أمر الله تعالى عباده أن يخلصوا في عبادتهم، فلا يريدوا بها إلا الفوز برضاه والجنة، والنجاة من سَخَطِه والنار، دون أي هدف آخر من مَتَاع الدنيا وزينتها. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، [البينة:5]. وجعل - سبحانه وتعالى - الإخلاص لوجهه الكريم في الأعمال الصالحة، شرطًَا لا بد منه لرجاء النجاح والفلاح يوم القيامة، فقال عز وجل: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
فكل عبادة يُؤَدِّيها العبد، وكل عمل من أعمال الخير يفعله، لا يقبل منه ما لم تكن نيته الباعثة على ذلك، خالصةً لله تعالى، من شوائب الرياء، والرغبة في متاع الدنيا؛ لأن الأعمال مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنيَّاتِ والمقاصد، والدوافع الكامنة وراءها، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه)). رواه البخاري ومسلم.
في هذا الحديث الشريف يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً؛ ليكون دليلاً على ما وراءه من الأعمال، فالهجرة مع أنها من أَشَقِّ التكاليف، وأكثرها صعوبة على النفس؛ لأن فيها مُفَارَقَة الأهل، والولد، والمال، والأصدقاء، والوطن، فمع كل هذه التضحيات لا بد من النية الصادقة، حتى ينال المُهاجِر أجر المهاجرين في سبيل الله، لا بد أن يكون دافعه إلى الهجرة طلب رضاء الله تعالى ونصرة رسوله، وإلا فهجرته لا تعدو القصد الذي قصد إليه من متاع الدنيا، وليس له عند الله تعالى وراء ذلك شيءٌ.
لذا؛ فقد وَجَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنظار المسلمين، ولفت انتباههم إلى وجوب الاهتمام بتصحيح النيات، وتطهير القلوب، وإصلاح البواطن؛ لأنها هي المعتبرة عند الله تعالى، وعليها المعول في الثواب والعقاب.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أَجْسَامِكُمْ ولا إلى صُوَرِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ)). رواه مسلم.
والرِّيَاء الذي يُحْبِطُ العمل، هو أن يعمل الإنسان العمل ليحمده الناس ويثنوا عليه، وقد بَيَّنَ الله - تعالى - في كتابه الكريم، أن الرياء يُحْبِط العمل، ويُبْطِل ثوابه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}، [البقرة: 264].
وبَيَّنَ لنا أن الرياء من صفات الكافرين والمنافقين. فقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47]، وقال عَزَّ مَنْ قائل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ}، [النساء: 142].
وربما يسأل سائل: ما حكم العمل عندما يكون الدافع إليه أمرين: الرغبة في رضاء الله تعالى، والرغبة في ثناء الناس؟. والجواب أن هذا العمل - كذلك - لا يقبله الله تعالى، ويرده على صاحبه؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا الإخلاص له وحده، بدون أن يُشْرِكُوا معه في نياتهم أحدًا.
عن أبي أُمَامَة - رضي الله عنه - قال: "جَاءَ رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأجر والذِّكْر، ما له؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا شَيءَ لَهُ)). فأعادها ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا شَيءَ لَهُ)). ثم قال: ((إنَّ الله - عز وجل - لا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إلاَّ مَا كان لَهُ خَالِصًا، وابْتُغِيَ به وَجْهَه)). رواه أبو داود، والنسائي بإسناد جيد.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله - عز وجل - أنا أَغْنَى الشُّرَكاء عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فيه مَعِيَ غَيْرِي تَرَكْتُه وشِرْكَه))؛ رواه مسلم.
فينبغي للمؤمن أن يُصَحِّح نيته، ويخلص قصده في عباداته وأعماله، وينبغي ألا يُحَدِّث الناس بأعماله الصالحة ليثنوا عليه، ويحمدوه بها، فإن ذلك يحبط ثواب عمله، أو ينتقص ثوابه، ومهما حاول أن يتظاهر أمام الناس بأنه لا يحدثهم ليحمدوه، ولا ليثنوا عليه، فإن الله - عز وجل - مُطَّلِع على حقيقة حاله، وسِرِّ فؤاده، فإذا كان يُسَمِّع الناس بأعماله يريد بذلك أن يُعَظِّموه ويُوَقِّروه، فإن الله تعالى يكشف للناس حقيقة مقصده، ويفضح بينهم سوء نيته، كما جاء عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سَمَّع سمَّع الله به، ومَنْ يُراءِ يُرَاءِ اللهُ به)) رواه البخاري ومسلم.
ومِنْ أَعْظَم الرياء إثمًا، وأكبره جُرْمًا أن يَعْمَد الإنسان إلى الأعمال الصالحة التي يَبْتَغِي بها وجه الله - تعالى - عادة، والتي لا يَشُكُّ الناس في أن صاحبها يريد الأجر والمثوبة من الله - عز وجل -، يعمد إلى هذه الأعمال والعبادات، فيتخذها مَطِيَّة إلى ما يشتهي من مَتَاع الدنيا وزخرفها، ووسيلة لتحقيق مطامعه ولذائذه في الحياة، يخدع الناس مظهره الصالح، ويخفى عليهم باطنه الطالح.
لكن الله تعالى القائل: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ}، [آل عمران: 29]. يعلم حقيقة أمر هؤلاء، الذين يختلون الناس بالدين، فيكونون أول من تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة، يُسْحَبُون على وجوههم حتى يلقوا فيها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْه، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به، فَعَرَّفَه نِعْمَتَه فَعَرَفَهَا. قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيك حتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قال: كَذَبْتَ، ولكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيل، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ؛ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ))؛ رواه مسلم.
قال الحافظ ابن رَجَب الحنبلي: وفي الحديث أنَّ مُعَاوِيَة لما بلغه هذا الحديث، بكى حتى غُشِيَ عليه، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16].
فينبغي للمؤمن أن يهتمَّ بالإخلاص لله في أعماله، وأن يَحْذر الرياء، فإنه أخفى من دبيب النمل، وليسْتَعِن بالله على تطهير قلبه منه، وليرق نفسه بهذه الرقية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها إن أُخِذَتْ بصدق نفعت صاحبها بإذن الله تعالى.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال؛ ((يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فإنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبيبِ النَّمْلِ)). فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نَتَّقِيه، وهو أَخْفَى من دبيب النَّمْل يا رسول الله؟ قال
( قُولُوا اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيئًا نَعْلَمُه، ونَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لا نَعْلَمُه))؛ رواه أحمد والطبراني ورواته ثقات.
وأخيراً، فإن العبد حين يُخْلِص النية لله تعالى، ويجتهد في كِتْمان أعماله الصالحة عن الناس، حذرًا من الرياء، فإن الله تعالى يظهر حاله للناس، ويُطْلعهم على صلاحه، فيحمدونه، ويثنون عليه، ولا حرج عليه عندها إذا داخله السرور بذلك، ما دام أنه لم يكن منه قصد إلى إظهار أعماله للناس، وهذا الثناء من الناس عليه، يعتبر بُشْرَى له بأن عمله قبله ربه، وأعد له الأجر والثواب الكريم عليه.
عن أبي ذر - رضي الله عنه – قال: "قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل مِنَ الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: ((تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ)). رواه مسلم.