سبل اتقاء المعاصي (
ضرورة الابتعاد عن دواعي المعاصي (3)
(إفشاء السلام)
في إطار بيان "سُبل اتِّقاء المعاصي"، وتحت فرع "ضرورة الابتعاد عن دواعي المعصية"، تناولْنا الحديث عن "غضِّ البصر"، و"كفِّ الأذى"؛ انطلاقًا من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الذي قال فيه الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إيَّاكم والجلوسَ في الطرقات))، فقالوا: يا رسولَ الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ، نتحدَّث فيها، فقال: ((فإذا أبيتُم إلاَّ المجلس، فأعطوا الطريقَ حقَّه))، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: ((غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر))؛ متفق عليه.
وسنحاول اليوم - إن شاء الله تعالى - الوقوف على السبب الثالث الذي يُشير إليه الحديث الشريف، وهو "إفشاء السلام".
السلام شِعارُ أهل الإسلام، قال ابن حجر - رحمه الله -: ((إفشاء السلام، المراد: نَشْرُه سرًّا أو جهرًا، وهو: نشْر السلام بين الناس ليُحيُوا سُنَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم".
ولقد ذُكر لفظ سَلِمَ ومشتقاتُه في القرآن الكريم 141 مرة، جاء منها لفظ "السلام" 42 مرة، وجاءتْ بمعانٍ كثيرة؛ منها:
• أنَّه اسمٌ من أسماء الله - عزَّ وجلَّ - ومنه قوله – تعالى -:{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ} [الحشر: 23].
• واسمٌ من أسماء الجَنَّة، ومنه قوله – تعالى -: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127].
• وهو السَّلامة من كلِّ شرٍّ، ومنه قوله - تعالى - في سورة الواقعة: {فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91].
• والسلام: الأمن والأمان، ومنه قوله – تعالى -: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جاؤوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
وبما أنَّ السلام أمنٌ وأمان، وجَبَ نشرُه وإشاعتُه بين الناس، حتى يسودَ الاطمئنان، وينتشرَ الأمن؛ عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ المؤمن إذا لقي المؤمنَ فسلَّم عليه، وأخذ بيده فصافحه، تناثرتْ خطاياهما كما يَتناثر وَرَقُ الشَّجر))، قال عبدة بن أبي لبابة: قلت لمجاهد: "إنَّ هذا ليسير"، فقال مجاهد: لا تَقُلْ هذا، فإنَّ الله - تعالى - قال في كتابه: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]؛ صحيح الترغيب.
ولذلك جاء في حديث البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفْشُوا السلام تَسْلَموا))؛ صحيح الأدب المفرد.
بل هو سببٌ للعلوِّ والنُّصرة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث أبي الدرداء: ((أفشوا السلام كي تَعْلُوا))؛ صحيح الجامع.
كيف كان الأنصارُ يومَ كانوا قبيلتَين: أوسًا وخزرجًا؟ كم كان بينهما من الحروب الطاحنة لأتْفَهِ الأسباب؟ فلمَّا أسلموا، أشاعوا بينهم السلام، ففشَا بينهم السِّلْم والاطمئنان، حتى قال فيهم - تعالى -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال عبدالله بن مسعود: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((السلامُ اسمٌ من أسماء الله – تعالى - وضَعَه في الأرض، فأفشُوه بينكم، فإنَّ الرجل المسلم إذا مَرَّ بقوم، فسلَّم عليهم فردُّوا عليه، كان له عليهم فَضلُ درجة بتذكيره إيَّاهم السلام، فإنْ لم يردُّوا عليه، ردَّ عليه مَن هو خيرٌ منهم - أي: الملائكة))؛ صحيح الترغيب.
وكان إفشاء السلام مِن أوَّل ما أمر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد الهجرة، قال عبدالله بن سلاَم: "لَمَّا قَدِم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة، انْجفَلَ الناس إليه (ذهبوا مسرعين)، وقيل: قَدِم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجئت في الناس لأنظرَ إليه، فلمَّا استَبَنْتُ وجهَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عرفتُ أنَّ وجهَه ليس بوجه كذَّاب، فكان أولُ شيءٍ تكلم به أن قال: ((يا أيُّها الناس، أفْشُوا السلام، وأطْعِموا الطعام، وصَلُّوا باللَّيْل والناس نِيام، تَدْخُلوا الجَنَّة بسلام))؛ صحيح ابن ماجه.
وقد بوَّب عليه البخاريُّ في الصحيح فقال: "باب إفشاء السلام من الإسلام"، وقال عمار:"ثلاثٌ مَن جمعهنَّ فقد جمع الإيمان: الإنصافُ من نفسك، وبَذْل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار".
وإنَّك لتعجبُ من غفلة بعض المسلمين عن هذه الفضائل العظيمة، إذ يَبدؤون فيما بينهم بغيرِ السلام، كمساء الخير، وصباح الخير، ونحو ذلك، فيُضيِّعون - بذلك - أمرَ رسول الله بإفشاء السلام، وإن كانت لا بأسَ بها إذا جاءتْ بعد السلام، فإنَّ ذلك من تعظيم شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
ومِن إفشاء السلام: أن تَحرِص عليه في بداية المجلس ونهايته؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا انتهى أحدُكم إلى المجلس فليُسلِّمْ، فإذا أراد أن يقوم فليُسلِّم، فليستِ الأولى بأحقَّ مِن الآخرة))؛ صحيح سنن أبي داود.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا لقي أحدُكم أخاه فليُسلِّم عليه، فإنْ حالت بينهما شجرةٌ أو جدارٌ أو حجر، ثم لَقِيَه، فليُسلِّمْ عليه))؛ صحيح سنن أبي داود.
بل جَعَل التسابقَ إلى ذلك من السُّنَّة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أولى الناس بالله مَن بدأَهم بالسلام))؛ صحيح سنن أبي داود.
فكيف ترى بعضَ المسلمين - بعدَ كلِّ ذلك - متدابِرين، متخاصمِين، لا يُسلِّم هذا على هذا، ولا هذا على هذا؛ يقول النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -قال: ((لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث، يَلْتقيانِ، فيصدُّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلام))؛ متفق عليه.
فنشْرُ السلام، وردُّ السلام، والبدءُ بالسلام، كلُّها عناوين المحبَّة التي يجب أن تجمعَ المسلمين؛ قال عمر - رضي الله عنه -: "ثلاث يُصفِّين لك وُدَّ أخيك: أن تُسلِّم عليه إذا لقيتَه، وتُوسِّع له في المجلس، وتدعوه بأحبِّ أسمائِه إليه".
قَدْ يَمْكُثُ النَّاسُ دَهْرًا لَيْسَ بَيْنَهُمُ وُدٌّ فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللَّطَفُ
كيف لا، وهذا السلام سبيلٌ إلى مغفرة الذُّنوب بين المسلمين؟! يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مِن مُسلمَين يلتقيانِ فيتصافحان، إلاَّ غُفِر لهما قبل أن يَفْتَرِقا))؛ صحيح أبي داود.
وعدمُ ردِّ السلام معناه إعلانُ القطيعة والمدابرة، سُئِل الإمام أحمد- رحمه الله - عن رجل مرَّ بجماعة فسلَّم عليهم فلم يَردُّوا عليه السلام، فقال: "يُسْرِع في خطاه، لا تلحقه اللَّعنةُ مع القوم".
وقد سَبَق معنا أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبرنا أنَّ الله - تعالى - يطَّلِع على خلقِه ليلةَ النِّصف من شعبان، فيغفر لجميع خَلْقِه إلاَّ لمشرك أو مشاحن، فسارِعْ - أخي المؤمن، أُختي المؤمنة - إلى التسليم على كلِّ مَن بينك وبينه قطيعة، فإن أبى فإنَّ الملائكة تردُّ عليك السلام، وأنت مأجورٌ في الحالين.
الخطبة الثانية
من آداب السلام:
• تحسين لفظِ السلام؛ طلبًا للزيادة في الأجر؛ عن عمران بن حصين: "أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: السلام عليكم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عشر))، ثم جاء آخرُ فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عشرون))، ثم جاء آخرُ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثون))؛ الترمذي وحسَّنه، وهو في "صحيح الترغيب".
• ومن الآداب قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُسلِّم الراكبُ على الماشي، والماشي على القاعدِ، والقليلُ على الكثير))؛ متفق عليه، وفي حديث آخر: ((يُسلِّم الصغيرُ على الكبير))؛ متفق عليه، وفي حديث آخر: ((والماشيانِ أيُّهما بَدأَ فهو أفضلُ))؛ صحيح الترغيب.
• ومن الآداب ألاَّ يُخصِّص بالسلام شخصًا دون شخص، ولا قومًا دون قوم - في حدود المتعارَف عليه.
عن عبدالله بن عمرو: أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تُطعِم الطعام، وتقرأُ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف))؛ متفق عليه، ولعلَّ المقصود نشْرُ السلام وإشاعته، لا أن يُسلِّم على كلِّ مَن رآه.
قال مجاهد: "كان عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما - يأخذ بيديَّ فيخرج إلى السُّوق يقول: إني لأخرج وما لي حاجةٌ إلاَّ لأسلِّمَ ويُسلَّم عليَّ، فأُعطِي واحدةً واحدة، وآخذُ عشرًا، يا مجاهد،إنَّ السلام من أسماء الله – تعالى - فمَن أكثرَ السلام، أكثرَ ذِكْر الله - تعالى".