الفصل الثالث: الأفغَاني ومحمّد عَبده:
الاهتمام بالأفغاني ومحمد عبده يَسْتَنِدُ إلى اعتبارينِ: أولهما: هو أنَّ الصورة الشائعة المعروفة عنهما بين الناس تخالف حقيقتَيْهِما، وهذه الصّورة الشائعة تستمِدُّ وجودها وقوتها من الدعاية الدائبة التي لا تَفْتُر، والتي تسهر عليها قوى ومؤسسات قادرة ذات نُفُوذ. ولذلك كان الكشف عن حقيقتيهما محتاجًا إلى مجهود كبير، وإلى مزيدٍ من الدَّأب يُقابل دأب الدعاية المبذولة في تدعيم مكانيهما. وثاني هذينِ الاعتبارين: هو أنَّ جلاءَ حقيقة الرجُلينِ يتبعه جلاء حقيقة كثير من الأوهام التي تأصلتْ في نفوس الناس تبعًا لاستقرار شُهْرتَيْهِما فيها، فكشف الستر عنهما هو في الوقت نفسه كشفٌ للستر عن أباطيلَ كثيرةٍ ترتبطُ بهما، وتستمدُّ قوتها وبريقها الخَدَّاع من شُهْرَتَيْهِمَا، ومن ارتباطِها بهما.
أول ما يَريبُ الباحث في أمر الأفغاني تعميتُه أصلَه ونسبَهُ، فقد زعم أنه أفغانيُّ سُنِّي، ثم أثبت البحث الحديث بأدلَّة لا تَقْبَل الشكَّ أنه كان إيرانيًّا شيعيًّا، وزعم أنه شريف النسب، حسيني الجد، وهو زعْمٌ لم يقم عليه دليل، والذي يكذب على الناس في بلده خليق أن لا يصدق في نسبه.
أما الأدلَّة على أنه إيراني شيعي، فهي صريحة متعدّدة في الكتاب الذي ألَّفه ابن أخته ميرزا لطف الله خان، الذي كان يلازمه في زياراته لإيران. وقد مات ابن أخته هذا سنة 1340 هـ (1921 - 1922م) فعهد ابنه صفات الله الأسد بادي إلى حسين كاظم زاده بنشره، فنشره في برلين لأول مرة سنة 1344 هـ (1926 م)، حيث كان يقيم وقتذاك. ثم ترجم الكتاب إلى العربية سنة 1957م تحت عنوان "جمال الدين الأسد بادي". وقد أثبت المؤلِّفُ والمترجمان بأدلَّة كثيرة أنَّ جمال الدين كان إيرانيًّا من أسد آباد (بالقرب من همذان)، وكان شيعيًّا.
ولم يكن أفغانيًّا من أسعد أباد (من أعمال كابل بأفغانستان)، وكما لم يكن سنيًّا حنفي المذهب، على ما كان يزعمه وعلى ما هو مشهور حتى الآن بين الناس. فبقية أسرته لا تزال في أسد أباد. وقد حقَّق نسبه وزار أسرته عنايت الله خان، عم أمان الله خان ملِك الأفغان الأسبق. واسم والده واسم خادمه يدلان على أنَّه شيعِيٌّ إيراني. فاسم والده (صفدر)، يعني (مفرق الأعداء)، وهي عند الشيعة صفة لسيدنا علي - رضي الله عنه - والاسم وقف على الشيعة، لا يتسمى به أحد من الأفغانيين. واسم خادمه الذي كان يلازمه دائمًا، والذي تركه بعد رحيله عن مصر في رعاية تلميذه محمد عبده، هو (أبو تراب)، وهي كنية سيدنا علي - رضي الله عنه - ولا وجود لهذا الاسم في غير إيران. ولهجة جمال الدين الفارسية تَقْطَعُ بأَنَّهُ إيراني، وأصدقاؤه المقربون الذين كانوا يلازمونه في الأستانة كانوا من الإيرانيين. وكان تفكيره دائمًا متجهًا إلى إيران، وإلى اتّخاذها مركزًا للجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها؛ كما يبدو من مقال له في "العروة الوثقى"[14].
وثقافة جمال الدين الفلسفية وتوسُّعه في دراسة المنطق وعلم الكلام، إلى جانب دراسة الفقه وعلم الأصول، هي الدراسة الشيعية التقليدية، التي تنمي ملكة الجدل وقوة الاستدلال. والدراسة السنية تتبع طريقًا آخر يقوم على دراسة الفقه والأصول والحديث والتفسير واللغة والأدب.
ولكن جمال الدين أخفى أصله الإيراني؛ لأنه كان يريد أن يخفي تَشَيُّعَه عن الناس في البلاد العثمانية التي تنقل فيها، وأهلها سنية حنفية كالأفغان. وقد استفاد جمال الدين من انتسابه للأفغان؛ لأنه أصبح بعيدًا عن سلطة ممثلي إيران وقناصلها في الخارج. وكان من السهل أن تَرُوج أفغانيته بين الناس في البلاد التي نزلها؛ لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل خارجي في ذلك الوقت، وكان للإنجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون أتباعها في الخارج.
ومما يَريب الباحثَ في أمر جمال الدين وأهدافه أيضًا أن أكثر نشاطه كان سريًّا، فقد كان أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث في مصر، وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها، فأسس الحزب الوطني الحر في مصر أثناء إقامته بها، وكان حزبًا سريًّا، لم يمضِ على تأسيسه عام واحد حتى أصبح أعضاؤه 20180 عضوًا، وأصبح له رصيد ضخم في المصارف[15].
وأنشأ جمعية "مصر الفتاة" السرية، وأنشأ صحيفة تنطق باسمها هي صحيفة "مصر الفتاة"، ولم يكن فيها مصري واحد؛ كما روى تلميذه محمد عبده في كتاب "أسباب الحوادث العرابية"، وكان أغلب أعضائها من شبان اليهود[16].
وأنشأ أثناء إقامته في الهند جمعية "العروة الوثقى" السرية، التي امتد نشاطها إلى الشام وإلى مصر وإلى السودان وتونس. وكان من أعضائها الأمير عبدالقادر الجزائري، ومن اختار من أنجاله ورجاله، ومنهم محمد أحمد المهدي السوداني الذي تتلمذ على الأفغاني في مصر أربع سنوات[17].
وقد حفظ الجزء الثاني من "تاريخ الأستاذ الإمام" لمحمد رشيد رضا عددًا من الرسائل التي تداوَلَها محمد عبده مع أعضاء هذه الجمعية، وهي مليئة بالإشارات والرموز. وبعض هذه الإشارات يدل على أن محمد عبده قد دخل سرًّا إلى مصر؛ استعدادًا لدخول السودان والاتصال بالمهدي، ومر أثناء هذه الجولة بتونس وبالشام، حيث كان يعمل على (إحكام العروة وتمكين عقودها) حسب تعبيره[18]. وكانت صحيفة "العروة الوثقى" التي أنشأها جمال الدين مع تلميذه محمد عبده في باريس هي الصحيفة الناطقة باسم الجمعية السياسية السرية.
ثم أنشأ محفلاً ماسونيًّا تابعًا للشرق الفرنسي، ضم إليه عددًا كبيرًا من أصحاب النفوذ في مصر بمساعدة رياض باشا رئيس الوزراء. وهو الذي استقدمه إلى مصر، وتولى رعايته فيها، وأجرى عليه راتبًا شهريًّا، وأعدَّ له سكنًا في خان الخليلي، ويقال: إنه كان في حارة اليهود[19].
