اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99980
لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته Oooo14
لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته User_o10

لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته Empty
مُساهمةموضوع: لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته   لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته Emptyالأحد 2 يونيو 2013 - 14:59

لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته

الحمد لله حمدًا مباركًا، وإن كان يتضاءل مع حمد جلاله حمد الحامدين، وأشكره سبحانه شكرًا متواليًا، وإن كان يتضاءل مع فضله سبحانه شكر الشاكرين، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وسِع الخلائقَ خيرُه، ولم يَسَع الناسَ غيرُه، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:

فأيها المؤمنون: قبل ألف عام ومائتين تقريبًا مات أمير من أمراء العرب وقوادهم آنذاك، يقال له محمد بن حميد الطوسي، فرثاه الشاعر العباسي المعروف أبو تمام بقوله:
كَذَا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ ولْيَفْدَحِ الأَمْرُ فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لَمْ يَفِضْ مَاؤُهَا عُذْرُ
تُوُفِّيَتِ الآمَالُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وأَصْبَحَ فِي شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ
كَأَنَّ بَنِي نَبْهَانَ يَوْمَ وَفاتِهِ نُجُومُ سَمَاءٍ خَرَّ مِنْ بَيْنِهَا البَدْرُ
مَضَى طَاهِرَ الأَثْوَابِ لَمْ تَبْقَ رَوْضَةٌ غَدَاةَ مَضَى إِلاَّ اشْتَهَتْ أَنَّهَا قَبْرُ
عَلَيْكَ سَلاَمُ اللَّهِ وَقْفًا فإِنَّنِي رَأَيْتُ الكَرِيمَ الحُرَّ لَيْسَ لَهُ عُمْرُ
فلئن قيلت هذه الأبيات في رثاء واحد من أمراء أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيا ترى ما يقول الإنسان وهو يستذكر اللحظات الأخيرة، والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين و الآخرين صلى الله عليه وسلم؟! لا ريب أن الحديث عن وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا يحتاج إلى بليغٍ تهتز له المنابر، ولا يحتاج إلى خطيب تحمل صدى قوله المنائرُ، إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعد برؤيته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جواره في جنته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي بلَّغ دين الله وأرشد إليه، وناجى ربه ودعا إليه، صلوات الله وسلامه عليه.

أيها المؤمنون: في آخر العام التاسع بدأ - صلى الله عليه وسلم - يشعر بدنو أجله، وقرب رحيله وفراقه لمن حوله، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه - عليه الصلاة والسلام - ودَّع معاذًا لما بعثه إلى اليمن، ومعاذ على راحلته وهو يمشي - صلى الله عليه وسلم - يقود الناقة، وأوصاه ما يفعله في الدعوة، ثم قال: ((يا معاذ لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، يا معاذ لعلك تمر على قبري ومسجدي))، ثم ودعه عليه الصلاة والسلام.

وفي خطبة عرفة كان يقول بعد كل مقطع من خطبته: ((ألاَ هل بلَّغتُ))، فيقول أصحابه: "نعم"، فيقول: ((اللهم فاشهد))، حتى إنه كان واضحًا معهم وهو إمام المخلصين: ((أيها الناس إنكم ستُسألون عني فماذا أنتم قائلون؟))، فقالوا: "نشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأديت الأمانة، ووفيت وأديت الذي عليك كله"، ثم رفع - صلى الله عليه وسلم - سبابته إلى السماء، ثم نكتها إلى الأرض، ثم قال: ((اللهم فاشهد)).

وكان يودِّع الناس شاعرًا بقرب أجله ودنو رحيله، وخرج ليلةً مع غلامه أبو مويهبة إلى البقيع يستغفر لهم، ثم قال: ((يا أبا مويهبة إن الله خيَّرني بين أن أعطى مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة))، فقاطعه أبو مويهبة وقال: "بأبي أنت وأمي اختر مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا والله يا أبا مويهبة، ولكني اخترت لقاء ربي ثم الجنة))، ثم رجع وقد أحس بصداعٍ في رأسه، فدخل على عائشة فقالت: "وارأساه!"، فقال: ((بل أنا وارأساه!))، أخبر عن مرضه، وعن الصداع الذي أصابه، ثم أخذ يشتد عليه الصداع مع الحمى تصيبه، وأخذ المرض يثقل عليه شيئًا فشيئًا، فلما أثقل عليه عرف أنه لا يستطيع أن يأتي إلى بيوت نسائه كلهن، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - اشتد عليه وجعه، فاستأذن أزواجه أن يكون في بيت عائشة - رضي الله عنها - فأذِنَّ له، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة - رضي الله عنها - تَخُطُّ رجلاه على الأرض، متكئًا على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - حتى أتى إلى بيت عائشة، فمكث في بيتها يشتد عليه المرض شيئًا فشيئًا، وهو يشعر بدنو أجله، فأخذ يصنع أشياء يودِّع بها الناس، وتبرأ بها ذمته، فإنه لما ثقل عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قِرَب من ماء لم تُحَلَّ أَوْكِيَتُهُنَّ، ثم خرج إلى الناس عاصبًا رأسَه، فدخل المسجد وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ في خطبته صلى على شهداء أحد واستغفر لهم، وفاءً لهم - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((أيها الناس، مَن كنتُ أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليقتصَّ منه))، فقام عُكَّاشَةُ بن مِحْصَن أمام الناس قائلاً: "يا رسول الله، أما إنك قد طلبت القصاص منك، فأنا أريد أن أقتص منك، وذلك أنك يوم كنت تسوي الصفوف يوم بدر طعنتني بعصًا كانت في يدك في خاصرتي وقد آلمتني، وأنت عرضت نفسك للقصاص"، فقام علي فقال: "أنا في القصاص فداءً له"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يا علي؛ بل يقتص مني))، فأمر بالعصا التي كانت معه فأُتِيَ بها، ورفع عكاشة العصا في يده واتجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء في المسجد، موقف من أشد المواقف على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حبيبهم في مرضه الشديد وصحابي يقتص منه أمام الناس، فلما وصل عكاشة بن محصن إلى المنبر ألقى العصا من يده، ثم ضم الجسم الشريف ومرَّغ وجهه في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: "جسمي لجسمك فداء!"، فضجَّ المسجد بالبكاء.

ثم أوصى الناس بالأنصار خيرًا، وفاءً لهم فقال: ((فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))، ثم أوصى بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ثم أوصى بالصلاة وقال: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم))، ثم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، ثم قال: (إن عبدًا خيَّره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده))، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وفهم المراد، وقال من أقصى المسجد: "فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله!"، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((على رسلك يا أبا بكر))، ثم التفت يبيِّن لهم فضل ومكانة أبي بكر فقال: ((إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر))، فلما انتهى من ذلك صلى بهم الظهر، ثم رجع إلى بيته يزداد عليه المرض شيئًا فشيئًا، ثم دخلت عليه فاطمة - رضي الله عنها - فسارَّها بشيء فبكت، ثم سارَّها بشيء فضحكت، ثم سُئلت عن ذلك بعدُ فقالت: إنه أخبرها في الأولى أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقًا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة فضحكت رضي الله عنها.

ثم إنه قَبْل وفاته بأربعة أيام أعتق غلمانه، وتصدَّق بسبعة دنانير كانت عنده، ثم مكث المرض يشتدُّ عليه فكان يغيب أحيانًا ويفيق أحيانًا من شدة الحمى التي كانت تصيبه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلي بالناس أرسل إلى أبي بكر أن يصلي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقالت: "يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعته"، فأوصت مَن يدعو عمرَ أن يصلي بهم، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلينَّ بالناس إلا أبو بكر)) كالإشارة إلى استخلافه من بعده، ثم ثقل عليه المرض وبقي أبو بكر يصلي بهم، حتى خرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ووجدهم يصلون خلف أبي بكر، فأشار إلى أبي بكر أن ابقَ مكانك، فلم يَقبَل فرجع أبو بكر، فلما فرغ من الصلاة قال لأبي بكر: ((ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟))، فقال أبو بكر: "ما كان لأبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، ثم عاد إلى بيته يشتد عليه الوجع، ويرى من الكرب ما الله به عليم.

حتى كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، استهل - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم، كان الناس في صلاة الفجر، فإذا به يكشف الستار الذي كان بينهم وبين بيت عائشة - رضي الله عنها - فلما رآه الصحابة متهللاً وجهُه كأنه ورقة مصحف، كادوا أن يفتتنوا ظنًّا منهم أنه برئ فهمَّ أبو بكر أن يرجع، فأشار إليهم أن ابقوا مكانكم، ونظر إليهم نظرة مودع، إنها النظرة الأخيرة! التي لن يراها أصحابه وأحباؤه بعدها في الدنيا، إنها نظرة الفراق! لن ينعموا بعدها برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا أبدًا بعد هذا اليوم، ثم رجع إلى حجرته يشتد عليه المرض، وبين يديه رِكْوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكراتٍ، اللهم أعني على سكرات الموت))، ثم دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال، فقالت: "واكربَ أبتاه!"، فقال وهو العارف بربه: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))، ودخل عليه أسامة وأشار إليه أنِ ادعُ لي، فلم يستطع - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بلسانه، ولكنه رفع يديه يدعو لأسامة في سره، ثم ثقل عليه المرض فدخل عليه عبدالرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن وحدَّ البصر في عبدالرحمن، ففهمت عائشة أنه يريد السواك، فأشارت إليه فأومأ برأسه أنْ نَعَم، فأخذت السواك من أخيها ومضغته ولينته ثم أعطته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كآخر عمل يصنعه في حياته، ثم أرجعه ورفع إصبعه وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه، وأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، اللهم اغفر لي وارحمني؛ بل الرفيق الأعلى)) كررها ثلاثًا حتى كان آخر ما قال: ((بل الرفيق الأعلى))، ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه.

إنا لله وإنا إليه راجعون، مات الشفيق الرحيم بأمَّته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير، مات من كان للأيتام أبًا، مات من كان للأرامل عونًا وسندًا، مات نبي الأمة وقدوة الخلق، مات الذي نعمت برؤياه الأبصارُ، وتشنفت بسماع صوته وجميل حديثه الأسماعُ والآذان، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31].

الخطبة الثانية
أصيب الصحابة بالذهول لفقْد نبيهم، ومن ذلك ما كان من موقف عمر بن الخطاب، يقول: "إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليَرجعنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فليُقطِّعنَّ أيدي رجال يزعمون أنه مات".

وأقبل أبو بكر من بيته بالسنح فدخل المسجد ولم يُكلِّم أحدًا، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسجى، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبَّله وبكى وقال: "واصفياه"، ثم قبَّله أخرى وقال: "واخليلاه"، ثم قبله وقال: "طِبْتَ حيًّا وميتًا يا رسول الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها".

ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: "أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]".

قال ابن عباس: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها"، فأهوى إلى الأرض، وعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات.

وفي يوم الثلاثاء غسَّلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يجردوه من ثيابه، وغسله العباس وعليَّ، والفضل وقُثَم ابنا العباس وشُقْران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسامة بن زيد، ثم كفنوه وهو سيد ولد آدم وخير خلق الله، وأقسم الله له بأنه ما ودعه وما قلاه، ومع ذلك كفِّن كما كفِّن الموتى، فحفروا تحت فراشه وجعلوه لحدًا، حفره أبو طلحة، ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة عشرة، يُصلُّون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم النساء، ثم الصبيان، ثم وضعوه في قبره وحثوا التراب على ذلك القبر الشريف الطاهر.

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي القَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ
نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ العَفَافُ وَفِيهِ الطُّهْرُ وَالكَرَمُ
أيها المؤمنون هذا نبأ وفاة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وفيه من العبر والعظات الشيء الكثير، من أبرزها ما قاله الغزالي - رحمه الله -: "فما بالنا لا نتعظ بمصرع محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، لعلنا نظن أننا مخلدون، أو نتوهم أنَّا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون، هيهات هيهات!"، فأعدوا عباد الله عدة الرحيل قبل فوات الأوان، فإن الآجال تنزل بلا استئذان، وتحل بلا إعلان، فأكثروا عباد الله من ذكر هادم اللذات، فليس بعد موت نبينا محمدٍ خالدٌ، ولا في البقاء مطمع؛ بل الأمر كما قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].

ومن الفوائد الظاهرة في هذا النبأ شدة حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، حتى وهو في آخر لحظات حياته يوصي وينصح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فما أصدق ما قاله الله تعالى فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

ومن فوائده شدة اعتناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر التوحيد، وذلك يتضح من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح دعوته بالدعوة إلى عبادة الله وحده سبحانه، واختتم حياته بالتحذير من الشرك وتعظيم غير الله، فإن من آخر وصاياه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
ومن فوائد هذا النبأ عظم شأن الصلاة وخطرها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر الأمر بها، وحث على الاهتمام بها وهو يعاني سكرات الموت، فالله الله في الصلاة يا عباد الله، فإنها عمود الإسلام، ولا إسلام لمن لا صلاة له.

ومن فوائد هذا النبأ خطورة بقاء الكفار من المشركين واليهود والنصارى في جزيرة العرب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بإخراجهم في آخر حياته، وما ذلك إلا لخطر بقائهم في هذه الجزيرة، فإن هذه الجزيرة جزيرة الإسلام، وحصنه الحصين.

ومن فوائد هذا الحدث العظيم عظم منزلة أبي بكر رضي الله عنه، فقد نصر الله به الدين، وثبَّت به المؤمنين، وليس في الناس بعد الأنبياء خيرٌ منه، فهو أعمق الصحابة إيمانًا، وأثبتهم يقينًا، وأعلمهم بالله ورسوله، وأحزمهم في دين الله، وأطوعهم لله ورسوله، رضي الله عنه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
لحظات مع فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» نصرة الحبيب صلى الله عليه وسلم
» تواضع الحبيب صلى الله عليه وسلم
»  مع معجزات الحبيب صلى الله عليه وسلم
» هدي الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رمضان
»  أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: