إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، فمن اتقى الله نجا، ومن أعرض عنه كانت معيشته ضنكًا، وحُشر يوم القيامة أعمى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
عباد الله:
في هذه الإجازة يكثر خروج الناس للبرِّ في رحلات خلوية قد يكون الهدف منها الصيد، وقد يكون للاستجمام والراحة والمبيت في البر، وكل ذلك محبب للنفس، وفيه ترويح ومتعة، وفيه إنعاش وتحريك وكسر لرتابة الحياة اليومية، وهو مع ذلك فرصة عظيمة لأن يتأمل المسلم ملكوت السماوات والأرض؛ قال - تعالى -: {أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].
وفي الإسلام فسحة ولله الحمد، فهو دين اليسر والسهولة والسماحة، دين يلبي حاجات الناس؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خذوا يا بني أرفدة؛ حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة))؛ خرجه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع".
وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - (يبدو إلى السلاع)، وهي مجرى الوادي من أعلاه إلى أسفله.
وفي هذا النوع من الخروج للبر تخلُّص من ضجيج المدن وزحامها، وفيه ابتعاد عن الهموم والمشاغل، وفيه استمتاع بالهواء العليل والجو الصافي، وفيه اتعاظ واعتبار بالسماء الصافية، والنجوم المضيئة، والجبال الراسية، والأرض المبسوطة، والشمس المشرقة، والقمر المنير.
قال - تعالى -: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، وقال - تعالى -: {رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].
وقال - تعالى -: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].
وقال - تعالى -: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40 - 39].
عباد الله:
وللخروج للبر والنزهة، والترحال والسير في أرض الله الفسيحة - آداب وأحكام ينبغي للناس أن يراعوها ويأخذوا بها؛ لتكون رحلاتهم عبادة لربِّهم - جل وعلا - قال - تعالى -: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
ومن هذه الآداب ما يأتي:
(1) ذكر دعاء المنزل؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا نزل أحدكم منزلاً، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل عنه))؛ رواه مسلم.
(2) الحرص على أداء الصلاة في وقتها، ورفع الأذان، والاجتهاد في تحرِّي القبلة: لكن لو صلى المسلم باجتهاد، ثم تبيَّن أنه أخطأ القبلة، فصلاته صحيحة، ونحمد الله فقد توفرت الآن كثير من الوسائل الحديثة التي يسهل معها معرفة القِبْلة، ولا حرج على المسلم أن يجمع ويقصر، إذا كان سفره مسافة قصر؛ أي: يزيد على ثمانين كيلو متر، حتى وإن كان السفر للنزهة، وللمسلم أن يتيمَّم إذا كان لا يجد الماء، أو كان الماء قليلاً لا يكفي إلا للشرب، أو كان الجو باردًا وليس معه ما يسخن به الماء، أو يخاف على نفسه من الهواء لو اغتسل أو توضأ، والقاعدة: (أنه إذا كان الغسل أو الوضوء يضره، فله العدول إلى التيمم).
(3) إذا كان الخارج للبر أبعد عن بلده مسافة قصر، فلا تجب عليه الجمعة، حتى ولو كان قريبًا من بلد تقام فيه الجمعة، فحُكْمه حكم المسافر له القصر والجمع، ومما يخطئ فيه كثير من الناس أنهم يظنون أن يوم الجمعة لا تقصر فيه الصلاة، ولا تجمع مع العصر، وهذا غير صحيح، فإذا صلى المسلم يوم الجمعة ظهرًا، فله أن يقصر، وله أن يجمع معها العصر، لكن لو صلى الجمعة مع إمام في البلد حتى وإن كان مسافرًا، فلا يجمع معها العصر.
(4) يجب على الخارج للبر أن يتجنب المنكرات التي تكثر وقت الرحلات، مثل: الاختلاط بين الرجال والنساء، والتساهل في ذلك، وكذا شغل الوقت بالأمور المحرَّمة، مثل: الأغاني والمعازف والتصوير وغيرها.
(5) ينبغي للمتنزهين أن يبتعدوا عن السهر الذي يضرهم، ويمنعهم من الاستيقاظ لأداء صلاة الفجر في وقتها.
(6) كما ينبغي الحرص على الصحبة الطيبة التي تُعِين على الخير وتدل عليه وتشجِّع عليه، وتبعد المسلم عن الشر وأهله، ولعل من أعظم البلايا ضياع الوقت في الغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء، وذلك فعل كثير من الناس في البلد وفي البر - عافانا الله وإياكم من هذا البلاء، وجعلنا وإياكم مباركين أينما كنَّا، ورزقنا وإياكم كثرة الاستغفار في الليل والنهار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَمْ تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 20 - 22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وفق مَن شاء لطاعته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن من آداب الرحلات أيضًا:
(7) إعطاء الجيران حقوقهم، فقد يكون بجوارك أناس خرجوا لمثل ما خرجت له، فاحرص على عدم إزعاجهم، وإن كان لهم حاجة من خدمة فقدمها لهم، وإن كان معك فضل طعام فأعطهم، ففي ذلك تآلف وتعاون وتراحم، وتكاتف وتحقيق لوصية حبيبنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث أوصى عند طبخ اللحم من إكثار المرق، وإعطاء الجيران منه.
(
عند النوم ينبغي للمسلم أن ينفض ما بداخل الفراش، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه))، وفي رواية: ((فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات))؛ متفق عليه.
(9) ومن الآداب إطفاء النار عند النوم، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم))؛ رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه، وكان عبدالله بن عمر يتتبع نيران أهله، فيطفئها قبل أن يبيت.
(10) ومن الآداب: عدم ترك الفضلات في المكان الذي يجلس فيه المتنزه؛ لأن هذا المكان مشترك لك ولغيرك، فاحذر من توسيخه وتقذيره؛ لأنك تسيء إلى نفسك وتضر غيرك، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اتقوا الملاعن الثلاث؛ البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل))؛ رواه أبو داود، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل".
ويدخل في ذلك رمي مخلفات الورق والمناديل والبلاستيك، وأقبح منه رمي الحفَّاظات، ولعل أنسب شيء وضعها في المكان المخصص لها، أو إحراقها قبل أن يرتحل المتنزه من مكانه.
(11) ومن الآداب عدم إيذاء الناس بالتفحيط والتطعيس: والمرور عند النساء والأطفال وإزعاجهم؛ لأن هذا الفعل يدخل في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم))؛ رواه الطبراني، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع".
عباد الله:
وهناك آداب كثيرة خاصة وعامة، فعلى الناس مراعاتها في كل مكان ينزلونه، فما يدري المرء أين تفاجئه منيته، فلنُرِي الله منَّا خيرًا في أي منزل ننزله.
أسأل الله - جل وعلا - أن تكون حياتنا كلها عبادة لله - جل وعلا - وأن يوفقنا لحسن عبادته وشكره وذكره.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثًا مُغيثًا، سحًّا طبقًا، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زادًا للحاضر والباد.
عباد الله:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذا القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.