اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  كفى بالموت واعظًا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100265
 كفى بالموت واعظًا Oooo14
 كفى بالموت واعظًا User_o10

 كفى بالموت واعظًا Empty
مُساهمةموضوع: كفى بالموت واعظًا    كفى بالموت واعظًا Emptyالخميس 16 مايو 2013 - 15:32

أما بعدُ:
اتقوا الله - عباد الله - واتَّقوا يومًا تُرجَعون فيه إلى الله، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُبعَثُ مَن في القُبُور، ويظهرُ المستور، يوم تُبلى السرائر، وتُكشَف الضمائر، ويَتَمَيَّز البَرُّ منَ الفاجر.

ثم اعلموا أنَّ هناك حقيقةً - وأي حقيقة؟! - حقيقةٌ طالما غَفَل عنها الإنسان، ولحظةٌ حاسمةٌ، ومصيرٌ ومآل.

إنها لَحْظَة لا بدَّ أنْ تلاقيكم، إلى أين مِن هذه اللَّحظة المَهربُ؟ وإلى أين منها المَفرُّ؟ إلى الأمام تلاقيكم، إلى اليمين تلاقيكم، والشمال تلاقيكم، إلى أعلى إلى أسفل تلاقيكم، إلى الوراء تلاقيكم، لا تمنع منه جنود، ولا يُتَحَصَّن منه في حصون، مُدرككم أينما كنتم، إنه واعظ لا ينطق، واعظ صامت يأخذ الغنيَّ والفقير، والصحيح والسقيم، والشريف والوضيع، والمُقِرَّ والجاحد، والزاهد والعابد، والصغير والكبير، والذكر والأنثى.

كلُّ نفْس ستذوقُه شاءتْ أم أبَتْ، لعلَّكم عرفتموه، لا أظن أحداً يجهله، أمَّا حقيقته فالكلُّ يجهلها، إنه الموت؛ قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

الموت، ما الموت؟ أمرٌ كُبَّار، وكاس يُدار، فيمَن أقام وسار، يخرج بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار، ما زال لأهل اللذات مكدرًا، ولأصحاب العقول مغيِّرًا ومُحيِّرًا، ولأرباب القلوب عن الرغبةِ فيما سوى الله زاجرًا، كيف ووراءه قبرٌ وحساب، وسؤال وجواب، ومِن بعده يومٌ تُدهش فيه الألباب، فيُعدم فيه الجواب.

السَكَرات، ما أدراكم ما السكرات؟ عانَى منها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموت لسَكرات، اللهم هوِّن علينا سكرات الموت))، سكرات وأي سكرات؟ يقول العلماء: كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.

ملَك الموت، ما ملك الموت؟ الدنيا بين يديه كالمائدة بين يدي الرجل، يَمُد يده إلى ما شاء منها بأمر الله فيأكله، وإن له لأعوانًا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملَكٌ إلا لو أذن اللهُ له أن يَلْتَقِمَ السماواتِ السبعَ والأرضين في لقمةٍ واحدة لفعل، فلا إله إلا الله من لحظة حاسمة لو لَم تُعتَقل الألسنة، وتُخدَّر الأجسام وقت الاحتضار، لما مات أحدٌ إلا في شَعَف الجبال أَلَمًا، ولصاح الميت من شدة ما يُعاني حتى تَندكَّ عليه جدران الغرفة التي هو فيها، ولما استطاع أن يحضر ميتًا أحدٌ، فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يُهوِّن علينا السكرات.

رُوي عن الحسن أنه قال: رُؤي أحد الصالحين بعد موته، فقيل له: كيف وجدتَ طعم الموت؟ قال: أوّاه أوّاه، وجدته والله شديدًا، والذي لا إله إلا هو لهو أشد من الطبخ في القدور، والقطع بالمناشير، أقبل ملك الموت نَحْوي حتى استلَّ الروح من كلِّ عضوٍ منِّي، فلو أني طُبختُ في القدور سبعين مرة لكان أهون عليَّ.

كفى بالموت طامَّة، وما بعد الموت أطمّ وأعظم، ويُرى آخَر في المنام، فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاةٍ، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير.

فالله المستعان على تلك اللحظات، واللهم هوِّن علينا السكرات، واجعلها لنا كفَّارات، وآخِر المعاناة، وهي كذلك - بإذن الله - للمؤمنين والمؤمنات، ولغَيْرِهم بداية المُعَانَاة.

عباد الله:
وفي تلك اللحظات الحرِجة ينقسم الناس إلى فريقَيْن: شقي وسعيد، فريق السعداء: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].

ها هي أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - تقول - كما روي عنها -: إنّا لعند علي - رضي الله عنه - بعدما ضربَهُ ابن ملجم - عليه منَ الله ما يستحق - إذ بعلي يشهق شهقةً فيغمى عليه، ثم يُفيق وهو يقول: مرحبًا مرحبًا، الحمدُ الله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة، الحمد لله الذي أذْهَبَ عنا الحزَن، لِمِثْل هذا فليعملِ العاملون، وليتنافسِ المتنافسون، فيا لَها مِن موعظةٍ ومصير، لو وافقت من القلوب حياة، من ظفر بثواب الله فكأنه لَم يصب في دنياه.

واسمع معي لسعيد بن جبير - رضي الله عنه - يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة؛ كما قال الذهبي في سيرته، فيقول: لما مات ابن عباس - رضي الله عنه - بالطائف، جاء طائر لَم يُرَ على خِلقته مثله، فدخل نعشه، ثم لَم يخرج منه، فلما دفن إذا على شفير القبر تالٍ يتلو لا يرى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 28 - 30]، فيا لَها من خاتمة! ويا له مِن مصير!

والخيرُ في الأمة يستمر، ولن تعدمَ الأمة خيرًا.

فاسمع ثالثةً إلى هذا الحدَث الذي ذكره صاحب كتاب: "يَا لَيت قومي يعلمون"؛ يقول - حفظه الله وعافاه -: كان هناك رجلٌ صالحٌ من أهل الطائف، عابد فاضل، نزل مع بعض أصحابه إلى مكة محرمًا، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم وهو محرم قد خرج لله - جل وعلا - قرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله - عزَّ وجلَّ -: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] شهق وبكى وأبكى، فلما قرأ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، ترنَّح قليلاً ثم سقط ميتًا - فعليه رحمة الله - ليبعث يوم القيامة - بإذن الله - مصلِّيًا، فمَن مات على شيء بُعث عليه؛ كما ورد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم.

وآخر يقضي حياته مؤذِّنًا، يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذِّن يومًا من الأيام، ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتًا - فعلَيْه رحمة الله.

سنواتٌ يؤذِّن ثم يجيب داعي الله مؤَذِّنًا ليُبعَثَ يوم القيامة من أطول الناس أعناقًا - فرحمة الله عليه – يا لَها من خواتم طيبة! ملائكة بيض الوُجُوه، يَتَقَدَّمهم مَلَك الموت، يخاطب تلك الأرواح الطيبة: اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وربٍّ راضٍ غير غضبان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، وتفتح لها أبواب السماء وتحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح وتقول: قدّموني قدموني، تُسأل فتجيب وتثبت، فيفرش لها من الجنة ويفتح لها باب إلى الجنة، قد استراحتْ من تَعَب هذه الدار، وإلى راحة أَبَدية في دار القرار.

وفريقٌ آخر في تلك الساعة يشقى، حسِبَ أنَّ الحياةَ عَبَث ولَهْوٌ ولعِب، وإذا به يعانِي أول المعاناة، نزلت عليه ملائكة سود الوجوه، يقدمهم ملك الموت، نعوذ بالله من ختام السوء، وساعة السوء، يقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنزع نزعًا بعد أن تَتَفَرَّق في الجسد، ثم ترفع فلا تفتح لها أبواب السماء، تحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ ثم تُسأل فلا تجيب، فيفرش لها من النار ويفتح لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله مِن النار، ومِن سوء الختام، ومِن غضب الجبار.

