إن كان شيءٌ يستجلب العَجبَ، فلا شيءَ أعجبُ من أناس يسخرون من عقولهم وعقولِ غيرهم، ويهزؤون بها - وإلى هنا ليس هذا بعَجب في زماننا العجيب - لكنَّ العجب أن تكون سخريتُهم وهزؤهم باسمِ العقل والتفكير، والتنوير والعِلم...إلخ.
ويتجلَّى هذا الهزءُ، وتلك السخرية في موقف هؤلاء العلمانيِّين والليبراليِّين من القضايا الكبرى، وعلى رأسها قضية وجودِ هذا الكون وما فيه، فأولئك المتخلِّفون عقليًّا يصفعون البشريةَ صفعةً قويَّة على وجه تفكيرها وتعلُّقها، وتحضُّرها ورقيّها، عندما يزعمون أنَّ كل هذا الإتقانِ، وهذه الرَّوعة والإحكام، والدِّقة والاتزان، فينا وفي كلِّ شيء مِن حولنا - هو صنيعُ الصدفة، والصدفة البحتة، التي أوجدتْ وأبدعت، ووازنتْ وراعت القوانين الرِّياضية، والمعادلات الكيمائيَّة والفيزيائية في كلِّ ذرَّة من كلِّ مخلوق وموجود في هذا الكون!!
وإذا كان كلُّ عقلاء الكرة الأرضيَّة - دعْ عنك العلماء والمفكِّرين والمثقَّفين - لا يصدِّقون، بل ولا يتصوَّرون وجودَ محطَّة صغيرة لتوليد الكهرباء في قرية ريفيَّة بمحض الصُّدفة، دون وجود مهندسين قاموا بإنشائها، فـ (بنو جهلان)، و(بنو ليبرال) - لفرْطِ ذكائهم فوقَ كلِّ البشر - يتصوَّرُن هذا وأكبر منه!
إنَّ العِلم يُحدِّثنا فيقول:
إنَّه يحدُث في الخلية الكبديَّة الواحدة ما يَقرُب من خمسمائة تفاعُل كيميائيٍّ مختلف، وإلى الآن من الصَّعب تقليدُ كثير من هذه العمليات التي تتمُّ بأسلوب رفيع المستوى، في خلال واحد من ألْف من الثانية.
الكبد يُحوِّل الغذاء الذي نتناوله بشهية إلى موادَّ حسبَ احتياجات جسدِنا، ويُخزِّن الباقي؛ لذا فإنَّ بلايين الخلايا الموجودة في الكبد تعمل بنفس الوعْي والعِلم، دون الوقوع في أخطاء منذُ بداية الخليقة إلى يومنا هذا.
ويقول أيضًا:
هناك آلافُ الأوامر تنطلق وتُعطَى مِن وإلى الخلايا في أجسامنا، فعندما نتعرَّض لنوع من الإثارة ونشعر بالخوف، ففي الحال تتحفَّز الخلايا العصبية وتُصدِر أوامرَها العصبية مباشرةً إلى الهدف، الذي هو غُددٌ موجودة فوقَ الكُلى دون أن تضلَّ الطريق، فتحرك هذه الغدد، عندما تصل الرِّسالة إلى هذه الغُدد تفرز (هرمون) يُسمَّي الأدرينالين (Adrenalin)، تتمثَّل وظيفتُه في جعْل الجسم في حالة طوارئ منذُ أن يختلط بالدَّم، فيمنع حركةَ أعضاء الجهاز الهضمي، ويتوقَّف سيرُ الحركة الهضميَّة، وبذلك تتجه كميةُ الدم التي تشارك في عملية الهضم إلى الأعصاب لتقويتِها، وفي نفس الوقت تَزيد دقَّاتُ القلب وضغط الدم، هذا ما يُحقِّق الطاقة الزائدة للعضلات، كما تَزيد من تغذية عدسات العيون بالأوكسجين لزيادة كفاءتِها، وزيادة حساسيتها لإنذارات الضَّوْء، وعند اجتماع كلِّ هذه العوامل في إنسان واحد يكون بكفاءة عالية جدًّا، وعلى استعداد لمواجهة جميعِ المواقف، سواء كانت هُروبًا أم دفاعًا أم هجومًا.
إنَّ خلايا الأعصاب تتكوَّن من ذرَّات ميِّتة لا شعورَ لها، ولا يمكن لهذه الذرَّات أن تدركَ ما يحتاجه الجسم، فهي تبعث الرِّسالة المناسبة إلى الأماكن المتعلِّقة بالموضوع، والأماكن التي وصلتْها الرِّسالة تتكوَّن أيضًا من ذرَّات لا شعورَ لها ولا إحساس، ورغم كونها كذلك تَفهم مضمونَ الرِّسالة، وتنتج (الهرمون) المناسب، وفي الحال يَعرِف هذا (الهرمون) بوعيٍ وإدراك كاملٍ هدفَ إنتاجه، ثم يذهب إلى الأعضاء المستهدفة، ويُحوِّلها إلى حالة طارئة.
ويُحدِّثنا العلم عن إحدى المعادلات التي تحدُث في أجسامنا، فيقول:
إنَّ الأنسولين (Insulin) - وهو أحدُ (الهرمونات) التي لا غِنى للإنسان عنها، فعندَ عدم إفراز هذا (الهرمون)، فإنَّ نسبة السُّكر في الدم تختلُّ وتكون غير متوازنة، ممَّا يؤدِّي بالإنسان المصابِ إلى الذَّهاب في غيبوبة سكر - إنَّ هذا الأنسولين المهمُّ جدًّا للجسم هو البروتين الذي يتكوَّن من 51 حامض أميني متجمِّعة بترتيب معيَّن، ويظهر في شكل أسماء مكتوبة داخلَ دائرة، وهي الحوامضُ الأمينيَّة المكوِّنة للأنسولين، وأيُّ تغيُّر يسيرٍ في هذا الترتيب للحوامض الأمينيَّة يتسبَّب في عدم القيام بوظيفة الأنسولين، كما ينبغي أن تكون.
إنَّ أيَّة معادلة يراها الإنسان مكتوبةً على ورقة - لا بدَّ أن يظنَّ أنَّها لم تكتبْ من تلقاء نفسها، بل هناك مَن كتبها، (فهرمون) الأنسولين له معدَّل ثابت، وهذا المعدَّل يُفرز بصورته الثابتة في جميع البشر منذ بداية الخليقة حتى الآن، ممَّا يعدُّ أكبرَ دليل على أنَّ الأنسولين لم يظهر على مَرِّ الزمان بالصدفة العشوائية، ولا يستطيع أن يُجعل مقدارُ إنتاج هذا (الهرمون) بنفس المعدَّل في مليارات البشر، إنَّ هذا الإدعاء يُخالِف العِلم والعقل والمنطق.
إنَّ الله وحده هو الذي خلق الأنسولين بهذا المعدَّل في جسم الإنسان، وحدَّد مميزاتِه التي يمتلكها، وأوجدَه داخل الإنسان منذُ بدء الخليقة.
وعن الكون الخارجي يتكلَّم العِلم فيخبرنا:
أنَّ كوكب المشتري أكبرُ من الأرض بـ 1300 مرَّة، وكوكب المشتري العملاق يعتبر قزمًا أمامَ الشمس، التي تكبر الأرض بـ 1,300,000 مرَّة، وتبقى الشمس العظيمة المهيبة نجمًا متواضعًا عندَ مقارنتها بنجوم أخرى، فنجم الشِّعرى اليمانية Sirius ألمع نجم في السماء، ويكبر شمسَنا بنحو 8 مرات، (الشِّعرى أكبر من الأرض بـ 10 مليون مرَّة، أما نجم الهنعة Pollux فهو أكبرُ من شمسنا بنحو 512 مرَّة، وأكبر من أرضنا بـ 663 مليون مرة.
أمَّا نجم السماك الرامح Arcturus فأكبرُ من شمسِنا بـ 30 ألف مرَّة، وأكبر من أرضنا بـ 40 بليون مرة، أمَّا نجم رجل الجوزاء Rigel فهو أكبر من شمسِنا بـ 343 ألف مرَّة، وأكبر من أرضنا بـ 400 بليون مرة.
أمَّا نجم بيت الجوزاء Betslgeuse، فأكبرُ من شمسنا بـ 274 مليون مرَّة؛ لذا فهو أكبرُ من أرضنا بـ 355 ترليون مرَّة.
والنجم الأحمر العملاق المسمى أنتيرس Antares (قلب العقرب) يكبر الشمس بـ 343 مليون مرَّة، ويبعد عنا 600 سنة ضوئية (5,676,480,000,000,000كم)، وأكبر نجم مكتشف حتى الآن هو VY Canis Majoris، ويبعد عنَّا 5 آلاف سنة ضوئيَّة، ويفوق الشمس حجمًا بـ 9,261,000,000؛ أي: 9 بليون و261 مليون مرَّة.
ويُقدِّر العلماء طول مجرَّة التبانة بـ100,000 سنة ضوئية؛ أي: ما يعادل 945,424,051,200,000,000 كم (تسعمائة وخمس وأربعين كوادرليون وأربعمائة وأربع وعشرين تريليون، وإحدى وخمسين بليون، ومائتين مليون كم)، ويقدر عدد نجومها بين 200 - 400 بليون نجم، وفي السماء الدنيا بلايين المجرَّات، وكلُّ مجرة تحتوي على بلايين النجوم.
هذه شذراتٌ من كلام المختبر والمعمل، والمجهر والتلسكوب، ومركبات الفضاء تُثبِت لكلِّ ذي لبٍّ وجودَ الخالق وإحداثَه للكون بإرادة وحِكمة، ودقَّة وإبداع، لكنْ (بنو جهلان) و(بنو ليبرال) يقولون عن هذا وأمثاله: هو مِن الصُّدفة السحريَّة التي لها القوَّة الخارقة على فعْل كلِّ شيء.
يعيشُ الإنسان على هذه الأرض منذُ آلاف السنين، ولم يرَ يومًا من الأيَّام صدفة (بني علمان وبني ليبرال) قد جاءتْ فبَنتْ له بيتًا، أو أنشأت له حديقة، فضلاً عن أن تكونَ أهدتْه ناطحةَ سحاب، أو مصنعًا للملابس، أو مُفاعلاً نوويًّا!
وإذا كان بنو الإنسان لم يَعرِفوا ولم يؤمنوا به، فهُم أحرارٌ في ذلك، أمَّا (بنو علمان وبنو ليبرال) فلفرطِ ذكائهم، واتِّساع دائرة تفكيرهم؛ يؤمنون بذلك، وإن أنكرَه كلُّ بني آدم، فلِبَني الإنسان عقولُهم، و(لبني علمان وبني ليبرال) عقولهم، والصُّدفة (السِّحرية) لم تسوِّ بين عقول هؤلاءِ العباقرة، وبين عقولنا - معشرَ المساكين (بني الإنسان)!
فمِن عبقرية (بني علمان وبني ليبرال) أنَّهم رأوا اللاَّمعقول ممكنًا، بل واجبًا، ورأوا الممكن العقليَّ مستحيلاً، فمتى حدَّثهم بنو الإنسان عن معجِزات الرُّسل أو أمور الغيب (التي هي داخلةٌ في الإمكان العقلي عندَ بني الإنسان)، أشاح (بنو علمان وبنو ليبرال) بوجوههم: أنَّ هذا تخريف يُحلِّيه العقل (يقصدون بلا ريب عقولَهم هُم)!!
ولكنَّ الجنون لَمَّا لم يكنْ على درجة واحدة؛ فإنك لا تجد كلَّ (بني علمان وبني ليبرال) على هذه الشاكلة واللَّوْثة العقليَّة والتفكيريَّة؛ فمِن (بني علمان وبني ليبرال) مَن هو كافر بـ (الصدفة السحرية)، موافقٌ لبني آدم في الإقرار بوجود إلهٍ خالق لهذا الكون، لكن هذه الثُّلَّة من (بني علمان وبني ليبرال) لم تنجُ من التأثُّر بمرض (المناخوليا) الموجود عند إخوانِهم الملحدين، فهم يقولون عن حِكمة هذا الخالق وروعةِ إبداعه، ودقَّة صُنعِه: أنَّها وقفتْ عند حدود خلْق هذا الكون، وتسخيره للإنسان فحسبُ، أمَّا أن يتدخل فيشرع للناس أحكامًا تضبط وجودَهم في هذا الكون وتُنظِّمه، فهذا ما لا يُسلِّم به عقلاء (بني جهلان وبني ليبرال).
وقد يتحذلَقُ بعضُهم فيقول:
إنَّ شرْع الخالق الحكيم العليم وأحكامه كان صالحًا، لكن إلى ما قبل عصر الاكتشافات العلميَّة وتكنولوجيا المعلومات، والذرة ومركبات الفضاء!
وأفٍّ لما يقولون!! أيعجز هذا الخالقُ العظيم المبدِع، الذي أبدع كلَّ هذه النواميس الطبيعيَّة بهذه الدَّرجة من الإحكام والتوازن، بحيث كان الكونُ، ولم يزل يسيرُ عليها منذُ ملايين السِّنيين دون خلل أو اضطراب - أيعجزُ عن أن يضعَ لعباده بعضَ تشريعات تنظِّم حياتَهم، وتكون صالحةً لكلِّ زمان ومكان؟!
وصَدَق الله إذ يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67].
إنَّ على هؤلاءِ المرضى العقليِّين أن يبحثوا عن أطبَّاء يعالجونهم من هذه (الهلاوس)، فإن لم يفعلوا، فليكفُّوا عن إسماع بني الإنسان هذه التخريفاتِ التي يُزعجونهم بها ليلَ نهارَ، كما أنَّ عليهم - إن كان عندَهم بقيَّة من ضمير، ومحالٌ أن يكون هناك ضميرٌ لِمَن لا عقلَ له - عليهم أن يتركوا الثرثرةَ باسم العِلم والعقل، فهُم أعدى أعدائهما وأخونُ الناس لهما.