إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - وطاعته، واتباع أمره، والوقوف عند حدوده ومحارمه، والحذر من مخالفته ومعصيته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18-20].
فقد أمر الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات بالتقوى والمراقبة التي هي أعلى مراتب الدين ومنازله، وهي الإحسان الذي سأل عنه جبريلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سأله عن الإيمان والإسلام، فقال: أخبرني عن الإحسان؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[1] فهذه حقيقة الإحسان مأخوذة من مشكاة النبوة. والإحسان مراتب ودرجات.
أولها: مرتبة المراقبة والمشاهدة والخوف من الله - عزَّ وجلَّ - وخشيته.
وثانيها: مرتبة الحياء من الله – سبحانه وتعالى.
وثالثها: مرتبة الأنس برب العالمين.
فأما مرتبة الخوف والمراقبة فهي أن يعبد الإنسان ربه على وجه الحضور وكأنه يرى الله - عزَّ وجلَّ - بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، والجزاء من جنس العمل، فمن عَبَدَ الله على هذه الكيفية في الدنيا، كان جزاؤه أن ينظر إلى وجه الله الكريم عيانًا في الآخرة، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
وكما أخبر عن المحسنين فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وعن صهيب عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله - تبارك وتعالى - : تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عزَّ وجلَّ -)) ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[2].
أما المعرضون عن الله - عزَّ وجلَّ - أما أهل الكفر والنفاق، فإنهم محجوبون عن رؤية الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة؛ لأنهم كانوا لا يراقبون الله - عزَّ وجلَّ - في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُجبوا عن رؤيته في الآخرة، فلا بد للعبد أن يستحضر قرب الرب – جلَّ وعلا – منه وإطلاعه عليه، لأن ذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
وأما المرتبة الثانية وهي مرتبة الحياء من الله - عزَّ وجلَّ - فهي ناتجة عن معرفة العبد بأن الله - عزَّ وجلَّ - يراه على أي حال، ويطلع عليه في كل أمر من أمره، فيستحيي العبد من خالقه أن يجده حيث نهاه أو يفقده حيث أمره، فيكون بذلك قد جعل الله - عزَّ وجلَّ - أهون الناظرين إليه. كما قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].
وقال بعض الصالحين: خفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحيي من الله على قدر قربه منك.
وقد دلّ القرآن على قرب الرب - تبارك وتعالى - من عباده واطلاعه عليهم في كثير من آياته، ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. وقال - عزَّ وجلَّ -: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
* وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين القبلة))[3].
* وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))[4].
قال أبو بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم، خُلّي بينك وبين المحراب وبين الماء كلما شئت دخلت على الله - عزَّ وجلَّ - وليس بينك وبينه ترجمان.
والشاهد من ذلك أن من وصل إلى استحضار قرب الله - عزَّ وجلَّ - منه واطلاعه عليه استأنس بالله - عزَّ وجلَّ - واطمأن قلبه، ولم تنازعه نفسه في معصية الله والتجرؤ عليه؛ لأن هذه المراقبة يتولد عنها الحياء وهذا الحياء يمنع العبد من مفارقة المعصية وموافقة النفس والشيطان عليها.
وأما المرتبة الثالثة التي يتضمنها الإحسان فهي مرتبة الأنس بالله - عزَّ وجلَّ - والاطمئنان إليه والفرح بعبوديته.
قال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض، فقلت: كأنك تكره أن تؤتى؟ قال: أجل! فقلت: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس مَنْ ذكرني؟
وقيل لمالك بن مغفل وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ قال: أويستوحش مع الله أحد؟!!
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنِس.
وقال غزوان: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه.
فهؤلاء القوم استأنسوا بالله - عزَّ وجلَّ - واطمأنوا إليه، فلم يحوجهم إلى غيره؛ بل جعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية.
وقد بلغ نبينا - صلى الله عليه وسلم - الغاية في ذلك، لأنه أكمل الخلق فما انقطع عن الناس، وما أغلق الأبواب، وما وضع الحجاب، وما سكن الجبال والكهوف ليختلي بالله - عزَّ وجلَّ - وإنما كان يجالس أصحابه، ويمشي في حاجة الأرملة والمسكين، ومع ذلك كان في أنس دائم بالله - عزَّ وجلَّ - وكان الحبل ممدودًا بينه وبين الله - تبارك وتعالى - قال عبدالله بن عمر: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرة: ((ربِّ اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم))[5].
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة))[6]. وهذا هو الكمال الحقيقي الذي أوتيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يقوم بحقوق العباد على أتم وجه وأكمله، ويقوم بحقوق النفس والأهل كذلك، وهو في ذلك كله لا يفتر لسانه من ذكر الله - عزَّ وجلَّ - كان إذا أراد الصلاة قال: ((أرحنا بها يا بلال))[7]. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء. قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعَهُ[8].
ويحدثنا حذيفة رضي الله عنه عن طول قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل لله رب العالمين فيقول: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً[9]، إذا مرَّ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه[10].
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))[11] فهكذا حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الكمال في كل مراتب العبودية، وهذا ما عجز عنه غيره من البشر. فقد روي عن مسلم بن عابد – عليه رحمة الله – أنه قال: لولا صلاة الجماعة ما خرجتُ من بيتي أبدًا. فأين عيادة المرضى، واتباع الجنائز، والسعي في حوائج المسلمين؟!
والشاهد من ذلك كله أنه ينبغي للعبد أن يكون متصلاً بالله - عزَّ وجلَّ - ذاكرًا له، مستأنسًا به - تبارك وتعالى - غير مستوحش من فقد الأنس والجليس. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما سجنه أعداؤه، وأغلقوا عليه الأبواب، كان يكثر من قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وكان يقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي .. أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، وكان عليه رحمة الله يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
أيها المسلمون:
أمر الله - عزَّ وجلَّ - بالإحسان فقال سبحانه: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. وقال - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
فالله - عزَّ وجلَّ - أمر بالإحسان وحث عليه وبَيَّن فضائله، ولذلك فهو يحب المحسنين، ويثيبهم ويدافع عنهم، كما قال سبحانه: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]. وكما قال سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
يكلؤهم، ويؤيدهم، وينصرهم على أعدائهم، ويقضي حوائجهم. قال – سبحانه وتعالى – في ثواب من أحسن: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]. ولماذا يخاف والله معه؟! ولماذا يحزن والله ناصره ومؤيده؟! {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. أما الذين أعرضوا عن الله، وتنكبوا الصراط المستقيم، وساروا في طريق الغي والضلال، فأولئك لهم الخزي في الدنيا والآخرة، فلا حظَّ لهم في الجنة، ولا حظَّ لهم من النظر إلى الله - عزَّ وجلَّ - وهذا من أعظم العقاب وأشده عليهم يوم القيامة، كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
وسوف يصطرخون يوم القيامة، ويتمنون أن لو كانوا أحسنوا في الدنيا وقدموا لأنفسهم عملاً صالحًا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 56-58] ولكن هيهات هيهات: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا وإياكم للإيمان، وأن يجعلنا ممن بلغ مرتبة الإحسان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يليق بجلاله وكما يكافئ إحسانه ونعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين، وعنا وعن عباد الله الصالحين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله واتباع أمره، واحترام محارمه، فإن تقواه وصيته للأولين والآخرين من خلقه؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
* أيها المسلم:
إذا عرفت فضل الإحسان وحقيقته ومنزلته وأجره وثوابه، فاعلم أنك مأمور بالإحسان في كل شيء، وفي كل عمل، وفي كل قول، وفي كل فعل، بل وفي كل خطرات قلبك وسكناتك، كما قال - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم عن شداد بن أوس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، فليُرِحْ ذبيحته))[12].
فبهذا الحديث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - عزَّ وجلَّ - كتب الإحسان على كل شيء.
وأعظم ما يكون الإحسان؛ الإحسان في عبادة الله، الإحسان في توحيد الله - عزَّ وجلَّ - الإحسان في الاعتقاد، بأن يعتقد اعتقادًا سليمًا، ويوحد توحيدًا خالصًا، لا يشوبه شرك في الربوبية، ولا في الألوهية، ولا إلحاد، ولا تعطيل شيء من الأسماء والصفات، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والقرون المفضلة، فإن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط للإحسان وصحة العمل كما قال - عزَّ وجلَّ -: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} أي حقق التوحيد {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
كذلك أيها المسلمون يكون الإحسان في العبادات، فالعبد مأمور بالإحسان في الصلاة، وذلك بأن يستكمل طهارتها، ويستحضر خشوعها، ويستكمل أركانها، ويستقصي واجباتها، ويحرص على أداء سننها، وأن يحرص على جماعة المسلمين، وبهذا يكون محسنًا في صلاته، فتكون حينئذ ناهية له عن الفحشاء والمنكر.
ومأمور بأن يحسن في الصيام، بأن يحرص على إكمال صيامه، وإتمام عدته، وأن يجنِّبه المحارم والتي تؤدِّي به إلى ذهاب الأجر والثواب. كالغيبة والنميمة وأكل الحرام وما أشبه ذلك.
ومأمور بالإحسان في الحج؛ بأن يحرص على أن يحجَّ من مال طيب حلال مبارك، وأن يجتنب الرفث والفسوق والعصيان، وأن يحج كما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم.
كذلك مأمور أن يحسن في كل عباداته، في جهاده لرب العالمين، وذلك بأن تكون نيته سليمة خالصة لله، أن يجاهد كما جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لتكون كلمة الله هي العليا، فمن جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو محسن متبع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلابد من إحسان النية في الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
ومن ذلك أن يدافع عن بلاد المسلمين ومقدساتها، ضد أعداء الإِسلام من اليهود والنصارى والملاحدة والوثنين وغيرهم من أهل العلمنة والنفاق.
فالجهاد الشرعي هو أن يجاهد المرء لتكون كلمة الله هي العليا، وأن يدافع عن مقدسات المسلمين، وأن يدافع عن راية لا إله إلا الله، وعن شريعة رب العالمين - سبحانه وتعالى.
والعبد مأمور بالإحسان في المعاملات أيضًا، معاملاته للناس بقوله وفعله كما قال - عزَّ وجلَّ -: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] وكما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. مأمور بالإحسان في معاملته ابتداءً من أقرب الأقربين والديه وذوي أرحامه، كما قال - عزَّ وجلَّ -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]. وهكذا مع جميع المسلمين حتى مع الكفار لا يجوز له أن يظلم الكفار؛ بل لا بد أن يعاملهم بالعدل في حدود ما شرع الله - عزَّ وجلَّ - وبيَّن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.
بل إن العبد أيها المسلمون مأمور بالإحسان حتى مع البهائم ولهذا نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه النقطة اللطيفة ليبين أن الإحسان مطلوب في كل شيء قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته))[13] حتى مع الحيوانات في حال القتل العبد مأمور بالإحسان، كيف لا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض))[14].
يا عباد الله:
امرأة دخلت النار في هرة، كما أن امرأة بغيًّا دخلت الجنة في كلب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينما كلب يُطيف برَكيَّة – أي بئر – قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقها – يعني خفَّها – فاستقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به))[15].
والظاهر من هذا أنها تابت من الزنا.
امرأة دخلت الجنة في كلب، وأخرى دخلت النار في هرة.
أيها المسلمون:
إن كان الأمر كذلك فما ظنكم بالذين يجيعون ويعطشون الخدم والعمال، هؤلاء الظلمة الذين يمر الشهر والشهران وعندهم عمال مسلمون ضعفاء لا يستطيعون أن يصلوا إلى المحاكم، لا يستطيعون أن يطالبوا بحقوقهم، فيمنعونهم حقهم شهورًا عديدة؛ بل ربما بعضهم سافر عامله ولم يدفع له ريالاً واحدًا، فذلكم أولى بالنار والعياذ بالله يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه))[16] أخرجه ابن ماجه وغيره. ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خاصمته وذكر منهم: ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفه أجره))[17]. تلكم والله جريمة عظيمة أيها المسلمون، وليس هذا من الإحسان، ولكنه من البغي والجور والظلم، فليتق الله الذين يتعاطون هذا العمل.
كما أن العبد مأمور بالإحسان في ترك المحارم والبعد عنها، لأن المحسن يعلم أن الله - عزَّ وجلَّ - يراه فيستحيى أن يقدم على شيء منها فلا ينظر إليها بعينيه، ولا يسمعها بأذنيه، ولا يأكلها، ولا يتعاطاها، ولا يسعى إليها، فكل ذلك حرام وقد قال - عزَّ وجلَّ.
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120].
والحاصل أيها المسلمون: أن الله أمر بالإحسان في كل شيء، وأن الإحسان داخل في كل شيء، في الاعتقادات، في العبادات، في المعاملات، في الأخلاق، في كل أمر من أمور الحياة، هناك عدل وإحسان، كما أن هناك أيضًا ظلمًا وبغيًا.
أيها المسلمون:
من القصص التي تروى عن الإحسان في ترك المحارم ما روى البيهقي وغيره عليه رحمة الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمشي ذات ليلة هو وواحد من عسسه في آخر الليل فسمع هو والرجل الذي معه سمع حوارًا من داخل أحد البيوت، سمع أمًّا تقول لابنتها الصغيرة: يا بنية، امزجي اللبن بالماء، فقالت البنية: أما تعلمين أن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نغش اللبن بالماء، فقالت الأم: إن أمير المؤمنين لا يراكِ الآن!! فقالت البنت: إذا كان أمير المؤمنين لا يرانا، فإن رب أمير المؤمنين يرانا، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، فوضع عمر بن الخطاب على الباب علامة، فلما كان الصباح سأل عن البنت فعلم أنها لم تتزوج بعد، فجمع أولاده، فقال: يا بني، هل لأحدكم حاجة ببنت تقية، فوالله لو كان بأبيكم حركة للنساء ما سبقتموه إليها، فتزوجها أحد أولاده، وكان من نسلها عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه وأرضاه - وأكرم في الجنة مثواه.
ويورى عن رجل أنه راود امرأة عن نفسها فقال أغلقي الأبواب فقالت أغلقتها إلا بابًا واحدًا، قال: أغلقيه، قالت: والله لا أستطيع، قال: أنا أستطيع، فجاء ليغلقه قالت: أغلق باب السماء، قال: والله لا أستطيع فانزجر وارعوى وترك معصيته.
والقصة الثانية في "الصحيح"[18]: أن الثلاثة الذين آوَوْا إلى الغار وحصل لهم ما حصل ذكر أحدهم في حاله – أنه لما جلس من ابنة عمه كما يجلس الرجل من زوجته بعد أن جاءت طائعة ومكنَّته من نفسها، قالت له وهي على تلك الحال:
"يا هذا اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه"، فأصابته رعدة، وقام عنها، وأعطاها المال صدقة لله - عزَّ وجلَّ.
فهذا هو الإحسان يا عباد الله، هذا هو الإحسان في ترك المحارم، نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا ممن أحسن قولاً وعملاً، وأن يوفقنا للصالحات، ويرزقنا توبة ناصحة قبل الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلوا – رحمكم الله – على رسولكم وإمامكم، فقد أمركم الله بذلك، فقال الله - تعالى - قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَلى عليَّ صَلاة صَلَّى الله عَليه بِها عَشرًا))[19].
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبيك نبي الرحمة، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري (1/18) كتاب الإيمان، ومسلم (1/37) رقم (
.
[2] أخرجه مسلم (1/163) رقم (181).
[3] أخرجه البخاري (1/106) كتاب الصلاة، ومسلم (1/390) رقم (551).
[4] أخرجه البخاري (8/171) كتاب التوحيد، ومسلم (4/2061) رقم (2675).
[5] أخرجه أبو داود (2/85) رقم (1516). والترمذي (5/461) رقم (3430). وابن ماجه (2/1253) رقم (3814). قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الحاكم في المستدرك.
[6] أخرجه مسلم (4/2075) رقم (2702).
[7] أخرجه أبو داود (4/296) رقم (4985، 4986)، وأحمد (5/364، 371) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).
[8] أخرجه البخاري (2/45) كتاب التهجد، ومسلم (1/537) رقم (774).
[9] مترسلاً: الترسل: ترتيل الحروف وإعطاؤها حقها ومستحقها.
[10] أخرجه مسلم (1/536) رقم (772).
[11] أخرجه البخاري (2/44) كتاب التهجد، ومسلم (4/2171) رقم (2819، 2820).
[12] أخرجه مسلم (3/1548) رقم (1955).
[13] تقدَّم تخريجه في نفس الخطبة.
[14] أخرجه البخاري (4/152) كتاب الأنبياء. ومسلم (4/2022) رقم (2242).
[15] أخرجه البخاري (4/148) كتاب الأنبياء، ومسلم (4/1761) رقم (2245).
[16] أخرجه ابن ماجه (2/817) رقم (2443). والبيهقي (6/121). والطحاوي في مشكل الآثار (4/142) والحديث صحيح صححه الألباني كما في الإرواء رقم (1498).
[17] أخرجه البخاري (3/50) كتاب الإجارة.
[18] انظر صحيح البخاري (3/51) كتاب الإجارة. ومسلم (4/2099) رقم (2743).
[19] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).