في
إحدى المقالات الغربيَّة عن الإسلام والمسلمين، تناول الكاتِب عرضًا
لحقيقة يراها تحيط بمفهوم الجهاد، ومن المهم الاطِّلاع عليه؛ لقراءة فكر
هؤلاء الغربيين في النظر إلى الإسلام، ففي مقال بعنوان "الجهاد ضد استغلال الجهاد"،
الذي نشرتْه بعض المصادر المشار إليها في الرابط أدناه، تناول الكاتب
الأبعاد والأغراض الخاصة لجانبين يتجاذبان مفهوم الجهاد في الإسلام،
بالإضافة إلى عرضه الشخصي.
فالكاتب يرى أن الجهاد يحيط به المتطرِّفون من جانب، ويقابله الغرب من
جانب، وكلٌّ يدعمه مَن يقف في صفِّه؛ فالمتطرفون - على حد زعمه - يضيِّقون
ويقصرون مفهوم الجهاد على الرخصة في قتال أعدائهم، حتى ولو كانوا من
المسلمين، كما دلَّ على ذلك أحداث الصومال، فهم يرونه رخصة لذلك، حتى ولو
أدى إلى ارتكاب المذابح تجاه المدنيين المسالمين، بينما يرى الغرب الجهادَ
عبارة عن حرب دينية مقدَّسة، يقودها مجموعة غير رسمية من المسلمين غير
العقلاء، الذين اجتمعوا على تدمير القيم والحضارة الغربية.
ثم يعرض الكاتب رأيَه في ذلك مبينًا أن الجهاد من المصطلحات
المركَّبة العميقة، المتأصلة في جذور العقيدة الإسلامية، والتي يلتزم به
المسلمون، وليس الجهاد مما يتضمن العنف، واستخدام العمليات الاستشهادية
تجاه المدنيين المسالمين.
ولكن مفهوم الجهاد يتعدَّد بحسب الناظر فيه؛
فالعالم العربي يرى الجهاد فرعًا من الكفاح والبذل في سبيل الله - تعالى -
بالإضافة إلى أنه يتضمن معنى الدفاع عن النفس، والكفاح ضد الظلم، وبذلك
يشمل مفهوم الجهاد نوعًا خاصًّا من الجهاد، هو المعبَّر عنه بتزكية النفس
روحيًّا وأخلاقيًّا، والذي يعني مقاومة الإغراءات والنزغات الشيطانية، وقد
روي أنه سُمي بالجهاد الأكبر؛ طبقًا لبعض الآثار المرفوعة - والتي فيها نظر
من حيث الثبوت - وهذه التسمية مردُّها إلى أن تزكية النفس من الأمور التي
لا ينفك عنها المرء لحظةً طوال وقته؛ فلذلك احتاجتْ لجهد عظيم؛ ليستمر
المرء عليها.
وبعد أن بيَّن الكاتب هذه الوجهاتِ حول الجهاد، قرَّر حقيقة، وهي أنه
بالرغم من أن البشرية قد حقَّقت الكثير من الإنجازات في مجال العلوم
والتكنولوجيا والمعلومات والفنون، إلا أنها تتَّصف بالبداءة وعدم النضج إلى
درجة البلاهة، في جانب الآداب والأخلاق؛ فالخلق قد منحهم الله - تعالى -
القدرةَ على السمو على المخلوقات الأخرى، وكذلك أمدَّهم بالقدرة والخيار
على أن ينزلوا أنفسهم إلى أسفل سافلين، والذي على إثرها تظهر قبائح النفس
وانحرافها في صور شتى، بالإضافة إلى الرغبة المتزايدة لاستغلال الآخرين،
والرغبة في القتل والتدمير، فالإنسان محل تنازعٍ وتدافُع بين القوى
والاتجاهات المتضادة، فالإنسان بالرغم من أنه يفوق الحيوان في العقل
والحكمة، إلا أنه أيضًا يفوقه في جانب الاعتداء والوحشية.
ثم يعقب الكاتب على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما
تعرَّض للجهاد الأكبر - على فرض ثبوت ذلك مرفوعًا - لم يكن هذا الأمر منه
مجرد إبداء للرأي؛ ولكن كان حثًّا وتوجيهًا وإرشادًا إلى ما يعتبره
المسلمون وعلماؤهم قمةَ التقوى، والتي تؤدِّي إلى الفوز والفلاح والنجاة،
وهذا يتضح جليًّا من خلال آيات سورة الشمس، والتي تناولت الكلام عن تزكية
النفس وتدنيسها؛ كما في قوله - تعالى -: {
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}
[الشمس: 9، 10]، وما هذا إلا تعبير عن التقوى العاملة على ذلك، وما التقوى
إلا ملازمة طاعة الله مع الخوف منه، فالتقوى سبيل به يستيقظ ضميرُ المرء؛
ليكون دائمًا رقيبًا على نفسه من شروره.
ثم يستنكر الكاتب كيف يمكن لهذا المفهوم
النبيل أن يُحرَّف عن معناه، وكيف يَحسن لمتطرِّفي الغرب والشرق الانفرادُ
بتوضيح مفهوم الجهاد من خلال وجهة نظرهم، ثم يبين الكاتب أنه في السنوات
الثماني الأخيرة قد سيطر على النظام السياسي اتجاهان يعينان على تحقق نبوءة
(صدام الحضارات) بين سكان العالم، وهما:
اتجاه الحرب العالمية على الإرهاب، واتجاه الجهاد العالمي؛ فالاتجاه الأول
يرى أن (السياسة في الإسلام) في جميع صورها، معاديةٌ للديمقراطية وللغرب،
ويجب ألا يُسمح لها بالبروز في الساحة العالمية للاتِّجاهات الفكرية، ويؤكد
على أن الحركات السياسية الإسلامية تمثل مصدرًا للخطر في ظل الطموحات
الجهادية لهذه الجبهات، التي تهدف إلى تدمير الغرب بسبب تنعُّمه بالحرية
والرخاء الاقتصادي؛ لذلك كان حتمًا مواجهة هذا الفكر السياسي الإسلامي
بالطرق والقوى الوقائية، وداخليًّا بالسياسات الحازمة الشديدة.
ويبين الكاتب أن المؤيدين لهذه الجبهة يعملون على إخفاء حقيقتين واقعتين:
الأولى: نجاح تركيا في أن يكون نظامها السياسي تمثِّله حكومة إسلامية،
مختارة ديمقراطيًّا من قِبل الشعب، والثانية: وجود ملايين المسلمين الذين
يعيشون بسلام في أمريكا وأجزاء مختلفة من أوروبا، بالرغم من زيادة
الإسلاموفوبيا.
وبينما يرى الاتجاه الثاني أن الغرب بكامله قد اجتمع على النَّيل من
الإسلام، باحتلال الأراضي الإسلامية، واستغلال مواردها الطبيعية، واضطهاد
قاطنيها، والقيام بعملية تغريب للقيم الإسلامية، وأن الجهاد تجاه الغرب ليس
فقط صوابًا؛ ولكنه واجب أخلاقي، ويعمل أصحاب هذا الاتجاه على دعم زعمهم
والتأكيد عليه، وكذلك يعملون على طمس حقيقتين:
الأولى: أن
المسلمين يمنحون الحقوق الزائدة عن تلك التي يمنحونها في الدول المسماة
بالإسلامية، وخصوصًا في ممارسة الشعائر، وإنشاء المؤسسات، والامتيازات
الأخرى،
والثانية: أن حكومة أوباما تسعى لتوطيد العلاقات مع مسلمي العالم.
ثم يختم الكاتب مقاله، مشيرًا إلى أن استغلال
الجهاد ومفهومه سيظل خادمًا للمصالح الشخصية السياسية لمختلف الاتجاهات،
إلى أن يتم مناقشة وبلورة مفهوم الجهاد عند كلٍّ مِن العالم الإسلامي والغربي. انتهى.
وتعليقًا على هذا المقال، نقول: إن
الجهاد بمفاهيمه المختلفة محرر وواضح، لا يخفى على من كان له قلب، أو ألقى
السمع وهو شهيد، ولا يحتاج لمن يسيء فهمه، ولا يتستر خلفه؛ لأن الجهاد في
الإسلام له أسباب، وله غاية وهدف عظيم.
ففي بيان الأسباب، قال الله - عز وجل -: {
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105].
والله - تعالى - يقول: {
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا
حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
وقال - جل وعلا -: {
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
وقال - سبحانه -: {
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
وفي بيان الغاية، قال - تبارك وتعالى -: {
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
فالجهاد ما بين هذه الأسباب وهذه الغاية، وانظر
بعين التدبُّر والتجرُّد إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي
خرَّجه مسلم عن بريدة - رضي الله عنه - لتعلم حقيقة الهدف والغاية، ومكارم
الجهاد في الإسلام، فقد قال بريدة - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصته
بتقوى الله ومَن معه مِن المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزُوا باسم الله، في
سبيل الله، قاتِلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا
تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادْعُهم إلى
ثلاث خصالٍ أو خلالٍ، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم
إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من
دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبِرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين،
وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوْا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون
كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون
لهم في الغنيمة والفيء شيءٌ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا،
فسَلْهم الجزية، فإن هم أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، فاستعن
بالله وقاتِلهم، وإذا حاصرتَ أهل حصنٍ، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة
نبيِّه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة
أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله
وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا
تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله
فيهم أم لا
))[1].
فالجهاد في الإسلام القوة التي تساند الحق وتدعمه؛ لتخرج الناس من
الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، والتي تردع الاعتداء
على العقيدة والشعوب والمقدرات، وليس الجهاد وسيلة لخدمة الأغراض
والأهواء؛ بل مَن تلبَّس بزي المجاهدين كذبًا وزورًا، فضحه الله - تعالى -
في الدنيا والآخرة، وجعل تدبيره تدميره.
وما ذكره الكاتب من الجهاد الباطني هو نوع من المجاهدة؛ ولكن ليس هو
الجهادَ المقصود عند الإطلاق، ولا يهمل أيضًا لأهميته، ولكنه نوع من صنوف
العمل الشاق في تقويم النفس وتهذيبها، فلا يصح اختزال أسمى العبادات في
مفهوم فردي داخلي قاصر.
ولا يغفُل القارئ عمَّا قاله الكاتب من أمور
تخالف الواقع، فأين التنعم الذي يعيش فيه المسلمون خارج الدول الإسلامية،
والحريات التي يتمتعون بها، في ظل المنع من إظهار الشعائر والالتزام
بالواجبات الدينية الظاهرة، كالحجاب وغيره، والأسماء الإسلامية؟! فما
تفعله هذه الدول غير الإسلامية مع المسلمين من مسامحات في بعض الأحيان، ليس
إلا لكسب أصواتهم في المعارك الانتخابية، لا أكثر ولا أقل، وللنفع العائد
منهم.
وأما أوباما، فلا يختلف عن غيره
كثيرًا، ولكنْ فرقٌ في التنظيم والأهداف في هذه المرحلة من الصراع بين قوى
الكفر والإسلام، وفسحة يخدعون بها المغفَّلين؛ لإعادة ترتيب الأوراق، وشحن
القوى، والتقاط الأنفاس، وما الإمداد لقوى الاحتلال بأفغانستان عن الأذهان
ببعيد.
فليرجع المسلم الناصح لنفسه إلى ربه -
تعالى - وكتابه، وسنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم الراسخين؛
ليكون على بصيرة من أموره؛ ليسعد في الدنيا، وينجو في الآخرة.
ــــــــــــــ
[1] مسلم (1731).