقال الله عز وجل : {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة 2/143] ([40])
1782 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال: ثنا الحسين بن واقد، عن عكرمة، وعن يزيد النحوي، عن عكرمة، والحسن البصري قالا: أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بيت المقدس وهي قبلة اليهود، فاستقبلها النبي صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهراً، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعوا بذلك الأميين من العرب، فقال الله عز وجل : {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة 2/115] ([41])
قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [سورة البقرة 2/144]
1865 - حدثنا موسى بن هارون قال: ثنا عمرو بن حماد قال: ثنا أسباط عن السدي: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ} أنزل ذلك في اليهود. وقوله: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده. ([42])
قولـه تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)} [سورة البقرة 2/150]
1899-حدثنا بشر بن معاذ قال: ثنا يزيد بن زريع قال: ثنا سعيد عن قتادة :يعني بذلك أهل الكتاب قالوا حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ([43])
الدراسة:
إيذاؤهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول السيء
لم يكتف اليهود بسوء الاستقبال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ذهبوا إلى ما ورثه لهم أسلافهم من أذية الأنبياء عليهم السلام فكان أول أمرهم, الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهمز, وليّ اللسان, وبذاءة المنطق, والتلبيس بتحريف الألفاظ, لتوهم أنها سليمة وليست كذلك، مما يدل على نفوس مريضة, يكفيها ولو مجرد لفظ سيء -صريح أحياناً وغير صريح أحياناً أخرى - تتشفى به قلوبهم المشربة بالمخادعة والنفاق، وقبل ذلك الكفر بالله ورسوله.
ومن الألفاظ التي نبه الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنها قولهم: {اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [سورة النساء 4/46] ويقصدون بها الزجر والسب والأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى:
1- اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يسبه: اسمع لا أسمعك الله.
2- وقيل: أي سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، أي لا يسمع كلامك وإن سمع لا يقبل منك.
وكلاهما قبيح في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان ظاهر الآية على القول الأول، واختاره ابن جرير وابن كثير. ([44])
ومثلها كلمة (راعنا) ([45]) والتي نهى الله المؤمنين من قولها لما فيها من سوء الأدب والجفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص، فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا ويورون بالرعونة الحماقة، ومنها الراعن وهو الأحمق والأرعن عن مبالغة فيه، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مشابهة الكفارة قولاً وفعلاً، وكما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها سبة بلغة اليهود. ([46]) وهو ما تنبه له سعد بن معاذ _ حين سمع ناساً من اليهود خاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ((لئن سمعتها من أحد منكم لأضربن عنقه.)) ([47])
وقال الحسن: ((الراعن من القول السخري منه نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام.))
وقال البخاري: "من الرعونة: إذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا راعناً." ([48])
وقال الزجاج: "قد قيل: في {راعنا} ثلاثة أقوال:
1- الأول: أرْعِنا سَمْعَكَ، وكانت اليهود تتسابَّ بينها بهذه الكلمة، وكانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهم، فلما سمعوا هذه الكلمة اغتنموا أن يُظهروا سَبَّهُ بلفظ يسمعُهُ ولا يلحقهم في ظاهره شيء، فأظهر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ذلك، ونهى عن الكلمة.
2- الثاني: من المراعاة والمكافأة، فأُمروا أن يخاطبوه بالتعزير والتوقير، فقيل لهم : لا تقولوا {راعنا} أي كافئنا في المقال، كما يقول بعضكم لبعض، بل قولوا {انظرنا} أي أمهلنا.
3- الثالث : أن الكلمة {راعنا} كانت تجري مجْرى الهُزْء والسخرية، فنُهوا أن يلفِظوا بها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم . ([49])
وقول اليهود على سبيل التورية لأنهم كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة، فيحتالون على سبه وشتمه عن هذا الطريق الملتوي، الذي لا يسلكه إلاّ من كان مثلهم من السفهاء ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته. كي يفوتوا على اليهود غرضهم السيء، كما في الحديث عن ابن عمر _ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تشبه بقوم فهو منهم.)) ([50])
وأما القول الذي حكي عن عطية أن قوله: {راعنا} كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذاً منهم ذلك عنهم؛ فنقده الطبري قائلاً: "فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاماً لا يعرفون معناه ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به." ([51])
وهذا الذي امتثله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده من توضيح الألفاظ وسياقها على مراد السامع وليس الحاكي، وأنه يجب العدول إلى اللفظ البين عن اللفظ الموهم، فقد روي عن عمر _ أنه كتب إلى أهل الكوفة ((إنه ذكر لي أن (مترس) بلسان الفارسية الأمنة فإن قلتموها لمن لا يفقه لسانكم فهو آمن.)) ([52])
ونفذ وصية عمر _ الصحابي الجليل: أبو موسى الأشعري _ يوم فتح سوق الأهواز فسعى رجل من المشركين وسعى رجلان من المسلمين خلفه فبينما يسعى ويسعيان إذ قال أحدهما لـه (مترس) فقام الرجل فأخذاه فجاءا به وأبو موسى _ يضرب أعناق الأسارى حتى انتهى الأمر إلى الرجل فقال أحد الرجلين إن هذا قد جعل لـه الأمان فقال أبو موسى _: فقد جعل له الأمان قال: إنه كان يسعى ذاهباً في الأرض وقلت لـه مترس فقام، فقال أبو موسى _ وما مترس؟ قال: لا تخف قال: هذا أمان فخليا سبيله فخليا سبيل الرجل. ([53])
ومن الألفاظ التي آذى بها اليهود - لعنهم الله - نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قولهم (السام)، فعن أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي، فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ((هل تدرون ما قال؟ )) قالوا: سلم يا رسول الله، قال: ((بل قال: سام عليكم، أي تسأمون دينكم))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أقلت سام عليكم؟ )) قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا وعليك)): أي عليك ما قلت. ([54]) ، لأن الله يستجيب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ودليل ذلك لما قالت عائشة رضي الله عنها : ((أو لم تسمع ما قالوا؟)) قال: ((أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في.)) ([55])
وقولهم (السام) يعنون به الموت -كأنهم دعوا عليه بالموت- ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا من السام قلت وما السام قال الموت.)) ([56])
وقيل(السآم) بالمد من السآمة وهو الملل أي تسأمون دينكم، ([57]) كما في حديث أنس _
فاليهود يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه به الله كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [سورة المجادلة 58/8] وحجتهم في ذلك أنهم يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول لـه في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره فلو كان هذا نبياً حقا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا فقال الله تعالى{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ([58]) وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم.)) ([59]) فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم، معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم . ([60])
تحويل القبلة
حينما أمر الله - تبارك وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، قال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة 2/144]
في الصحيح ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.)) ([61])
وفي تحويل القبلة مخالفة لليهود الذين كان يعجبهم توجه المسلمين إلى بيت المقدس، لذا وجدوها فرصة سانحة، ومناسبة عظيمة فأكثروا من التساؤل حول هذا الأمر، وقد امتد أثرهم إلى المسلمين، وإلى غيرهم, أما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا: آمنا به كل من عند ربنا، وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: لو كان نبياً لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء، وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا أنه الحق، وأما المنافقون فقالوا: ما يدرى محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقاً فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل، وكان الأمر كما أخبر الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)} [سورة البقرة 2/142]. ([62])
وكانت كل هذه التساؤلات بإيحاء من اليهود الذين ذهبت طائفة منهم إلى المسلمين قائلين: (أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحولتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة؟ فقال المسلمون: إن الهدى ما أمر الله تعالى به، وإن الضلالة ما نهى الله تعالى عنه، فقال اليهود للمسلمين: فما شه