اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99935
 احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7) Oooo14
 احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7) User_o10

 احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7) Empty
مُساهمةموضوع: احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7)    احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7) Emptyالأحد 19 مايو 2013 - 12:19

مجالات احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - (ب)



الحمد لله الولي الحميد، العزيز المجيد، شرع لنا من الدين أكمله، وأنزل علينا من الحديث أحسنه، وجعل أُمَّتنا خير الأمم؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110]، نحمده على ما حبانا وأولانا، ونشكره على ما أعطانا وكفانا، فنحن عبيده فقراء إليه، وهو ربنا غنيٌ عنَّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، ما من شيء في المخلوقات إلاَّ وهو دالٌّ على رُبُوبيته وألوهيته وعظمته وقدرته؛ {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ هداه ربه وهدى به، وابتلاه وابتلى به، فمن أطاعه نجا، ومَن عصاه هلك، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، فإنكم إليه راجعون، ولدنياكم مفارقون، وعلى أعمالكم محاسبون؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة: 8].

أيُّها الناس:
حُبُّ الدنيا، والركونُ إليها، والميل إلى شهواتها، وتعلُّقُ القلب بملذاتها - غريزةٌ فطرية غرسها الله - تعالى - في النَّاس ليبتليهم بها وبشريعته؛ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14]، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ} [القيامة: 20]، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]، وأنزل الله - تعالى - الشرائع التي إنْ أخذ النَّاس بها، كملت لهم الدنيا والآخرة، وإن بخسوا شيئًا منها، نَقَصَ من كمال نعيمهم في الدُّنيا والآخرة بقدر ما بخسوا من شريعة ربهم - جلَّ وعلا.

إنَّ دين الإسلام يَجمع نعيمَ الدُّنيا والآخرة، لا كما يظُنُّ كثير من الناس أنه مقتصر على الآخرة، وأنَّ رغد الدُّنيا ما هو إلا في المناهج المادية الإلحادية التي قذفت بها الحضارة المُعاصرة، ونجد في القرآن آياتٍ كثيرةً تَعِدُ المؤمنين بخيرات الدُّنيا إنْ هم أقاموا شريعة الله - تعالى - فيهم، وتتوعدهم بنقص الدُّنيا إنْ هم رغبوا عنها؛ {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]، فإقامة الدين باب للرفاهية في الدُّنيا، وتتابع الخيرات على العباد.

ولما كان دينُ الإسلام يَجمع لمن أقامه بين نعيم الدُّنيا والآخرة، فإنَّه جاء مُنظمًا لحياة الناس، مصلحًا لشؤونهم كلها، ولا يقتصر على جوانب العبادات فقط، كما يُريد المفسدون حصره فيها، وكانت شعيرة الحسبة مثالاً بيِّنًا على تدخُّل الإسلام في شؤون الناس كلها، وتنظيمه لحياتهم، وعدم السماح بأي تجاوُز لشريعة الله - تعالى - سواء على مستوى الأفراد، أم على مستوى الجماعة والأمة؛ لأنَّ الخلل يوجب نقص الدين والدُّنيا، فتتأثر به سلبًا الخيرات العاجلة والآجلة.

وكان تطبيق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لشعيرة الحسبة برهانًا ساطعًا، ودليلاً قاطعًا على ذلك؛ إذ احتسب - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الناس في تصحيح عقائدهم وعباداتهم، وتصويب ما أخطؤوا فيه من مُعاملاتهم، وتقويم أخلاقهم وسلوكيَّاتِهم، حتى إن الشؤون العامَّة في السياسة والولاية والأموال والتِّجارة وغيرها نالت نصيبَها من احتساب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمثلة ذلك قولاً وتطبيقًا كثيرة مبثوثة في سنته العطرة.

ومن احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جوانب الإصلاح الأسري، وضبط البُيُوت المسلمة من الانفلات، وتخليصها من الظلم: ما جاء في حديث إِيَاسِ بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَضْرِبُنَّ إِمَاءَ الله))، فَجَاءَ عُمَرُ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رَسُولَ الله، قد ذَئِرَ النِّسَاءُ على أَزْوَاجِهِنَّ، فَأْمُرْ بِضَرْبِهِنَّ، فَضُرِبْنَ فَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - طَائِفُ نِسَاءٍ كَثِيرٍ، فلَمَّا أَصْبَحَ قال: ((لقد طَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً، كُلُّ امْرَأَةٍ تَشْتَكِي زَوْجَهَا فلا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ))؛ رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان.

