إبطال نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى عليه السلام
يزعم اليهود والنصارى أن موسى علیه السلام كتب الأسفار الخمسة، يقول القس سويجارت في مناظرته التلفزيونية للعلامة ديدات: " ونحن نعتقد أن موسى كتب ما يسمى بالأسفار الخمسة، تلك الكتب الخمسة الأولى باستثناء الترانيم القليلة، وسفر التثنية، وربما يكون قد كتب هذا أيضاً، لأننا نعلم أن للرب من القدرة، بحيث يوحي إلى موسى بالضبط الكيفية التي يموت بها، ويوحي إليه بدقة الهيئة التي تكون عليها جنازته، وهذا ليس بمعضل على الرب". ([1])
وليس من دليل يؤيد هذا الزعم سوى ما ذكرته النصوص التوراتية والإنجيلية.
لكن عند الرجوع إلى هذه الأسفار والتمعن فيها يتبين أنها كتبت بعد موسى عليه السلام بوقت طويل، وفيما يلي بعض هذه الأدلة:
قصر توراة موسى بالنسبة إلى التوراة الحالية
- تحدثت أسفار العهد القديم عن توراة موسى، في سفر التثنية " وكتب موسى هذه التوراة، وسلمها للكهنة بين لاوي حاملي تابوت عهد الرب " ( التثنية 31/9 - 10 ) وكان ينبغي أن تكون نهاية التوراة هنا، ولكن الذي نراه أنه جاء بعدها ثلاث إصحاحات، والمفروض أن التوراة سلمت للكهنة من بني لاوي، مما دل على أن المكتوب من قبل موسى ليس النص الذي يحكي القصة.
- أن توراة موسى قصيرة، فيما أسفاره الخمسة تبلغ 400 صفحة، والذي كتبه موسى قصير جداً بالنسبة إلى الأسفار الخمسة، فقد أمر موسى بجمع بني إسرائيل نساءً وأطفالاً ورجالاً، بل وحتى الغريب المار بأرضهم، أمر بجمعهم كل سبع سنين في عيد المظال لتقرأ عليهم التوراة (انظر التثنية 31/9 - 12)، ولو كانت بالطول الذي بين أيدينا اليوم لشق سماع هؤلاء جميعاً وعسُر طول مكثهم لسماعها.
ومن الدلائل على قصر توراة موسى أنه أمر بكتابتها على جدران المذبح " فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة، وتشيدها بالشيد، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس ... وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشاً جيداً " (التثنية 27/2 - 8 ) وقد عمل بالوصية وصي موسى يشوع فكتبها على حجارة المذبح.
وبعد إتمام البناء قرأ يشوع التوراة على الجموع، وهي له تسمع " كتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى ... بعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة .. لم تكن كلمة في كل ما أمر به موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل النساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم " ( يشوع 8/32 - 35).
تناقض سفر يشوع مع الأسفار الخمسة
- ومما يؤكد أن التوراة التي كتبها موسى ليست الأسفار الخمسة : مخالفة يشوع وصي موسى لما جاء فيها، ولو كان يعرفها أو يعتقد صدقها لما خالفها، فإما أن يقال بأن سفر يشوع مزور، أو لا تصح نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى.
وبيان هذه المسألة أن موسى قال: " كلمني الرب قائلاً : أنت مار بتخم مؤاب بعار، فمتى اقتربت إلى اتجاه بني عمون لا تعادوهم، ولا تهجموا عليهم، لأني لا أعطيك من أرض بني عمون ميراثاً، لأني لبني لوط قد أعطيتهم ميراثاً " ( التثنية 2/16 - 20 ) فكان أمر الله لموسى في حق أرض عمون أن لا يأخذ منها شيئاً.
ولكن يشوع في سفره ينسب إلى موسى أنه قسم أرض بني عمون، يقول: " وأعطى موسى لسبط جاد بني جاد حسب عشائرهم، فكان تخمهم بعزير، وكل مدن جلعاد، ونصف أرض بني عمون إلى عير، وعير التي هي أمام ربّة ... هذا نصيب بني جاد " ( يشوع 13/24 - 28 )، فقد زعم سفر يشوع أن الله أعطى موسى نصف أرض بني عمون، وهو مخالف لما أمر الله به موسى.
فلو كانت هذه الأسفار توراة موسى لما نسب يشوع إلى موسى هذه المخالفة الصريحة لأمر الله بتقسيم أرض عمون.
أحداث ذكرتها التوراة، وقد حصلت بعد وفاة موسى
كما أن التوراة ذكرت أحداثاً حصلت بعد وفاة موسى في سيناء، مما دل على أنها كتبت بعده، ومنها:
- تقول التوراة : " وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة، حتى جاؤوا إلى أرض عامرة، أكلوا المن حتى جاءوا إلى أرض كنعان " ( خروج 16/35 )، فكاتب السفر أدرك انقطاع المنّ عن بني إسرائيل، وعرف أن مدة أكلهم للمنّ كانت أربعين سنة.
وهو أمر لم يدركه موسى عليه السلام، فقد انقطع المنّ زمن يشوع وبعد وفاة موسى بزمن ليس بقليل، ففي سفر يشوع " فحل بنو إسرائيل في الجلجال .. في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض .. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض " ( يشوع 5/10 - 12 ). فكيف يتحدث موسى عن أمر حدث بعد وفاته، وذلك حين دخلوا الأرض المقدسة مع النبي يشوع، ومن المهم التنبيه إلى أن الخبر عن الماضي، وليس إخباراً بالغيب والمستقبل ، لذا لا يمكننا أن نعتبره نبوءة من موسى عليه السلام.
- ثم إن سفر العدد يصف المنّ لقارئيه، فمن المؤكد أنه يحدثهم عما لم يروه ، ومن العجيب أن ينسب هذا الوصف إلى موسى، إذ ما الذي يدعوه لوصف المنّ وطعمه وطريقة طهيه لمن يصنعه ويأكله من معاصريه، يقول السفر: " وأما المنّ فكان كبزر الكزبرة، ومنظره كمنظر المقل، كان الشعب يطوفون ليلتقطوه، ثم يطحنونه بالرحى، أو يدقونه في الهاون، ويطبخونه في القدور، ويعملونه ملّات، وكان طعمه كطعم قطائف بزيت" (العدد 11/7-
و(انظر الخروج 16/31)، إنه شاهد آخر ببراءة موسى من كتابة هذه الأسفار.
- ويذكر سفر العدد ما يُشعِر بأن الكاتب قد كتبه بعد جلاء بني إسرائيل من برية سيناء ودخولهم فلسطين فيقول: " ولما كان بنو إسرائيل في البرية، وجدوا رجلاً يحتطب في السبت " (العدد 15/32)، فالكاتب ليس في البرية حتماً. أي ليس موسى عليه السلام، فإنه قد مات في البرية قبل دخول الأرض المقدسة.
- ومن أدلة براءة موسى من هذه الأسفار قول التوراة: " وسكنوا مكانهم كما فعل إسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب" (التثنية 2/12) والنص يفيد أن الكاتب قد أدرك دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة، وهو ما حصل بعد وفاة موسى عليه السلام.
- ومثله في قول التوراة، والمفترض أن الكاتب هو موسى " اجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلّوطة مورة. وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض (فلسطين)" ( التكوين 12/5 - 6)، فالكاتب أدرك خروج الكنعانيين من الأرض بعد دخول بني إسرائيل، فهو ليس موسى.
- ونحوه قول كاتب الأسفار: "وكان الكنعانيون والفرزّيون حينئذ ساكنين في الأرض" (التكوين 13/7 )، وهذا النص جعلته نسخة الرهبانية اليسوعية بين قوسين للإيهام بأنه ملحق بالسياق، والصحيح أصالته ، وأن السفر متأخر التأليف.
- ونحوه في قوله: " وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملكَ ملِكٌ لبني إسرائيل" ( التكوين 36/31 )، فالكاتب قد أدرك عهد الملكية الذي كان بعد موسى بأربعة قرون.
