استضاف الإعلامي تركي الدخيل في برنامجه (إضاءات) في قناة العربية سعادة الدكتور محمد حامد الأحمري، وكان اللقاء مثيراً ومتشعباً, وقد خلَّف الحوار ردوداً ومقالات عديدة في تعقُّب الدكتور الأحمري، ومما رأيته يستحق المناقشة ما يمكن إجماله في مسألتين:
المسألة الأولى: هل القول بـ (خلق القرآن) قد اندثر؟
ذكر الدكتور الأحمري أنه لا قائل الآن بمسألة (خلق القرآن), وأعجب: كيف يصدر هذا من رجل له حضوره الإعلامي, وتفاعله الفكري في الواقع المعاصر؟!.
فمن المسلَّمات أنه: "لا تعميمٌ إلا بعد استقراء"، وأنَّ: "المذاهب لا تموت بموت أصحابها". وهذه المقولة قد سمعتها من بعض الشيوخ قبل أن أسمعها من الدكتور، وهي دعوى مردودة من وجهين:
الأول: أن هناك تياراً عريضاً في المجتمع الإسلامي لا يزال يقول بهذا, ويتبنَّى طرحه في منابره التعليمية والإعلامية؛ فالأشاعرة لا يزالون على القول بأن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق, وعلى هذا سار المتقدِّمون والمعاصرون, مصرِّحين بما أراد شارح "الجوهرة" أن يستره حين قال: "يمتنع أن يقال: إن القرآن مخلوق، إلا في مقام التعليم"[1].
يقول فضيلة الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله -: "فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه - تعالى - يتكلَّم بكلام مسموع، تسمعه الملائكة، وسمعه جبريل، وسمعه موسى - عليه السلام - ويسمعه الخلائق يوم القيامة. ومذهب المعتزلة: أنه مخلوق، أما مذهب الأشاعرة فمن منطلق التوفيقية - التي لم يحالفها التوفيق - فرَّقوا بين المعنى واللفظ؛ فالكلام الذي يثبتونه لله - تعالى - هو معنى أزلي أبدي، قائم بالنفس، ليس بحرف ولا صوت، ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء! واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
إِنَّ الْكَلامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلا
الثاني:
المسألة الثانية فيما يؤخذ على ما دار في الحلقة:
هل كان السكوت على بيان الخلفية العقدية لـ (حزب الله) الإمامي الجعفري في أثناء حرب العدو الإسرائيلي على لبنان هو الموقف الشرعي؟ وهل التحليل العقدي لمثل هذا الحدث خطأ؟.
من الإلزامات التي لا تلزم قول البعض: إما أن يكون موقفك مؤيداً لحزب الله, أو مؤيداً لإسرائيل! والحق لا هذا ولا ذاك، إلا على نظرية بوش: "مَنْ لم يكن معنا, فهو ضدنا".
الموقف الشرعي هو ما عبَّر عنه بعض العلماء الربانيين، ممَّن لهم مواقف مشهودة في بيان الحق في الملمَّات, كالشيخ ناصر العمر حفظه الله.
فعداوتنا الراسخة لليهود لا تمنع من بيان انحراف حزب الله الرافضي, وكشف مخطَّطه, وعلاقته بالمشروع الصَّفَوي بالمنطقة؛ إذ إن هذا من البيان الذي أخذه الله على أهل العلم, و"لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة", وهذه قاعدة مقررة عند أهل العلم.
والمتأمل في مواقف السلف - عبر تاريخ هذه الأمة - يجدها لا تجامل على حساب المنهج كائناً مَنْ كان.
وخذ مثلاً فتنة ابن الأشعث: حين خرج على الحجَّاج بن يوسف, الذي كانت مظالمه تملأ الأرض, وكانت الخوارج تثير الناس بذلك، وتتذرَّع به لنشر ضلالها, وكان العلماء والصالحون حَيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجَّاج, وفي هذا الجو الحالك؛ أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج, فتأثَّر بدعوته بعض العلماء, ووقف الحسن البصري العالم الرباني في هذه الفتنة موضحاً خطرها، ومحذراً من الخروج فيها, وتجنب سفك الدماء, كما هو منهج أهل السنة والجماعة, ولكن بعد أن أدبرت الفتنة، وتغلَّب الحجاج على ابن الأشعث, وقتل من قتل, وزاد جور الحجاج وظلمه، ندم مَنْ شارك في الخروج، وتمنَّوا لو سمعوا نصح الحسن وغيره من العلماء الربانيين.
وهناك فئةٌ ثالثةٌ من أرباب العلم استسلمت للواقع, وأحدثت الهزيمة لديها ردَّة فعلٍ نفسية؛ فهي لم تلزم منهج السلف - علماً وعملاً - في التعامل مع الحدث, ولم تره كافياً أمام غلواء الخوارج, حتى ابتدعت بدعةً شرٌّ من بدعة الخروج, وهي القول بالإرجاء.
إقصاء التحليل العقدي للأحداث, واستبعاده كلِّياً في بعض المواقف, لا يمكن تصوره، فضلاً عن الحديث عن وقوعه؛ لأن ارتباط الظاهر بالباطن حقيقة شرعية ونفسية.
لكن من المهم أن يدرك المرء أن الحديث عن البُعْد العَقَدي للأحداث لا يستلزم نفيَ بقية الدوافع من اقتصادية وسياسية, لكن الذي ننكره على الدكتور: هو القول بتخلُّف الدافع العقدي بالمرة في بعض الأحداث.
لقد سجل القرآن أحداثاً عظيمةً عبر التاريخ, ونقل تفاصيلها, وبيَّن أبعادها المختلفة، والتي من أبرزها البُعْد العَقَدي, وتعقَّبها بالتوجيه المُجلي للدافع العقدي وراء الحدث.
وهذا نموذجٌ واحدٌ فقط من كتاب الله - تعالى - وهي قصة طالوت وجالوت:
قال الله – تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}... إلى قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[6].
لا يمكن أن يتجاهل الناظرُ في سياق هذا الحدث البُعْد العَقَدي, مع حضور أبعادٍ أخرى، كالمال, والمنصب، وغيرها.
أرأيتَ كيف أن العصمة للمنهج وحده, وليس للأشخاص, فمَنْ لزم المنهج عُصِم, ومَنْ تنصَّل منه قُصِم.
وفي أحداث لبنان؛ لما انتشرت فتوى سماحة الشيخ عبد الله الجبرين في بعض المواقع عورضت بشدة من بعض العلماء، كالدكتور يوسف القرضاوي, حين ظهر على شاشة قناة الجزيرة, وأنكر الكلام في عقيدة الحزب الرافضية, وتساءل: كيف نقول ذلك وهم مسلمون يشهدون الشهادتين، ويصلون، و...؟!.
هذه أسبابٌ وشروطٌ إذا سلَّمنا بتحقُّقها في القوم, فهل انتفت الموانع؛ من تكفير الصحابة, والقول بعصمة الأئمة, إلى ما هنالك من الأمور الكفرية؟.
إن إهمال النظر في القواعد الشرعية المقرَّرة عند أهل العلم, كقاعدة: "الحكم لا يتم إلا باجتماع شروطه وأسبابه, وانتفاء موانعه", وعدم الاستنارة بها في فهم النصوص الشرعية, ثم بلورة المواقف بناءً على ذلك، هو من المزالق التي تورث مثل هذا التباين في أيام الفتن.
فكم جرَّ سكوت العلماء عن البيان في الفتن واختلاط الأمور من ويلات على الأمة, ومنها ما شهده الجميع من تقبُّل عوام الأمة لأكذوبة حزب الله, وتأثُّره بمنطلقاته الفكرية الباطلة، التي سرعان ما انكشف عوارها تحت أنهار الدماء السنِّية في بلاد الرافدين.
فأيُّ الفريقين أحق بالصواب؟ وأيُّ الموقفين أقرب لمنهج السلف والأصحاب؟.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: منهج الأشاعرة, للشيخ د. سفر الحوالي (ص23- 24).
[2] انظر: المصدر السابق.
[3] انظر: الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها, للشيخ د. سعيد الغامدي (2/961).
[4] المصدر السابق: (ص962).
[5] المصدر السابق: (ص 963).
[6] سورة البقرة: الآيات (246- 251).
أن الحداثيين - الذين لا يماري الدكتور في منابذتهم لشريعة الله - يعتبرون أن أصول الفرق الضالة – كالمعتزلة، والخوارج، والباطنية، والصوفية - من الأصول الفكرية للحداثة, وما ذاك إلا لمصادمتها للمنهج السلفي[3].
وحسن حنفي وزمرته العلمانيون في مصر قد أوْلَوا تراث المعتزلة - القائلين بخلق القرآن - عنايةً, وجعلوه منطلقاً لهم لهدم الاتجاه السلفي.
ويذكر حسن حنفي أنه يهتم بالمعتزلة من أجل وعي حضاري حديث, ومن أجل الخروج من الإيمان السلفي, وله ثناءات عليهم, ويتخذ منهم وسيلةً لترسيخ العلمانية والدعاية لها[4].
وبنحو هذا سار نصر أبو زيد، الذي جعل عقيدة المعتزلة في خلق القرآن مَطِيَّةً ليقول بأن القرآن ليس من عند الله, وإنما هو نصٌّ إنسانيٌّ مخلوقٌ مثل المسيح، وأن نصوص القرآن لغوية بشرية كغيرها من النصوص, وقد امتدح المعتزلة واعتبرهم مبدعين!![5].
وعلى شاكلتهم نجد الطيب صالح يثني على الخليفة العباسي المأمون؛ لأنه كان يؤمن بأقوال المعتزلة القائلة بأن القرآن غير سرمدي!.
إن المسألة ليست سَبْق لسان, ولا غلطة بنان؛ بل هو انطباع بدأ يتكوَّن لدى البعض من مفكرينا السلفيين, وهو - بطريقة أو بأخرى - لا يخرج عن مفهوم (توحيد الكلمة، على حساب كلمة التوحيد).
إنها مسألةٌ كبيرة, ومقالةٌ عظيمة أشغلت الفكر الإسلامي قروناً متطاولة, وشلَّت حركة التربية في أجيال المسلمين, وما زالت حاضرة في أذهان أتباع هذا المنهج التوفيقي وعقولهم. أما الكتب المنزَّلة ذات الترتيب والنظم والحروف - ومنها القرآن - فليست هي كلامه تعالى على الحقيقة؛ بل هي عبارة عن كلام الله النفسي، والكلام النفسي شيءٌ واحدٌ في ذاته، لكن إذا جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراةٌ، وإن جاء بالسريانية فهو إنجيل، وإن جاء بالعربية فهو قرآن، فهذه الكتب كلها مخلوقة، ووصفها بأنها كلام الله مجازٌ؛ لأنها تعبيرٌ عنه.
واختلفوا في القرآن خاصة؛ فقال بعضهم: "إن الله خلقه أولاً في اللوح المحفوظ، ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد صلى الله عليه وسلم". وقال آخرون: "إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي، وأفهمه جبريل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فالنزول نزول إعلام وإفهام، لا نزول حركة وانتقال"؛ لأنهم ينكرون علوَّ الله.
ثم اختلفوا فيمن عبَّر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي؛ من هو؟ فقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: بل هو محمد - صلى الله عليه وسلم-!.
واستدلوا بمثل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} في سورتَي الحاقَّة والانشقاق - حيث أضافه في الأولى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الأُخرى إلى جبريل - بأن اللفظ لأحد الرسولَين (جبريل أو محمد)، وقد صرَّح الباقلاني بالأول، وتابعه الجويني.
قال شيخ الإسلام: "وفي إضافته - تعالى - إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا تارة، دليلٌ على أنه إضافة بلاغ وأداء، لا إضافة إحداثٍ لشيءٍ منه وإنشاء، كما يقول بعض المبتدعة الأشعرية، من أن حروفه ابتداء جبريل أو محمد، مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال: إنه قول البشر من مشركي العرب"[2].