الشبهات من أحوال ومعجزات المسيح عليه السلام
و الرد على هذه الشبهات في غاية السهولة و الوضوح، ذلك أن كل ما أثبته الإنجيل، و العهد الجديد بشكل عام، للمسيح عليه السلام ، من أحوال خارقة كولادته من غير أبوين أو ارتفاعه بعد موته (حسب تصورهم)، و من معجزات و أعمال خارقة كإحياء الموتى و شفاء الأعمى و الأبرص من الولادة و غير ذلك، أثبت الكتاب المقدس مثلها تماما أو حتى أكبر منها، لغيره من الأنبياء أو للحواريين، فإن كانت تلك الأحوال و المعجزات دليلا على ألوهية صاحبها، فإن الألوهية عندئذ لن تقتصر على السيد المسيح فحسب، بل ستعم أولئك الأنبياء الذين سبقوه و الذين كانت لهم مثل معجزاته و أحواله، بل ستعم الألوهية حوارييه و تلاميذه و تلاميذ تلاميذه الذين ظهرت على يديهم ـ حسب كلام العهد الجديد ـ مثل معجزاته أيضا!. و إليك تفصيل هذا المجمل :
1ـ رد الاستدلال بولادة المسيح من غير أب، بل بنفخة من روح الله، على ألوهيته :
ليس في ولادة المسيح عليه السلام من غير أب و أنه ولد من نفخ روح القدس، أي دليل على ألوهيته، فآدم عليه السلام ولد أيضا ـ باتفاق النصارى و المسلمين ـ من غير أب و لا أم، بل من نفخ الله تعالى فيه من روحه، أي من روح قدسه، و هذا ما أوضحه القرآن الكريم بأفضل بيان، في معرض رده على الذين يؤلهون المسيح استنادا لولادته الإعجازية، فقال:
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } آل عمران / 59 ـ 60.
بل يذكر العهد الجديد اسم كاهن مقدس وجد منذ قديم الأيام بلا أب و لا أم أيضا و هو الكاهن "ملكي صادق" و لم يقل أحد من المسيحيين بألوهيته! لننظر ماذا جاء عنه في الإصحاح السابع من الرسالة إلى العبرانيين المعتبرة أحد الراسائل القانونية الإلهامية في كتاب العهد الجديد: الرسالة إلى العبرانيين: 7 عدد 1 ـ 3.
" و كان ملكي صادق هذا ملك ساليم و كاهن الله تعالى، خرج لملاقاة إبراهيم عند رجوعه بعد ما هزم الملوك و باركه، و أعطاه إبراهيم العشر من كل شيء، و تفسير اسمه أولاً ملك العدل ثم ملك ساليم أي ملك السلام. و هو لا أب له و لا أم و لا نسب و لا لأيامه بداءة و لا لحياته نهاية. و لكنه على مثال ابن الله، يبقى كاهنا إلى الأبد "
فإذا كان ملكي صادق، رغم كونه بلا بداية و لا أب و لا أم و لا نسب، عبدا مخلوقا، بإقرار النصارى جميعا، حيث لم يقل أحد منهم بألوهيته، فكيف إذن يصح استدلالهم باتصاف المسيح ببعض هذه الصفات على ألوهيته؟!
2 ـ رد الاستدلال بقيام المسيح حيّاً من الأموات على ألوهيته :
قال بعض أساقفة و لاهوتيي النصارى: إن الأنبياء مهما كانوا عظماء، فإن أقصى ما فعلوه هو أنهم أحيوا بعض الموتى بإذن الله، أما أن يقوموا بأنفسهم أحياء بعد موتهم فهذا ما لم يقدروا عليه أبدا، بعكس المسيح الذي " لما كان إلها قدر بقوته الإلهية أن يقوم من الأموات و يعود إلى الحياة و يصعد إلى السماء ممجدا إلى يومنا هذا ".
و الجواب على هذا الدليل ـ مع التسليم جدلا بأنه عليه السلام مات فعلا على الصليب و دفن ثم قام حيا بعد موته بثلاث ليال كما يدعون ـ هو أن نصوص العهد الجديد نفسها تشهد بأن المسيح لم يقم من الموت بقدرته الذاتية الإلهية، بل إن الله تعالى هو الذي أحياه و أقامه من الأموات، و عندئذ فلا يبقى في قيامه حيا بعد موته أي دليل على ألوهيته، و إلا لكان جميع البشر آلهة لأن الله تعالى سيقيمهم أحياء من قبورهم يوم القيامة! و قد تكرر التعبير بأن " اللهُ أقام المسيحَ من الأموات " مرات عديدة، على لسان الحواري بطرس و لسان بولس، في سفر أعمال الرسل، و فيما يلي ذكر بعض الشواهد من ذلك:
ـ جاء في سفر أعمال الرسل في خطاب القديس بطرس الحواري لرجالٍ من بني إسرائيل:
" فيسوع هذا، أقامه الله، و نحن جميعا شهود لذلك. و إذ ارتفع بيمين الله و أخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه و تسمعونه " أعمال الرسل: 2 عدد 32 ـ 33.
عبارة الترجمة العربية الجديدة لجمعيات الكتاب المقدس المتحدة (1988) اوضح هنا حيث تقول: " فيسوع هذا أقامه الله و نحن كلنا شهود على ذلك، فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا و هذا ما تشاهدون و تسمعون ".
ـ و فيه أيضا في خطبة أخرى لبطرس الحواري :
" و لكن أنتم أنكرتم القدوس البار و طلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. و رئيس الحيوة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات و نحن شهود لذلك " أعمال الرسل: 3 عدد 14 ـ 15.
و جاء في رسالة بولس إلى أهل رومية (4 عدد 24 ـ 25) :
" نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات. الذي أسلم من أجل خطايانا و أقيم لأجل تبريرنا "
و في نفس الرسالة (8 عدد 18) :
"... و إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم "
و في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (6 عدد 14) :
"... و الله قد أقام الرب (اي المسيح) و سيقيمنا نحن أيضا بقوته "
قلت: فإقامة المسيح من الأموات مماثلة لإقامتنا من الأموات التي ستحصل يوم البعث و القيامة، فلا دلالة فيها أصلا على إلهية المسيح لا من قريب و لا من بعيد.
3 ـ رد الاستدلال بأعمال المسيح المعجزة الخارقة على ألوهيته :
ما من معجزة نقلها الإنجيل عن المسيح عليه السلام، إلا نقل كتاب العهد القديم وقوع مثلها أو أقوى منها عن بعض من سبق المسيح من الأنبياء عليهم السلام، و نقل كتاب العهد الجديد وقوع مثلها أيضا على يد حواريي المسيح، أو نقل بيان المسيح إمكانية وقوعها على يد كل مؤمن صادق من تلامذته و أتباعه إذا تمحض كمال الإيمان و أخلص العمل. و فيما يلي شواهد على ما نقول:
أ ـ فبالنسبة لإحياء الموتى، كلنا يعرف معجزة موسى عليه السلام بقلب العصا حية حقيقية أمام فرعون و سحرته [سفر الخروج: الإصحاح 7 عدد الفقرات: 8 ـ13. ] ، و هذه المعجزة أشد إعجازا من إحياء عيسى عليه السلام للميت، لأن معجزة عيسى عليه السلام ليس فيها إلا بعث الحياة في هيكل إنساني كامل موجود، في حين اشتملت معجزة موسى عليه السلام على أمرين :
أولاً: تغيير شكل و صورة العصا و إيجاد صورة و شكل جديدين لها بتحويلها لحية تسعى ذات عينين و لسان و جلد، و ثانياً: بعث الحياة فيها.
و كذلك يروي لنا العهد القديم قصة إحياء النبي إيليَّا عليه السلام ابنَ المرأة الأرملة، التي كانت تعوله عندما كان ملتجأً في قرية صرفة قرب صيدون [سفر الملوك الأول: 17 أعداد 17 ـ 23. ] و التي مات ابنها لشدة المرض، فدعا إيليا ربه فاستجاب له و بعث الحياة من جديد في الولد الميت.
و كذلك يروي لنا سفر أعمال الرسل من العهد الجديد، قصة إحياء القديس بطرس الرسول، تلميذ المسيح المقرب و حواريه، للتلميذة الصالحة " طابيثا " من أهل " يافا "، بعد أن ماتت و غسلت و وضعت في قبرها، و فيما يلي ننقل هذه القصة كما جاءت في آخر الإصحاح التاسع من سفر أعمال الرسل:
" و كان في يافا تلميذة اسمها طابيثا، الذي ترجمته غزالة. هذه كانت ممتلئة أعمالا صالحة و إحسانات كانت تعملها. و حدث في تلك الأيام أنها مرضت و ماتت فغسلوها و وضعوها في عُلِّيَّة. و لما كانت اللدُّ قريبة من يافا و سمع التلاميذ أن بطرس فيها أرسلوا رجلين يطلبان إليه أن لا يتوانى عن أن يجتاز إليهم. فقام بطرس و جاء معهما. فلما وصلوا صعدوا به إلى العُلِّيَّة فوقفت لديه جميع الأرامل يبكين و يرين أقمصة و ثيابا مما كانت تعمل غزالة و هي معهن، فأخرج بطرس الجميع خارجا و جثا على ركبتيه و صلى ثم التفت إلى الجسد و قال: يا طابيثا قومي. ففتحت عينيها. و لما أبصرت بطرس جلست. فناولها يده و أقامها. ثم نادى القديسين و الأرامل و أحضرها حية. فصار ذلك معلوما في يافا فآمن كثيرون بالرب " أعمال الرسل: 9 عدد 36 ـ 41.
ب ـ و بالنسبة لشفاء ذوي العاهات الخلقية المستديمة كشفاء الأبرص و المقعد من الولادة و الأعرج... إلخ.. و إخراج الشياطين من المجانين و المصروعين، فقد نقل العهد الجديد مثلها عن الحواريين و رسل المسيح عليه السلام بل عن عامة أتباعه الصالحين، و فيما يلي ذكر ذلك:
جاء في سفر أعمال الرسل (3 عدد 2 ـ
:
" و كان رجل أعرج من بطن أمه يُحْمَل، كانوا يضعونه كل يوم عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل ليسأل صدقة من الذين يدخلون الهيكل. فهذا لما رأى بطرس و يوحنا مزمعين أن يدخلا الهيكل سأل ليأخذ صدقة. فتفرس فيه بطرس مع يوحنا و قال أنظر إلينا. فلاحظهما منتظرا أن يأخذ منهما شيئا. فقال بطرس ليس لي فضة و لا ذهب و لكن الذي لي فإياه أعطيك. باسم يسوع المسيح الناصري قم و امش. و أمسكه بيده اليمنى و أقامه، ففي الحال تشددت رجلاه و كعباه فوثب و وقف و صار يمشي و دخل معهما إلى الهيكل و هو يمشي و يطفر و يسبح الله "
ـ و جاء فيه أيضا (8 عدد 4 ـ
:
" فانحدر فيليبس إلى مدينة من السامرة و كان يكرز لهم بالمسيح و كان الجموع يصغون بنفس واحدة إلى ما يقوله فيليبس عند استماعهم و نظرهم الآيات التي صنعها. لأن كثيرين من الذين بهم أرواح نجسة كانت تخرج صارخة بصوت عظيم. و كثيرون من المفلوجين و العرج شفوا، فكان فرح عظيم في تلك المدينة "
ـ و فيه كذلك (14 عدد 8 ـ 10):
" و كان يجلس في لسترة رجل عاجز الرجلين مقعد من بطن أمه و لم يمش قط. هذا سمع بولس يتكلم. فشخص إليه و إذ رأى أن له إيمانا ليشفى، قال بصوت عظيم: قم على رجليك منتصبا. فوثب و صار يمشي "
ـ و فيما يلي إعلان عام من السيد المسيح عليه السلام عن قدرة كل من يؤمن حقا على إظهار أكبر المعجزات، جاء في إنجيل يوحنا (14 عدد 12):
" الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضا و يعمل أعظم منها "
و مثله قول المسيح عليه السلام أيضا لتلاميذه، لما دهشوا و تعجبوا من يبس شجرة التين فور دعاء المسيح عليها، فقال لهم:
" الحق أقول لكم: إن كان لكم إيمان و لا تشكون، فلا تفعلون أمر التينة فقط، بل إن قلتم لهذا الجبل انتقل و انطرح من البحر فيكون. و كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه " إنجيل متى: 21 عدد 21 ـ 22.
قلت : فقد صار واضحا أن ظهور الخوارق و المعجزات، مهما كان شأنها عظيما، على يد شخص، لا يصلح بحد ذاته أن يعتبر مؤشرا على ألوهية هذا الشخص و إلا لوجب القول بألوهية كل الأنبياء السابقين و الحواريين و تلاميذ المسيح أيضا!
و قد يقال : إن تلك المعجزات التي صدرت عن الأنبياء ممن سبق المسيح عليه السلام أو عن تلاميذ المسيح، لم تكن من فعلهم أنفسه بل كانت من أفعال الله تعالى الذي أظهرها على أيديهم، أما معجزات المسيح فكانت من فعله بنفسه، لذا كانت دليلا على ألوهيته!
و للإجابة على هذا نحيل القارئ إلى القسم التاسع من الفصل الأول الذي ذكرنا فيه شواهد من الأناجيل تفيد أن المعجزات التي كان يصنعها المسيح أيضا، لم يكن يفعلها بقوته الذاتية المستقلة بل كان يستمدها من الله و يفعلها بقوة الله، أي أن الفاعل الحقيقي لها كان الله سبحانه وتعالى الذي أظهرها علي يدي المسيح لتكون شاهدا له على صحة نبوته، و نكتفي هنا بإعادة نص واحد ظاهر بين في ذلك و هو ما قاله بطرس الحواري في خطابه لبني إسرائيل بعد رفع المسيح:
سفر أعمال الرسل: (2 عدد 14 و 22).
" فوقف بطرس مع الأحد عشر و رفع صوته و قال لهم:... أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات و عجائب و آيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون "