كنَّا قد انتهينا في المقال السابق "
العنصرية والطائفية"
إلى أنَّه ينبغي عليْنا معالجة جذور المشكِلة لدى أبنائِنا؛ حتَّى ينشأ
جيلٌ يَعي خطورة العنصريَّة والطَّائفيَّة على مجتمعِه، وجعلْنا لهذا أصلاً
وهو الانتِماء إلى الدِّين، وأصَّلناه بذكر أحاديث النَّبيِّ - صلَّى الله
عليه وسلَّم - حوْل هذا الأمر، ونذكُر أيضًا قول الله تعالى: {
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولما كنَّا نؤمن بقوله تعالى: {
وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]، فإنَّه يتوجَّب علينا أن يكون أكرم النَّاس عندنا هو
أكرمهم عند الله، وهذا هو الأصْل في هذه المسألة، وبه يُرأب هذا الصَّدع.
عليْنا أن نُدرك الفرقَ بين دينِنا الحنيف وقوانين الغرْب، التي
بها يزعُمون تقدُّمهم وتحضُّرهم، فهم يجعلون تحضُّرهم في ألاَّ يتعرَّضوا
بالأذى إلى مَن خالفهم اللَّون أو الجنسيَّة، مع الاحتفاظ برأيِهم فيه
وبغضهم له، وربَّما حقدهم عليه، أمَّا ديننا الحنيف فيحضُّنا على أن يكون
المحْور الأساسي والوحيد للحُبِّ والبغض والولاء والبراء هو الانتِماء إلى
كتاب الله وسنَّة نبيِّه، بل ويُثاب المحبُّ في الله لأخيه المسلِم والمبغض
فيه لعدوِّ الإسلام، ويأثَم المبغض للمسلم بغير حقٍّ، فالإسلام جاء لإصلاح
الأنفُس إصلاحًا حقيقيًّا لا شكليًّا، حتَّى يكون المجتمع سويَّ الباطن
قبل الظَّاهر، وهو من عند العليم الحكيم، فهو أعْلم بأحوال خلْقِه وبأنَّ
أنفُسَهم البشريَّة قد جُبِلَت على هذه التَّفرِقة وبعض العنصريَّة، فلم
ينكرها أو يتنكَّر لها، وإنَّما سعى إلى إصْلاح النَّفس ذاتها اعتقادًا
حتَّى ينعكس هذا الإصلاح على الجوارِح والمجتمع، هذا بين المسلمين.
أمَّا بين المسلم وغير المسلم، فإنَّ
هذا الدِّين الحنيف لمَّا جعل الولاء والبراء والحبَّ والبغض وميزان
التَّفاضُل راجعًا إلى الدين، فقد بيَّن لأبْناء الإسلام كيف يتعاملون مع
غير المسلمين، فلم يترُك الأمر مفتوحًا لهم حتَّى يفعلوا كلَّ ما يقتضيه
البُغض، بل رسم حدودًا لهذا التَّعامل وأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه،
فالتَّعامل بين المسلمين وغير المسلمين كالتَّعامل بين المسلمين بعضِهم
البعض؛ إلاَّ في أمور قليلة، فينبغي أن نصدِّقَهم ونحفظ أمانتَهم، ونفي
بوعودنا لهم، والمحرَّم عليْنا فعله للمسلم مُحرَّم عليْنا فعله لغير
المسلم؛ بل أجاز لنا دينُنا الحنيف أن نَصِلَهُم، وأن نتصدَّق عليْهم، وأن
نعزِّيهم، وأن نعود مريضهم، هذا عمل الجوارح، ولا تعارُض بين هذا وبين عمل
القلْب والَّذي هو البغض.
يقول رسولُ الله - صلَّى الله عليْه
وسلَّم -: ((أوْثق عُرى الإيمان: الحبُّ في الله والبغض في الله))، ولكنَّه
ليس بغض حقْد عليهم؛ بل بغض على ضلالِهم وزيْغِهم وإشراكهم بالله، وإنَّ
الشرك لظلمٌ عظيم.
إنَّنا نُبغض المسلم الظَّالم لظُلْمِه لا لدينِه، ولكن ظلمه لنا لا يَحملنا على أن نظلِمَه أو أن نخون أمانته؛ بل على القصاص وحسب،
فما بالُك بمن ظَلَم أعْظَم ظلم وهو الشرك؟! فله أعظم البغض، ولا يحل لنا أن نظلمه أو نخون أمانته، فبهذِه التَّعاليم
يكون المجتمع ناضجًا فتيًّا متفاهمًا يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وإنَّنا لو
تتبَّعنا آيات كتاب الله وأحاديث النَّبيِّ المتعلِّقة بالسلوك المجتمعي،
لوجدنا فيها شفاءً لكلِّ ما يُرْهِق أذهانَنا، ويقضّ مضاجعَنا من سلبيات.