اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  يوسف في بيت العزيز

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100260
 يوسف في بيت العزيز Oooo14
 يوسف في بيت العزيز User_o10

 يوسف في بيت العزيز Empty
مُساهمةموضوع: يوسف في بيت العزيز    يوسف في بيت العزيز Emptyالجمعة 7 يونيو 2013 - 3:51

إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:
فلنستمع إلى القرآن وهو يواصل معنا عرض قصة يوسف عليه السلام، في إبداع عجيب، وفي تصوير مشرق رائع، بعد أن تركناه في الجب وحيدًا، ولكن الله معه، غريبًا؛ ولكن الله يؤنسه فالله - سبحانه وتعالى - يقول: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني))[1] فمن ذكره فهو معه - سبحانه وتعالى - كما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
اذْكُرونا مثل ذِكْرانا لكمْ رُبَّ ذكرى قَرَّبتْ مَنْ نَزَحَ
بك استجيرُ ومن يجير سواكَ فأجِرْ غريبًا يحتمي بحماكَ
إني ضعيفٌ استعينُ على قِوى جهلي ومَعْصِيتي ببعض قِواكَ
* يقول الله سبحانه وتعالى تكملةً للقصة المذهلة المدهشة: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 19-24].
تُرِكَ في البئر وحيدًا، وعاد إخوته يبكون بكاء الكذب، ويعرضون دم الكذب على قميصه، تركوه وحيدًا، ولكن من كان الله جليسه فلا يستوحش أبدًا. قال أهل العلم: لما أُنزل يوسف عليه السلام في الجب، أخذ يذكر الله، ويكبر الله، ويهلل الله، قال عزَّ مَنْ قائل: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19]. إنه في صحراء مدوية، في بيداء شاسعة لا يجرؤ أحدٌ على خوض غمارها، لكنَّ الله أتى بقافلة، بموكب عظيم ليخلص يوسف عليه السلام من الجب.
ضلت القافلة طريقها، أتت من الشام تريد فلسطين، فضلَّت، وسوف تعترض مصر في طريقها، ذهبت إلى تلكم الصحراء؛ لحكمة أرادها الله.
وعناية الله تحفظ من يريد الله حفظه، ورعاية الله تحفظ العبد في كل طرفة عين، وفي كل لحظة، وفي كل مكان، وفي كل زمان.
يقول ابن الجوزي في "صِفَةِ الصَّفوةِ"، وهو يتحدث عن رعاية الله وعنايته: "يقول أحد الصالحين: رأيت عصفورًا يأتي بلحم، ويذهب به إلى نخلةٍ في الصحراء، فتتبعتُه، فوجدته كل يوم يأخذ من المزبلة لحمًا وخبزًا، ويذهب به فيضعه في تلكم النخلة، قال: فصعدت لأرى، وعهدي بالعصفور أنه لا يعشعش في النخل، فرأيت حيةً عمياء، كلما أتاها هذا العصفور بهذا اللحم، فتحت فاها وأكلت"!!
فمن ذا الذي سخَّر لها العصفور، إنه الذي سخَّر تلك القافلة ليوسف عليه السلام؛ لتأخذه من البئر.
وأدلى واردهم دلوه في البئر، والقرآن عجيب في العرض، رائع في الأداء، بديع في التصوير، لم يقل: أدلى دلوه، ثم تعلق يوسف بالدلو، ثم سحب الوارد الدلو، ثم أخرجه، فقال: مَنْ أنت؟ ثم ذهب به إلى أصحابه. بل جاء بالفاء التعقيبية؛ لأن عنصر المفاجأة في الآية يقتضي ذلك {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19]. فأتى بالفاء {فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ} [يوسف: 19]. أدلى دلوه، فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو، ثم سحبه الوارد، فرأى يوسف عليه السلام، غلامًا صبيحًا، أوتي شطر الحسن، فقال لأصحابه {يَا بُشْرَى} - وقرأ أهل الشام ((يا بشرايَ)) - {هَـذَا غُلاَمٌ} أي: خادم وعبدٌ أبيعه وأنتفع بثمنه.
{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] قيل: أخفاه بعضهم عن بعض، وجعلوه بضاعة، وقيل: أخفَوهُ عن الناس، خوفًا من أن يجدوا أباه، أو أهله، أو إخوانه، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه، وهم الذين طرحوه، وهم الذين هجروه وأبعدوه، {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19].
الله يتابع سيرة هذا النبي، وقصة هذا الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - ذهبوا به {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]. وشرى هنا بمعنى باع، باعوه بثمن بخس، ولو دفعت الدنيا وما فيها في مثل يوسف عليه السلام لكانت ثمنًا بخسًا، ولكانت غبنًا، ولكانت خسارة.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] لم يقل موزونة، وإنما قال معدودة؛ لأن المعدود دائمًا أقل من الموزون، فلو قال: موزونة، لكانت كثيرة، وإنما قال معدودة؛ ليبين أنها دراهم قليلة.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] لا يرغبون فيه، لا يريدون أن يكون معهم، ومن الذي اشتراه يا ترى؟ إن الذي اشتراه هو عزيز مصر!! {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ} [يوسف: 21] ولم يذكر سبحانه وتعالى العزيز باسمه هنا لأمرين، الأول: لأن بطل القصة يوسف عليه السلام، فما كان لعنصر ثانٍ أن يتدخل في القصة.
ثانيًا: لأن كلمة العزيز لا يستحقها؛ لأن العزيز مَنْ أعزه الله بطاعته، والشريف من دخل عبودية الله.
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَفَخْرًا وَكِدْتُ بِأَخْمصِي أَطَأْ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا
فقال لأمرته {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21]. وهذا مبالغة في الإِكرام، أي: أحسني طعامه، وشرابه، وكسوته، ونومته؛ {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} [يوسف: 21]، فيخدمنا في أغراضنا، ويقرب لنا بعض حوائجنا، {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21].
كان العزيز حصورًا لا يأتي النساء، وكانت امرأته عقيمًا، فأراد أن يتخذ هذا الغلام ولدًا، يترعرع بينهما، وينشأ في بيتهما، وما علما أن الله قد قضى شيئًا آخر، وأنه سوف يكون نبيًّ من الأنبياء، ورسولاً يحمل رسالة السماء، وداعية إصلاح يحرر الشعوب، ويقود الأجيال إلى الله، فكيف يباع الحر في مصر؟! وكيف يسود العبد هناك؟! أيباع الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم!!
عجبتُ لمصرَ تَهْضمُ الليث حقَّهُ وتفخَرُ بالسِّنَّوْرِ ويحَكِ يا مصرُ!!
سلامٌ على الدنيا سلامٌ على الوَرَى إذا ارتفع العصفورُ وانخَفَضَ النسرُ
بيع عليه السلام، ومكث في قصر العزيز، تقيًّا، عابدًا، متألهًا، متصلاً بالحي القيوم.
وتمر الأيام، ويزداد حسنًا إلى حسنه، وجمالاً إلى جماله، وتأتي الطامَّة الكبرى، تراوده المرأة عن نفسه فيا للفتنة العظيمة، ويا للمحنة الأليمة.
شاب أعزب غريب، شاب فيه هيجان الشهوة، وأعزب ليس له أهل يعود إليهم، وغريب لا يخشى على نفسه من السمعة القبيحة، كما يخشى المقيم وسط أهله وجيرانه.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 23]. تعرضت له كثيرًا، وتجملت له دائمًا؛ لأنها ذات منصب وجمال، ملكة في قصر ملك، ولكن الله معه يحفظه ويسدده. وفي يوم من الأيام؛ غَلَّقت الأبواب، وكانت سبعة أبواب، {وَغَلَّقَتِ} [يوسف: 23] كل باب، ولم يقل: أغلقت، وإنما {وَغَلَّقَتِ} [يوسف: 23] زيادة في المبنى، ليزيد المعنى، {وَغَلَّقَتِ} للتكثير، فلما غَلَّقَت الأبواب، خلت هي وإياه، ولكن الله - سبحانه وتعالى يراهما - {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [الشعراء: 218-219]. راودته المرأة، {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]. تهيأت لك، تجمَّلت لك تزينت لك!! {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]. ولكن المرأة أصرت على الفاحشة، ولم تعد ترى إلا جمال يوسف.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24]. اقتربت منه وتعرضت له {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. لولا أن أدركه الله بعنايته وحفظه ورعايته لهلك، ولارتكب الفاحشة.
وإذا خلوتَ برِيبَةٍ في ظُلْمةٍ والنفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيانِ
فاستحي من نظر الإِلهِ وقُلْ لها إن الذي خلق الظلام يراني
يا مَنْ سَتَرْتَ مثالبيِ ومعايبي وجعلتَ كلَّ الناسِ كالإخوانِ
والله لو عَلموا قبيحَ سريرتي لأَبَى السَّلامَ عليَّ مَنْ يلقاني
{وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. أصابه شيء من حظ النفس البشرية، انتابه من النقص البشري، دارت بخلده المعصية، ولمَّا يفعل؛ لأنه من عباد الله المخلصين {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. فما هو هذا البرهان؟ استمعوا إلى أقوال المفسرين، وأعرضها عليكم ثم نخرج بالصحيح الراجح إن شاء الله.
* قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: لما همَّ يوسف بها، سمع هاتفًا يهتف يقول: يا يوسف، إني كتبتك في ديوان الأنبياء فلا تفعل فعل السفهاء.
* قال السُّدي: سمع هاتفًا يهتف يقول: يا يوسف اتق الله، فإنك كالطائر الذي يزينه ريشه، فإذا فعلت الفاحشة نتفت ريشك.
وقال بعض المفسرين كما أورد ابن جرير الطبري: رأى لوحة في القصر مكتوب عليها: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. وقال غيرهم: رأى كفًّا قد كُتب عليه. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]. إننا نحفظ حركاتكم، وسكناتكم، وتصرفاتكم، إننا نراكم، إننا نشاهدكم.
* وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لما همَّ يوسف عليه السلام رأى يعقوب أباه في طرف الدار، قد عضَّ على أصبعه ويقول: يا يوسف اتقِ الله. أوردها ابن جرير وابن كثير.
* وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضًا: لما همَّت به وهمَّ بها، قالت: انتظر، قال: ماذا؟ فقامت إلى صنم في طرف البيت، فسترته بجلباب على وجهه. صنم لا يتكلم، لا يسمع، ولا يبصر، لا يأكل، ولا يشرب، قال: ما لك؟ قالت: هذا إلهي، أستحي أن يراني!! فدمعت عيناه وقال: أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور؟!
* والصحيح في ذلك ما قاله ابن تيمية - شيخ الإسلام - وغيره من أهل العلم؛ أن برهان ربه الذي رآه: واعظ الله في قلب كل مؤمن، تحرك واعظ الله، والحياء من الله، والخجل من الحي القيوم، في قلب يوسف عليه السلام، فارتد عن المعصية وعاد منيبًا إلى الله. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ][النازعات: 40-41]. تذكر الوقوف بين يدي الله يوم يحشر الناس حفاةً عراة.
فبرهان ربه؛ واعظ الله في قلبه يعظه بالتوحيد ويناديه بالتقوى.
فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم؟ وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف عليه السلام قدوة لهم؟ فيا من يطلع على عورات المسلمين، أليس لك في يوسف عليه السلام قدوة؟! ويا من يعامل ربه بالمعاصي، ويرتكب الجرائم، ويحرص على الزنا، أما رأيت يوسف، وقد خلا بامرأة جميلة ذات منصب، فتذكر واعظ الله في قلبه؟ ويا من يدعو إلى تبرج المرأة، وإلى الاختلاط، أرأيت ماذا تفعل الخلطة والتبرج؟!
يوسف نبي معصوم، كاد أن يزل، وأن يهلك، وأنت تنادي المرأة أن تتبرج، وتسفر عن وجهها، وتخالط الرجال، فأين الواعظ إذن؟ وأين التقوى إذن؟ وأين مراقبة الله؟
* يقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان))[2] ويقول: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس))[3].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية))[4].
فيا شباب الإسلام، أما رأيتم ماذا فعل يوسف - عليه السلام؟
ثم قال الله له: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} [يوسف: 24] لنعمر مستقبله باليقين، لنجعله من ورثة جنة رب العالمين، مع المؤمنين الخالدين الصالحين، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. وإذا أخلص العبد لله، حماه الله من الفتن، ووقاه المحن، وجنبه الشرور.
يقول سعيد بن المسيب – رحمه الله -: إن الناس في كنف الله، تحت كنفه وظلِّه، فإذا أراد أن يفضح أحدهم، رفع ستره سبحانه وتعالى عنه.
فيا شباب الإسلام، ويا معاشر المسلمين، انظروا إلى هذا التقي النقي الورع، انظروا إلى من راقب الله فأسعده الله، ونجَّاه الله، وحفظه الله.
يَا وَاهِبَ الآمَالِ أَنْ تَ حَفِظْتَنِي فَمَنَعْتَني
وعَدَا الظَّلُومُ عليَّ كَي يجتَاحَني فَمَنَعْتَني
فانْقَادَ لِي مُتَخَشِّعًا لمَّا رَآكَ نَصَرْتَنِي
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رسول رب العالمين، وقدوة الناس أجمعين، وهداية السالكين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ثم كان من أمر يوسف وامرأة العزيز أن قال الله تعالى: {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف: 25]. هو يهرب من الفاحشة، وهي تلاحقه، ويا للفتنة، يهرب إلى الله، يفر إلى الحي القيوم، وهي تلاحقه {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 25]. شقت قميصه وهي تلاحقه، وتدعوه إلى نفسها، وهو يلتجئ إلى الله، ويصيح بأعلى صوته، وصوته يدوي في القصر: {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]. {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} قال جمٌّ غفير من المفسرين {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}: أي إنه سيدي زوجك، أحسن استقبالي وضيافتي، فكيف يكون جزاء معروفه، ورد جميله أن أخونه في أهله.
وقال السُّدِّيّ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} إنه إلهي الحيُّ القيوم، اجتباني ورباني وعلمني وحفظني وحماني وكفاني وآواني، فكيف أخون الله في أرضه؟ وكيف أعصي الله؟! وكيف أنتهك حرمات الله؟! فيا من أراد أن يفعل المحرمات، ويتعدى الحرمات، تذكر معروف الله عليك، وقل: {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] قل معاذ الله، لا أعصي الله؛ فإنه رباني ورزقني وكفاني وآواني: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25].
إن هذه القصة مذهلة، إنها مدهشة، كلها مفاجآت وقضايا، ولفتات ومباغتات، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] وإذا بسيدها، برجلها، بزوجها عند الباب، فتح الباب، فإذا بيوسف وامرأته واقفان عند الباب، في وضع مريب، وانظر إلى كيد النساء، وانظر إلى مكر المرأة، تسبق يوسف بالكلام، تضرب وتبكي، وتظلم وتشتكي، تقول: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] هذا أراد بي السوء وغلق عليَّ الأبواب، ودعاني لنفسه، فما هو جزاؤه عندك؟ لا بد أن يسجن، أو يعذب عذابًا أليمًا.
قال ابن عباس: يضرب بالسياط، فقال يوسف بلسان الصادق، الناصح، الأمين، التقي، الورع، الزاهد، العابد: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}، وصدق والله {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]. فمن هو هذا الشاهد يا ترى؟
قيل: رجل من أبناء عمومتها شهد عليها، وقيل: ابن خالها، وقيل: رجل من الخدام. وقيل الشاهد: طفل صغير، كان بالغرفة، لا يتكلم، فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء.
أتَوا إلى الطفل في المهد، لا يتكلم ولا ينطق، فقال: صدق يوسف، وكذبت المرأة، هي التي همَّت به، هي التي راودته، هي التي دعته إلى نفسها. ولذلك في ((مسند أحمد))، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((تكلم أربعة صغار: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون))[5]؛ وهذا سندٌ جيدٌ.
فشهد هذا الشاهد، وعرض أمرًا يستطيعون به تعرفَ الصادق منهما.
قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26]. وبدأ بتصديقها؛ لأنها ملكة؛ ولأنها صاحبة منصب؛ ولأن التهمة بعيدة عنها، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27]. فلما عاينوا قميصه، واطَّلعوا عليه، رأوه قد قُدَّ من دبرٍ، فصدقوه، وأعلنوا براءته، واستخلصوه، ووفوه حقه من التبجيل والإكرام إلا في بعض الأمور التي سوف تأتي بإذن الله تعالى.
ثم قال الله – عز وجل -: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا} [يوسف: 29]. لا تتكلم بذلك في المجالس، لا تتحدث به، لا تنشره.
وكثير من الناس يتبجح في المجالس بالمعصية، قال بعض المفسرين: إن العزيز هو القائل: {أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا} [يوسف: 29] يعني لا تتحدث إلى الناس بهذه الواقعة.
ثم قال لامرأته: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] إنه انتصار ما بعده انتصار، انتصار على النفس الأمارة بالسوء، وهل النصر العجيب إلا أن ينصرك الله على نفسك!! وأن يعلي حظك، وألا يخيب ظنك، وأن يحفظك من الفتن، ومن المحن ومن المعاصي؛ {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].
فيا مَنْ حفظ يوسف عليه السلام، احفظنا بحفظك، ويا من رعاه ارعنا برعايتك، يا رب العالمين، ويا من حرسه بعينه، احرسنا بعينك التي لا تنام. ويا من آواه إلى كنفه، آوِنا إلى كنفك الذي لا يضام، إنك على كل شيء قدير.

* عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[6].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد، واعرض صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

[1] أخرجه البخاري (8/171)، ومسلم (4/2102) رقم: (2675).
[2] أخرجه الترمذي (4/404) رقم: (2165)، وقال: حسن صحيح غريب.
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
[3] قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/66): رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن عيد المقبري، وهو متروك.
[4] أخرجه أبو داود (2/246) رقم: (2149)، والترمذي (5/94) رقم: (2777) وقال: حسن صحيح غريب، وحسنه الألباني كما في ((صحيح الجامع)) رقم: (7953).
[5] أخرجه أحمد (1/310) موقوفًا. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/70)، رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الكبير)) و((الأوسط))، وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط.
[6] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
يوسف في بيت العزيز
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصة إمرأة العزيز و يوسف الصديق
»  الشيخ عبد العزيز بن باز
» يوسف وامرأة العزيز .. ودرس في العفة للشباب
»  مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبد العزيز بن باز (1-6) المؤلف الشيخ عبد العزيز بن باز
» قصة حمار العزيز

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: