على الرَّغم من أن
الخطَّ العام للتاريخ الإسلامي هو الخطُّ السُّنِّي، سواءٌ في الدولة
الأمويَّة، أو الدولة العباسية، أو الدول التي تفرَّعت عن الدولة العباسية،
أو الدَّولة العثمانية التي جَمَعَتْ أكبرَ عددٍ من المسلمين تحت لوائها
إلاَّ أن المَدَّ الشيعيَّ الذي تَمَثَّل في الحركات التي قام بها الشيعة
تحت قيادة بعض رجال أهل البيت أو غيرهم - هذا المدُّ قد استطاع في فترات
تاريخية أن ينشئ دُوَلاً اقتربت من الخَطِّ العام للتاريخ الإسلامي كما في
دولة الأدارسة، أو ابتعدت وشَطَّت في تشيُّعِها كما في دولة القَرَامِطَة
ودولة العُبَيْدِيِّين أو دولة الصَّفويِّين.
وفي هذا الباب نتناول: أولاً: الحركات التي تنتسب إلى التشيُّع.
ثانيًا: الدُّوَل الشيعية التي قامت على مَدَار التاريخ الإسلامي.الفصل الأول
الحركات التي تنتسب إلى التشيُّع
كَثُرت الثورات والحركات التي قام بها
الشيعة في مواجهة كلٍّ من الدولَتَيْن: الأموية والعباسية، وأغلب هذه
الثورات أو الحركات كان يقودُها رجالٌ من أهل البيت من ذُرِّية الإمام علي
بن أبي طالب - رضي الله عنه - فلقد كان الحسين بن علي غيرَ راضٍ عن الصُّلح
الذي وقع بين أخيه الحسن وبين معاوية بن أبي سفيان، وظلَّ ينتظر الفرصةَ
للثورة في وجه السُّلطة الحاكِمَة في الدَّوْلة الأموية؛ فثار في وجه يزيد
بن معاوية بعد أن رَفَضَ ولايته للعهد، ورَفَضَ مبايعته بعد وفاة الخليفة
معاوية بن أبي سفيان.
كذلك كانت ثورة المُخْتَار الثَّقَفِي
الذي لم يَكُن من أهل البيت؛ ولكنَّه رَكِب موجةَ التشيع والثأر للحسين،
وحارَبَ كلاًّ من الدولة الأموية والزبيريين، حتى استطاع الزبيريون القضاء
عليه في معركته ضِدَّ مصعب بن الزبير.
ثم في آخر العهد الأموي كانت ثورةُ زيد
بن علي بن الحسين الذي بايَعَه أهلُ الكوفة، ثم انفَضُّوا عنه؛ لأنه
صارَحَهم برأيه في أبي بكر وعمر فرفضوه، فأطلق عليهم لقبًا عُرِفَ به
الشيعة وهو (الرافضة).
ومع انتقال السلطة إلى العباسيِّين
الذين عاوَنَهم العَلَوِيُّون في حركتهم ضِدَّ الأمويِّين، ثم تَنَكَّروا
لهم من بعد قيام الدَّوْلة، فكان مِمَّن ثار عليهم محمدُ (النَّفْس
الزكيَّة) في ثورة عُرِفَتْ باسمه، كذلك كان مِمَّن ثار على العباسيين في
أيام موسى الهادي بن المهدي: الحسينُ بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالب الذي نازَل العباسيين في موقعة (فخ) قُرْبَ مكة، وكان مِمَّن نجا
في هذه المعركة إدريسُ بن عبدالله بن الحسن الذي هرب إلى مصر ومنها إلى
المغرب الأقصى، حيث استطاع إقامةَ دولة الأدارسة التي دامت قَرْنَين.
على أنَّ هناك ثورات أخرى مُتَفَرِّقة هنا وهناك ولكنَّا آثَرْنَا أنَّ نعرِضَ لأكثر هذه الثورات شهرةً على النحو التالي: أولاً: ثورة الحسين بن علي في عهد يزيد. ثانيًا: ثورة المختار الثقفي. ثالثًا: ثورة زيد بن علي في عهد هشام بن عبدالملك. رابعًا: ثورة محمد (النفس الزكية) في عهد المنصور. خامسًا: ثورة الحسن بن علي المُلَقَّب بالمثلث في عهد موسى الهادي.لم يَقُم الشيعة بأي ثورة ضِدَّ معاوية
بن أبى سفيان، طوال مدة خلافته (41- 60 هـ)، وإنَّما اندلعت أولى ثوراتهم
بقيادة الحسين بن على في خلافة يزيد بن معاوية، بعد أن رَفَضَ الحسينُ
بيعةَ يزيد، وكان قد رَفَضَ من قبل تعيينه وليًّا للعهد في زمن أبيه،
اعتَصَم الحسين بمكَّة المكرمة، وهناك توالَت عليه رسائل أهل الكوفة
يطلُبون منه الحضور إليهم؛ ليبايعوه بالخلافة، فاستجاب لهم على الرَّغم من
تحذير ابن عباس - وهو من أقرب الناس إليه - من الذَّهاب إلى العراق؛ لأنها
دعوةُ مَنْ لا أمان أو عهد لهم، وقد خَذَلَ أهلُ العراق أباه من قبل،
لكنَّه أَصَرَّ على الذَّهاب، وأرسل - قبل أن يتحرَّك - ابنَ عمه مسلم بن
عقيل بن أبى طالب إلى الكوفة؛ ليستطلع الأمرَ، ويكتب له بحقيقة الموقف
هناك.
وصل مسلمُ بن عقيل إلى الكوفة، فاستقبله
الناس بحماسٍ شديد وبحفاوة بالغة، وبايَعه منهم نحو ثمانية عشر ألفًا،
فانخدَع بهم بعد أن تغافل النُّعمان بن بشير والى الكوفة عنه، فكتب إلى
الحسين يطمئنه، ويطلب منه الحضورَ إلى الكوفة، ولمَّا عَلِمَ يزيدُ بما
فعله مسلم في الكوفة، اضطر إلى عزل النُّعمان بن بشير عن ولايتها لتغاضيه
عمَّا يقوم به مسلم بن عقيل، وولَّى مكانه عبيدالله بن زياد، فحضر على
الفور، وقَبَضَ على مسلم وقتله بعد أن انفضَّت عنه الآلاف التي تجمَّعت
حوله من أهل الكوفة، وتركوه يلقى مصرعه وحده.
وفى أثناء هذه الأحداث المتلاحِقَة كان
الحسين في طريقه إلى الكوفة، فلما وَصَلَتْه أخبار مسلم، وتخاذُل الكوفيين
عنه، قرَّر العودة إلى مكة، لكن إخوة مسلم أَصَرُّوا على مواصلة السَّيْر؛
طلبًا لثأر أخيهم، فلم يجد الحسين بُدًّا من مُطَاوَعَتِهم، وكان هذا من
الأخطاء الكبيرة، فالذي قتل مسلمًا دولةٌ لا فرد، وليس في استطاعتهم - وهم
قِلَّةٌ في عددهم - التصدِّي للدولة، فقد كانوا نحو سبعين رجلاً.
واصل الحسين سَيْرَه حتى بلغ كربلاء
بالقرب من الكوفة، فوجد جيشًا كبيرًا في انتظاره بقيادة عمر بن سعد بن أبى
وقَّاص يزيد عددُه عمَّا معه من أفراد بنحو خمسين مرَّة، وعسكرت القُوَّتان
دون تكافؤ بينهما في القوة، فعرضَ الحسين على عمر بن سعد ثلاثةَ حلولٍ
للخروج من هذا المأزِق، إمَّا أن يتركه يعود إلى مكة، وإمَّا أن يتركه يذهب
إلى ثغرٍ من ثغور الإسلام فيجاهد في سبيل الله، وإما أن يدعه يذهب إلى
دمشق لمقابلة الخليفة يزيد بن معاوية ويضع يده في يده، وكانت هذه الخطوة من
الحسين - رضى الله عنه - طيِّبَةً؛ لأن ذلك معناه أنه أنهى ثورته وجنح إلى
السلام، كما سُرَّ بهذه الخطوة عمر بن سعد؛ لأنه لم يكن راغبًا في مواجهة
الحسين، ولكن عليه أن يستشير عبيدالله بن زياد، فهو الوالي وصاحب القرار،
فرحَّب بالفكرة لأوَّل وهلة؛ لأن فيها حَقْنَ الدماء، وبخاصَّةٍ دم الحسين
حفيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير أن شيطانًا من شياطين الإنس
يُدعى شمر بن ذي الجوشن أشار على ابن زياد ألاَّ يقبل من الحسين إلاَّ أن
يُسَلِّم نفسه باعتباره أسيرَ حرب، وأن يرسلَه بهذه الصِّفة إلى الخليفة
يزيد بن معاوية في دمشق.
وكان من الطبيعي أن يرفض الحسين بن على
هذا الطلب، فالموت عنده أهون عليه من هذا كما قال هو نفسه، ولو أنَّ
مُشْرِكًا أو ذميًّا كان في مكان الحسين، وعرَض عليهم هذه الحلول السلميَّة
لكان عليهم قبولُها، لكنَّ ابن زياد خضع لهذه الفكرة الشيطانية، ورفَضَ
الحسين تسليمَ نفسه أسير حرب، فدارت معركةٌ غير متكافئة بين الفريقين في
كربلاء (في العاشر من المحرم سنة 61 هـ)، استُشْهِد فيها الحسين - رضي الله
عنه - وقُتِلَ من كان معه من أهل بيته، ولم ينجُ من القتل إلا ابنه علي
الملقب بزين العابدين.
يُعَدُّ المُخْتَار بن أبي عبيد الثقفي
من الشخصيات التي كانت تسعى إلى السلطة بأيِّ ثمن، تقلَّب من العداء لآل
البيت، إلى الاتِّصال بعبدالله بن الزبير حين أعلن نفسه خليفة سنة (64 هـ)،
فلمَّا لم يَجِد تجاوُبًا منه، انطلق إلى الكوفة التي كانت تموجُ
بالفَوْضَى بعد هزيمة التَّوَّابين فادَّعى أنه جاء مندوبًا من عند محمد بن
على بن أبى طالب، المشهور بابن الحنفية للمطالبة بدم الحسين والأخذ بثأره.
ولم يكنِ المختارُ صادقًا في دعواه،
وإنَّما هداه تفكيرُه الانتهازي إلى استخدام مأساة الحسين ذريعةً للوصول
إلى مطالبه، وكان الشيعةُ في تلك الفترة يفتقِرُون إلى الزَّعامة بعد مقتل
سليمان بن صُرَد الخُزَاعي، فلمَّا وجدوا المختار - وكان بارعًا في الحِيَل
وخداع الناس - التفُّوا حولَه وأسلَمُوا له القيادة.
ازداد نفوذ المختار بعد أن حالَفَه
التوفيقُ فانتصر على جيشٍ أموي، وقتل قائده عبيدالله بن زياد في معركة عند
نهر (الخازر) بالقرب من الموصل سنة (67 هـ)، ولمَّا كان ابن زياد يُعَدُّ
المسؤول الأول عن قتل الحسين في كربلاء، فقد دعم مقتله المختار، وزاد من
ثقة الشيعة به ووقوفهم خلفه، فاستفحل أمره، وعَظُم شأنه، واتَّسع نفوذُه،
وقامت له دولة في الكوفة، اتَّسعت رقعتها لتشمل معظم العراق.
لم يَنْعَم المختار بدولته طويلاً، فقد
أزعج صعودُ أمره آل الزبير في مكة، وعبدالملك بن مروان في دمشق، فأرسل
عبدالله بن الزبير أخاه مصعبًا بجيش ضخم، قضى به على المختار في سنة (67
هـ)، وانتهت بذلك حركةُ واحدٍ من كبار المغامرين المُتَطَلِّعين إلى السلطة
في العصر الأموى، ولم تنفعه مزاعمه وادِّعاءاته حب آل البيت والثأر
لقتلاهم، فقد انكشفت حِيَلُه، وتَخَلَّى عنه الشيعةُ وأسلموه إلى مصيره
المحتوم.
المبحث الثالث
ثورة زيد بن عليمَضَتْ فترةٌ امتدت إلى أكثر من نصف
قرن، منذ مصرع المختار الثقفي سنة 67 هـ، دون أن يقوم الشيعةُ بأيَّةِ
ثورةٍ ضدَّ الدولة الأمويَّة، بسبب الضَّرَبات المُتَلاَحِقَة التي حاقَتْ
بهم، وافتقارهم إلى الزَّعامة القوية التي تقودهم؛ لأن على بن الحسين - وهو
الوحيد الذي نجا من مذبحة كربلاء - كان عازفًا عن الاشتغال بالسياسة،
محبًّا للعلم مُتَفَرِّغًا للعبادة، غير أن ابنه زيد بن على - وكان عالمًا
فاضلاً - حدَّثته نفسُه بالخلافة، ورأى أنه أهلٌ لها، وعرف أهل الكوفة منه
ذلك، فزيَّنوا له الثورةَ على بني أمية، وقالوا له: إنَّا لنرجو أن تكون
المنصورَ، وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية، تَشَكَّك زيدُ بن
على في صدق نيَّتهم، وقوَّة عزيمتهم، وقال لهم: إني أخاف أن تخذلوني
وتسلموني كفعلتكم بأبي وجدي، لكنه استجاب لهم على الرغم من تحذير أهله
وأولاد عمومته من غدر أهل الكوفة.
انخدع زيد بن على بأهل الكوفة وأعلن
الثورة على هشام بن عبدالملك سنة 121 هـ، فتكرَّرت أحداث قصة جده الحسين،
وأعاد التاريخ نفسه، فلم يتساهل الخليفةُ هشام مع ثورةٍ تُرِيد نَقْضَ ملكه
والإطاحة بدولته، على الرَّغم من كراهيته لسفك الدماء، فأمر واليَه على
الكوفة يوسف بن عمر الثقفي فتصدَّى لزيد بن على الذي انفضَّ عنه شيعتُه،
وأسلموه إلى عدوِّه، كما أسلم أسلافُهم جدَّه الحسين، ولم يبقَ معه في
اللحظات الحَرِجة من بين خمسة عشر ألفًا بايعوه وعاهدوه على النُّصرة، إلا
نحو مائتي رجل، فاستطاع يوسف بن عمر أن يقضي في سهولة ويسر على تلك الثورة،
وقتل زيد بن على في صفر سنة 122 هـ.
المبحث الرابع
ثورة محمد (النفس الزكية)هو محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى بن
الحسن السَّبط بن علي بن أبي طالب، المعروف بالنَّفس الزكية، قاد هو وأخوه
إبراهيم ثورةَ العلويين ضِدَّ أبي جعفر المنصور، وكانا يُعِدَّان العُدَّة
للخروج على أبي جعفر المنصور، وينتظران الفرصة للانقضاض عليه، واختَفَيَا
عن أنظار الخليفة يَبُثَّان رجالَهما وينشران الدعوة إليهما.
وكان محمدُ النَّفْسُ الزكية يرى نفسه
أحقَّ بالخلافة من أبي جعفر المنصور، فامتنع عن بيعته، كما امتنع من قبلُ
عن بيعة أبي العباس السَّفَّاح، فلمَّا ولي أبو جعفر المنصور رأى في بقاء
محمد وأخيه خطرًا يُهَدِّد دولته، وأيقن أنَّهما لن يَكُفَّا عن الدعوة إلى
أحقِّيَّة البيت العلوي بالخلافة، وأقلق اختفاؤهما الخليفة، فبذل ما في
وُسْعِه لمعرفة مكانهما، فلم ينجح في الوصول إليهما، وعَجَز ولاةُ المدينة
عن تَتَبُّع أخبارهما، فاستعان بوالٍ جديدٍ للمدينة غليظ القلب للوصول إلى
مكان محمد النفس الزكية، فلجأ إلى القبض على عبدالله بن الحسن والد
المختفيَيْن وهدَّده وتوعَّده، وقَبَضَ أيضًا على نفرٍ من آل البيت، وبعث
بهم مُكَبَّلين بالأغلال إلى الكوفة فشدَّد عليهم الخليفةُ وغالى في
التنكيل بهم، فاضطر محمد النفس الزكية إلى الظهور بعد أن مكث دهرًا يدعو
لنفسه سرًّا، واعترف الناس بإمامته في مكة والمدينة، وتلقَّب بأمير
المؤمنين، وكان الناس يميلون إليه لخُلُقِه وزُهْدِه وحِلْمِه، وبعده عن
الظلم وسَفْكِ الدماء، حتى أطلقوا عليه "النفس الزكية".
ولمَّا انتهت الأنباءُ بشهادة والده
عبدالله وسائر السادة الذين كانوا معه إلى محمد، أعلن محمَّدٌ ثورته في
المدينة وبايَعه الناس وحتَّى الفقهاء منهم، وحينما انتشر الأمر سارع أهالي
اليمن ومكة إلى بيعته.
ولمَّا عَلِم المنصور بالثورة وجَّه
جيشًا كبيرًا يُقَدَّر بأربعة آلاف فارس بقيادة عيسى بن موسى، وبعد أن
اندلعت الحربُ بين الفريقين خارج المدينة؛ رغبة من محمد وحفاظًا على
سكَّانها من عبث جيش المنصور، وأُصِيب محمدُ بن عبدالله بجراح خطيرةٍ؛ بسبب
تفرُّق جنده، وكان ذلك في رمضان 145هـ.
المبحث الخامس
ثورة الحسن المثلثعاش مَنْ بقي من آل البيت العَلَوِي في
هدوء، وربَّما استخفُّوا حتَّى يتمكَّنوا من إعداد العُدَّة للخروج وهم
مكتَمِلو القوَّة والعَدَد، وظلَّت الأمورُ على هذا النحو من التَّربُّص
والانتظار حتى حدث نزاعٌ صغير بين والي المدينة المُنَوَّرَة وبعض رجالٍ من
آل البيت أساء التعامل معهم، وأهانهم وأغلظ القول لهم، فحرك ذلك مكامن
الثورة في نفوسهم، وأشعل الحميَّة في قلوبهم، فثار العلويُّون في المدينة
بقيادة الحسن بن علي بن الحسن، وانتقلَت الثورةُ إلى مكَّة بعد أن أعلن
الحسن البيعة لنفسه، وأقبل الناس عليه يبايعونه.
انتهى خبرُ الحسن إلى الخليفة العباسي
الهادي، وقد كان حجَّ في تلك السنة رجالٌ من أهل بيته منهم: محمد بن سليمان
بن علي، والعباس بن محمد، وموسى بن عيسى، سوى مَنْ حَجَّ من الأحداث، وكان
على المَوْسِم سليمانُ بن أبي جعفر المنصور، فأمر الهادي بالكتاب بتولية
محمد بن سليمان على الحرب فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج، وكان محمَّدُ
بن سليمان قد خَرَج في عُدَّة من السلاح فشمَّر للحرب وسار نحو الحسن بن
علي، فلَقِيَه بفخٍّ في ذي الحجة على بعد ثلاثة أميال من مكة، وكانت عاقبة
الواقعة أن قُتِلَ الحسنُ بن علي الثائر وجماعةٌ مِمَّن معه، وأفلت من
الموقعة رجلان لهما تاريخ جليل وهما: إدريس بن عبداللَّه بن الحسن بن علي،
أخو محمد النفس الزكية، وهو مُؤَسِّسُ دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى،
والثاني أخوه يحيى بن عبداللَّه الذي ذهب إلى بلاد الدَّيْلَم.
الفصل الثاني
الدُّوَل التي قامت على التشيع
لم تنجح كثيرٌ من الحركات والثورات التي
تنسب إلى الشيعة في إقامة دُوَل مستقلَّة عن كل من الخِلافتَيْن الأموية
والعباسية، كما لم تُفْلِح أيٌّ منها في إسقاط أيٍّ من الدَّولتين، ولكن
على الرَّغم من ذلك فقد نجح التشيُّع في إقامةِ عددٍ من الدُّوَل على مدارِ
التَّاريخ الإسلامي، هذه الدُّوَل التي تبايَنَتْ فيما بينها تباينًا
عظيمًا، فبعضها لا يختلف عن الدَّولتين الأموية والعباسية سوى في
التَّشَيُّع لأهل البيت وحبهم، دون أن يكون هناك أفكار شاذَّة أو غُلُوٌّ
في التَّشَيُّع، مثلما كان حاصلاً في دولتي الأدارسة ودولة الحمدانيين.
والبعض الآخر مثل دولتي العُبَيْدِيِّين
والقرامطة كان مغاليًا في التَّشَيُّع، مجاهرًا بعقائدَ وأفكار وأعمال لا
تَمُتُّ إلى الإسلامِ بِصِلَةٍ، بل منهم من استباح حُرُمات الله في بيته
الحرام وهو أبو طاهر القُرْمُطِي في أشدِّ عصور القرامطة غُلُوًّا وشذوذًا
وسفكًا للدماء، حتى لقد نهبوا الحجر الأسود من مكانه في الكعبة
المُشَرَّفة، حيث بقي في عاصمةِ القرامطة ما يُقَارِب ثلاثين عامًا حتى
أعاده بعضُ ولاتهم بعد ذلك في محاولةٍ للتقارب مع المسلمين ومع الخلافة
العباسية، ونعرض في هذا الفصل بإيجاز لعدد من الدُّول التي تنتسب إلى
التشيُّع وهي:
أولاً: دولة الأدارسة. ثانيًا: الدولة الحمدانية. ثالثًا: الدولة البويهية. رابعًا: دولة العبيديين. خامسًا: دولة القرامطة. سادسًا: دولة الصفويين.المبحث الأول: دولة الأدارسة: تُعَدُّ دولةُ الأدارسة أوَّلَ دولة علويَّة هاشميَّة تقوم في التاريخ
الإسلامي، وتعود نسبتُها إلى مؤسِّسها إدريس بن عبدالله بن حسن بن الحسن بن
علي بن أبي طالب، الذي هرب مع مولاه راشد إلى مصر، ثم إلى المغرب الأقصى
بعيدًا عن أيدي العباسيين.
وبعد أن استقرَّ إدريسُ في (وَلِيلَى)
المغربية، اتَّصل بإسحاق بن محمد بن عبدالحميد زعيم قبيلة (أوربة)
البربرية، وقد خلع إسحاق بن عبدالحميد طاعة بني العباس حيث كان من
وُلاَتهم، وتنازل لإدريس عن الحُكْم، وذلك بعد تعرُّفه على نسب إدريس
وقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم.
استقرَّت الأمورُ لإدريس بن عبدالله،
ودانَتْ له مُعْظَمُ قبائل البربر، وبدأ يَطْمَحُ إلى مدِّ نُفُوذِه
وسلطانه إلى القبائل التي تعترف بحكمه، ونشر الإسلام بين القبائل التي لا
تزال على اليهودية أو المسيحية، فدخل كثيرٌ من أهل هذه البلاد الإسلام.
وبعد وفاة إدريس بن عبدالله مسمومًا،
تولَّى الحكم مولاه راشدٌ وصيًّا على ابنه إدريس الثاني الذي كان جنينًا في
بطن أمه، فلما قُتل راشد، كفلَ إدريسَ أبو خالد يزيدُ بن إلياس العَبْدِي -
أحدُ شيوخ البربر - حتى كَبُر إدريس، واستقلَّ بالحكم بنفسه في سنة 192هـ.
بنى إدريس بن إدريس عاصمةً جديدةً
لدولته سُمِّيَت (فاس)، وتوسَّع في فُتُوحاته، وضَمَّ المغرب الأوسط
(الجزائر)، وسعى للقضاء على نفوذ الخوارج، ووصَلَت الدولةُ إلى قِمَّتِها
في عهده، وحَكَم بعده ثمانيةٌ من الأدارِسَة، كان أعظمُهم قوةً وأعلاهم
قدرًا يحيى الرابع بن إدريس بن عمر، الذي امتَدَّ ملكُه إلى جميع بلاد
المغرب الأقصى.
أخذ الضَّعْفُ يتسرَّب إلى هذه الدولة
في عهد خلفاء إدريس الثاني؛ وذلك بسبب تَشَرْذُم الدَّولة وتقسيمها بين
الأبناء من ناحية، وبسبب القتال بين أبناء إدريس والخوارج من ناحية أخرى،
ومن ثَمَّ عاشت دولة الأدارسة في فَوْضَى واضطراب، وساءت الحالة الاقتصادية
والاجتماعية للدَّولة؛ مما أدَّى إلى استعادة الخوارج لنفوذهم، وعَمِلُوا
على تقويض الدولة.
وأخيرًا: جاءت الضربةُ القاضية على يَدِ الدولة العُبَيْدِيَّة (الفاطمية) والدولة
الأمويَّة الأندلسية، لتُغْلِقَ السِّتَار على دولة الأدارسة التي استمرَّت
نحو قرنين من الزمان.
وبالجملة فدولة الأدارِسَة ساعَدَتْ في
تعريب المغرب، وقامَتْ بنشر الإسلام في غرب إفريقيا، وتثبيت البربر على
الإسلام، وحاربت الخوارج وأفكارَهم، سُمِّيَتْ الدولة بالأدارسة نسبة إلى
مؤسِّسِها إدريس بن عبدالله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قامت هذه الدولة بالمغرب الأقصى،
ومذهَبُها هو أقربُ مذاهب الشِّيعة إلى أهل السنة، ويرى عددٌ من المؤرِّخين
أنَّها دولةٌ سُنِّيَّةٌ، وأنَّ من الأخطاء الشائعة القول بأنَّ دولة
الأدارسة دولةٌ شيعيَّة؛ لأنَّ مؤسِّسِيها وأمراءَها كانوا من آل البيت،
والحقيقة أن الأدارِسَة رغم عَلَوِيَّتِهم لم يكونوا شيعيِّين، بل لم يكن
أحدٌ من رجال دولة الأدارسة أو أتباعهم شيعيًّا، فقد كانوا سُنِّيِّين، لا
يَعْرِفُون الآراءَ الشِّيعية التي شاعَتْ على أيَّام الفاطميين، ولم
يَعْرِفوا في بلادهم غير الفقهِ السُّنِّيِّ المالِكِيِّ، ومن البَدِيهيِّ
أنَّ آل البيت لا يُمْكِنُ أن يكونوا شيعةً لأحدٍ، أمَّا الشيعة فهم
أنصارهم، والوَصْفُ الصحيح لهذه الدولة هو أنها كانت دولةً علويَّة
هاشميَّة، وهي أوَّل تجربة نجح فيها أهل البيت في إقامة دولة لأنفسهم.
كيف قامت دولة الأدارسة؟ كان مِمَّن نَجَا من قادة الثائرين في معركة (فخ)، التي كانت بين العلويين
بقيادة الحسين بن علي بن الحسن والدولة العباسية بالقرب من مكَّة: إدريسُ
بن عبدالله بن الحسن، الذي اتَّجه إلى مصر ومعه خادمُه راشد، وظلَّ
أمرُهُمَا مجهولاً حتَّى بَلَغَا مصر مُسْتَخْفِين في مَوْكِب الحَجِيج،
ولم يكنِ اخْتِفَاؤُهما أمرًا سهلاً، فعيون الخلافة العباسية تتبعهما
وتقتفي أثرهما، ولم تكن لتهدأ وتطمئنَّ قبل أن تَعْثُر على إدريس بن
عبدالله حيًّا أو ميِّتًا، لكنَّهما نَجَحا في التَّحَرُّك والتَّخَفِّي؛
لا لمهارتهما في ذلك، ولكن لحب الناس لآل البيت، وتقديم يَدِ العون
والمساعدة لهما.
ومن مصر خرج إدريسُ وخادِمُه راشد إلى
بلاد المغرب، ويقال: إن هذا الخادم كان بربريَّ الأصل، وساعدهما على الخروج
من مصر عاملُ البريد بها؛ فقد كان متشيِّعًا لآل البيت، فلمَّا علم
بوجودهما في مصر قَدِمَ إليهما في الموضع الذي يستخفيان به، وحملهما على
البريد المُتَّجِه إلى المغرب، وتذهب رواياتٌ تاريخيَّةٌ إلى أن الذي أعان
إدريس على الفرار من مصر هو علي بن سليمان الهاشمي والي مصر، وأيًّا ما كان
الأمر فإنَّ إدريس لَقِيَ دعمًا ومساعدة لتمكينه من الخروج من مصر، سواء
كان ذلك بعَوْنٍ من والي مصر أم من عامل البريد.
وبعد أن وصل إدريسُ بن عبدالله إلى
(برقة) تَخَفَّى في زيٍّ خَشِن، يظهر فيه بمظهر غلام يخدم سيده راشد، ثم
سَلَكَا طريقًا بعيدًا عن طريق إفريقيا؛ إمعانًا في التَّخَفِّي، وخوفًا من
أن يلتقي بهما أحدٌ من عيون الدولة العباسية التي اشتدَّتْ في طلبهما، حتى
وصلا إلى (تلمسان) سنة 170هـ، وأقاما بها عدة أيام طلبًا للراحة، ثم
استأنفا سيرهما نحو الغرب، فعبرا وادي (ملوية)، ودخلا بلاد السُّوس الأدنى،
حيث أقاما بعض الوقت في (طنجة) التي كانت يومئذ أعظم مدن المغرب الأقصى،
ثم واصلا سيرهما إلى مدينة (وَلِيلَى)، وهي بالقرب من مدينة (مكناس)
المغربية، واستقرَّا بها بعد رحلة شاقَّة استغرقت حوالي عامين.
وبعد أن استقرَّ إدريس في (وَلِيلَى)
اتصل بإسحاق بن محمد بن عبدالحميد زعيم قبيلة (أوربة) البربرية، صاحبة
النفوذ والسيطرة في (وليلى)، فلمَّا اطمأنَّ إليه إدريس عرَّفه بنسبه،
وأعلمه بفراره من موطنه؛ نجاةً بنفسه من بطش العباسيين، وقد رحَّب إسحاق
بضيفه الكبير، وأنزله معه دارَه، وتولَّى خدمته والقيام بشأنه شهورًا
عديدة، حتى إذا حلَّ شهر رمضان من السَّنَة نفسها جمع إسحاق بن محمد إخوته
وزعماء قبيلة (أوربة)، وعرَّفهم بنسب إدريس وبفضله وقرابته من النبي - صلى
الله عليه وسلم - وكرمه وأخلاقه وعلمه؛ فرحَّبُوا جميعًا به، وأعربوا عن
تقديرهم له، وبايَعُوه بالخلافة في رمضان 172هـ، وبعد ذلك خلع إسحاق بن
عبدالحميد طاعة بني العباس حيث كان من ولاتهم، وتنازل لإدريس عن الحكم.
وتَبِعَ ذلك الدعوةُ لإدريس بين القبائل
المحِيطة؛ فدخلت في دعوته قبائل: (زناتة)، و(زواغة)، و(زوارة)، و(لماية)،
و(سراته)، و(غياشة)، و(مكناسة)، و(غمارة)، وبايعته على السمع والطاعة،
واعترفت بسلطانه، وقَصَدَه الناس من كل مكان.
استقرَّت الأمورُ لإدريس بن عبدالله،
ورَسَخَت أقدامُه بانضِمَام كلٍّ هذه القبائل إلى دعوته، ودانَتْ له معظم
قبائل البربر، وبدأ يطمح إلى مدِّ نفوذه وسلطانه إلى القبائل التي لا تعترف
بحكمه، ونشر الإسلام بين القبائل التي لا تزال على المجوسية أو اليهودية
أو المسيحية، فأعدَّ جيشًا كبيرًا زَحَف به نحو مدينة (شالة) قُبَالة مدينة
الرباط، ففتحها، ثم تحوَّل إلى كلِّ بلاد (تامسنا) فأخضعها، وأَتْبَع ذلك
بإخضاع إقليم (تاولا)، وفتح حصونَه وقِلاَعه، ودخل كثيرٌ من أهل هذه البلاد
الإسلام، ثم عاد إلى (وليلى) للراحة والاستجمام في ذي الحجة 172هـ، ثم
عاوَد حملته الظافرة عازمًا على دعوة من بقي من قبائل البربر إلى الإسلام،
ونجح في إخضاع قبائل: (قندلاوة)، و(مديونة)، و(بهلولة)، وغيرها من القبائل
البربرية التي كانت مُتَحَصِّنة بالجبال والحُصُون المَنِيعة، ثم رجع إلى
(وليلى) في جمادى الآخرة 173هـ.
أقام إدريس بن عبدالله شهرًا في
(وليلى)، ثم عاوَد الفتح، واتَّجه ناحية الشرق هذه المرَّة، عازمًا على
توسيع ملكه في المغرب الأوسط على حساب الدولة العباسية، فخرج في منتصف رجب
173هـ مُتَّجِهًا نحو (تلمسان)، وفي أثناء زحفه استولى على مدينة (سبتة)،
ولم يَكَد يَصِل إلى (تلمسان) حتى خرج إليه صاحبها محمد بن خرز، وأعلن
خضوعَه له دون قتال، وبايَع إدريس بن عبدالله، وتبعته قبائل: (مغراوة)،
و(بني يفرده).
ويقول المُؤَرِّخُون: أَسْهَم الأدارسة
في خدمة المسلمين عن طريق تثبيت البربر على الإسلام، فكان ظهور دولة
الأدارسة مُقَدِّمة لظهور دولة المرابطين.
المبحث الثاني: الدولة الحمدانية: الدولة الحمدانية هي دولةٌ عربية شيعية قامت في (الموصل)، و(حلب)،
واستقلَّت عن الدولة العباسية في عصور ضعفها، وينتسب الحمدانيون إلى (حمدان
بن حمدون) من قبيلة تغلب العربية الأصل التي قامت بضواحي مدينة الموصل.
بدايةً ثار الحمدانيون على الدولة
العباسية، ولكن عَفَتْ عنهم عندما انتصر الحسين بن حمدان على هارون الشارِي
الخارِجِيِّ وأَسَره وجاء به إلى المُعْتَضِد.
وقد كان الحمدانيون
يُمَثِّلون القوَّةَ التي تلجأ إليها الخلافة إذا ضاقَتْ بها الأحوال في
بغداد؛ فقد لجأ إليهم الخليفةُ المُتَّقِي فارًّا من قُوَّات البريدي التي
زَحَفت على العراق، وعَجَزَ أميرُ الأُمَراء ابن رائِق عن الصُّمود لها،
فناصر الحمدانيون الخلافةَ، وقتلوا ابن رائق، وطردوا البريديين، وأعادوا
الخليفة إلى عاصمته؛ مِمَّا جعل الخليفة المُتَّقِي يُلَقِّب الحسن بن
حمدان ناصرَ الدولة، ولقَّب أخاه عليًّا سَيْفَ الدولة، وذلك في شهر شعبان
سنة 330هـ، وتولَّى إمرة الأمراء في بغداد ناصر الدولة أمير الموصل.
لم يستقرَّ الحمدانيُّون كثيرًا ببغداد؛
لاضطراب أمورها بسبب الحروب الأهلية، وحَنِقَ الخليفة على ناصر الدولة
لزيادة الضرائب؛ مِمَّا دفع الخليفة إلى انتهاز فرصة خروج ناصر الدولة إلى
الموصل، فاستنجد بتوزون القائد التُّرْكي، ومهَّد له السبيل لدخول بغداد
سنة 331هـ، ولم يَسْتَطِع زعماءُ الحمدانيين من العرب البقاءَ في بغداد
أكثر من سنة، واضطروا إلى العودة إلى الموصل، ومع ذلك ظلَّت علاقة
الحمدانيين حسنةً بالخلافة على الرغم من محاولة البُوَيْهِيِّين إزالتهم عن
إمارتهم.
وفي حلب امتَازَ عهدُ سيف الدولة بكثرة
حروبه مع البِيزَنْطِيِّين، وكان جهادُ الحمدانيين ضِدَّ الروم من أبرز
الأعمال التي خَلَّدَت ذكرى هذه الدولة، وكان مِمَّن خلدوا ذكر الحمدانيين:
أبو الطيب المتنبي، وأبو فِرَاس الحمداني.
وعندما أراد سيف الدولة أن يوسِّع
مُلْكَه بالشام؛ ليتمكَّن من تقوية جبهتِه أَمام الروم، امتدَّ بنفوذه إلى
دمشق، الأمر الذي أدَّى إلى حربٍ مع الإخشيد، انتصر فيها الإخشيدُ،
وتوصَّلا أخيرًا إلى صُلْحٍ يدفع بموجَبِه الإخشيدُ جِزيةً سنويةً
للحَمْدَانيين مقابلَ احتفاظه بدمشق، ولعلَّ الإخشيد كان يَرْمِي من وراء
إبرام الصُّلح على هذه الصُّورَة أن يُبقي الدَّوْلة الحَمْدَانية حِصْنًا
منيعًا يكفيه مؤونةَ محاربة البيزنطيين.
وعندما مات الإخشيدُ نَقَضَ سيفُ
الدَّولة الصُّلْح، فتصدَّى له كافور وهزمه، وتمَّ الصُّلح على بُنُود
الصلح الأول ما عدا دفع الجزية السنوية.
بدأت الدولةُ الحمدانيَّةُ في التفكُّك
بعد سيف الدولة، ووَقَعَتْ في صِرَاعاتٍ داخلية أسريَّة أدَّت إلى أن
يستعين بعضُهم على بعضٍ بالرُّوم والعُبَيْدِيِّين - الفاطميِّين - ثم
سَقَطَتْ أخيرًا تحتَ الضَّغْط العبيديِّ المُتَعَاظِم في مصر، والنُّفُوذِ
البُوَيْهِيِّ من جهة العراق، فوَرِثَها العُبَيْدِيُّون في النهاية.
كبف قامت الدولة الحمدانية؟ كان حمدان بن حمدون عاملاً على المَوْصِل للمعتضد بالله العباسي، ثمَّ
استقلَّ الحَمدَانِيُّون عن الدَّولة العباسيَّة بقيادة ناصر الدولة
الحَسَن في سوريا، وبقي ولاة الحمدانيِّين في المَوْصِل مُوَالِين للخليفة
في بغداد، وكان أشهر قادتهم سيف الدولة الحمداني، الذي ضَمَّ حلبَ وحِمْصَ
إلى سُلْطَانِه، وأمضى مُعْظَمَ فَتْرَة حُكْمِه في غَزَوات ضِدَّ
البِيْزَنْطِيِّين الصليبيين في الشمال، وقد ازدهرت حلبُ وشمال الشام في
عهد سيف الدولة؛ ففي بلاطه كَتَب المتنبي أَشْهَرَ قصائده، وكذلك أبو
فِرَاسٍ الحمداني ابن عمِّ سيف الدولة، الذي أَسَرَه الرُّوم خلال إحدى
المعارك، وقد اشتدت الحرب مع البيزنطيين في عهد سعد الدولة، وبدأت
النِّزَاعات مع الفاطميين في الجنوب في عام، وبدأ الحمدانيون يفقِدون
سيطرتهم على السلطة التي انتقلت فيما بعدُ إلى الفاطميين.
إلى مَنْ تُنْسَب الدولة؟
قام
حمدون بدَوْرٍ مُهِمٍّ في الحوادث السياسية منذ سنة 260هـ، فقد تَحَالَف
مع هارون الشاري الخارجي في سنة 272هـ، واستولى على قَلْعَة مَاردِين بعد
ذلك بقليل؛ لذا حاربه الخليفةُ المُعْتَضِد في سنة 281هـ، فهرب حمدان
تاركًا ابنه الحسين عليها، واستولى الخليفَةُ على مَارِدِين، وطارَدَ حمدان
وظفر به بعد قليل، فسَجَنَه في بغداد، واستمرَّ في سجنه حتى هزم ابنه
الحسين هارون الخارجي حليف أبيه؛ فعفا الخليفة عن حمدون، ووزَّع الأعمال
عليه وعلى أولاده.
المبحث الثالث: الدولة البويهيَّة: قامت الدولة البُوَيْهِيَّة الشيعية في الجزء الغربي من إيران وفي العراق،
وأسَّسَتْها أُسْرَةُ بني بُوَيْه، وأَشْهَر رجال أسرة بني بُوَيْه
الحاكمة ثلاثةٌ، هم: عليٌّ، والحسنُ، وأحمد، أبناء بُوَيْه، وتعود أصولُ
هذه الأسرة إلى الفُرْس، وكان والِدُهم (بُوَيه) يتعيَّش من صيد الأسماك.
وكان عُلُوُّ شأنها على يد الأخِ الأكبر
علي بن بُوَيْه؛ فقد ولاَّه مرداويج الزياري بلاد الكَرَج، فاستطاع بفضل
مقدِرَتِه العسكرية والإدارية وحسن معاملته لأتباعه - بناءَ جيشٍ قويٍّ
انتزع به معظم بلاد فارس في خلال فترة قصيرة، واتَّخذ مدينة (شيراز) قاعدة
لحكمه، وبعد مقتل مرداويج سيطر البُوَيْهِيُّون على (أصفهان)، و(الري)،
و(همذان)، و(الكرج)، و(كرمان)، و(الأهواز).
كانت الحالة في العراق مضطربةً، كما
كانت الخلافة واقعةً تحت نُفُوذ الأتراك، وظهر عجزُها في إقرار الأمور في
العراق، فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي؛ نتيجة لذلك تَطَلَّع الناس إلى
هذه القوة الجديدة التي ظهرت بالقرب منهم لتنشلهم من الفوضى، ومن ثَمَّ
كَاتَبَ القُوَّاد في بغداد أحمد بن بويه، وطلبوا منه المَسِيرَ للاستيلاء
على بغداد، استجاب أحمد لهذا الطلب فدخل بغداد في عام 334هـ بعد ما خرج
الأتراك منها، واستقبله الخليفة المستكفي بالله واحتفى به، وخلع عليه
وعيَّنه أميرًا للأمراء، ولقَّبه (مُعِزَّ الدولة)، ولقب أخاه عليًّا (عماد
الدولة)، كما لقب أخاه حسن (ركن الدولة).
لقد كان أهل بغداد قبل الدولة
البُوَيْهِيَّة على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، فلما جاءت هذه الدولة -
وهي متشيِّعةٌ غالية - نما مذهب الشيعة ببغداد.
وكان سلطان مُعِزِّ الدولة بالعراق مبدأ
خرابه بعد أن كان جَنَّة الدنيا، فلم تمضِ سنةٌ حتى اشتدَّ الغلاء ببغداد،
فأكل الناس الميتة والسَّنَانير والكلاب، وأكل الناس خَرُّوبَ الشَّوْك؛
فلحق الناسَ أمراضٌ وأورامٌ في أحشائهم، وكَثُر فيهم الموت حتى عجز الناس
عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم.
وقد أُصِيب نفوذ البُوَيْهِيِّين بضعفٍ
شديد في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريَّيْن؛ بسبب ضعف
سلاطينهم، وتَنَازُع الأمراء فيما بينهم، وقد ازداد نفوذُ الجند الأتراك،
وتدخَّلوا في تولية وعَزْل سلاطين بني بُوَيْه، وحملوهم على طاعتهم، وعندما
ظهر السَّلاجِقَةُ على مَسْرَح الأحداث كان نجم البُوَيْهِيِّين يأخذ في
الأُفُول، فلم يجد السلاجقةُ صعوبةً في دخول بغداد، وإسقاط دولة بني
بُوَيْه.
كيف قامت الدولة البويهية؟ ظهر بنو بُوَيْه على مسرح الأحداث في أوائل القرن الرابع الهجري،
وأسَّسُوا دُوَلاً انفصاليَّة في (فارس)، و(الأهواز)، و(كرمان)،
و(الرَّيِّ)، و(أصفهان)، و(همذان)، وبسطوا هيمنةً فعليَّةً على العراق،
فشاركوا الخلافة العباسية في حكمها، وعظم نفوذ هذه الأسرة حتى سمِّي باسمها
عصرٌ من عصور الخلافة العباسية، هو العصر العباسي الثالث.
وتمتدُّ هذه المرحلة مُدَّةَ ثلاث عشرة
ومائة سنة، وتَعَاقَبَ في هذه المُدَّة أربعةُ خلفاء من بني العباس هم:
المطيع لله، والطائع لله، والقادر بالله، والقائم بأمر الله.
وامتازت هذه المرحلة بسيطرة آل بُوَيْه
الذين يَعُودُون في أصولهم إلى الفرس، وسَكَنَتْ هذه الأسرة بلاد
الدَّيْلَم فعُرفوا كأنَّهم منهم، وكانوا من الرعيَّة العاديِّين، وأوَّل
من برز منهم أبو شجاع بُوَيْه، وكان من صيَّادي السَّمَك في بحر الخَزَر،
وكان له ثلاثة أولاد هم: علي، وحسن، وأحمد.
وقد اشتهرت هذه الأسرة على يد الأخ
الأكبر من الإخوة البُوَيْهِيِّين الثلاثة، وهو عليُّ بن شجاع بن بُوَيْه
الذي ولاَّه مرداويج الزياري بلاد الكَرَج.
ويبدو أنَّ عليًّا كانت تُرَاوِدُه
نَزَعَاتٌ تَتَعدَّى الاستقلاليةَ إلى التَّوَسُّع على حساب جيرانه، إضافةً
إلى الطُّموح السِّياسي الذي تحقَّق له سريعًا، حيث ما لبث أن أصبح صاحبَ
شوكةٍ في هذه النواحي، واسْتَمَال الناس بحسن سياسته، وتمكَّن - بفضل
مقدرته العسكرية والإدارية وكرمه وحسن معاملته لأتباعه - من بناء جيش قوي،
انتزع به معظم بلاد فارس في خلال فترة قصيرة، واتَّخذ مدينة شيراز قاعدة
لحكمه.
وبعد مقتل مرداويج سَيْطَر البُوَيْهِيُّون على (أصفهان)، و(الري)، و(همذان)، و(الكرج)، و(كرمان)، و(الأهواز).
لم تقف الخلافة العباسية مكتوفةَ اليدين
إزاء هذه التَّطوُّرات السياسية والعسكرية؛ لذلك انتهزت فرصةَ الصراع
البُوَيْهِي - الزياري، وحاولت استعادة الأهواز، ولكنَّها لم تستطع ذلك،
وأضحى نزولهم من الأهواز إلى العراق أمرًا ميسورًا، فراحوا يُرَاقِبُون
الأحداث في عاصمة الخلافة حتى تَسْنَحَ لهم الفرصةُ لدخولها.
كانت الحالةُ في العراق مضطربةً، كما
كانت الخلافة واقعة تحت نفوذ الأتراك، وظهر عجزُها في إقرار الأمور في
العراق، فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي.
نتيجة لذلك تطلَّع النَّاس إلى هذه
القوة الجديدة التي ظهرت بالقرب منهم لتنشلهم من الفَوْضَى، كما تطلَّع بعض
القادة المغلوب على أمرهم إلى قوة البُوَيْهِيِّين النامية، آملين أن
يحصلوا بواسطتها على الامتيازات التي حُرِموا منها أو أُبْعِدوا عنها.
وأخيرًا مال الخليفة المُتَّقِي لله
لطلب المساعدة من البُوَيْهِيِّين، فَدَعَا الخليفةُ أحمدَ بن بُوَيْه
وطَلَب منه دخولَ بغداد، كما كاتَبَه بعضُ القادة للغاية نفسها، فسار إليها
في عام 332هـ، ودخلها في عام 334هـ بعد ما خرج الأتراك منها، واستقبله
الخليفة المستكفي بالله واحتَفَى به، وخلع عليه وعيَّنه أميرًا للأمراء،
ولقَّبه (مُعِزَّ الدولة)، ولقَّب أخاه عليًّا (عماد الدولة)، كما لقَّب
أخاه حسن (ركن الدولة).
وهكذا أسَّس البُوَيْهِيُّون في (فارس)،
و(العراق)، و(الأهواز)، و(كرمان)، و(الرَّيِّ)، و(همذان)، و(أصفهان) -
إمارات وراثيَّة دامت حتى عام 447هـ، وقد أدَّى نظامُ الوراثة هذا إلى
إيجاد نوع من الاستقرار السياسي في دولة الخلافة العباسية، سيطر
البُوَيْهِيُّون أثناءها على مقاليد الأمور، وتصرَّفوا بشكلٍ مطلق، لكنَّ
هذا الاستقرار كانت تَشُوبُه بعض الاضطرابات الناتِجَة عن النَّزَاعات
المذهبية بفعل تشيُّع الأسرة البويهية.
المبحث الرابع: الدولة العبيدية (الفاطمية):
نَشِط دعاةُ الشِّيعة في الدعوة إلى مذهبهم، وبخاصَّة في الجِّهات البعيدة عن مركز الخلافة، مثل أطراف فارس واليمن وبلاد المغرب.
وكان من هؤلاء الدُّعاة (أبو عبدالله
الشيعي)، وهو رجلٌ من صَنْعاء اتَّجه إلى المغرب بعد أن رأى دُوَيْلات
(الأغالبة) و(الأدارسة) وغيرهما تُنْشَأ وتُقَام بعيدًا عن يَدِ الدولة
العباسية وسلطانها، وركَّز أبو عبدالله دعايَتَه بين البربر، وسرعان ما
انضمُّوا إليه في آلافٍ عديدة، فأرسل إلى زعيمِه العُبَيْدي (عبيدالله بن
محمد).
ويَدَّعي (عبيد) هذا بأنَّه شَرِيفٌ
عَلَوِيٌّ فاطميٌّ، ولكن الخليفة العباسي عَلِم بالأمر فطارد (عبيدالله)
هذا، وأمر بالقبض عليه، فاضطرَّ حين وصل مصر إلى أن يتنكَّر في زِيِّ
التجار، ثم حاول أن يفلت من دُوَيْلات شمال إفريقيا، ولكنَّه سَقَط أخيرًا
في يد أمير (سجلماسة).
الاستيلاء على القيروان: كان أبو عبدالله الداعيَة الشيعي في هذا الوقت قد جمع قوَّاته من البحر،
وهاجم بها دولة الأغالبة التي ما لبثت أن سقطت في يده سنة 297هـ، ودخل
عاصمتها، وأخذ من الناس البَيْعَة لعبيدالله الأمير الأسير.
وما لبث أبو عبدالله الشيعي أن سار على
رأس جيوش ضخمة نحو (سجلماسة) لينقذ عبيدالله، ولمَّا أدرك صاحب (سجلماسة)
أن لا قِبلَ له بمواجهة الجيش المُغِير، هرب من عاصمته بعد أن أَطْلَق
أسيره (عبيدالله الفاطمي).
دخل عبيدالله القيروان التي اتَّخذها
عاصمة للدولة الفاطمية، وهناك بايَعَه الناسُ ولُقِّب (المهدي أمير
المؤمنين)، وصار خليفةً للمسلمين تأكيدًا لفكرة الشيعة عن أحقيَّة أبناء
علي - رضي الله عنه - بالخلافة، ولقد اعتبر نفسه المهدي المنتظر الذي سيملأ
الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جورًا وظلمًا.
الاستيلاء على دولة الأدراسة: وتوالى الخلفاءُ من نسل المهدي عُبَيْدالله، وكان منهم (المُعِزُّ لدين
الله الفاطمي) الذي أَرْسَل قائدَه الشهير (جَوْهَر الصَّقَلِّي) فأسقط
دولة الأدارسة، ووصل إلى المحيط الأطلسي، ثم مَدَّ حدوده إلى مصر وفتحها
عام 359هـ.
الاستيلاء على مصر: لقد أرسل المعز لدين الله العبيدي قائده الكبير جوهر الصقلي ليفتح مصر،
فسار في جيشٍ ضخمٍ بعد أن مَهَّد الطرق لمسير الجيش، وحفر الآبار على طول
الطريق، وأقام استراحاتٍ على مسافات معقولة في الطريق، وأحسن تدريب الجيش
وتنظيمه وتموينه بعد أن جمع الأموال اللازمة لهذا كله.
وسار الجيش إلى (الإسكندرية)، وما لبث
أن دخلها دون قتال، وأحسن معاملة المصريين، وكَفَّ جنوده عنهم، ثم سار إلى
(الفسطاط) فسلَّم له أهلها.
لقد ساعَد علي نجاح هذا الغزو ضعفُ واضطرابُ الأحوال في مصر، وكثرة الشيعة الذين عاونوا الغزاة كل المعاونة آنذاك.
وهكذا سُلخت مصر عن الخلافة العباسية، وأصبحت ولاية عُبَيْدِيَّة عام 359هـ.
بناء القاهرة:
وهنا
بدأ جَوْهَر يَعُدُّ العدة لنقل مركز الدولة الفاطمية إلى مصر؛ فبنى
للخليفة قصرًا فخمًا شمال الفسطاط، وبنى معه منازل الوُزَرَاء والجند،
وكانت هذه بداية مدينة (القاهرة).
وبعد أن تمَّ إنشاؤها دعا جوهرُ
المُعِزَّ أن ينتقل إليها، وأصبحت القاهرة عاصمة الخلافة العُبَيْدِيَّة
التي تسمي نفسها الفاطمية 362هـ؛ أي: بعد أربع سنوات من فتحها، وأمر
المُعِزُّ بمنع صلاة التراويح في رمضان، وأمر بصيام يومين مثله، وقَنَتَ في
صلاة الجمعة قبل الركوع، وأسقط من أذان صلاة الصبح "الصلاة خير من النوم"،
وزاد "حي على خير العمل... محمدٌ وعليٌّ خير البشر".
الاستيلاء على الحجاز: وما لَبِثَتْ جيوشُ المُعِزِّ أن سارت نحو الحجاز ففتحته، وأصبحت
المدينتان (مكة، والمدينة) تحت سلطان العُبَيْدِيِّين لا العبَّاسيين، كما
فَتَحَتْ جيوشُهم بلادَ (الشام)، و(فلسطين)، و(جزيرة صَقَلِّيَة)، وهكذا
أصبحت دولة العُبَيْدِيِّين تَضُمُّ (الحجاز)، و(الشام)، و(فلسطين)،
و(مصر)، وشمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي.
بداية نهاية الدولة العُبَيْدِيَّة: لكلِّ شيءٍ نهايةٌ، ففي آخر عهد الدولة الفاطمية حَكَمَها عددٌ من الخلفاء
الذين كانوا ضِعَافَ الشخصيَّة وصِغَار السن، فكان من نتيجة ذلك أن
سَيْطَر الوزراء على الدولة وأداروها لِمَكَاسِبِهم الخاصَّة، مُهْمِلِين
شؤونَ الدولة إهمالاً تامًّا.
لقد كانت ظاهرة الاعتماد على أعداء
الإسلام من اليهود والنصارى واضحةً في هذه الدولة، فمن هؤلاء كان كثيرٌ من
الوزراء وجُبَاة الضرائب والزكاة والمستشارين في شُؤون السياسة والاقتصاد،
والعلم والطب، ولقد تَرَك الخليفة العزيزُ العُبَيْدِيُّ لوزيره اليهودي
(يعقوب بن كِلِّس) أمرَ تعليم الناس فقه الطائفة الإسماعيلية التي ينتمي
إليها الفاطِمِيُّون، وهي من أشدِّ فِرَق الشيعة تَطَرُّفًا وبُعْدًا عن
حقيقة الإسلام، وقد ألَّف يعقوبُ نفسه كتابًا في فقه هذه الطائفة!!
فلا عجب إذًا أن شهدت الدولة كثيرًا من
المؤامرات والفتن والدسائس والقلاقل، فقامت ثوراتٌ داخلية وانتفاضاتٌ، وراح
الناس يستجيرون من تَسَلُّط اليهود والنَّصارى فلا يُجَارُون، وزادت
الحالُ سُوءًا بظهور أفكار دينية شاذَّة؛ كالاعتقاد بحلول روح الله في
الخليفة، وأنَّ الخليفة أعلى من بني الإنسان، وأنَّ الخلفاء إلى الله أقرب،
كما حدث للحاكم بأمر الله الذي كان له كثيرٌ من البدع والخرافات التي
أدخلها في دين الله - تعالي - وألَّهه بعضُ الناس وراح البعض ينتظر
عَوْدَتَه بعد اختفائه، وعُرِفَ هؤلاء بـ(الدروز) الذين يوجد أسلافُهم
ببلاد الشام، وكَثُرت الأمراض، وهلك عددٌ كبير من الناس، في حين كان
الأمراء والحُكَّام الفاطميون يَنْعَمُون بالثَّرَوات ويعيشون في تَرَفٍ
وبَذَخٍ.
وأسهمت المجاعاتُ والأوبِئَة - نتيجةَ
انخفاضِ ماءِ النِّيل عِدَّةَ مرَّاتٍ - في اختلال الأمن، وكثرة
الاضطرابات، وسوء الأحوال في البلاد، ولم تَرَ البلاد صلاحًا، ولا استقام
لها أمر، ولم يَسْتَقِرَّ عليها وزيرٌ تُحْمَد طريقته.
تفكُّك الدولة: أمَّا في الخارج فقد خَرَج بعضُ الولاة على الخلفاء الفاطميين خصوصًا في
شمال إفريقيا؛ مما أدَّى إلى استقلال (تونس) و(الجزائر)، واستولت الدولة
السَّلجُوقية السُّنِّية التي قامت بـ"فارس، والعراق" على معظم بلاد الشام
التابعة للفاطميين، وإلى جانب هذا كلِّه عَمِل الصليبيون في الاستيلاء على
الأراضي المُقَدَّسة؛ فاستَوْلَوا على بيت المقدس من أيدي الفاطميين سنة
492هـ، ثم أخذوا يُغِيرُون على أطراف الدولة مصر.
وهكذا أَخَذَتِ الدولة في الضَّعف حتى
جاء صلاحُ الدِّين الأيوبي، وقَضَى على الخلافة العُبَيْدِيَّة وذلك في سنة
567هـ، وانقضَّ الصليبيون فهاجموا عِدَّة مرَّات هذه الدولة التي طالَمَا
أعانتهم في بداية أمرهم على ضرب المسلمين من أهل السنة.
المبحث الخامس: دولة القرامطة: كان ابتداءُ أمر القرامطة من سنة 278 في خلافة المُعْتَمِد على الله بن
المُتَوَكِّل بن المُعْتَصِم، وقَوِيَ أمرُهم في سنة 286 في خلافة
المُعْتَضِد، واستَمَرَّ أمرُهم سنين متطاولة.
وكان أوَّل مَن ظهر منهم رجلٌ قَدِم من
(خوزستان) إلى سَوَاد الكوفة يُظْهِر الزهد والتَّقَشُّف، ويأكل من كسب يده
ويُكْثِر الصلاة، وأقام على ذلك مُ