ذكر صاحب "قصص السُّعَداء والأشقياء": أنه وقع حادثٌ في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلِّون سيارة واحدة، توفِّي اثنان منهما في الحال، وبقي الثالث في آخر رمق، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قل: لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عنه نفسه ويقول: أنا في سقر، أنا في سقر، أنا في سقر، حتى مات على ذلك، فلا إله إلا الله، رجل المرور يسأل، ويقول: ما هي سقر؟ فوجد الجواب في كتاب الله - عز وجل -: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43].

سقر، وما أدراك ما سقر؟! لا تبقي ولا تذَر، لواحة للبشر، نسأل الله العافية والسلامة.

عباد الله:
فريقان لا ثالث لهما: شقي وسعيد، فريق في الجنة، وفريق في السعير.

أَلا ترون؟ ألا تتفكرون؟ ألا تنظرون؟ تُشَيِّعون في كلِّ يوم غاديًا إلى الله، قد قضى نَحْبَه، وانقضى أجلُه، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، خلع الأسباب، وترك الأحباب، وسكن التراب، وواجَه الحساب، وانتهى أمله وأجله، تبعه أهلُه ومالُه وعملُه، فرجع الأهلُ والمال، وبقي العمل.

فارَقَ الأحبَّة والجيران، هجره الأصحاب والخلاَّن، ما كأنه برح يومًا ولا ضحك ولا أنس يومًا ما، ارتهن بعمله فصار فقيرًا إلى ما قدم، غنيًّا عما ترك.
جَمَعُوا فَمَا أَكَلُوا الَّذِي جَمَعُوا وَبَنَوْا مَسَاكِنَهُمْ وَمَا سَكَنُوا
فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا بِهَا ظَعْنًا لَمَّا اسْتَرَاحُوا سَاعَةً ظَعَنُوا
ولذلك كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلم - أرْحَم الناسِ بالأَمْوات، يقول عوف بن مالك: صلَّى بنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - على جنازة رجل من الأنصار، يقول: فتخطيت الصفوف، حتى اقتربت منه فسمعته يبكي، ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسِّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو، لوددتُ أني أنا الميت من حُسن دعائه له.

ومِن رحمته بالأموات - صلَّى الله عليه وسلم - أنه كان يذهب بالليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعو لهم طويلاً، ويترحَّم عليهم طويلاً - صلوات الله وسلامه عليه - فما أرسله الله إلا رحمةً للعالَمين.

وأصحابه كذلك، ابن عمر كان إذا قرأ قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]، بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله، ما من ميت إلا ويودُّ أن يسجل في صحيفته لا إله إلا الله، ولكن هيهات! حيل بينهم وبينها، وبقي الجزاء والحساب.

فرحم الله امرأً قدَّم منَ الصالحات لتلك الحُفر، ورحم الله امرأً حاسَبَ نفسَه قبل ذلك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظًا.
تَجَهَّزِي بَجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثًا

كفى بالموت واعظًا، لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع.



يَمُرُّ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بالمقبرة فيبكي ثم يرجع، فيتوضأ ثم يصلي ركعتين، فيقول أصحابه: لمَ فعلت ذلك؟ قال: تذكَّرتُ قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]، وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يُحَالَ بيني وبينها.

عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: يا أبتاه صف لنا الموت، قال يا بني: الموت أعظم من أن يوصف، لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.

ثم حوَّل وجهه إلى الحائط ليبكي بكاءً مرًّا مريرًا، فيقول ابنه محسنًا ظنه: أنت من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - أما فتحت مصر؟! أما جاهدتَ في سبيل الله؟! فيقول: يا بني، لقد عشتُ مراحل ثلاثًا، لقد كنت أحرص الناس على قتْل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فيا ويلتاه لو مت في ذلك الوقت! ثم هداني الله فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - أحب الناس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عينيّ من وجهه حياءً منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعتُ، والله ما كنتُ أملأ عينيّ منه إجلالاً له، فيا ليتني مت في ذلك الوقت؛ لأنال دعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلم - وصلاته عليّ.

يقول: ثم تخلَّفْتُ بعد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فلعبتْ بنا الدُّنيا ظهرًا لبطن، فما أدري أيُؤْمَر بي إلى الجنة أو إلى النار؟ لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله هي: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، ثم قبض على لا إله إلا الله؛ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

كفى بالموت واعظًا، يقول ابن عوف: خرجتُ مع عُمَر - رضي الله عنه - إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض، وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك؟ قال: يا ابن عوف ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟! حاله يقول: لمثل هذا فأعدَّ.

شُد حيازيمك للموت فإنَّ الموت لاقيك، لئلا تجزع للموت إذا حل بواديك

كفى بالموت واعظًا.

تحل السكرات بمحمد بن أسلم، فيقول لخادمه، وقد أصابته رعدة، يقول: ما لي وللناس، والذي لا إله إلا هو، لو استطعتُ أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني ملكاي لفعلتُ، خوفًا من الرياء، ولكن لا أستطيع، كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، ويغلق بابه فيقرأ القرآن ويبكي وينشج، فيسمعه ابن له صغير، فيقلده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه، واكتحل لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال: يا أبا عبدالله، أبشرْ فقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله علي أن ليس عندي درهمٌ يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني والله لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيء يحاسبني الله عليه، فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق علي الباب، ولا تأذن لأحد علي حتى أموت، واعلم أنِّي أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوَضَّأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع، ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء - فرحمه الله رحمةً واسعة.
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاكَ وَارْضَ بِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ رَاحَةُ البَدَنِ
وَانْظُرْ إِلَى مَنْ حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الحِنْطِ وَالكَفَنِ
كفى بالموت واعظًا.

والله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هَيِّنًا سَهْلاً، لكنَّه مع شدته وهوله أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هيِّن إذا قُورِن بالوُقُوف بين يدي الله الكبير المتعال، تلفَّتَ المرءُ يمينًا فلمْ يرَ إلاَّ ما قدَّم، وشمالاً فلمْ يرَ إلا ما قدَّم، ونظر تلقاء وجْهِه، فلَم يَرَ إلا النار، فيا له من موقف! ويا لها من خطوب! تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضَعُ كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يبلغ العرق أن يلجم الناس إلجامًا، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث مجرد تصوُّرها يخلع ويذيب القلوب! روي عن الحسن: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرة - عائشة رضي الله عنها - فسالتْ دموعُها على خدِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: ((ما يبكيك؟)) قالتْ: يا رسول الله، ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، في ثلاثة مواطن، فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل، وعند الصحُف، حتى ينظر أَبِيَمِينِه يأخذه أم بشماله، وعند الصِّراط - نعم عند الصراط - أَيَمُرُّ أم يكردس على وجْهِه في جهنَّم)).

يؤتى بابن آدم حتى يوقف بين كفتي الميزان، فتصور نفسك يا عبدالله، وأنت واقف بين الخلائق، إذ نودي باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال، قمت ولَم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك، وجميع جوارحك، قلبك لدى حنجرتك، خوف وذُل وانهيار أعصاب.

شبابك فيمَ أبليته؟ عمرك فيمَ أفنيته؟ مالك من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ علمك ماذا عملت به؟ هذه الأسئلة، فما الإجابة؟

كم من كبيرة قد نسيتها قد أثبتها عليك الملك! كم من سريرة كتمتها ظهرت وبدت أمام عينيك! أعظم به من موقف! وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية! فإما أن يقول الله: يا عبدي، أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم.

فيا لسرورك واطمئنان قلبك والمنادي يُنادي: سعد فلان بن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، فإمَّا أن يقولَ الله: (عافاك الله وسلمك الله)، إما أن يقول: خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلوه، فيذهب بك إلى جهنم مسودَّ الوجه، كتابك في شمالك من وراء ظهرك، قد غلت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عار؟! على رؤوس الخلائق ينادي: شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.

عبد الله:
الأمر خطيرٌ جد خطير، إبليس قد قطَع العهْد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب لا أزال أغويهم ما زالت أرواحهم في أجسادهم والله برحمته ومنّه يقول: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

فالبدارَ البدار، والتوبةَ التوبة، والاستغفارَ الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، أكثروا من ذِكْر هادم اللذَّات، زُورُوا المقابر؛ فإنها تُذَكِّركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين.

اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم.

واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم تُوَفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

نفعني الله وإياكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.





الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا حمدًا، والشكر لله شكرًا شكرًا، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي إلى رضوان ربِّه، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهُ إلى يوم الدِّين.

أما بعدُ:
عباد الله:
اتَّقوا الله، واعلموا أن الآمال تُطْوى، والأعمار تفْنَى، والأبدان تحت التُّراب تبلَى، والليل والنهار يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد، وفي ذلك والله ما يلهي عن الشهوات، ويُسلي عن اللذات، ويرغِّب في الباقيات الصالحات.

يا شابًّا عكَف على القرآن، وعلى مسجده ومصلاَّه، والسنة مظهره ومخبره، سل الله الثبات وازددْ من الحسنات، واجعل الآخرة همَّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة، فجُد وسارِع، واغتنمْ زمَن الصِّبا.

في الأمس القريب ودَّعْنا شابًّا تُوفِّي إِثْر حادث مُرُوري وهو في العشرين من عمره، ولكن عزاءَنا فيه أنه من الشباب الصالح المستقيم على أمْرِ الله تعالى، عزاؤنا فيه أنه كان صاحبًا للقرآن، وكان القرآن صاحبه، والرسول - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)).
فنسأل الله - عز وجل - أن يَتَغَمَّدَهُ بواسع رحمته، وأن يتجاوزَ عنَّا وعنه بفضله ومنَّتِه.

ويا شابًّا هجَر القرآن، وأعطى نفسه هواها فدسَّاها، لتقفنَّ موقِفًا يَنْسى الخليلُ به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النقير والقطمير، والصغير والكبير، فعُد فالعود أحمد، قبل أن تقول: ربِّ ارجعون، فلا رجوع، ذهب العمر وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتك في لَهْو وسَهْو وسُبات.

ويا شيخًا اقترب من القبْر، عرف أنه قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزُّور، ورعى رعيته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته، بُشْرَاك بُشْرَاك، ضاعف العمل؛ فإنَّ الخيل إذا وصلتْ إلى نهاية السباق، قدمت كل ما لديها من قوة لتفوزَ بالجائزة.

ويا شيخًا نسي الله في شيخوخته، بعد شبابه، فارتكب الجرائم، وقارَف الكبائر، ووقف على عتبة الموت، أين الهوى والشهوات؟! ذهبت وبقيت التبعات، تتمنى بعد يبس العود، العَود، وهيهات يا من شاب رأسه فما استحيا من الله، يا مَن شاب رأسه فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تبْ إلى الله، قبل أن تكون ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

عباد الله:
لا بدَّ أن نعلمَ أنَّ الموتَ الذي تخطَّانا إلى غيرنا سيَتَخَطَّى غيرنا إلينا، فلنأخذ حذرنا، ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها.
هُوَ المَوْتُ مَا مِنْهُ مَلاَذٌ وَمَهْرَبٌ مَتَى حَطَّ ذَا عَنْ نَعْشِهِ ذَاكَ يَرْكَبُ
نُؤَمِّلُ آمَالاً وَنَبْغِي نِتَاجَهَا وَعَلَّ الرَّدَى عَمَّا نُرَجِّيهِ أَقْرَبُ
إِلَى اللهِ نَشْكُو قَسْوَةً فِي قُلُوبِنَا وَفِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعِظُ المَوْتِ يَنْدُبُ


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كفى بالموت واعظًا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: