قضية المرأة
المفتاح التنصيري الفعال للتغلغل في قلب المجتمعات الإسلامية
استغلال المرأة وقضاياها من طرف المنصرين (1)
إنَّ للمرأة في المجتمع الإسلامي دورًا
بارزًا، وهو دور عَقَدِيٌّ تقوم فيه الأم بالسهر على تمكين الأجيال
الإسلاميَّة من معرفة الرسالة العقدية التي تَدِين بها، وتمريرها لهم، سواء
بقصد أم بغير قصد.
ويكون ذلك بممارسة الأم للعقيدة فكرًا
وسلوكًا؛ لتكون القدوةَ التي بواسطتها يتعلم النشْء الصغير كيف يشق طريقه
في الحياة على هُدى عقيدته[1]؛
لذا لم يغب عن المنصِّرين أهمية المرأة في المجتمع، فخصُّوها بعناية
واهتمام مميز؛ من أجل تنصيرها والتنصير بها، فقاموا بتأسيس حركة الأخوات
البيض، التي حملت مسؤولية تنصير النساء عن طريق التطبيب والتعليم والخدمات
الاجتماعية[2].
فأرسلوا الطبيبات المُنصِّرات إلى البيوت والقرى؛ للاتصال المباشر بالنساء، ولقد استغلَّ المنصر كلَّ شيء في سبيل التنصير، فحرصوا على إنشاء مدارس
للتمريض؛ لأنَّهم يَرَون أن الممرضة لا تعمل على تخفيف الألم عن المرضى
فقط؛ بل تحمل إليهم أيضًا رسالة المسيح[3].
وقد أدرك المنصرون هذه الأهمية، فخصوها بباب خاص للحديث في الكتاب الذي ترجم أعمال مؤتمر (
كولورادو)،
ويقول محمد الغزالي: "لقد كتبه المؤلفون واهمين أنَّ قضية المرأة ثغرة في
تعاليم الإسلام، يمكن النُّفوذ منها، وليست في الإسلام ثغرات مَخوفة،
وإنَّما يُخاف على الإسلام من زلل بعض المنتمين إليه، وسوء علمهم به"[4].
وقد خطَّط المُنصرون؛ لتكون المرأة هي أولى ثَغَرات الاختراق لعالم الإسلام، وذلك عن طريق تعليم الفتيات[5]؛ بل اعتبروها "
مفتاح التنصير"[6].
وقد أشاد المنصرون بفريق من المنصرات "ابتعدن عن الأسلوب التقليدي العقيم، وطبَّقن بالتدرج نظريَّة غير متوقعة تقوم على أساس أن النساء "
المفتاح"، ونتج عن هذا زرع الكتاب المقدس، بعمق وبصورة واسعة في مجتمع قروي في باكستان، لم يسبق تنصيره"[7]، كما "كانوا يهتمون بزيارة المنصرات لمنازل المسلمين، وإلقائهن المحاضرات الخاصة"[8].
واهتمامهم بالمرأة نابع من كونها الطريق المؤدي إلى الأسرة كلها[9]؛
لذا أَقْدَم المنصرون أعدادًا غفيرة من المنصرات، في محاولة إلى الاقتراب
من المرأة المسلمة، ولتحقيق هذا المبتغى أقام المنصِّرون نَواديَ نسائية،
وألَّفُوا كُتُبًا موجهة إلى المرأة المسلمة، تُحاول إبعادها عن دينها
وعقيدتها[10].
ويقول المنصرون في هذا الصدد: "بما أن الأثر الذي تحدثه الأم في أطفالها حتَّى سن العاشرة من عمرهم بالغ
الأهمية، وبما أن النساء هن العنصر المحافظ في الدفاع عن العقيدة، فإننا
نعتقد أنَّ الهيئات التنصيرية يجب أن تؤكد على جانب العمل بين النِّساء
المسلمات، بأنه وسيلة مهمَّة في التعجيل بتحويل البلاد الإسلامية إلى
النصرانية"[11].
فرفعت من أجل ذلك شعاراتٍ برَّاقةً باسم المرأة، من قبيل: "التحرير، والتكريم، والمساواة، والمطالبة بالحقوق..." [12].
فباسم التحرير، نزعت المرأة المصرية احتجاجًا على المستعمر، وفي هذا الصدد يقول محمد قطب: "في مظاهرة النِّسوة في ميدان قصر النيل،[13]
وأمام ثكنات الجيش الإنجليزي سنة 1919م، تَجمَّعت النسوة أمام ثكنات قصر
النيل، وهَتَفْنَ ضد الاحتلال، وبدون مقدمات ظاهرة، خَلَعْنَ الحجاب،
وألقين به على الأرض، وسكبن عليه البترول، وأشعلن فيه النَّار، وتحررت
المرأة!"[14].
ويقول فروخ والخالدي عن ردِّ فعل المنصرين على حركة التحرير في كتابيهما "
التبشير والاستعمار في البلاد العربية":
"صفق المبشرون باليدين؛ لأنَّ المرأة المسلمة قد تخطَّت عتبة دارها، لقد
خرجت إلى الهواء الطلق، لقد نزعت عنها حجابها؛ ولكنهم لا يصفقون لأنَّ
المرأة المسلمة قد فعلت ذلك، بل لأنَّ فعلتها هذه تتيح للمنصرين أن
يتغلغلوا عن طريقها في الأسرة المسلمة بتعاليمهم التبشيرية" [15].
وتكفي الإشارة في هذا الجانب أن موضوع تحرير المرأة "دخل مرحلة جديدة
ومنظمة، بعد هذه الحادثة؛ بتشكيل اللِّجان النسائية بعد اجتماعٍ للسيدات في
الكنيسة المرقصية في 8 يناير 1920م"[16].
وقد ابتكر المنصرون وسيلة للإيقاع بالفتيات اللاتي يتعرضن لأزمات عائلية أو اقتصادية وتنصيرهن، وقد لَخَّص هذه الوسيلة مُؤتمر قسنطينة التنصيري الذي انعقد في الجزائر
بما يلي: "إنَّ الحاجة الملحة والمستعجلة لنا في إنشاء بيت أو بيوت للفتيات
المطلقات، وللأرامل، والصغار، ويجب أن تكون هذه البيوت مؤسسات كبيرة؛ بل
أماكن يخيم عليها الجو العائلي، ثم تفرق النساء فيها حسب أحوالهن وحاجاتهن،
وأخيرًا نرى أمْثالَ النسوة يكن في أثناء مكوثهن في هذه البيوت تحت تأثير
الإنجيل، ثم إنَّنا نختار منهن أولئك اللاتي يُرجى أن يَمْرُنَّ أكثر من
غيرهن، ليكن بدورهن مُنصرات بين قومهن"[17].
ولم يكن غريبًا أن يصرح "
زويمر"
في مؤتمر القاهرة سنة 1906م: "أن الغرض من التبشير ليس التنصير فقط، ولكن
ما يجب على المبشر عمله هو تفريغ القلب المسلم من الإيمان بالله، وأشار إلى
أن أقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسنا، بكل الوسائل
الممكنة؛ لأنها هي التي تتولى تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات
دينه"[18].
ومن التجارب التي قامت بإجرائها بعض المنظمات التنصيرية على النِّساء
خاصة؛ لاختبار عملها التنصيري، أثناء احتلال فرنسا للجزائر، ومن أجل القضاء
على القرآن في نفوس شباب الجزائر، قامت فرنسا بتجربة عمليَّة، فتم اختيار
عشر فتيات جزائريات مسلمات من قبل الحكومة الفرنسية، وأدخلتهن في مدارسها،
ولقنتهن الثقافة الفرنسيَّة، وعلمتهن اللغة الفرنسية، وألبستهن الثياب
الفرنسية، فأصبحنَ كالفرنسيات تمامًا، وبعد أحد عشر عامًا من الجهود هيَّأت
لهن حفلة تخريج رائعة، دُعِيَ إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما
بدأت الحفلة فُوجئ الجميع بالفتيات الجزائريَّات يدخُلْنَ بلباسهن الإسلامي
الجزائري، وكأنهن يُعلنَّ للمنصرين عدم نجاح عملهم التنصيري، فثارت ثائرة
الصحف الفرنسية وتساءلت:
ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذًا بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عامًا؟[19]، فأجاب لكوست - وزير المستعمرات الفرنسي - بحسرة: "
وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا"[20].
لقد كانت إرادة الغرب في هذا المضمار قويةً، تجسدت في الرغبة الأكيدة في نزع الطابع الإسلامي عن البلدان الإسلامية،
وإضفاء الطابع النصراني عليها، ويكفي التذكير في هذا الصدد بالأوامر
الصارمة للقائد "
روفيقو" لتحويل أجمل
مسجد في مدينة الجزائر إلى كاتدرائية، فسارعت قُواته إلى تنفيذ هذا
المخطط، فحاصرت المسجد بتاريخ 18 ديسمبر 1832م، وهو غاصٌّ بالمصلين، فنزلت
عليهم بالفؤوس والرماح، فاستشهد منهم أربعة آلاف مسلم جزائري، كانوا
مرابطين بالمسجد، وتَحوَّل المسجد إلى كاتدرائية[21].
ونفس الأمر بالنسبة لمسجد صالح باي، وهو أجمل مسجد بقسنطينة، وحُوِّل بدوره إلى كنيسة، وقد جلب إليها القِسُّ "
سوشيه"
منبرًا كان آية في النقش العربي من أحد المساجد، وعلى درجات هذا المنبر
قام سكرتير الحاكم العام بيجو خطيبًا، فقال: "إنَّ أيام الإسلام الأخيرة قد
حلَّت، ولن تمضيَ مدة عشرين سنة حتَّى لا يبقى للجزائر من إله سوى المسيح"[22].
هذه فقط شذرات صغيرة مما يحاك في السر والعلن ضِدَّ المرأة المسلمة،
أحيانًا لا ندركها تمام الإدراك إلا حين نصطدم بها في أرض الواقع، من
تمثلات وقيم، ومن خلال عادات وتقاليد.
ا
لشيء الذي يفرض ضرورة علينا الوقوف بجِدٍّ أمامها، والعمل
على رَصْد السبل والخطط التي يسلكها - أو بالأحرى يستغلها - المنصرون
للوقوف في وجهها بحزم، ولرد كيد الكائدين، وعدوان الظالمين.
وهو ما سنحاول بيانه في المقال الثالث الآتي، بحول الله ومنَّته.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] "جوانب من الغزو الفكري المعاصر"، محمد أمين السماعلي، م س، ص: 192، بتصرف.
[2] "الجزائر أحفاد طارق بن زياد في قبضة التنصير".
[3] "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، عمر فروخ، مصطفى خالدي، م س، ص: 64.
[4] "صيحة تحذير من دعاة التنصير"، محمد الغزالي، م س، ص: 126.
[5] "الغارة الجديدة على الإسلام"، محمد عمارة، م س، ص: 199، بتصرف.
[6] المرجع نفسه، ص: 201.
[7] "التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي: تقرير المؤتمر"، لـ " أثر .ف. كلاسر"، م س، ص: 54.
[8] "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، عمر فروخ، مصطفى خالدي، م س، ص: 64.
[9] "الغارة على العالم الإسلامي، (أ.ل. شاتليه)، م س، ص: 34.
[10] "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، عمر فروخ، مصطفى خالدي، م س، ص: 203.
[11] "التنصير في الخليج العربي"، عبد العزيز بن إبراهيم العسكر، م س، ص: 64.
[12] "التبشير وقوى الاستنارة في مصر"، عبد الرحمن جيرة، ص: 88.
[13] ميدان قصر النيل: هو ميدان التحرير حاليًّا بالقاهرة، وبه مقر الجامعة الأمريكية.
[14] "واقعنا المعاصر"، محمد قطب، ص: 258.
[15] "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، عمر فروخ، مصطفى خالدي، م س، ص: 192.
[16] "الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر"، محمد محمد حسين، 2/25.
[17] "أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها"، عبد الرحمن الميداني، م س، ص: 71- 72.
[18] المرجع نفسه، ص: 74.
[19] "مقدمة مجلة الشهاب"، عبد الرحمن شيبان، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، السنة: 2000، ص: 59-60.
[20] "العمل التنصيري في العالم العربي: رصد لأهم مراحله التاريخية والمعاصرة"، عبدالفتاح إسماعيل غراب، مكتبة بدر، السنة: 2007، ص: 95.
[21] "مقدمة مجلة الشهاب"، عبد الرحمن شيبان، م س، ص: 58.
[22] "مقدمة مجلة الشهاب"، عبد الرحمن شيبان، م س، ص: 58.