ويتصل بهذا النشاط السري الذي لازمه في كل مكان تهييجُه على الثورات، وتشجيعه على تأسيس الصحف التي تخدم أغراضه، وتنشر آراءه، وتشيد بذكره، فهو الذي أنشأ صحيفة "مصر". وعهد بإدارتها إلى أديب إسحاق، وكان قد قدم إلى الإسكندرية للاشتراك في التمثيل المسرحي مع سليم نقاش، ثم أسس صحيفة "التجارة" بالإسكندرية، وعهد بإدارتها إلى أديب إسحاق وسليم نقاش، فكانا لا يزالان يُشيدانِ بذكره، في مثل قولهما: "مهبط أسرار الحكمة وإسطرلاب فلك العلوم، وإسطقس هَيُولى الفلسفة"، إلى غير ذلك مما اعتادا أن يصفاه به [20].
وقد طلب إلى تلميذيه محمد عبده وإبراهيم اللقاني أن يساهما في تحرير صحيفة "التجارة"، وكان هو نفسه يشترك ببعض مقالات، يوقعها باسم مستعار هو (مُظْهِر بن وَضَّاح).
وليس مُهِمًّا أن تكون المبادئ التي تُنشر على الناس وتذاع سليمة أو منحرفة، فالذي يُنْشَر على الناس دائمًا نظيفٌ وسليمٌ. ولكن المهمَّ هو أن الذين يشتركون في التنظيمات السرية يجهلون دائمًا حقيقة أهدافها، ولا يعْرِفون إلا ما يريد رؤوس التنظيم السِّرّي أن يعرفَ بين الناس. والدارس لتاريخ الدعوات السرية في الإسلام، ولتاريخ الباطنية أو الإسماعيلية على وجه الخصوص يرى الشاهد على ذلك في بدْئِهم بالدعوة إلى إعلاء كلمة الله وإنصاف المحرومين، وانتهائهم آخر الأمر إلى عقيدة فلسفية تنكر الأديان، وتخوض في دماء المسلمين. وغاراتهم على قوافل الحُجَّاج، وتنكيلهم بهم في المسجد الحرام أمر مشهور في كتب التاريخ.
وقد غمس جمال الدين يده فعلاً في الدم الحرام، وكان مستعدًّا دائمًا لأن يغمس يده فيه، فهو مسؤول عن اغتيال ناصر الدين شاه إيران. كان لا يزال يُؤَلِّب عليه في كل مكان منذ طرده من إيران 1891م، وأخرجه من الضريح المقدس عند الشيعة الذي كان قد عاذ به ولجأ إليه، وهو (بقعة حضرة عبدالعظيم المقدسة). فاتصل برجل هارب من إيران يدعى (ميرزا رضا الكرماني) وحرَّضه على قتله، فتسلَّل إلى إيران واغتاله سنة 1896 في المكان نفسه الذي طرد منه الأفغاني[21]، وقد فكر الأفغاني بموافقة محمد عبده في اغتيال الخديوي إسماعيل أثناء مروره على كوبري قصر النيل، لأن جمال الدين كان متفقًا على برنامج الحكم مع ابنه توفيق، الذي كان قد نجح في ضمه إلى محفله الماسوني. وقد اشترك من بعد مع نوبار باشا في السعي لعزل إسماعيل[22].
وليس مهمًّا أن يكون الذينَ اشترك في اغتيالهم، أو دبره وفكر فيه، مُفْسدينَ أو مصلحينَ. ولكن المهم هو أنه كان يتخذ الاغتيال وسيلة من وسائله السياسية، ويخوض الدماء في سبيل الوصول إلى أهدافه، وهو ما لا يحله الإسلام، ولا يفعله مسلم يؤمن بالله، ويخشى عذابه، ويقف عند حدوده. وهو يذكِّرُنا مرة أخرى بوسائل الإسماعيلية الباطنية، ولاسيما الحسن بن الصباح صاحب قلعة (ألْمُوت).
إنَّ الدَّارس المدقق لسيرة جمال الدين لا يملك إلا أن يتوقف أمام كثير من الظواهر الغريبة في سيرته. إنه يتساءل: فيمَ تَنَقُّلُه السريع المفاجئ الذي لا يفتر، بين إيران وبلاد الأفغان والهند والحجاز ومصر وتركيا وفرنسا والنمسا وإنجلترا وروسيا؟، وفيمَ هذه الأزياء المختلفة التي كان يلبسها لكل بلد، والتي يحفل بصورها كتاب ابن أخته ميرزا لطف الله خان؟ فهو في زي عربي تارة، وفي زي علماء الشيعة تارة أخرى، ومع جماعة من كبار علمائهم ومجتهديهم تارة ثالثة، وفي طربوش تركي تارة رابعة، وفي زي أفغاني تارة خامسة. فيمَ كل هذا، وباغي الخير لا يحتاج إلى التستر والتخفي، وإنما يتخفَّى المريب؟؟ ومن أين كان ينفق على هذه الرحلات؟ وفيمَ كانت صلته بالمستر بلنت، ذلك الرجل الغريب، الذي كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر وفي سورية وفي نجد؟ يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضلِّلَة عن صفته الرسمية وقدرته السياسية وقوة الجيوش الإنكليزية، ثم يدافع عنه بعد اعتقاله؟! ويدعو العرب إلى إنشاء دولة عربية؛ لأن الدولة العثمانية على وشك السقوط والانحلال، ولا ينبغي أن يشاركها العرب هذا المصير، فيجب أن يُكَوِّنُوا دولة عربية حليفة لإنجلترا تصبح مقرًّا للخلافة الإسلامية، ويكتب في ذلك كتابه المشهور، الذي سماه "مستقبل الإسلام" (The Future of Islam)، والذي كان مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني في مصر أول مَنْ تَنَبَّهَ إلى خُطُورته؟! فيمَ كانت صلة الأفغاني بهذا الرجل، ينزل ضيفًا عليه عندما زار إنجلترا، ويكتب إلى محمد عبده من بورسعيد وهو في طريقه إليها يطلب إليه أن يكون رده بعنوان المستر بلنت؟ بل فيمَ كانت صلته بإنكلترا، يلجأ إلى سفيرها في الأستانة؛ لكي يساعده على الخروج من تركيا، حين غضب عليه السلطان عبدالحميد[23]؟
وباسم مَنْ كان يفاوض الإنجليز في الوصول إلى اتفاق مع تركيا ضد روسيا؟ ومع المهدي للاعتراف باستقلال السودان؟ وما هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يجتمع حول الرجل الذي كان صوته أعلى الأصوات في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وفي التنديد بفساد المجتمع الإسلامي والدعوة إلى إصلاحه؟ سليم نقاش صاحب الكتاب الذي يحمل عنوانًا غريبًا في إبَّان الدعوة إلى الجامعة الإسلامية وهو "مصر للمصريين" شامي نصراني. وأديب إسحاق من نصارى الشام أيضًا. وكان إذا ذكر بعد موته في مجلس الأفغاني جاشت نفسه بالحزن وهو يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون". وطبيبه الخاص يهوديٌّ يدعى هارون. وقد كان هو ونصراني آخر يدعى جورجي كونجي هما اللذان شهدا احتضاره وحدَهُما[24]. والذي كان يساعده في تحرير صحيفة "العروة الوثقى" مع محمد عبده رجلٌ مريب من إيران يدعى ميرزا باقر، كان قد تنَصَّر وصار داعية للنصرانية هناك مع جمعية للمبشرينَ، ثم عاد إلى الإسلام؛ ليشارك في تحرير الجريدة الداعية إلى الجامعة الإسلامية[25].
ومجالس الأفغاني كانت تضم خليطًا من المسلمين والنصارى واليهود. هذا بالإضافة إلى ما أُشِيع من أنه كان ينزل في حارة اليهود، ومن أنه ألَّف جمعية سرية أعضاؤها من شباب اليهود. ولماذا كانت عداوته الشديدة للاستعمار الإنكليزي وحده دون الاستعمار الفرنسي والاستعمار الهولندي؟ فلم ترد في صحيفة "العروة الوثقى" إشارة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، كما لم ترد فيها إشارة للاحتلال الهولندي في أندونيسيا، ولم تُشِر الصحيفة إلا إشارة عابرة لاحتلال الهند الصينية. نحن نعرف أن الأفغاني كان ينتسب حين دخل مصر إلى المحفل الماسوني الأسكتلندي، ثم اختلف معه فتحول إلى المحفل الماسوني الفرنسي[26]. فهل كانت عداوته للإنكليز مبنية على هذا الخلاف مع المحفل الماسوني الأسكتلندي، مع ما هو معروف من استغلال الاستعمار للمحافل الماسونية، إلى جانب ما هو معروف من صلتها بالصِّهْيَوْنِيَّة؟!
وبعد، فما هي الأعماق الحقيقية والأغوار البعيدة لدعوة جمال الدين الأسد بادي، التي كان يبدو على سطحها الظاهر دعوة متحمسة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي، وجمع شَمْل المسلمين؟
يصف أبو الهدى الصيادي هذا الرجل في خطاب كتبه إلى رشيد رضا سنة 1898 م فيقول: إنه "مارق من الدين، كما مرق السهم من الرمية"[27].
ويقول تلميذه أديب إسحاق في ترجمته: "إنه أحس بميل للتصوف في بدء حياته، فانقطع حينا بمنزله يطلب الخلوة لكشْفِ الطريقة وإدراك الحقيقة... ثم خرج من خلوته مستقر الرأي على حكم العقل وأصول الفلسفة القياسية" [28].
ووصفه سليم العنحوري حين ترجم له في شرح ديوان "سِحْر هاروت"، فقال: "إنه سافر إلى الهند، وهناك أخذ عن علماء البراهمة والإسلام أجل العلوم الشرقية والتاريخ، وتبحر في لغة السانسكريت أم لغات الشرق، وبرز في علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم، زاعمًا أن الجراثيم الحيوية المنتشرة في الفضاء هي المكونة بترقٍّ وتحوير طبيعيَّيْنِِ ما نراه من الأجرام التي تشغل الفضاء ويتجاذبها الجو، وأنَّ القول بوجود محرّك أول حكيم (وَهْمٌ)، نشأ من ترقي الإنسان في تنظيم المعبود على حسب ترقيه في المعقولات" [29].
وقالت صحيفة "المقطم" في نعيه: "إنه كان منارًا للحرية والعرفان في كل مكان احتله... فَقَدَ الشرق فيه عالمًا يُهْتَدَى بعلمه، وركنا يُعْتَمَد عليه، وداعيًا إلى الحرية يُقْتَدَى به في الدعوة إليها". وختمت الصحيفة النعي بقولها: "فنعزي جميع أنصار الحرية، ومحبي العلوم، والفضائل عن فَقْدِه" [30].
والحرية والأحرار أو أحرار الفكر هي ترجمة للكلمات الإنجليزيةFree Thinkers, Liberals, Liberalism وهي - كما أسلفنا القول في المحاضرة السابقة - كلمات اصطلاحية، يراد بها إطلاقُ الفكر من كل قيد، ومن العقائد الدينية على وجه الخصوص.
ووصف رشيدُ رضا الأفغانيَّ بأنه كان يميل إلى وحدة الوجود، التي يشتبه فيها كلام الصوفية بكلام الباطنية، وقال: إنَّ كلامه في النشوء والترقي يشتبه بكلام داروين[31].
وكتاب رشيد رضا إليه، الذي كتبه في سنة 1310 (1892م)، والذي أورد نصه في كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام" يثبت ذلك، حيث يبدأ بقوله: "الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وعلى سيدي بل السيد المطلق... سدرة منتهى العرفان، وجنة مأوى المحاسن والإحسان، الذي له في كل جو مُتَنَفَّس، ومن كل نار مُقْتَبَس، الإمام المفرد، والعقل المُجَرَّد... بَدَل الأبدال، سيد الآل، الإنسان الكامل، الوراث الكامل، المرشد الكامل، مَهْبِط الفَيْض، مَصْعَد الكلم الطيب، مَجْلَى سر الجمال الأكمل" [32]
وأظهر منه في الدلالة على ذلك كتاب محمد عبده، الذي بعث به إليه من بيروت في 5 جمادى الأولى سنة 1300 هـ (1882 م) - بدأه بقوله:
"ليتنِي كنتُ أعلم ماذا أكْتُبُ إليك، وأنت تعلم ما في نفسي؛ كما تعلم ما في نفسك، صنعتنا بيديك، وأفَضْتَ على موادّنا صورها الكمالية، وأنشأتنا في أحسن تقويم، فبك عرفنا أنفسنا، وبك عرفناك، وبك عرفنا العالم أجمعين. فعِلْمُك بنا كما لا يَخْفَاك عِلْم من طريق الموجب. وهو علمك بذاتك، وثِقَتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صَدَرْنا، وإليك إليك المآب".
وفيه يقول مخاطبًا الأفغاني:
"فصورتك الظاهرة تَجَلَّتْ في قوى خيالية، وامتد سلطانها على حسِّي المشترك، وهي رسم الشهامة، وشبح الحكمة، وهيكل الكمال، فإليها رُدن جميع محسوساتي، وفيها فنيت مجامع شهوداتي، وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا، وأنرت بها عقولنا، ولطفت بها نفوسنا، بل التي بَطَنْتَ بها فينا، فَظَهَرْتَ في أشخاصنا، فكنا أعدادك وأنت الواحد، وغَيْبك وأنت الشاهد، ورَسْمك الفوتغرافي الذي أقمته في صلاتي رقيبًا على ما أقدم من أعمالي، ومسيطرًا عليَّ في أحوالي، وما تحركتُ حركة، ولا تكلمتُ كلمة، ولا مضيتُ إلى غاية، ولا انْثَنَيْتُ عن نهاية، حتى تطابق في عملي أحكام أرواحك وهي ثلاثة، فمضيت على حكمها سعيًا في الخير، وإعلاء لكلمة لحق، وتأييدًا لشوكة الحكمة وسلطان الفضيلة، ولست في ذلك إلا آلة لتنفيذ الرأي المثلث وما لي من إرادة حتى ينقلب مربعًا".
وفي هذا الكتاب يقول:
"فإني على بينة من أمر مولاي، وإن كان في قوة بيانه ما يشكِّكُ الملائكة في معبودهم، والأنبياء في وحيهم".
وفيه يطلب نسخة من رسم فوتوغرافي حديث فيقول:
"ونستمنح من كرمه الواسع أن يمنَّ علينا بأمرين، أحدهما إرسال رسمه الفوتغرافي الجديد. فإن هذا الخادم كان عنده نسختان من الفوتغرافية الأولى، إحداهما أخذها أعوان الضبطية من بيتي عندما أودعت السجن، كما أخذوا كتاب الماسون بخط مولاي المعظم، والثانية استجدانيها سعد أفندي زغلول، وهو من خواصّ محسوبيكم. ولشفقتي عليه تركتها له أيامًا؛ ليعيش أعوامًا" [33].
ويشهد به كذلك كتاب الأفغاني إلى محمد عبده عند مروره ببورسعيد في طريقه إلى لندن، فقد بدأه بكلام غريب خرج فيه عمَّا جرت عليه عادة المسلمين، من البدء باسم الله وبحمده والصلاة على نبيه، فقال: "الابتهاج بجميل الصنع جزاءٌ تفيض به جامعة الكون على النفوس، كلما قامت بوظائف الوجود. والمَحْمَدة شهادة تبعث ملكوتُ وحدانيةِ الهيئةِ على بَثِّها مُتشخِّصاتِ الطبيعة في مشهد العالم، تخليدًا للجزاء، وتعظيمًا للأجر. فلك بجميع صنعك مع "العارف" الجزاء الأوفى"[34]. وفي آخر هذا الخطاب يشير الأفغاني إلى عصابته الذين بايعوه بقوله: "وسلم على كل من عَرَفَنَا وعَرَفْنَاه، واعترف بنا وسلَّمنا له". كما يطلب إبلاغ سلامه: "لصاحب النفس الزكية، والهمة العلية، دولتلو رياض باشا، أيَّده الله تعالى".
ومن هذا القبيل أيضًا كتاب إبراهيم اللقاني إلى جمال الدين الأفغاني، الذي أرسله إليه من بيروت في 15 فبراير 1883 م الموافق 7 ربيع الثاني 1300 هـ حسب ما جاء في صدره، بتقديم التاريخ الميلادي على التاريخ الهجري[35]. وقد بدأه بقوله: "إن راسل سواي حظيرة قدس مولاي، وأنا لم أفعل فلا عجب ولا عقوق، فإني أَخَصُّ خَشَمِ تلك الحظيرةِ، وأقربهم إلى قُدْسها، فأنا أشدُّهم خوفًا من مولاي، وأبعدُهم تصوُّرًا لعظمته، وما تصوَّرت غير العجز عن التصور. فكلما نَزع بي الوجد إلى المراسلة، غشيني من هذا التصور غاشٍ عمَّنِي هيبة ودهشة، وأفعمني ذُهولاً وغشية، حتى لا أعقلَ إلا العجز، ولا أعيَ إلا القصور، ولا أسمعَ إلا الزجر، ولا أبصرَ إلا الحطَّة، ولا أحسَّ إلا الضعف، ولا أجد إلا الحيرة؛ بل هذه كلها كلمات أكني بها عما يعروني حينئذ من الأحوال؛ كما يكنَّى بِما في الدنيا عما في الجنة".
وفي هذا الخطاب يعتذر إبراهيم اللقاني عما: "اقترفه من سوء الأدب بسبب الجرأة على إرادة مراسلة مولى لا تُطاولُ أعناقُ الحكماء موطئَ نَعْلِه في العَلْياء، مولى لا ندري هل هو يعلم الحكمة أم الحكمة تعلمه؟!، ولا نفقه مَنِ المعنى، ومن المَبْنَى منهما؟!، مولى لا نتحاشى أن نَقُول فيه: إن روح الطبيعة برزت في ثيابه؛ لتهدي عالمها إلى ما تريده من أسرارها".
والآراء السائدة في هذه الرسائل، والتي هي قدر مشترك بين الأستاذ وتلاميذه، من مثل كلام الأفغاني عن "جامعة الكون" و"ملكوت وحدانية الهيئة" و"متشخصات الطبيعة" وكلام المويلحي عن "روح الطبيعة"، وغلو محمد عبده في وصف الأفغاني بما لا يوصف به إلا الخالق جل شأنه، وجرأته على الملائكة والأنبياء، كل ذلك لا يكشف عن عقيدة سليمة أو إسلام صحيح.
وحكى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية (حسن أفندي فهمي) عن الأفغاني حين كان في زيارته الأولى للأستانة أنه جعل النبوة صنعة، وسوَّى بينها وبين الفلسفة، وَأَمَرَ الوُعَّاظ في المساجد أن يهاجموه ويفندوا قوله، وانتهى الأمر بإجلائه عن الأستانة في زيارته الأولى لها، وسفره إلى مصر[36].
ولَمَّا تصدَّر الأفغانِيُّ في القاهرة للتدريس في الأزهر هاجمه علماؤه، وكان الشيخ عُلَيْش - وهو عالم من علماء الأزهر مغربي الأصل مشهور بتدينه وشدة غيرته على الإسلام - أعْنَفَهم في ذلك، فكان يروغ بِعُكَّازِه على جمال الدين وتلاميذه في صحن الأزهر، حتى انقطع عنه، وأصبح يجتمع بتلاميذه في بيته أو في قهوة البوستة.
هذه أقوالٌ لا تدعو إلى الاطمئنان لِظاهِرِ أمر الأفغاني، وتدعو إلى التنقيب عمَّا وراء هذا الظاهر. ومع ما أطلنا في الحديث عنه، فنحن لم نصل بعد إلى نتيجة محقَّقة، وغاية ما وصلنا إليه هو الدعوة إلى إعادة النظر في أمره، والتنبيه إلى أنه كان ذا أهداف سياسية خطيرة، تذكرنا بأهداف الباطنية وأساليبهم، وهي مسألة يدعو إلى التأمل فيها وتدبرها ما ذكره رشيد رضا في تاريخه، من أنَّ الأفغانيَّ ومحمد عبده كانا يهدفان إلى إخراج الإنجليز من مصر والسودان، أو إقناعهم بترك السودان، بتكبير شأن دعوى محمد أحمد للمهدوية، حتى إذا تيسر ذلك، وتم لهما هذا، ذهبا إلى السودان خفية، ونظما فيه قوة محمد أحمد، توسلاً إلى إنقاذ مصر بها، وتأسيس دولة قوية، يعتز بها الإسلام والشرق، وتتحرَّر شعوبهما من الرق (1: 380). وهذا كلام يذكرنا بقصة عبيدالله المهدي أول ملوك العُبَيْدِيِّينَ المشهورينَ باسم الفاطِمِيينَ، الذين كانوا يرسلون رسلهم إلى المغرب، حتى إذا مهَّدوا لهم الطريق، حضروا وأنشأوا دولتهم التي كانت تطمع في الاستيلاء على كل بلاد المسلمين.
وبعد، فلا بد لي من أن أقف عند هذا القدر في الكلام عن جمال الدين الأفغاني، وأن أكتفي بتأكيد مسؤوليته عن إنشاء الدعوات السرية في المجتمعات الإسلامية الحديثة، وتشريع الاغتيال وسيلة لتحقيق أهدافها، وتصعيد الدعوةِ إلى الحرية، التي بدأت كما رأينا مع الجيل الأول، جيل الطهطاوي وخيرالدين، وهي دعوى تشمل الحرية والتحرُّر بكل معانيهما السياسية والفكرية والاجتماعية، وبكل ما تشتملان عليه من روح التمرد والانطلاق الذي يأبى كل قيد ويرفض كل موروث، ولو كان قَيْدَ الدين وميراثه وتقاليده. وذلك كله بالإضافة إلى سعيه لإفساد العقيدة الإسلامية، واستعانته بأعداء الإسلام على تحقيق أهدافه.
وإذا ذكر الأفغاني، فلابد - لاستكمال الصورة - من أن نذكر معه تلميذه محمد عبده، والذي نشر مذهبه وقدمه في صيغة مغرية جذبت إليها كثيرًا من المخدوعين بظاهرها.
تنقسم حياة محمد عبده الفكرية والسياسية إلى قسمين: يتميز أحدهما عن الآخر: القسم الأول هو الذي عمل فيه تحت إشراف الأفغاني، وكان فيه خادمًا لأهدافه، يرى بعينيه، ويفكر بعقله، ويكتب بوحيه، وذلك واضح في رسائله التي ما أكثر ما تجد فيها مثل قوله: "فتلقيت من الأمر الجديد أن أكون على مقربة من الضوضاء"[37]، أو قوله: "تلقيت من الأمر الجديد أن أنحو نحو الشرق، حيث مسيل الحادثات"[38]، أو قوله: "أُذِنْتُ أن أبعث لك ببعض القواعد التي ينبغي أن يُرْفَع البناء عليها"[39]، أو نحو ذلك مما يشهد أنه كان آلة في يده. ويتسم هذا الطور بالعنف، وفيه مما يريب، ما رابنا من الأفغاني.
والقسم الثاني من حياته هو الذي عمل فيه بعد عودته إلى مصر في ظل صداقة اللورد كرومر والمستر بلنت، ما تشهد به تقارير كرومر السنوية، وكتابه عن مصر الحديثة (Modern Egypt)، وعن عباس الثاني، ومذكرات المستر بلنت (My Diaries)، وكتابه "التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر" (The Secret History of the Brithes Occupation of Egypt)، وهي صداقة تركت أثرها في سلوك محمد عبده وفي آرائه.
يقول كرومر في تقريره السنوي عن عام 1905 في الفقرة (7)، التي كتبها بعنوان: "الشيخ محمد عبده". بمناسبة وفاته: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحرّرة المستنيرة، أثرها في جَعْل مشورته، والتعاون معه عظيمَ الجَدْوى". وضرب لذلك مثلاً فتواه المشهورة في ربح صناديق التوفير. ثم يقول، بعد أن يشبه دور محمد عبده في مصر بدور السيد أحمد خان في الهند: "والأيام وحدها هي التي ستكشف، عما إذا كانت الآراء التي تعتنقها المدرسة التي تزعمها الشيخ محمد عبده، سوف تستطيع التسرب إلى المجتمع الإسلامي. وأنا شديد الرجاء في أن تنجح في اكتساب الأنصار تدريجيًّا، فلا ريب أن مستقبل الإصلاح الإسلامي، في صورته الصحيحة المُبَشِّرَة بالآمال، يكمن في ذلك الطريق الذي رسمه الشيخ محمد عبده. وإن أتباعه ليستحقون أن يعاوَنوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوروبي وتشجيعه".
ويقول كذلك في تقرير سنة 1906، في الفقرة الثالثة، التي تكلم فيها عن الوطنية المصرية، بعد أن عرض لفكرة الجامعة الإسلامية، وللحزب الوطني المتشبع بها: "إلى جانب هؤلاء الذين يَدَّعُون لأنفسهم صفةَ الوطنية، تُوجَدُ جماعةٌ أُخْرَى من المصريين الذين لا يتمتعون بمثل شُهْرة الفريق الأول؛ ولكنهم لا يقلّون عن منافسيهم استحقاق لهذه الصفة، بالرغم من اختلافهم معهم في المنهج الفكري، وفي أسلوب العمل. وهذه الجماعة الصغيرة العدد، والآخذة في الازدياد، هي الحزب الذي يمكن أن أسميه على سبيل الاختصار بأتباع المفتي الأخير الشيخ محمد عبده[40]... وفكرتهم الأساسية تقوم على إصلاح النظم الإسلامية المختلفة، دون إخلال بالقواعد الأساسية للعقيدة الإسلامية. فهم وطنيون حقًّا، بمعنى أنهم راغبون في ترقية مصالح مواطنيهم وإخوانهم في الدين، ولكنهم غير متأثرين بدعوة الجامعة الإسلامية. ويتضمن برنامجهم - إن كنت قد فهمتُه حقَّ الفهم - التعاونَ مع الأوربيين، لا معارضتهم، في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم".
ثم يُشيرُ إلى أنه - تشجيعا لهذا الحزب، وعلى سبيل التجرِبة - قد اختار أحد رجاله، وهو سعد زغلول، وزيرًا للمعارف. ويؤكد في نهاية الفقرة أنه: "لن يكون هناك محل للتراجع في كل حال. إن العمل على إدخال الحضارة الغربية في مصر يسير سيرًا حثيثًا، في كل فرع من فرع الإدارة في الدولة، على خطوط كانت موضعَ العناية والدرس، تقوم على التطور والتدرج، دون إحداث انقلاب أو تغيير جذري مفاجئ".
ويردد كرومر هذه الآراء نفسها في كتابه "Modern Egypt" الذي ظهر بعد ذلك بعامين (1908)، ويضيف إليه: "إني أشكُّ كثيرًا في أنَّ صديقي مُحمَّد عبده كان لا أدريا (Agnostic). ولو أني أعرف أنه كان يكره أن يوصف بهذه الصفة. وقد تعوَّد أصدقاؤه - مع تقديرهم له - أن يعتبروه فيلسوفًا" [41].
أمَّا وِلْفْرِدْ بْلَنْتْ فَصِلَتُه بمحمد عبده قديمة، ترجع إلى صلته بأستاذه جمال الدين وصلته بالثورة العرابية. ثم جدد بلنت هذه الصلة بمحمد عبده بعد عودته من المنفى، إذ كانا يسكنان في دارين خَلَوِيَّتَيْنِ متقاربتينِ بالمطرية. وكانا يلتقيانِ كل يوم ليتبادلا الحديث في موضوعات شتى، كما ذكر المستر بلنت في مقدمة النسخة العربية من مذكراته الخاصَّة بمصر، التي راجعها محمد عبده قبل وفاته، ونشرت من بعد تحت اسم: "التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر".
يقول بلنت في يومياته بتاريخ 28/1/1900 م عن صديقه مُحمَّد عبده، بعد أن سجَّل حديثًا جرى بينهما عن الجنس البشري ومعاملة القوي للضعيف: "وعبده لا يؤمن بنهاية سعيدة للجنس البشري. وأخشى أن أقول: إن محمد عبده - بالرغم من أنه المفتي الأعظم - ليس له من الثقة في الإسلام أكثر مما لي من الثقة في الكنيسة الكاثوليكية"[42].
وبلنت كان من المتحررين الذين لا يؤمنون بالمسيحيَّة، ولا يحسنون الظَّنَّ بالكنيسة الكاثوليكية، فَقَدَ إيمانه بقراءة داروين، وكان واقعًا تحت تأثير بعض المُفكِّرين الأوروبيينَ، أمثال: رينان، وتولستوي، الذين يفرّقون بين تعاليم المسيح وبين التَّعاليم المستنبطة من القديس بطرس، والكنيسة الكاثوليكية[43].
وتحدَّث بلنت في الفصل الخامس من كتابه "التاريخ السري" عن (زعماء الإصلاح في الأزهر)، وعمَّا سمَّاه (الإصلاح الديني الحر)، الذي أرجعه إلى جمال الدين الأفغاني، ووصف صنيعه في (إطلاق العقول من الأغلال التي قَيَّدَتْهَا طوال الأجيال الماضية) بأنه (يماثل ما حدث من إحياء المسيحية بأوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر). ثم وصف بلنت لقاءه الأول سنة 1881 لمحمد عبده، الذي خلف جمال الدين الأفغاني في زعامة حزب الإصلاح الحر في الأزهر)، فأبدى إعجابه الشديد بآرائه، (فيما يختص بتعاليم المسلمين الأحرار)، ومخاوفهم وآمالهم في المستقبل، وقال: إن هذه المخاوف والآمال هي التي دوَّنها في كتابه "مستقبل الإسلام"[44].
ثم عاد للكلام عَنْ هذا الكتاب في الفصل السادس، فقال إنه شرح هذه الآراء كما تعلَّمها من الشيخ محمد عبده، (أستاذ المدرسة الجديدة الحرة) [45].
وواضح من إصرار بلنت على وصف الإصلاح بأنه (حر)، ووصف المسلمين الذي يمثلهم محمد عبده بالأحرار، أنَّ تفكير هذه المدرسة كان يتَّسم بنزعة عقلية تقربهم من أحرار الغربيين، وتجعلهم صالحين للقيام بدور الوساطة، في التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، وهو العمل الذي يسعى الاستعمار إلى تحقيقه كما قدمنا من قبل.
هذا هو رأي صديقيْنِ من ساسة الأوروبيينَ عَرَفَا محمد عبده وعَاشَرَاه عن قُرب، وهو متفق مع ما كتبه ساسة الغرب وباحِثوه عنه من بعد، لا يخلو كتاب من الكتب العديدة التي تناولت تطوّر الفكر الإسلامي في العصر الحديث مما يؤيده ويؤكده.
كان سبيل محمد عبده للقِيام بهذا الدور الذي يشجّعه الاستعمار هو الدعوةَ إلى فتح باب الاجتهاد، وهي دعوة لا أريد أن أعود للحديث عنها، اكتفاء بما قلته من قبل، ولكنني أريد أن أضيف إلى ما قلته أنَّ هذه الدعوة قد استُغِلَّتْ أوسع استغلال، في تطوير الإسلام والاقتراب به من قيم الحضارة الغربية، وأنَّ هذا التقريب المقصود، بين الإسلام وبين الفكر الغربي والحضارة الغربية، قد بلغ قمة التطرف، حين دخل محمد عبده في مفاوضات مع القسيس الإنجليزي إسحاق تيلور، للتقريب بين الإسلام والنصرانية، وهي المفاوضات التي أشار إليها رشيد رضا، وَنَشَرَ رِسالَتَيْنِ منها في الجزء الثاني من تاريخه، وبيَّن اشتراك اليهود فيها في الجزء الأول[46].
هذا هو الجديد في عمل محمد عبده في القسم الثاني من حياته: رعاية بعض الأفكار التي شهِدْناها وهي تُبْذَر في التربة الإسلامية بيد الطهطاوي وخيرالدين وجيلهما، والسهر على تطويرها برُوح، لا أقول كما قال: بلنت (حرة) أو (متحرّرة)، ولكن أقول: برُوح هادفةٍ، تسعى إلى الاقتراب بها من القيم الغربية. ولْأَذْكُر رؤوس هذه المسائل على سبيل التذكير: الوطنية الإقليمية، والعناية بالتاريخ القديم السابق على الإسلام - الدعوة إلى الحرية، وإلى الحياة النيابية، وإلى وَضْع دستور، يحدِّدُ حقوق الحاكم والمحكوم، وواجبات كل منهما - الدعوة إلى إعادة النظر في وضْع المرأة من المجتمع: في الحجاب، والحدّ من تَعدُّد الزوجات، الحدّ من حريَّة الطلاق. وكل هذه المسائل قد وَاصَل تلاميذُ محمد عبده مِن بَعْدُ تطويرَها؛ حتَّى بَلَغَتْ نِهايَةَ مَدَاهَا. فالوطنيَّةُ الإقليمية، والعناية بالتاريخ الفِرْعَوْنِي، والدعوة إلى الحرية، قد رعاها مِن بعدُ تلميذُه لطفي السيد، وبلغتْ نِهاية مداها على يد تلميذه سعد زغلول. وأصبح الجانبُ الفِكْرِي من الحرية مَوْضعَ صراع في العِقد الثالث من القرن العشرين؛ حين ظهر كتاب طه حسين "الشعر الجاهلي" وكتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحُكْم" ، وأصبح (الدستور) - وهو الجانب السياسيّ من الحرية - هو الموضوع الذي يدور عليه صراعُ الأحزاب في هذه الفترة وما تلاها. أمَّا شؤون المرأة فَقَدْ تَطَوَّرَتْ على يد قاسم أمين تلميذ محمد عبده، ولم يزل أبناء هذه المدرسة يرعون التطور؛ حتى تجاوز ما حدَّدَهُ له محمد عبده وقاسم أمين مِن حدود.
ومِنَ الحَقّ أنَّ الذي يقرأ مُحمَّد عبده في مثل مناظراته مع رينان ومع فرج أنطون، يُحِسُّ أنَّه كان يريد أن يُقيم سدًّا في وجه الاتجاه العلماني، يَحمي المجتمعَ الإسلامي من طوفانه. ولكنَّ الذي حدث - كما يقول حوراني في كتابه ( Arabic Thought in the Liberal Age,) - هو أن هذا السَّدَّ قد أصبح قنطرةً للعلمانية، عَبَرَتْ عليه إلى العالم الإسلامي، لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه، فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية[47].
والذي يبدو لي هو أنَّ دعوة الأفغاني، التي رُبِّيَ محمد عبده في أحضانها كان لها - ككل الدعوات السرية - ظاهر وباطن، فظاهِرُها يخاطب الجماهير، وهو يصور ما يريد صاحب الدعوة أن يَعرِفَه جمهورُ المسلمين عنها، مِمَّا يُعجِبهم ويَقَع من قلوبهم موقعَ الارتياح والقبول. وباطنُها يُمثِّل حقيقتها، التي يخفيها أصحابها عن الناس، ولا يكشفون الستر عنها قبل أن تحقق أهدافها بالوصول إلى مركز السلطة. ومحمد عبده كان تابعًا لسيده الأفغاني أو خادمًا له - كما تَعوَّد هو نفسه أن يكتب إليه في بعض رسائله - والأفغاني كان يريد أن يُعيد الدورَ نفسَه الذي لَعِبَه الإسماعيليةُ من أصحاب الدعوات الباطنية، التي تتستَّر وراء التشيّع، وتتقرَّب إلى جمهور المسلمين بأنَّها تدعو إلى خلافة أهل بيت النّبوَّة. كان يريد أن يُعيد الدورَ نفسَه، الذي لَعِبَه الإسماعيلية حين أقاموا دَوْلَتَهُم الفاطمية في مصر، بعد أن مهَّدوا لذلك بالاستيلاء على المغرب، وانتظار الفرصة السانحة للزحف منه إلى مصر، ولكنَّ الأفغاني استبدل السودان بالمغرب في تخطيطه السّرّيّ، ومِن هنا كان اهتمامه بثورة المهدي ومفاوضاته باسمها في إنجلترا. ومِن هنا كان إنشاؤه جمعية العروة الوثقى السرية، التي انتشرت فروعها في شمال إفريقية، وفي الشام، وفي السودان، والتي وَضَعَ لها نظامًا يضاهي النظام الماسوني في درجاته[48].
ومن هنا أيضًا كانت صلتُه الوثيقة، وصلةُ تلميذه محمد عبده مِن بَعْده بالمستر بلانت، الذي كان يَطوفُ هُوَ وَزَوْجَتُه بالبلاد العربيَّة مُرْتَدِيًا الزيَّ العربي؛ ليُثِيرَ حميَّةَ العرب القومِيَّة، ويدعوهم إلى إنشاء خلافة عربية، خدمةً لأهدافٍ، يغلب على ظنّي أنَّ لها صلة بالماسونية وبالصِّهْيَوْنِيَّة العالَمِيَّة، وإن كانتْ لا تخلو من فائدة مشتركة للاستعمارَيْنِ الإنجليزي والفرنسي، المتربِّصَيْن بالدولة العثمانية، والطامِعَيْن في اقتسام مُمْتَلكاتِها بَيْنَهُما. من أَجْلِ ذلك كان من وراء الأفغانِيّ ومحمد عبده كِلَيْهِمَا قُوَّتَانِ كبيرتان، تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذِكْرهِما، وهما الماسونية - قمة الأجهزة الصِّهْيَوْنِيَّة السّرّيّة - والاستعمار. وقد نَجَحَتْ هاتانِ القُوَّتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كلِّه، وفي إضعاف أثر أعدائِهِما الكثيري العدد من عُلَماءِ الإسلام المعاصرين، وحَجْب ما كتبوه عن جُمهور القُرَّاء، فلم يَمضِ على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر - مَوْطِنُ المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني - عامرًا بأنصارهما، الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)[49].
ولمن شاء أن يعرف المكان الصحيح، والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني، أن يَنظُرَ في الصحف اليومية والمجلات الدَّوْرِيَّة في كُتُب الكُتَّاب اللبراليين، الذين لا يسمحون بأن يُمسَّ أيٌّ منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كلَّ مَن يَمَسُّهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكُتَّاب، لا يُعرَف عنهم غَيْرَةٌ على الإسلام في غير هذا الموضع؛ بل إنهم لا يثورون حين يُمسُّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، ويرَوْن أن ذلك مما تَسَعُه حريةُ الفكر واختلاف الرأي؛ بل إنهم يلتزمون التزامًا دقيقًا أن لا يُذكَر اسمُ محمد عبده إلا مقرونًا بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجردًا، ويستكثرون إذا ذُكر الرجلُ من أصحابه أن يقولوا: "سيدنا فلان" أو يُتْبِعُوه - كما تَعَوَّد المسلمون - أن يقولوا في الدعاء له: "رضي الله عنه".
لذلك رأيتُ أن أسوق جملة من النصوص، التي وردت في كُتُب المعاصرين لمحمد عبده، الذين نبهوا إلى فساد فِكْرِه، وانحراف مذهبه، ومذهب أستاذه الأفغاني. وأولُ ما أبدأ به نقلُ نصوصٍ لأَحَد أتراب مُحمَّد عبده، الذي صَحِبَه في طلب العلم، وشَهِد الأفغاني، وحضر بعض مجالسه، وظلَّ على صلةٍ بِمُحَمَّد عبده إلى آخر عمره، وهو الشيخ محمد الجنبيهي[50].
وسوف أستكثر وأطيل في نقل نصوصٍ من كتابه "بلايا بوزا" الذي صدر 1926 عقب ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، لأنه نموذج لذلك الفكر المعارِض للأفغاني ومحمد عبده، الذي اندثر تمامًا، واختفى من الأسواق وأصبح مجهولاً عند الناس.
و(بوزا) عند الشيخ محمد الجنبيهي رمزٌ لطه حسين ولمحمد عبده، ولكل مُعانِد يُصرُّ على الباطل، ويأبى التحول عنه، وهو كما يقول في صدر كتابه: "قطعة من خشبٍ وزنُها خفيف، وجِرْمُها صغير، لا قيمة لها، صَنَعَها صانعُها على هيئة قُبُل الرجال الموصوف بأنه عضو التناسل. ولقد رُكبت تلك القطعة على مُقَعَّر من رصاص ثقيل، لا تستطيع أن تتحول عن ذلك المركز الذي وُضِعَتْ فيه بحال من الأحوال، فتراها كلما أُلقِيَتْ فوق الأرض، كانت قائمة على هيئة الذَّكَر. وتسمى تلك القطعة في اصطلاح الفرنساويين (بوزا). وأما في اصطلاح المصريين (زِب الأرض).
وقد ضَرَبَها عقلاءُ الأقدمين مَثَلاً لكل ضالٍّ حائرٍ مغرور ذي لَسَانَةٍ وسَفَه، فَقَدَ مزايا الأدباء، وشذَّ عن مناهج الفضلاء، متلبّسًا بعناد وإصرار شيطاني من حيث لا يشعر بما يقول، ولا بما يعمل، فلا تتوجه به أفعاله إلا إلى مخالفة الفضلاء، ومعارضة الأدباء بما لا يعلم عاقبته، ولا يستطيع أن يقيم على صحته دليلاً". (ص: 28).
وقصةُ طه حسين عند محمد الجنبيهي هي نفسُها قصةُ محمد عبده، في عمل الاستعمار وأعداء الإسلام على إعلاء شأنهما. "فالأسباب التي جعلت ابن عبده الغرابلي[51] محبوبًا لفحول السياسيين، ولولاة الأمور من الدول المتحالفة على مَحْوِ الإسلام اسمًا ورسمًا، وصيَّرتْهُ محمودًا عند محرري الجرائد الأورباوية؛ تتمدَّح باسمه، وتعتني بعمل تَذكار له، هي بعينها الأسباب التي يتناول بها أستاذ الجامعة المصرية مرتبًا كبيرًا بسبب شهادة الدكتوراه، التي نالها من أوروبا لسبب عداوته للدِّين ورجاله؛ حتى يكون إذا أَعلَوْا شأنه فتنةً لأبناء المسلمين" (ص: 35).
يروي الجنبيهي قصته مع محمد عبده وأستاذه الأفغاني فيقول:
"نشأتُ بعد بلوغ الرشد وطلب العلم في الأزهر الشريف مصاحبًا لتلميذ جمال الدين الأفغاني، ومحاذيًا له قدمًا بقدم بعدما أتى جمال الدين الديار المصرية. وكثيرًا ما جالستُ ذلك الرجل، وتذاكرتُ معه مذاكرات ذكرتُها في بعض الكتب. وما كان يدعوني إلى مجالسته إلا صاحبي، الذي كان يظن أن يجذبني إلى الميل إلى ما مال إليه من فتنة ذلك الفاتن. وكنت أطمع أن أكون سببًا في خلاصه من تلك الفتنة؛ ولكن الله غالب على أمره. ولقد كان الفارق بيني وبينه في الشؤون المُقَدَّرَة في سابقة الأزل أنه عاش في كَنَف أهل الطريق أعوامًا، لينتفعَ بأسرار ما دونوه في كتبهم من مُجرَّبات المتجرِّدين، الذين كانوا يريدون الانقطاع عن الأسباب، والاشتغال بما يُصلِح بينهم وبين ربهم. وكنت أنا في مبدأ أمري ميالاً لسبيل المسرفين[52].
ولكني ما كنت أستطيع أن أَفِرَّ من معصيةٍ إلا بمانع إلهي قهري، ولا أعمل طاعة إلا بجاذب قوي. فكانت نهاية أمر ذلك الصاحب أنه أبغض أهل الطريق، لأن الله - سبحانه وتعالى - حَرَمَه من مزايا أسرارهم؛ لأن نيته في العمل ما كانت مشابهة لِنَوايا المتجرِّدين، فلما جَمَعَتْه المقاديرُ بجمال الدين الأفغاني، وسَمِعَ مِنْهُ الطَّعن على الصوفيَّة، وعلى أئِمَّة الدِّين، وعلى الخِلافة الإسلاميَّة، تَوَهَّم أنَّه العالِم الوحيد، فكان أوَّل تلميذ له، يجتمع عليه من صبيان الطلبة كُلُّ مَن كُتِبَ عليه الشقاءُ، وحَقَّتْ عليه كلمة العذاب" (ص: 38).
"وكان نهاية أمري أن تباعدتُ عن طريق المسرفين لأسباب سماوية. وتوجهتْ أميالي إلى ما عليه أهل الإيمان الصادق. وكان السبب في ذلك أنَّ المقادير جَمَعَتْ بيني وبين كثير من المرشدين بطرق قهرية، لا يسَعُ المقامُ ذكرَها، وقد كانتْ تصل إليَّ مدوَّنات الصالحين، وأدعية المرشدين وأورادهم ومواعِظُهم من غير طلب مني، ثم كانت تواجهني رجال الهداية والتوفيق بلا قصد ولا سابقة التَّفَكُّر، فكنتُ أنا وذلك الصاحب في النهاية على طرَفَيْ نَقيض. وكان كلٌّ منَّا يعلم ما عليه الآخر من حِفْظِ آداب الصحبة التي كنَّا عليها، وذلك - والله - من عجائب الأقدار، وغرائب الاقتدار، وأَظُنُّ أنَّ حكمة الله - سبحانه وتعالى - في استمرار تلك الصحبة وفَقْد التنافر، مع تبايُن الشؤون في الأعمال والعقائد، ما هي إلا أنْ يحيط كلٌّ منا عِلمًا بأعمال الآخر؛ ليُحذِّر منها الذين اتَّبعوه، كما أنه ما سلك طريق الأبرار، ولم تَرُقْ في نظره إلا ليمقتهم، ويُنفِّر منهم كلَّ مَن حَكَمَتْ عليه المقاديرُ باتباعه. وما سلكتُ طريق المسرفين، ولم تَرُقْ في نظري ولا مالتْ إليها قابليَّتي إلا لأبغض أهلها، وأتباعد عنهم، وأقبِّح لمَن أحبني أعمالهم" (ص: 39).
ويقول الجنبيهي في سبب نفوره من الأفغاني، بعد أن روى الحديثَ القُدسيَّ: ((كنتُ كنزًا مخفيًّا، فأحببتُ أن أُعرَف فخلقتُ الخَلْقَ. فَبِي عرفوني)).
"ولقد كان لي في هذا الحديث القدسي مع جمال الدين الأفغاني واقعةٌ، كانت سببًا لعدم اتصالي به، مع شديد رغبته ورغبة تلميذه، الذي أشرنا إليه من قبل. وتلك الواقعة هي أنّي سألْتُه عن هذا الحديث، لعِلمي أنه يُنكر الأحاديثَ القدسية؛ لأنه طبيعي لا يعترف بوجودِ إله. وكنَّا في جَمْعٍ من الناس. فقال: ليس هذا وقت الكلام على هذا الحديث؛ فأمهلْني لوقت آخر. فاتَّفق من طريق الصُّدفة أني رأيتُه جالسًا وَحْدَهُ في مجالس اللاهين، في قهوة من القهاوي المجاورة لمنتزه الأزبكية، فجئتُه وهو واضعٌ طربوشَه على ترابيزة القهوة، وجالس وحده. فقلت له: هذا هو وقت الكلام على ذلك الحديث الشريف. فما كان جوابه إلا أن قال: ذهب فيلسوف إلى المنتزه في يوم العيد، فوجد الناس على حال مضحك، منهم مَن هو مخمور، ومنهم مَن هو لاعب، ومنهم مَن هو مرافق لامرأة مِن المومسات، ومنهم مَن هو راقص، ومنهم مَن هو مُتلبِّس بما لا يرتضيه أبناء البشر، فنظر ذلك الفيلسوف إلى السماء قائلاً: الآن وقعت الحسرةُ في قلبك، أهؤلاء كلهم عرفوك؟! فعند ذلك تغيَّر حالي وعَلِمتُ أنَّ الرَّجل ضالٌّ. فقلت له: إنَّ هذا الفيلسوف لأحمقٌ ومجنون. قال: ولمَ ذلك؟ قلتُ: لأنَّ مَن جَهِلَ ربَّه في الدنيا يعرفه فيما بعد الموت، ومَن جَهِله في الرخاء يعرفه في الشدة. فما ذلك الفيلسوفُ إلا ضائع العقل والدِّين، ثم تركتُ الرجل محزونًا؛ لأن فتنته لم تؤثِّر في قلبي أثرًا كان يريده، وكان ذلك الموقف آخر عهدي به" (ص: 119).
ويقول الجنبيهي في صلة محمد عبده باللورد كرومر وبالمستر بلانت، اللذَيْن عَمِلا كلاهما على إعلاء شأنه وذيوع صيته، توسلاً إلى تحقيق مخططاتهما، باتخاذه آلة لهذا الغرض:
"لما شَرَعَتِ القوَّةُ البريطانية في نفي الخونة العُرابِيّين[53]، ذلك النفي الصوري، كان نفي ابن عبده الغرابلي في البلاد الشاميَّة وحْدَهُ، ليَفتنَ فيها مَن أرادَ اللهُ فِتْنَتَهُ. فلما انقضت مدة النَّفْيِ، ورجع إلى الديار المصرية، كانت ثقة اللورد كرومر به أكْبَرَ ثِقة. فسكن في (منشيَّة الصدر) بعيدًا عن عيون الرقباء، وكانتِ الواسطة بينه وبين اللورد رجلاً إنكليزيًّا يسمى (بلنت)[54] كان يتزيَّا هو وزوجتُه بزيّ عرب البادية، وكان يُحِيطان عِلمًا بلغات القبائل العربية وأنسابِهم، وعوائدهم، وكانا يسكُنانِ في (عين شمس) قريبًا من (منشية الصدر). فلمَّا قَوِيَتْ رابطة التَّواصل بين ذلك الإنكليزي، وبين ابن عبده الغرابلي أعطاه قِطعةَ أرض من ملكه في (عين شمس)؛ ليكون له جارًا، وفي ذلك الحين اتَّخذه اللورد أستاذًا ومرشدًا يسترشد برأيه في كل عمل يطلبه في تنفيذ الغرض الذي أجمع عليه السياسيون، فكان الإصلاح الأزهريّ الذي ذهب بالدين وعِلْمِه النَّافِع أدراجَ الرياح من إشارات ذلك المفتون، وكذلك كان إصلاح المحاكم الشرعية... وكان من مساعدة اللورد كرومر لِشَيْخِه ومُرْشِده أنْ ولاه مناصب القضاء الأهلي، ح