حصل الكاتب العلمانيُّ
سيِّد القمني على جائزة الدَّولة التَّقديريَّة فرع العلوم الاجتماعيَّة،
ولمن لا يعرف القمنيَّ، فإنه رجل صبَّ وركَّز جهْده التَّأليفيَّ على
التَّشكيك في نبوَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى تقديمه قراءةً
تاريخيَّةً لهذه النبوَّة تعتمد خليطًا من التَّحليل الماديِّ الجدليِّ
الماركسيِّ، ومن التَّحليل التآمُريِّ القائم على سوء الظَّنِّ المرَضيِّ
وسيلةً لها، بشيءٍ غير قليلٍ من الاستِهْتار بقواعد البحث العلميِّ
المتعارَف عليها، وبسوء أدبٍ صادمٍ في بعض التَّعبيرات.
وقيمة الجائزة الماديَّة هي مائتا ألف جنيهٍ، موَّلها دافعو الضَّرائب
الذين لا يسألون عن مصارف الضَّريبة مثلما يسألون عن مصارف الزَّكاة،
وأغلبهم بطبيعة الحال ستبدو له فكرة المشاركة بشكلٍ ماليٍّ في تكريم كاتبٍ
يشكِّك في دعوة الإسلام تبدو له فكرة مرعبة تمامًا، ولكنَّهم - هؤلاء
الأغلبيَّة - لهم أن يناموا ساعةً إضافيَّةً! طالما أنَّهم لا يُتابعون هذه
الملفَّات، وطالما أنَّ المذْكور ومَن قدَّروه وكرَّموه وأمثالهم يَظهرون
على الفضائيَّات، ويتكلَّمون بعد كلِّ هذا عن "
إسلامنا الحلو"، لهم
أن يناموا ساعةً إضافيَّةً، طالما أن محاسن الصُّدف لم تَسمح لهم برؤية
أحدٍ ممن يتحدَّثون في النَّدوات والفعاليَّات والفضائيَّات عن "
إسلامنا الحلو"،
وهو يشرب "البيرة" على مقهًى من مقاهي وسط البلد، أو لَم تسمح لهم مَحاسن
الصُّدف برؤية الوجْه البشوش لأحد شيوخ اليسار يطلُّ من قناةٍ فضائيَّةٍ
يشكِّك في فهْم الملتحين والمحجَّبات للدِّين، وتكلَّم في معرض حديثه عن
التَّنوير والظَّلاميَّة والتَّخلُّف، والإسلام وحلاوته، عن صلاة المسلمين
ثلاث فرائض يوميَّةٍ!
ورغْم أنَّ الأمر تمَّ في مناخٍ تخديريٍّ، بحيث تبدو الوخْزة للمجتمع
كشكَّة دبُّوسٍ من يدٍ خفيفةٍ، حتَّى إنَّ القائمين على الأمر بدَوا غير
خائفين من ردَّة فعل الجمهور من ناحيةٍ، باعتبار أنَّ الأمر علميٌّ يخصُّ
النُّخبة وحدَهم ولا شأن للرِّعاع به، عليْهم فقط أن يدفعوا الضَّرائب،
بدوْا غير خائفين، ومن ناحيةٍ أخرى بدوْا غير متحمِّسين لمنازلة
الإسلاميِّين المعارضين للجائِزة عقديًّا وثقافيًّا وعلميًّا، بمنطق: لقد
عمِلْنا ما نريد وانتهَى الأمر، رغْم هذا المناخ التَّخديريِّ الَّذي
يؤكِّده أيضًا ضعف ردَّة الفعل الجماهيريَّة، إذا ما قورنتْ بتعاطي
الجماهير مع حيدر حيدر ورِوايته "وليمة لأعشاب البحر"، رغم أنَّ نشر روايةٍ
ساقطةٍ ليس كتكْريم أبحاثٍ ساقطةٍ بأهمِّ جائزةٍ من جوائز الدَّولة،
كلاهما شرٌّ؛ لكن شتَّان ما هما، بل إنَّ اللَّغط الَّذي أثارتْه الجائزة
على المستوَى الشَّعبيِّ أقلُّ كثيرًا من اللَّغط الذي أثاره صفر المونديال
[1].
ورغم هذا الخدر غير الصِّحيِّ، إلاَّ أنَّ الأمور رغم ذلك تبدو أشدَّ
رُعبًا، فاللامبالاة والتَّمرير لا يبعثان على الطُّمأْنينة في كلِّ
الأحوال، تبدو الأمور أشدَّ رعبًا، ليس فقط بالنِّسبة للقمنيِّ الذي يحسَب
كلَّ صيحةٍ عليْه، ويتخوَّف من مصيرٍ مشابهٍ لمصير فرج فودة، الكاتب
العلمانيِّ الذي اغتيل بسبب آرائه وكتاباتِه، إنَّما أيضًا لِمن قدَّروه،
فإذا ما تبصَّرنا وفكَّرنا في التَّكلفة الحقيقيَّة لتلك الجائِزة المفاجئة
والمخزية، لوجدناها كبيرةً كذلك لهم، لهذا الطاقم النُّخبويِّ الثَّقافيِّ
المخبول الذي دبَّر الأمر بليلٍ، نعم، وأنا لا أودُّ أن أُفهَم بشكلٍ
خاطئٍ، أنا لا أقصد أن أُثير مشاعر شفقةٍ وتعاطفٍ تِجاههم، أنا لا أرغب في
ذلك ولا أستطيعُه، ولكنِّي أُبْدِي تعجُّبي من الطَّريقة التي رمَى بها هذا
الفريق قناعه، أُبدي تعجُّبي من رمْيِه القفَّاز في وجه الشَّعب، وليس في
وجه تيَّارٍ إسلاميٍّ محدَّدٍ كما يظُّنُّ؛ الطَّاقم المخبول مثلاً كان خلف
كلِّ عمليَّةٍ أمنيَّةٍ ناجحةٍ لكشف جماعةٍ شيعيَّةٍ عقديَّةٍ، كان
يتطوَّع بتغطيةٍ إعلاميَّةٍ وثقافيَّةٍ لكل خبرٍ أمنيٍّ من هذا النَّوع
تُثير إعجاب الشَّعب الطَّيِّب، مفاد هذه التَّغطية أنه لن يُسمَح في بلدٍ
إسلاميٍّ سنِّيٍّ بتنظيمٍ يدْعو للمذهب الشِّيعيِّ، ما شاء الله على
الغيرة!
والسُّؤال المشروع الآن: إذا كانوا بهذه المقولة يغطُّون مكافحة الدَّولة
الجدِّيَّة للتَّوسُّع على حساب المذهب السُّنِّيِّ في بلد سنِّيٍّ، فكيف
يُمكنهم الآن أن يغطُّوا أمام المسلمين تقديرَهم لصاحب الكتابات التي تطْعن
في دين الله تعالَى، وتهزأ بالرَّسول - صلَّى الله عليه وسلم - والصَّحابة
- رضي الله عنهم؟!
كيف يمكن لهؤلاء "
السنِّيين" الغيُّورين أن يبرِّروا اختيارَهم للقمني للجائزة؟!
وإذا كانوا أيضًا يتبنَّون فهمًا خاصًّا للإسلام تحت شعار "إسلامنا حلو ..
إسلامنا جميل" في مواجهة الخطاب الإسلاميِّ، ليس العنفيّ فقط؛ بل وحتَّى
المعتدل بجميع أطيافه، الذي اتَّهموا أصحابه بتشْويه صورة الإسلام
الحقيقيِّ الجميل الَّذي يعرفه هؤلاء "المثقَّفون التَّنويريُّون" وحدهم
أكثر مما عرفه البخاريُّ وابن تيمية، وكانوا بشعارهم وشروحهم السَّاذجة
يُحاولون تسفيه مشروع الإحياء الإسلاميِّ بمختلف أطيافه، باعتبار أنَّ
"إسلامًا حلوًا" هو إسلامٌ ميِّتٌ، فلماذا الإحياء؟! فكانوا يعبِّرون عن
مشاعر الضَّجر من اللِّحى والحجاب، وصوْت الأذان والكلِمات التي يتبادلُها
المسلِمون مثل: "جزاك الله خيرًا".
وكان ثمَّة من يبذل جهدًا ما ليصدِّقهم، ويعتقد أنَّ لديهم شيئًا ما يلزم
الاستِماع إليه، وأنَّ الفتق بين العلمانيِّين والإسلاميِّين له راتقٌ
ما، جارٍ البحث عنه، لكنَّ جائزة القمنيِّ كانت بمثابة سقوط ورقة التُّوت
الأخيرة، جائزة القمنيِّ كانت تكلِفتها الحقيقيَّة أن لم يعُد أحدٌ يصدِّق
هؤلاء، أو للأمانة العلميِّة: لم يعد هناك مسوِّغٌ للتَّصديق، إذ يجب عليَّ
أن أضع في تقديراتي هامشًا للمضحكات، وكم ذا بها من مضحكاتٍ!
لقد رمَوا القفَّاز في وجه النَّاس المارَّة من أسفل منهم، ثمَّ أغلقوا
بهدوءٍ نوافذ برجهم الثَّقافيِّ العاجيِّ وهم ينظرون باشمئزازٍ لأهل
المدينة، هنا ببساطةٍ نكتشف كيف يمكن للكائن المثقَّف أن يكون عدُوًّا
لنفسه ولسمعتِه ومجتمعه! وكيف يُمكن أن يكون مبدِعًا في مجال الكوميديا
السَّوداء دون أن يدري! وكيف يُمكن أن يصل به الاستِخْفاف بعقول البشر
لدرجة أن يظنَّ نفسه مستورًا بعد هذا التَّناقض أمام شعبٍ مسلمٍ! ومع ذلك،
فللأغلبيَّة النَّائمة - في كلِّ العالم الإسلاميِّ - أن تنام ساعةً
إضافيَّةً، ولا أدْري على أيِّ نوعٍ من الكوارث الثَّقافيَّة والعلميَّة
يمكنها أن تستيقظ!
التَّكلفة الحقيقيَّة التي يتحمَّلها هذا الفريق كبيرةٌ، المهمُّ أن يُبدي
النَّاسُ رغبةً في تَحميل نُخبتهم المتنفِّذة ثقافيًّا هذه التَّكلفة،
التَّكلفة الحقيقيَّة كبيرةٌ جدًّا، ومثيرةٌ للخوف والاشمئزاز، وخاصَّةً
لكونِها ظهرتْ - تلك التَّكلفة - على (فاتورةٍ رسميَّةٍ)؛ فإذا كانوا
لا ينْوون سحْب الجائزة، ولا يفكِّرون في هذا، فالجمهور المسلم يَجِب عليه
سحْب الثِّقة، يجب أن يشعر هؤلاء أنَّهم حشروا أنفُسَهم في جائزة القمنيِّ،
وليس عليْنا بالطَّبع أن ندفعهم من خلفهم لكي يمرُّوا منها، فالاستِهْزاء
بالرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم، وخاصَّةً في بلدٍ مسلمٍ - يَجب ألاَّ
يَمرَّ بلا عقابٍ، ولكن المشكلة تكمُن في أنَّ فرصة معاقَبَة جهةٍ
ثقافيَّةٍ في العالم العربيِّ عقابًا ثقافيًّا هي فرصةٌ شبه مستحيلةٍ،
فالشُّعوب التي تُقاطع بطبيعتِها الأنشطة الثَّقافيَّة والمنتجات
الثَّقافيَّة، بشكْلٍ أنْجح من مقاطعتها حتَّى للمنتجات الغربيَّة في ذرْوة
أزماتنا السِّياسيَّة مع الغرب - لا يُمكن مطالبتُها ببذْل مزيدٍ من الجهد
في مقاطعة الأنشطة الثَّقافيَّة، الأمر يتطلَّب الآن - ومن باب الاحتِياط
لمشاكل من نفس النَّوع بالمستقبل - يتطلَّب بحثًا عن وسيلةٍ ما مُحرِزةٍ
لليّ الذِّراع، تتَّخذ طابعًا مؤسَّساتيًّا علميًّا قانونيًّا أفضل من
الاعتماد وللأبد على جهدٍ مشكورٍ لفئةٍ محْدودةٍ من المتطوِّعين للحسبة،
أقول - وبشيءٍ من الحرج -: في ظلِّ هذه العصابة "المثقَّفة" صار الشَّعب
المسلِم في البلد المسلم بِحاجةٍ إلى (
لوبي إسلامي).
بجانب هذه الوسيلة التي ستركِّز على الجانب التَّشريعيِّ والقضائيِّ، هناك
ضرورةٌ لخلْق كيانٍ متكاملٍ يضمُّ علماءَ وأساتذة جامعات، ودعاةً ومثقَّفين
حقيقيين ومفكِّرين، يعمل على تأكيد الهويَّة والدِّفاع عنها، وعلى إيقاظ
الأغلبيَّة النَّائمة، ويتعيَّن في هذه الحالة إنشاء جائزةٍ موازيةٍ لتقدير
الذين تصدَّوا بحثيًّا وعلميًّا لكلِّ جهدٍ خبيثٍ يتعرَّض لثوابت الأمَّة؛
هذا حتَّى يدرِك مَن كرَّموا سيد القمنيّ أنَّ التَّكلفة الحقيقيَّة
للجائزة العار هي أكبر ممَّا كانوا يحسبون.
ــــــــــــــــــــ
[1] - صفر المونديال: هو الاسم الإعلامي الشهير لحدث إخفاق مصر في الحصول على
أي صوت من أصوات أعضاء اللجنة التنفيذية للاتِّحاد الدولي لكرة القدم
(الفيفا) في التصويت الذي جرى على تنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 2010.