وقد أقر المحقق آدم كلارك بوقوع التحريف في هذا النص، وقال: " غالب ظني أن موسى ما كتب هذه الآية، والآيات التي بعدها إلى التاسعة والثلاثين .. وأظن ظناً قوياً قريباً من اليقين أن هذه الآيات كانت مكتوبة على حاشية نسخة صحيحة، فظن الناقل أنها جزء من المتن فأدخلها فيه " ([2])، ولم يبين دليله الذي دفعه لهذا الظن الذي قارب اليقين، لكن هذا التبرير من كلارك يفضي إلى الشك بجملة الكتاب المقدس، إذ كما جاز للناسخ أن يدخل في المتن هنا ما ليس فيه، فإنه يجوز وقوع ذلك في سائر الكتاب ..
- لكن الطامة الكبرى والداهية العظمى أن يذكر خبر وفاة موسى عليه السلام وندب نبي إسرائيل له، وذلك في أسفار تنسب إلى موسى، فقد جاء في سفر التثنية " فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل في عربات مؤاب ثلاثين يوماً، فكمُلت أيام بكاء مناحة موسى " (التثنية 34/5 -
، والملاحظ دوماً أنه حديث عن الماضي البعيد، وليس إخباراً عن المستقبل.
ومما لا تقبل نسبته إلى موسى في الأسفار الخمسة ما جاء فيها من ثناء على موسى باستخدام صيغة الغائب، وهذا الثناء هو بالحقيقة شهادات من الغير له، فلا يعقل أن يقول موسى عن نفسه: "موسى رجلاً حليماً جداً أكثر من جميع الناس " ( العدد 12/3 ).
ولا أن يقول: " موسى رجل الله" (التثنية 33/1).
وكذا قوله: " الرجل موسى كان عظيماً جداً في أرض مصر .... " ( الخروج 11/3)، فمثل هذه الشهادات لا يليق أن تصدر عنه، إنما هي من غيره.
مسميات ظهرت بعد موسى
وتذكر الأسفار الخمسة أسماء كثيرة لمسميات لم يعرفها بنو إسرائيل إلا بعد موسى، ولم تسم بهذه الأسماء إلا بعد قرون من وفاة موسى، فكيف ذكرتها توراة موسى إذاً ؟
- ومنها " وتبعهم إلى دان " ( التكوين 14/14 ) وقد سميت بهذا الاسم في عهد القضاة، أي بعد موسى بما يربو على مائة سنة، يقول سفر القضاة: " وجاؤوا إلى لايش ... ودعوا اسم المدينة دان، باسم دان أبيهم " ( القضاة 18/27 - 29 ).
- ونحوه ما جاء في التكوين وفيه "لأني قد سرقت من أرض العبرانيين " ( التكوين 40/15 )، ولم تسم فلسطين بهذا الاسم في عهد موسى، إذ لم يدخل العبرانيون إليها بعد.
- ومثله " وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا قرية أربع، التي هي حبرون "
( التكوين 35/27 )، ولم تسم حبرون ( الخليل ) بهذا الاسم إلا في عهد يشوع، كما ورد في سفره "فباركه يشوع، وأعطى حبرون لكالب ... واسم حبرون قبلاً قرية أربع، الرجل الأعظم في العناقيين" (يشوع 14/13 - 15 )، فالكاتب لسفر التكوين أدرك دخول يشوع لفلسطين، ورأى تغيير اسم المدينة من أربع إلى حبرون.
وهذا ما يقوله علماء الكتاب المقدس المتحررون من قوانين الكنيسة، وأما العلماء المحافظون فينقل لنا القس صموئيل أنهم يرون "أن الإشارات السابقة لا تزيد عن كونها إضافة توضيحية عند النسخ ثانية عبر المراحل الزمنية المتعاقبة بواسطة الناسخ نفسه، وبالوحي المقدس".([3]) فهم يعترفون بأنها من إضافات النساخ، لكن هؤلاء النساخ لم يصنعوا ذلك من أنفسهم، بل فعلوه بالوحي المقدس! فهم أيضاً ممن يوحى إليه.!! فالمهم عندهم أن "يظل موسى كاتباً لسفر التكوين".([4])
اعترافات مثيرة
وبعد هذا كله كان لابد من أن يعترف أهل الإنصاف من أهل الكتاب بعدم صحة نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى، وقد كان من أوائل من فعل ذلك منهم، ابن عزرا الحبر اليهودي الغرناطي (تـ 1167م) حين ألغز اعترافه ببراءة موسى من هذه الأسفار ، وذلك لمخافته القتل والاضطهاد فقال في شرحه لسفر التثنية: " فيما وراء نهر الأردن ... لو كنت تعرف سر الإثني عشر .. كتب موسى شريعته أيضاً ... وكان الكنعاني على الأرض ... سيوحي به على جبل الله ... ها هوذا سريره، سرير من حديد، حينئذ تعرف الحقيقة " ولم يجرؤ ابن عزرا على كشف الحقيقة فألغزها.
وقد فسر اليهودي الناقد اسبينوزا قول ابن عزرا بأنه أراد بأن موسى لم يكتب التوراة لأن موسى لم يعبر النهر، ثم سفر موسى قد نقش على اثني عشر حجراً بخط واضح، فحجمه ليس بحجم التوراة، ثم لا يصح أن تقول التوراة بأن موسى كتب التوراة، ثم كيف يذكر أن الكنعانيين كانوا حينئذ على الأرض ؟، فهذا لا يكون إلا بعد طردهم منها، وأما جبل الله فسمي بهذا الاسم بعد قرون من موسى، وسرير عوج الحديدي جاء ذكره في التثنية (3/11-12) بما يدل على أنه كتب بعده بزمن طويل.
ويعترف أيضاً في القرن التاسع عشر القس نورتن بعدم صحة نسبة الأسفار إلى موسى فيقول: "التوراة جعلية يقيناً، ليست من تصنيف موسى". ([5])
وفي مدخل طبعة للكتاب المقدس باللغة الانجليزية صدرت عام 1971م سجل محررو الطبعة تشككاً في إلصاق الأسفار بموسى فقالوا: " مؤلفه موسى على الأغلب ".
وفي مدخل التوراة الكاثوليكية نقرأ: "ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدون بعده، بل يجب القول بأن هناك ازدياداً تدريجياً سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية "، ومثله في المدخل الفرنسي للكتاب المقدس.
وتقول دائرة معارف القرن التاسع عشر : " العلم العصري، ولاسيما النقد الألماني قد أثبت بعد أبحاث مستفيضة في الآثار القديمة، والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى عليه السلام، وإنما هي من عمل أحبار لم يذكروا أسماءهم عليها، وألفوها على التعاقب معتمدين في تأليفها على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل ".
ويقول نولدكه في كتابه "اللغات السامية": " جمعت التوراة بعد موسى بتسعمائة سنة، واستغرق تأليفها وجمعها زمناً متطاولاً تعرضت حياله للزيادة والنقص، وإنه من العسير أن نجد كلمة متكاملة في التوراة مما جاء به موسى. ([6])
فهل يقال بعد ذلك : هذه الأسفار الخمسة من كلام موسى أو أنها وحي الله إلى نبيه موسى؟
وصدق جارودي في كتابه " إسرائيل والصهيونية السياسية " حين قال: " ليس هناك عالم من علماء التوراة وتفسيرها لا يقر بأن أقدم نصوص التوراة قد ألف وكتب على الأكثر في عهد سليمان، وهذه النصوص ليست إلا تجميعاً لروايات شفهية، وإذا التزمنا بمعايير الموضوعية التاريخية كان علينا الإقرار بأن هذه الروايات التي تتحدث عن ملاحم مرت عليها قرون ليست أكثر تاريخية - بالمعنى الدقيق للكلمة - من الإلياذة أو الرامايانا".
--------------------------------------------------------
([1]) وانظر المدخل إلى العهد القديم، القس الدكتور صموئيل يوسف، ص (37).
([2]) انظر : إظهار الحق ، رحمة الله الهندي (2/468).
([3]) المدخل إلى العهد القديم، القس الدكتور صموئيل يوسف، ص (84).
([4]) المصدر السابق، ص (84).
([5]) انظر : في مقارنة الأديان ، محمد عبد الله الشرقاوي ، ص (71 - 75)، الغفران بين الإسلام والمسيحية ، إبراهيم خليل أحمد ، ص (44 – 46).
([6]) انظر : الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف ، يحيى ربيع ، ص (100)، الكتاب المقدس في الميزان ، عبد السلام محمد ، ص (97 – 98).