ففي هذا الحديث نهى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ضرب النِّساء، ثم رخَّص فيه؛ لتأديبهن، لَمَّا أخبره عمر بتمرُّدهن، فلما أسرف الرجال في ضرب النساء، احتسب عليهم، وبيَّن أن من ضرب امرأته، فليس من خيار الرجال، ومن نظر إلى سنته وجد كثرة وصاياه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنساء، وكثرة وصاياه للنساء بأزواجهن؛ مما يكون سببًا في إصلاح البيوت واستقرارها.

وفيما يتعلَّق بالأولاد، احتسب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رفع الظُّلم عنهم، وتمييز بعضهم على بعض، وأمر بالعدل فيهم؛ لئلا تقع الضَّغائن بينهم، فتشتعل البُيُوت بالإحن والأحقاد، فيُؤدي ذلك إلى الخصام وقطيعة الأرحام؛ روى النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ - رضي الله عنهما - قال: "سَأَلَتْ أُمِّي أبي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لي من مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا له فَوَهَبَهَا لي، فقالت: لَا أَرْضَى حتى تُشْهِدَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَأَخَذَ بِيَدِي وأنا غُلَامٌ، فَأَتَى بِيَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قال: ((أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟))، قال: نعم، قال: فَأُرَاهُ، قال: ((لَا تُشْهِدْنِي على جَوْرٍ))، وفي رواية: ((لَا أَشْهَدُ على جَوْرٍ))؛ رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم قال: ((أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ في الْبِرِّ سَوَاءً؟))، قال: بَلَى، قال: ((فلا، إِذًا)).

وأَمَّا احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جوانب الفساد المالي لإصلاحها، فإنَّه يدخل في عموم النَّصيحة التي شرعها لأُمَّته، وجعلها تفسيرًا للدين كله؛ لأنَّها تشمل خصالَ الإسلامِ والإيمان والإحسان، ومعلوم أنَّ النصيحة شعبةٌ من شعب الاحتساب على النَّاس، ولم يقصرها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على العامَّة دون الخاصة، بل أمر بها الجميعَ للجميع؛ حتى تكون الأمة أمة واحدة، يُنكِر ما فيها من فساد جميع أفرادها؛ كما في حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: ((لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))؛ رواه مسلم.

وأمَّا التطبيق العملي للحسبة في جوانب الفساد المالي مع الولاة والعُمَّال والموظفين في الدَّولة، فمثاله حديثُ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - قال: "اسْتَعْمَلَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رَجُلاً على صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابنَ اللَّتَبِيَّةِ، فلَمَّا جاء، حَاسَبَهُ، قال: هذا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إن كُنْتَ صَادِقًا))، ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قال: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أستعمل الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي الله، فَيَأْتِي فيقول: هذا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لي، أَفَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه وَأُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، والله، لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ الله يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ الله يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ، أو شَاةً تَيْعَرُ))، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتى رُئي بَيَاضُ إِبْطِهِ يقول: ((اللهم هل بَلَّغْتُ بَصرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي))؛ رواه الشَّيخان.

فتأمَّلوا - عباد الله - عظيم اهتمامه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذا الأمر، وتشديده فيه، حتَّى خطبهم على المنبر لأجله؛ مِمَّا يدلُّ على أهمية الاحتساب في مسائل الأموال؛ ذلك أنَّ الفساد فيها يُؤدِّي إلى ظُلم الناس وإفقارِهم، ورفع أمنهم، وهو منكر يجب إنكاره، والاحتساب على أهله، وإلا فسدت أحوال الأمة.

ولما رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بعض أصحابه - رضي الله عنهم - استشرافًا للمال، وتطلعًا للحصول عليه، وسُؤالاً له - خشي عليه من فتنة المال، وخاف تعلُّق قلبه به فيهلك، فاحتسب عليه في ذلك؛ مَحبةً له، وشفقة عليه، وهدايةً للأمة، وتعليمًا لها، وكان احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذا الصحابي من أعظم النَّصائح التي استفاد منها، ولزمها إلى موته - رضي الله عنه - كما في حديث حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه - قال: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قال لي: ((يا حَكِيمُ، إِنَّ هذا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ، بُورِكَ له فيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لم يُبَارَكْ له فيه، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى))، قال حَكِيمٌ: فقلت: يا رَسُولَ الله، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا حتى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أبو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا؛ لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ؛ لِيُعْطِيَهُ، فأبى أَنْ يَقْبَلَهُ، فقال: يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إني أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ الذي قَسَمَ الله له من هذا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فلم يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا من الناس بَعْدَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ الله"؛ رواه الشيخان، وفي رواية لابن راهويه: أنَّه - رضي الله عنه - ما أخذ من أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا معاوية ديوانًا ولا غيره حتى مات.

وما ضرَّه ذلك، بل أغناه الله - تعالى - ببركة وفائه بوعده للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين احتسب عليه لما كرر مسألته، قال الذهبي - رحمه الله تعالى -: "فمات حين مات، وإنه لمن أكثر قريش مالاً".

فعُلم بذلك أنَّ دينَ الإسلام هو دينُ الاحتساب على النَّاس في إصلاحِ أحوالهم في الحال والمآل، وعلى مُستوى الأفراد والجماعة والأُمَّة، وأنَّ دعوات ترك الاحتساب بحجة عدم التدخُّل في الخصوصيَّات ليس من دين الإسلام في شيء؛ بل إنَّ ذلك سبب لسلب خيريَّة الأُمَّة، كما سلبت الخيرية والتفضيل عن بني إسرائيل، ولعنوا بسبب كفرهم وتعطيلهم لشعيرة الاحتساب؛ {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]، فالحذرَ الحذرَ من طاعة المفسدين المبطلين الذين يَسعَوْن في الأرض فسادًا، ويستميتون في إبطال شريعة الله - تعالى - بتعطيل شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كفى الله - تعالى - البلادَ والعبادَ شرَّهم، وردهم على أعقابهم خاسرين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.



الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه، كما يُحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أعطى، ونشكره على ما أَوْلى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وأحيوا شعيرةَ الحسبة فيكم، فإنَّها سبب خيرية أمتكم، وتفضيلكم على من سواكم؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110].

أيها المسلمون:
إنَّ من أعظمِ أسباب الوَهن والضَّعف الذي ابتليتْ بهِ أُمة الإسلام في أزمانها المتأخرة: تعطيلَ شعيرة الحسبة بمفهومها الشَّامل الكامل، وحصرها في جوانب العبادة والأخلاق والسُّلوك، ثم قصرها على جهات مُعينة دون سائر النَّاس، وهذا الخلل في فهم وظيفة الحسبة أدَّى إلى تقليصها وضَعْفها، وسنحت الفُرصة لأهل الفساد والإفساد بالنُّمو بين الناس، وتعطيل مصالحهم، وإفساد أخلاقهم، ولو نظرنا إلى القرآن، فإنَّنا نجد أن نبي الله شعيبًا - عليه السَّلام - قد احتسب على قومه في كفرهم وفيما حلَّ بهم من فساد مالي، حتى كانوا ينكرون عليه تدخله في كيفية تنمية أموالهم، ويزعمون أنهم أحرار فيها، يفعلون ما يشاؤون، وهي ذات الحجة التي يحتج بها المفسدون في عصرنا هذا؛ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].

يقول العلامة ابن عاشور - رحمه الله تعالى -: "على عقلاء الأقوام، وأصحاب الأحلام منهم، إذا رأوا دبيبَ الفساد في عامَّتهم أن يبادروا للسَّعي إلى بيان ما حلَّ بالنَّاس من الضلال في نُفُوسهم، وأنْ يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأنْ يَمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسُّلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتَّى يرتدعوا، فإنْ هم تركوا ذلك وتوانوا فيه، لم يلبث الفساد أن يسريَ في النفوس، وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتَّى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النُّفوس". اهـ.

إن الله - تعالى - قد أمرنا بالاقتداء بالمرسلين - عليهم السلام -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، وقد كانوا من المحتسبين على النَّاس، يأمرونهم بالمعروف الذي أمر الله - تعالى - به، وينهونهم عن المنكر الذي نهى الله - تعالى - عنه، وأُمرنا كذلك بالتأسي بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ورسولنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو إمام المحتسبين، والاقتداءُ به في الحسبة اقتداء به في الوظيفة العُظمى، والمهمة الكُبرى التي لأجلها بعث الله - تعالى - الرُّسل - عليهم السلام - لأقوامهم، وأنزل بتفاصيلها كتبه السماوية، وقسم النَّاس فَريقين: فريقًا في الجنَّة، وفريقًا في السَّعير، فلا يقوم بالحسبة إلاَّ أتباع الرسل، وأتباعهم هم خيار النَّاس، ولا يستنكف عنها أو يُحاربها إلاَّ أعداء الرسل، وأعداؤهم هم شرارُ الناس؛ فليخترْ كل عبد لنفسه ما شاء، فبعمله يُجزى يوم القيامة؛ {لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ} [إبراهيم: 51]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدَّثر: 38].

وصلُّوا وسلموا على نبيكم...


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
احتساب النبي صلى الله عليه وسلَّم (7)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  حقوق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علينا (6)
»  احتساب النبي صلى الله عليه وسلم (8)
»  احتساب النبي صلى الله عليه وسلم (5)
»  احتساب النبي صلى الله عليه وسلم (4)
»  احتساب النبي صلى الله عليه وسلم (3)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: