اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الصدق

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100200
 الصدق Oooo14
 الصدق User_o10

 الصدق Empty
مُساهمةموضوع: الصدق    الصدق Emptyالخميس 23 مايو 2013 - 7:57

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْر الْهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم - وَشَر الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُل بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

إخوتي:
ما أعظمَ قدرَ الصدقِ! ففيه تتعلق سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة من شرهما، فما أنجى اللهُ مَن أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر الله – سبحانه - عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

لقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب؛ ففي غزوة تبوك حين غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا وعدوًّا كثيرًا، في وقت طابت فيه الثمار فتخلَّف عنها من تخلَّف، وحضرها مَنْ مَنَّ الله عليه ووفَّقَه لحضورها، لكن الأمر لم يقف على ذلك الحد، بل حينما رجع النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، افترق المتخلِّفُون عن هذه الغزوة إلى فريقين: فريق صِدْق ولم يكذب، وبيّنَ سبب تخلُّفِه، فمحصوا ثم تاب الله عليهم، وفريق آخر كذبوا، فعُفِي عنهم في بداية الأمر، ثم فَضَحَهم الله بقرآن يُتلَى إلى قيام الساعة، يقول كعب بن مالك، وهو يحدِّث حين تخلف عن تبوك: لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا وعدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أُهبَة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان، قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيَّب إلا ظن أن سيخفى أمره ما لم ينزل فيه وحيُ الله، وغزا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهَّز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت، ولم أقض شيئًا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهمَمْت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطُفْت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا عليه النفاق أو رجلاً ممَّن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك، فقال، وهو جالس في القوم بتبوك: ((ما فعل كعب؟))، فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره في عِطفَيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همِّي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأيٍ من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادمًا زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيءٍ فيه كذب فأجمَعْت صدقه، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادمًا، وكان إذا قدم من سفَر بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله فجئته، فلما سلمت عليه تبسَّم تبسُّم المغضِب، ثم قال: ((تعالَ))، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ((ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟!)) فقلت: بلى، إني، والله، يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعْطيتُ جدلاً، ولكني، والله، لقد علمتُ: لئن حدَّثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنَّ الله أن يُسْخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا، والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسَر مني حين تخلَّفت عنك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَّا هذا، فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك))، فقمت وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله، ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزتَ أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيكَ ذنبَك استغفارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك، فوالله، ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأكذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مُرَارَة بن الربيع العمري، وهلال بن أميَّة الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيّروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا، فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شَفَتَيْهِ بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسوَّرت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ - فسلمت عليه، فوالله، ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمُني أحِبُ اللهَ ورسوله؟ فسكتْ، فعدت له فنشدته فسكت، فعدتُ له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار.

قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطيٌّ من أنباط أهل الشأم، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يَدُل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحقْ بنا نُواسِك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممتُ بها التنُّور فسجرتُه بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلِّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلْها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((لا، ولكن لا يقربك))، قالت: إنه، والله، ما به حركة إلى شيءٍ، والله، ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان، إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتكَ كما أذن لامرأة هلال بن أميه أن تخدمه، فقلت: والله، لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابٌّ؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحُبَت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبلِ سَلْعٍ بأعلى صوته: يا كعبُ بنَ مالك، أَبْشِرْ، قال: فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَلَ صَاحِبَيَّ مبشِّرون، وركض إليَّ رجلٌ فرسًا، وسعى ساعٍ مِن أسْلَمَ، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يُبَشِّرني، نزعت له ثوبَيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله، ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يُهَنِّؤونَنِي بالتوبة، يقولون: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك.

قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالِسٌ حوله الناسُ، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني، وهنَّأني، والله، ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.

قال كعب: فلما سلَّمْت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك))، قال: قلت: أمن عندك، يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا، بل من عند الله))، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ، استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَمْسِكْ عليك بعض مالك، فهو خير لك))، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما لقيت، فوالله، ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدقِ الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119].

فوالله، ما أنعم الله عليَّ من نعمةٍ قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبتُه، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحي - شر ما قال لأحد؛ فقال تبارك وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95، 96]؛ رواه البخاري (4418) ومسلم (2769).

فوفق الله كعب بن مالك وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم بخلاف الذين كذبوا، واعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهم، والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التَّعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة؛ فمرارات المبادئ حلاواتٌ في العواقب، وحلاواتُ المبادئ مراراتٌ في العواقب.


الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قدوة الصادقين، حيث كان صادقًا حتى في مزحه، فلا يقول إلا حقًّا.

وبعد:
فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا))؛ رواه مسلم (2607).

فالصدق يهدي إلى العمل الصالح الموصل للجنة، وتَحَرِّي الصدق وقصدُه والاعتناء به في كل عملٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، للخالق أو المخلوق، فيه ضرر على الغير أو لا ضرر فيه - يرفع صاحبه إلى مقام الصديقين، فيكتبه الله في عدادهم، فينال بصدقه وتحريه للصدق منزلة الصديقين وثوابهم، ويعرف في ذلك في الملأ الأعلى، ويلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، ويوضع له القبول في الأرض.

فمن أعظم الغبن أن نبِيع هذا اللقب - لقب الصدِّيق - بعرَض يسير من الدنيا؛ لنتخلَّص مِن موقفٍ، أو لنَنالَ به عرَضًا من الدنيا، أو لنحصل على رضاء المخلوق؛ فالله ورسوله أحق أن يرضوه.

إخوتي:
فلنصدق الناس وربَّ الناس في القول والعمل؛ فالعبرة ليست بالعمل وحده، إنما بما يقرُّ في القلب، لا بحصول العمل أو كثرته؛ فعن سهل بن حنيف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))؛ رواه مسلم (1909).

كل من صدق الله في تمنِّي خيرٍ، وسعى فيه نال أجر هذا العمل، تيسر له العمل أو لم يتيسَّر؛ فلا يُكَلف الله نفسًا إلا وُسعها، فعبادة القلوب لها شأن عظيم عند علام الغيوب؛ وعن شداد بن الْهَادِ أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتَّبعه، ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فلما كانت غزوةٌ غَنِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيًا، فقسم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك))، قال: ما على هذا اتبعتُك، ولكني اتبعتك على أن أرمَى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم فأموتَ فأدخلَ الجنة، فقال: ((إن تصدقِ الله يصدقْك))؛ فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِيَ به النبي - صلى الله عليه وسلم – يُحْمَل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أهو هو؟))، قالوا: نعم، قال: ((صدق الله فصدقه))، ثم كَفَّنَه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبته، ثم قدَّمه، فصلَّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: ((اللهم، هذا عبدك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك))؛ رواه النسائي (1953) بإسناد صحيح.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الصدق
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: