نُحاول في هذا المقال مُراجعة مصطلحٍ قامَتْ عليه أبْحاثٌ كثيرة؛ لبناء
مشروعٍ إصلاحي يَهْدف إلى بَعْث الأُمَّة فكريًّا وعِلْميًّا، تصَدَّر
لنشْره الْمَعهدُ العالَميُّ للفِكْر الإسلامي، تحت عنوان "
أسلمة المعرفة" أو "
إسلاميَّة المعرفة"، غير أنَّه في المقال لا يُناقش الْمشروع وخطواته، بل المصطلح الذي أُطْلِق عليه.
مفهوم مشروع أسلمة المعرفة:أصبحَتْ إسلاميَّةُ المعرفة واحدةً من
القضايا الرئيسة للبحث الأكاديمي، وتلمس أهَمِّية القضية من البحوث
والدراسات العديدة الْمَنشورة في المجلاَّت والكتب، "ولعلَّ أبرز
الاجتهادات الرَّامية لتطوير منهجيَّةٍ معرفيَّةٍ إسلامية رسالةٌ بعنوان
"إسلاميَّة المعرفة: المبادئ وخُطَّة العمل" لإسماعيل الفاروقي، منشورةٌ بالإنجليزيَّة، وترجَمها للعربية أبو سليمان
وطه جابر العلواني، وأرجعَتِ الرِّسالةُ تَخلُّفَ الأُمَّة إلى عامِلَيْن:
الازدواجيَّة التعليميَّة، المتمثِّلة في الانقسام بين اتِّجاهَيْن؛
الإسلامي والعلماني من جهة، وانعدام الرُّؤية الواضحة لتوجيه الفعل
الإسلامي في الاتِّجاه الصحيح من جهةٍ أخرى"[1].
وأوكلَ طرْح الرِّسالة حلَّ الإشكال
للأساتذة والعلماء ذَوِي الإلْمام بعلوم الدِّين وعلوم الدُّنيا؛ بُغْية
الوصول لتحقيق تكاملٍ معرفي بين الدِّراسات الشرعيَّة والإنسانية، بين
العُلوم الحديثة والتُّراثية.
أمَّا المجال العمَلي للمشروع، فيكون
بإنتاج كتب أكاديمية في مختَلِف التخصُّصات المعتمَدة اليوم، بَيْدَ أن
التَّكامُلَ المعرفي لا يكون بامتزاج التُّراث الإسلاميِّ مع الفكر
الغَرْبِيِّ، بل بِرَصْد مَجموعةٍ من الضوابط لِخَلق منهجٍ يوجِّه العلوم
برؤية إسلاميَّة، لِخِدْمة الدِّين لا لِمُعاداته؛ أيْ: طَرْح النَّتائج
العِلْميَّة الحديثة بِصِيَغ متكاملة مع الدِّين وفق معايير علميَّة، فتكون
للاستشهاد بِها له لا عليه، كما حاول دُعاة العلمنة والإلْحاد من قلب
الحقائق العلميَّة بِمَفاهيمَ مُعاديةٍ للأديان.ورصد لذلك مبادِئ أوليَّة تحت عنوان "الْمبادئ الأوَّلية للمنهجية الإسلامية"،
وهي تشكِّل الإطار العامَّ الموجِّه لعملية الأسلَمَة، فيجب على إسلاميَّة
المعرفة أن تلتزم بِما هو مِن جوهر الإسلام، في الوقت الذي تتفادى فيه
الزلاَّت المنهجيَّةَ التقليدية؛ ذلك أنَّ إعادة ترتيب التخصُّصات الحديثة
في إطارٍ إسلامي، يتطلَّب إخضاعَ نظريَّاتٍ وطرائقها وأسُسِها إلى المبادئِ
الكُلِّية الآتية: وَحْدة الْخَلْق، وحدة الْمَخلوق، وحدة الحقيقة، وحدة
الحياة، وحدة الإنسانيَّة، وهي مبادِئُ تُشَكِّل نظريَّة الوجود[2].دلالة مصطلح أسلَمَة المعرفة:غلب على المشروع مصطَلَحان: إسلاميَّة المعرفة، وأسلَمَة المعرفة.
ومصطلح
"أسلمة الْمعرفة" من المصطلحات الحادثة، يُنسَب في الغالب للمعهد العالَميِّ للفِكْر
الإسلامي، وقيل: إنَّه للدُّكتور إسماعيل الفاروقي - رَحِمه الله - وهو من
كبار مؤسِّسي الْمَعهد والمنهج القائم عليه، أمَّا مصطلح "
أسلمة"
فهو من الألفاظ الشَّائعة في الدِّراسات الغَرْبية وكتابات المستشرقين،
والمراد منه إدخال النَّاس للإسلام، أو تَحْويل الفكر من منهجٍ ما إلى
منهجٍ قائم على الإقرار بشرائع الإسلام، كقولِهِم: "
أسلمة أوربا"، "
أسلمة الجامعات"، "
أسلمة العقل".
وجه الاعتراض على مصطلح "أسلمة المعرفة":لَم يَجْر هذا الْمُصطلح ولا أخواته على لسان العلماء الْمُسلمين، ومثله أنْ يقول أحَدُهم: "
موقف الإسلام من كذا"، "
هذا لا يُعارض الإسلامَ"،
فهذه مصطلحاتٌ وتراكيبُ دخيلةٌ، لا أصل لَها في لغة العلم؛ إذْ "هناك عددٌ
من الأساليب المولَّدة الْمعاصرة، منها ما هو صادِرٌ عن حُسْن نيَّة؛
لِتَحبيب الإسلام إلى نُفوس الشَّباب، ومنها ما هو استِجْرار بلا تَفْكير؛
لِيُظهر قائلُه فضْلَ اطِّلاعه عليه، ومنها ما هو عن سوء سريرةٍ؛ لِهَضم
الإسلام، وكسْرِ حاجز النفرة بينه وبَيْن المذاهب والتموُّجات الفكريَّة
الْمُعاصرة، وعلى أيٍّ كان السبب؛ فإنَّ الإسلام: لباسٌ وحقيقة، ولباسُ
التقوى خَيْر، فيتعيَّن على المتكلِّم والكاتب والمؤلِّف ألاَّ يضغط على
عَكَدِ اللِّسان، ولا يَجْعل من القلم على القرطاس، إلاَّ فيما يتَّسِع له
اللسان الشرعيُّ المطهَّر.
والكاتبان أنور الجندي ومحمد بن محمد حسين
لَهما فضل كبيرٌ بعد الله تعالى في بيان ذلك في تضاعيف مؤلَّفاتِهما، ومن
الألفاظ قولُهم: اعتزاليَّة الإسلام، وأشعريَّة الإسلام، وديمقراطيَّة
الإسلام، واشتراكيَّة الإسلام، ورَأْي الإسلام، وموقف الإسلام... وهي
ألفاظٌ شائعة في أُخريات القرن الرَّابع عشر الْهِجري، وهي مرفوضة شرعًا،
وهكذا كانت فوضى الاصطلاحات"[3].
وغالِبُ من حشروا هذه الألفاظَ في معجم
الكلام؛ لم يُشهد لَهم بالعِلم، بل جهلوا لغتَه؛ فتكلَّفوا ما ليس منه،
فأقحموا في العقيدة غريبَ الألفاظ، وفي الفقه عجائبَ الكلم، أمَّا في الفكر
ففَركوه، وإن استرشد طالبٌ قيل: مَجاز، وإن أنكر عالِمٌ قالوا: متشدِّد،
قديم المزاج؛ إذْ "يُحاول بعض المفكِّرين - كلَّما أراد أن يصبغ ما أتى به
بالشَّرعية الدينيَّة - حياكةَ مصطلحاته من التراكيب بإضافة (
إسلامي).. منها قولُهم:
"أسلمة العلوم"، و
"أسلمة المعرفة"، وقولُهم:
"أسلمة الطِّب" وهكذا.. وهذا استعمال مولَّد حادث، لا أحسبه في لسان العرب، ولَم تَفُه به العلماء، وهو من لغة الجرائد، وأقلام أحلاس الْمقاهي.
فهم بذلك يريدون جعل العلوم: "
إسلاميَّة"، واشتقاق هذه المادة من "
سلم"؛ ومنه "
الإسلام"، بِمَعنى الصحَّة والعافية، يأبى عليهم هذا اشتقاقًا ونَحتًا، يأبَى المنحوت،
ومن أين كان نَحتًا؟! والعلم هو العلم، والحقائق هيَ هي، والعلم الشرعي يرفض الدَّخَن
والدَّخَل، فإنْ وُجدَ العالِمُ المسلِمُ، قُدِّمَت العلوم والمعارف
الإسلاميَّة"[4].
وقال الشيخ رمضان سعيد البوطي: "أسلمة
النَّفْس؛ لا أسلمة الْمَعرفة، غيْر أنَّ هذه الحقيقة وإنْ كانت ثابتةً دون
رَيْب، لا تستدعي رفْعَ ذلك الشِّعار الذي قد يَخْطر بالبال لأوَّل وهلة،
وهو
"أسلمة الْمَعرفة"؛ ذلك أنَّ
الإسلام لا يتطلَّب أكثَرَ مِن أن تكون المعرفةُ معرفةً صحيحة، صافيةً عن
الشَّوائب، وبعيدةً عن التحيُّز إلى أيِّ جهة قد تُبْعِدها عن ميزاتِها
العِلْميَّة الْحِياديَّة، إنَّ التعبير بِـ
"أسلمة المعرفة" يوحي بِفَرض تَحيُّزٍ ما على النَّشاط المعرفي للفِكْر، وهو ما تنأى عنه طبيعةُ منهج المعرفة من حيث هو"[5].
دواعي الاعتراض:من أهمِّ مستلزمات الْمَنهج العلميِّ في التفكير العنايةُ بالْمُصطلحات وفَهْم لغة العلوم، قال - تعالى -: ﴿
قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 14]، فرفع عنهم الله مسمَّى الإيمان،
وأثبت لَهم مسمَّى الإسلام؛ لانْتِفاء شروط الإيمان فيهم، فألزمَهم الوصف
المناسب لِحالِهم؛ وأرشدهم لِما يوصلهم إلى وَصْف الإيمان.
وقال - تعالى -: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104]، فالصَّحابة حين خِطابُهم للرَّسول لدى تعلُّمِهم أمْرَ الدِّين، كانوا يقولون له: "
راعِنا"؛ أيْ: راعِ أحوالَنا، ومُرادُهم صحيحُ المعنى، سليم النِّية، أمَّا اليهود حالَ قولِهم للرَّسول: "
راعنا"؛
أرادوا بِها معنى فاسِدًا، فنَهَى الله - تعالى - صحابةَ الرسول عن هذه
الكلمة؛ والنهي هنا الْمُراد منه سَدُّ هذا الباب، ويُفهم منه "ا
لنَّهي عن الجائز؛ إذا كان وسيلةً إلى مُحرَّم"،
وفيه هدايةٌ إلى الأدب، واستعمال الألفاظ التي لا تَحْتمل إلاَّ الْحُسْن
وعدم الفحش، وتَرْك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوعٌ من التشويش، أو
احتمالٌ لأمر غَيْر لائق.
فاللَّفظ حين يُقال تكتَنِفه ظروفٌ،
ومُلابسات، وبيئات، وأزمان، وأفكار، ومواقف، وتَخصُّصات، هي التي تُحدِّد
المراد منه في غالب الأمر، فإذا أُخِذ مُجردًا أوقع صاحبه في الْخَلل
والتخبُّط، وأوداه في مغبَّة سوء الفهم.
والمصطلح يفهم بِما تَواضَع عليه أهْلُه،
والعناية بالمصطلحات جزءٌ من ضابط علميٍّ يُوسَم به الباحث الْمُسلم؛ وهو
التثبُّت قبل إصدار الْحُكم، وفَهْم اللُّغة التي يتحدَّث بِها الآخَرون.
ذلك أنَّ الناس لَهم من ألفاظهم مُراداتٌ
حيَّة ينطقون بِها، وليس من المنهجيَّة العلمية التي جاء بِها القرآن
الكريم أن يُهاجَموا أو تصدر عليهم الأحكام، قبل التثبُّت من مصطلحاتِهم
التي يتفوَّهون بِها؛ لكون اللِّسان والنُّطق مِغْرافًا لِما في ضمير
المتحدِّث؛ إذْ "غالِبًا ما يثير الاستخدامُ العامُّ للمصطلحات الفلسفيَّة،
والعلميَّة، والْمُفردات اللُّغوية - لبْسًا لدى الباحثين في مُحاولاتِهم
التعرُّف على خصوصيَّة فلسفةٍ ما، ومصدر اللَّبس أنَّ الأفكار الفلسفيَّة
وهي تُنْشِئ نسيجها المنهجيَّ الخاصَّ بِها، تضطرُّ إلى استخدام نفسِ
المصطلحات والمفردات الشَّائعة التداول؛ للتعبير عن دلالاتٍ معيَّنة في
مَجال البحث، غير أنَّ هذه الدلالات - وهنا مصدر اللبس - إنَّما ترتبط
بالمضمون الْمَعرفي للفلسفة التي أنتجَتْها، وكذلك دلالات الألفاظ
والمفردات؛ إنَّما ترتبط باللُّغة التي أنشأَتْها، في إطارِ حقْلٍ ثقافي
تاريخيٍّ معيَّن؛ أيْ: إنَّ دلالة الألفاظ ترتبط بتصوُّر ذهني معيَّنٍ
للشيء الْمُشار إليه، وليست مُجرَّد علامةٍ عليه، وإشارة إليه"[6]،
و"استعمالُ الْمُصطلحات الخاصَّة ذو تأثيرٍ إيجابِيٍّ في بُحوثِ أهل
الفنِّ؛ لأنَّ استعمال المصطلحات بالنسبة للمتخصصين يساعد على الاختزال
والإيضاح، والمصطلح الواحد قد يُستعمل في معانٍ متنوِّعة في العصور
المختلفة للفكر البشري..."[7]؛
لذلك كان ضبْطُ مصطلحات كلِّ فنٍّ مُهمًّا لدخوله وسَبْر أغواره، وإلاَّ
كان القارئ كالتَّائه لا يدري أين يسير على حَزن أم سَهْل، وحَمَّل
المؤلِّفَ ما لا يَعْتقد.
وليس بغريبٍ أنْ "تلعب المصطلحاتُ دورًا أساسيًّا ومِحْوريًّا في أشكال الإبداعات الفكريَّة كافَّة، وما
يتَّصل بِها من مُحاورات ومطارحات، وكلَّما اتسعت الرُّؤية، وتشعَّبَتْ
منافذ الحديث، وتعقَّدَت القضايا، ازدادَتْ خطورةُ الْمُصطلحات، حيث يُمْكن
لها أن تُجلِّي الحقائق، وتَخْتزل المعاني بِبَراعة؛ لِتركزها في الذِّهن،
وتَضْبط قواعد الحوار الفكريِّ وآدابَه، كما أنَّها من جانبٍ آخَر
يُمْكِنها أن تزيد الإشكاليَّاتِ تعقيدًا، وأن تكون عامِلاً من عوامل
تَغْييب الرُّؤية، واضطراب قواعد الحوار الفكريِّ وآدابه"[8].
بل إنَّ مِن خطرها - في زمن الصِّراع
العقَديِّ والفكري والثقافِيِّ بين الأُمَم - أنَّها يُمكن أن تزاحِمَ
المصطلحاتِ الأصيلةَ للأُمَّة المسلمة، في مناحي حياتِها شتَّى؛ لتُحاول
ترحيلها من السَّاحة العِلميَّة والثقافية للمسلمين شيئًا فشيئًا؛ تَمهيدًا
لترحيل ما تعبِّر عنه من معتقَدٍ، أو فكر، أو خلُقٍ إسلامي أصيل.
منهجية التعامل مع المعارف وخبرات الآخرين:تلقِّي المعرفة المتكاملة يكون من
مَصادرها، فلِكُلِّ معرفةٍ وحْيِيَّة - على اختلاف فروعها - مصادِرُها التي
تُؤْخَذ منها، ولكلِّ معرفة بشريَّة - على اختلاف فروعِها - مصادِرُها،
فنجد القرآنَ الكريم يرشد إلى المصادر حالَ الاستفسار ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7].
وأهل الذِّكْر هم أهل التخصُّص في أيِّ
جانبٍ من جوانب المعرفة، وهذا مبنِيٌّ على عموم لفظ الآيِ، لا على خصوص
السَّبب، فسبَبُ الإشكال كان حول
هل يكون الرُّسل من البشَر؟ فأحالَهُم الله إلى أهل الاختصاص في هذا، وهم أهل الذِّكر؛ قيل: هم أهل
القرآن، وقيل: أهل التَّوراة والإنْجيل، والإحالة لأهل القرآن بعيدٌ؛
لأنَّهم خَصْم، والقرآن مَحلُّ نزاعٍ عند مَن استَشْكلوا، وهم كُفَّار
قريش؛ لذا كان الأَوْلَى غيْرهم من أهل الاختصاص، وهم علماء اليهود
والنَّصارى، ما دامت منافِعُ معرفتهم مشروعة.
فمصادر المعارف كتبُها وعُلَماؤها، فأهل
الفنِّ أدْرَى من غيرهم بِمَسائله، ومن تكلَّم في غير فنِّه جاء بالعجب؛
فأَخْذُ المعارف عن المتطفِّلين، أو البحْثُ عنها في غيْر مواردها، ضرْبٌ
من التَّعتيم، وبَحْث في الظَّلام، حتَّى ترى أحدَهم يعقد قلبه على
مناماتٍ، ويُفْتِي بالرُّؤى، ويقضي بالأذواق، ويَحْكم بالكشوفات، فكلُّ هذا
وذاك؛ يُنافي أبسط قواعدِ القرآن العلميَّة؛ التي تؤكِّد على الإسناد في
الرِّواية لضَبْط حركة المعرفة، وتلقِّيها من أصولِها، وغَرْفِها من أهلها.
فإنْ كانت المعرفة مادِّيَّة كان العَوْد
إلى أهلها فيها أحقَّ من غيْرِهم، والتَّفكير في مَجالها بأدَواتِها،
ومناهجها التي تَفِي بالغرض؛ للحصول على نتائج صحيحة، فكان الوقوفُ على
الحضاراتِ وعلومها ومعارفها المتراكمةِ من طرُقِ الأخذ عنهم؛ لتوسيع
الْمَدارك، والاستفادةِ من الإبداعات، ما لَم تُعارض نصًّا، أو تُنافي
شرعًا للمسلمين.
فترى في القرآن النبِيَّ الرسولَ وكليمَ
الله موسى - عليه السَّلام - يتعلَّم مِمَّن هو أقَلُّ منه شهرةً ومَنْزلة؛
الْخَضِر - عليه السَّلام -: ﴿
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66][9].
وابن آدم العاقل يتعلَّم من الغراب غَيْر العاقل: ﴿
فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31].
بل إنَّ الْمَولى - سبحانه - أقرَّ كلامَ الْمَلِكة بلقيس قبل إسلامها، حكى عنها: ﴿
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ﴾ [النمل: 34]، قال - سبحانه -: ﴿
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 34].
فالمنهجيَّة العِلمية الواعية تَلْتقط
الصَّواب من كلِّ أحد، ما دام خيْرًا لا يُصادِم ما هي عليه، بِغَضِّ
النَّظَر عن صفاتِ قائلِه، وخصائص مصدره، لكن يجب التَّأكيد على أنَّ الأخذ
من الغَيْر له ضوابِطُه، فمَخاطِرُ الأخذ عن الآخَر لا تقودنا إلى "عدَمِ
القدرة على التَّمييز بين الغَزْو الثقافي والتَّبادُل الْمَعرفِي...
وإقامة هذا الحاجز من تخوُّف الغزو الثَّقافي، حرَمَ العقْلَ الْمُسلم
الكثيرَ من المعارف، وارتياد الآفاق التي تُمكِّنه من اختصارِ فَجْوة
التخلُّف، والْمُساهَمة في التغيير الحضاري"[10].
شُمولية ووحدة المعرفة:تتَّضِح جلِيًّا في سورة العلق، والمتأمِّل للآية الأولى: ﴿
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، فالآية صدرت بفعل الأمر ﴿
اقْرَأْ ﴾، والفاعل ضمير مستتر تقديره (
أنت)؛ الناس جَميعًا، مؤمنهم وكافرهم، بارُّهم وفاجِرُهم.
والمفعول به هنا غير مذكور، لماذا؟ الجواب
هنا يتضمَّن نكتة تربويَّة مستنبَطَة من قاعدة لُغويَّة، هي: أنه حين يوجد
الفِعْل والفاعل ولا يوجد المفعول بِه، يكون القصْدُ إرادةَ العموم، ومن
أمثلة ذلك ما قاله الزَّمَخشري في
"كشَّافه" عند قوله - تعالى -: ﴿
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، قال:"فإنْ قلت: كيف قال: ﴿
خَلَقَ ﴾، فلَم يذكر له مفعولاً؟ قلتُ: على وجهَيْن: أحدهما: أن يقدَّر، ويراد خلَقَ كلَّ شيء، فيتناول كلَّ مَخلوق"[11].
وهذا ينطبق على قوله - تعالى -: "
اقرأ"، فليس في الآية مفعولٌ به؛ مِمَّا يدلُّ على إرادة عموم القراءة، "
والأمر بالقراءة يقتضي مقروءًا"[12]، وهنا يكون لِمَعنى المقروء مفهومٌ يَشْمل كلَّ المعارف الْمُنتجَة عن القراءة؛ دنيويَّة كانت، أو دينية.
غير أنَّ القراءة ليست مطلقة العنان بلا ضوابط، إنَّما هي محدَّدة المنهج، ودليل هذا قوله: ﴿
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، قال القرطبِيُّ: "الباء في قوله - تعالى -: ﴿
باسم ربك ﴾ بِمَعنى (
على)؛ أيْ: اقرأ على اسم ربِّك"[13].
فتكون القراءةُ وفْقَ مرادِ الله تعالى،
لا على ما تريد أهواءُ الناس؛ فالحقُّ لو سايَرَ رغباتِ البشر لَهلكَتِ
الأرض ومَن فيها، فالقراءة هنا ربَّانية في المبدأ والوسيلة والغاية، وهذا
ينفي الانْحِرافات العنصريَّة، والتقليدَ الأعمى، والتعصُّبَ للعِرْق، أو
الجنس، أو التوجُّه، أو الفكر، فالقراءة هنا تكتسب بُعْدَ العالَميَّة؛ من
كونِ الرِّسالة الأولى المأمور بقراءَتِها وتبليغها موجَّهةً للعالَم
كُلِّه، شاملةً لكلِّ حاجِيات الناس كافَّة في حالِهم ومعادهم.
وتعليل حصْرِ منهج القراءة بالربَّانية كان في قوله - تعالى -: ﴿
الَّذِي خَلَقَ ﴾، فهو ربُّكم خالقكم وسيِّدُكم، وهو العالِمُ بِما خلق وما يُناسبه، فكان
ذا شرعيَّةٍ في تَحْديد المنهج، فإنْ زعَمَ قائلٌ أنَّ ذاك محصورٌ مسلَّمٌ
به في علوم الشَّريعة، لكن لا نُمرِّره على العلوم الإنسانيَّة
والطبيعيَّة بتشعُّباتِها؛ فالإنسان في هذا الزَّمان بلغ من الرُّشد ما
يؤهِّله إلى تَحْديد مصيره بعيدًا عن الأوامر السَّماوية، والوحي لا شأن له
بعلوم الطَّبيعة والتكنولوجيا والعلوم الدَّقيقة، والتسليم بذلك دونه
خَرْطُ القتاد!
هنا يقع لَبْس في فَهْم معْنَى القراءة
الربانيَّة، وذاك راجع لِفَهمٍ قاصرٍ للرسالة السماوية أصلاً، وخللٍ في
استيعاب مفهوم مصطلح الدِّين.
فالجواب الأوَّل كان عقليًّا، فعَرَف كلُّ عاقل أنَّ الصانع أعلم بالْمَصنوع، وهذا يشمل عِلْم الخالق بِما خلق: ﴿
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؟!
ثم إنَّ البشرية ذاقَتِ الويلات؛ من
جرَّاء تَجرُّؤ النَّاس على معارضة الأوامر الإلَهيَّة، فشَقِيَتْ بقراءات
البشَر على غير المناهج الربَّانية، وانتكسَتْ في حَمأة الفساد، وغاصَتْ
فيها إلى الآذان.
أمَّا علوم الدُّنيا من صناعاتٍ وزِراعات،
فالدِّين يَشْملها بأن يوجِّهها إلى سبيل استعمالِها في خيْرِ الناس، لكن
لا يتدخَّل في تطوُّرِها، ولا يُحدِّد أساليبَ البحث فيها، إنَّما هو
قانونٌ يوجِّه نتائِجَها، ويُكْسِبها الشَّرعية في وسائلها، ويُرْشِدها إلى
الغاية الكُبْرى، غيْر أنَّه لا يتحدَّث عن كيفيتها، فذاك مُباحٌ للنَّاس؛
لذا قرَّر العلماء حتَّى في أحوال الناس الاجتماعيَّة أنَّ أعرافهم شرْعٌ
مُنَزَّل ما لَم يُخالف الشَّرعَ، وشؤون دنياهم من طرق وأساليب الزِّراعة
والصناعة هم أعلم بِها.
فالدِّين له مقامُ الفاصل، ثُمَّ يكون
مقام الدُّنيا بِحَركتها وتطوُّرِها، فالدِّين يُحدِّد شرعيَّة الطِّب
والعلاج واستعمال الدَّواء، لكن لا يُشخِّص الأمراض ويَصِف الدواء؛ لأنَّ
هذا مَجال الطِّب، لا مَجال الشرع.
والبحث في تاريخ وأحوال الأُمَم؛ من
عمران، وأساليبِ العيش، والتراكيب الاجتماعيَّة، والتدبُّر في الأنفس،
وتزكية الأخلاق، كلُّها وردَتْ في القرآن في أحَدِ مَحاورِه الْهامَّة، وهي
القَصَص: ﴿
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]، ﴿
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
فكان على الأُمَّة أن تقرأ في العلوم
الإنسانيَّة؛ لِتُصحِّح ما علِق بِحياتِها من فسادٍ، وتَحْذر من التصوُّرات
التي أهلكَتْ مَن قبلها، كما في سورة يوسف، فنجد فيها ذكر أحوال الآباء مع
أبنائهم، والتنبيهَ على خطورة الحسد والشِّقاق بين الإِخْوة، ومسألة
المَحارم بيْن امرأة العزيز ويوسف، وحال الطَّبَقة الحاكمة في القضاء
لَمَّا فضحَتِ امرأة العزيز، وكيفية اختيار القاضي والمُحقِّق، والوزير
والكفاءات، وكلها تُنْبئ عن التركيبة الاجتماعيَّة في تلك الحِقْبة من
الماضي، كما نبَّهَت السُّورة على أحوال النَّفس الأمَّارة بالسُّوء،
وطِبَاع النِّساء والرِّجال، وغيرها؛ من حسَدٍ، وكظْمٍ للغيظ، والمكر،
والرَّحمة، والاستغلال، والعَفْو حال المقدرة.
وفي هذا إرشادٌ صريح إلى دراسة العلوم
الإنسانيَّة؛ لِفَهْم الآخَر والظواهر البشرية، فكان في هذا المثال دليلٌ
على الجواز، والاستحباب؛ لفهم النُّظُم والتراكيب داخلَ أيِّ مُجتمع، وبه
فتح باب العلوم الإنسانيَّة كلِّها.
فالحاجة الماسَّة إلى القراءة في مثل هذه
العلوم، راجعةٌ كذلك إلى خطورة ما ورد على هذه العلوم من الغَرْب في
قوالِبَ لا تُناسب أهل الإسلام، فالنَّقد الأساسيُّ الذي يوجَّه للعلوم
التَّربوية والنفسيَّة والاجتماعيَّة أنَّها نشأَتْ في بيئاتٍ جاهليَّة
علمانيَّة لا دينَ لَها، جعلَتِ الإلْحاد منهجيَّةً ينطلق منها، وإنْ
سلَّمْنا بصِحَّة بعْضِ ما فيها لن نَرْكن إلى صحَّة جُلِّ ما يَنْتج عنها،
وهذا يُلْزم الأُمَّة بناءَ حصانتها العلميَّة من مصادرها؛ كيما تصفي
الغثَّ من السَّمين حال انتفاعها بعلوم غيرها، فتأخذ ما ينفعها ويناسبها،
وتَردّ ما ليس منها.
كما أن المتدبِّر لكتاب الله - تعالى - يَجِد العلم فيه يدور في الغالب على مَحاورَ ثلاثة، لا يكاد يتجاوَزُها إلى غيرها:أوَّلُها: ما يتعلَّق بتوحيد الله - تعالى - في ربوبيَّتِه وألوهيته، وأسمائه وصفاتِه، وما يتعلَّق بِها من قضايا العبادة.
وثانيها: ما يتعلَّق بقضايا الكون، وما أودع الله فيه من الحِكَم والأسرار، وما
يَحْكمه من سنن وقوانين ونواميس، يسير من خلالِها في دِقَّة متناهية.
وثالثها: ما يتعلَّق بأحوال الأُمَم من حيثُ منظومةُ علاقاتِها بالخالق والمخلوق.
"وكلُّ بُعْدٍ من هذه الأبعاد تتعلَّق به علومٌ متخصِّصة:فالبُعْد الأول: تتعلَّق به علوم الشَّريعة على اختلاف تَخصُّصاتِها، على أن يكون بين
المسلمين من هذه العلوم قدْرٌ مشترك لا يُعْذَر أحدٌ بِجَهله، ثم يكون ما
بقي ميدان اجتهاد ومُنافسة بين أهل العلم فيه.
والبُعد الثانِي: تتعلَّق به العلوم الطبيعيَّة على اختلاف تخصُّصاتها.
والبُعد الثالث: تتعلق به العلوم الإنسانية على اختلاف تخصصاتها كذلك"[14].
على أن المتخصِّصين في هذه العلوم كلها
حين يُريدون بِها وجْهَ الله - تعالى - تَكُون لَهم ضرْبًا من العبادة، وهو
ما يدْعو المسلمَ إلى الإبداع، حين يَشْعر في قرارة نفْسِه أنه يُمارس هذه
الفُنون وهو مأجورٌ عند ربِّه، مسدَّدٌ في دنياه وآخرته.
وهذه الصُّورة هي التي تعطي شُموليَّةً
للعلم في القرآن الكريم، فلا مادِّية مُلْحِدة، ولا لاهوتيَّة رَهْبانيَّة
مُغالية في المثاليَّة، فالتَّوازُن من خِصال التوسُّط والوسطيَّة في
القرآن الكريم، فالدُّنيا مسخَّرة لصالح الإنسان: ﴿
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، مع ذلك تكون الغاية هي الآخرة، فخَلْقُ الإنسان لَم يكن
للعبَث، ولا لحياة البهائم؛ فقد أُمِر بالتقوى في إعمار الأرض: ﴿
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
فمدلول العبادة واسعٌ في الإسلام، و"يشمل ثلاثةَ مظاهر: مظهَرٌ شَعائري، ومظهر اجتماعيّ، ومظهر كَوْنِي:• أمَّا المظهر الشَّعائري، فهو يتمثَّل في شعائِرَ ومُمارساتٍ ترمز إلى أشكال الْحُبِّ والطَّاعة التي يَعْبد بِها الإنسانُ الخالقَ.
• وأمَّا المظهر الاجتماعي، فموضوعه الثَّقافة والقِيَم، والعادات والتقاليد، والقوانين والنُّظم.
• وأمَّا
المظهر الكونِيُّ للعبادة، فموضوعه العلومُ الطبيعية التي توفِّر للعالِمِ
الْمُسلم دخولَ مُختبر الآفاق، وإبرازَ معجزات العصر وبراهينِه، وتوفيرَ
الشَّواهد التي تكشف عن عظيمِ صُنْعِ الله وقدرته، وتُقْنِع الْمُتعلِّم
الجديدَ والأجيال الجديدة بوجوب مَحبَّة الخالق مَحبَّةً كاملة، وطاعتِه
طاعةً كاملة"[15].
المصطلح البديل:اقترح طه عبدالرحمن استبدال
"أسلمة المعرفة" بـ
" التقريب"؛ اقتداءً بالإمام ابن حَزْم الظَّاهريِّ في كتابه "
التقريب لعلوم المنطق"، وقد وضَع آخَرُون مصطلحَ "
تكامُلِ المعرفة"؛ لِتَدارُك التحيُّز الذي يوحي به مصطلَحُ "
أسلمة".
لكن أبغي طرْحَ مصطلَحٍ يَجْمعها كلَّها في غاياتِها، ويتفادى سلبيَّاتِها، وهو "
وَحْدة المعرفة"؛
فغاية الرِّسالة السَّماوية التوحيدُ، والحقيقة واحدةٌ، والطريق واحدٌ،
والقول بالتَّكامُل لا يكون إلاَّ عن خلافٍ واقعٍ، لا اختلاف؛ لأنَّ الخلاف
يَحْصل عن تنوُّع، والاختلاف عن تضادٍّ، فيَنْتج عن الخلاف حالَ الحوارِ
تكامُلٌ، والتَّكامل يُرام منه التَّوحيد في الكلمة، والتعاونُ في العمل،
والتنوُّع في الأفكار، فلا يقع الصِّدَام؛ فالبعض يكمل البعض الآخر.
ومصطلح
"أسلمة المعرفة" كان المرادُ منه جعْلَ العلوم في خدمة التَّوحيد والإيمان، وجعْلَ العلوم
كلِّها لِنُصرة حقائق الإسلام، الكامن في الكتاب والسُّنة، وتَجْليةَ
الإعجاز العلميِّ، وتَقْعيدَ العلوم الإنسانيَّة على ضوابطِ العقيدة
الإسلاميَّة، والتَّحاكُمَ لأُولي العِلْم من المسلمين فيما اختلفوا فيه،
بعد أن صارَت العلوم تُوجَّه للطَّعْن في الإسلام والعقائدِ الموحِّدة، بل
صارَتْ في خدمة الإلحاد ومركزيَّة الإنسان.
كما أنَّ الوصول إلى وَحْدة المعرفة يقتضي
الاطِّلاع على علوم الغير، وما لا يُصادم الشَّرع، وأجازه العلماء، أُخذ
وأُدخِل في علوم المسلمين بعد أن يُعْرَض على ما عندهم، ويُصاغ على ما
يناسبهم، فيُصَفُّونه من الشوائب والدَّرَن، فيكون لبَنًا سائغًا من بين
دمٍ وفَرْث، وهذا مكَّن التقريبَ لعلوم غيْر المسلمين للمسلمين.
ومِمَّن استعمل مصطلحَ "وحدة المعرفة" أبو سُلَيمان، وهو من كبار مؤسِّسي مَشْروع
"أسلمة المعرفة"،
ولا أُحَمِّل النصَّ فوق ما يدلُّ؛ فالسِّياق مفهومِيٌّ لا اصطلاحي؛ أيِ:
الْمُركَّب استُعْمِل في سياق الكلام كمفهومٍ لا مصطلح، قال في أحَد
مؤلَّفاته: "ومضَتْ بِي سنون في التدريس الجامعيِّ، بذلْتُ فيها جهدي؛ لكي
أُجَسِّد رؤيةَ منطلقات إصلاح الفِكْر والوجدان، والتي هي رسالةُ الْمَعهد
وغايته؛ وذلك انطلاقًا من مُواجهة
"أزمة الفِكْر الإسلامي" بواسطة تَحْقيق وحدة المعرفة الإسلاميَّة؛ نصوصًا ورؤية، وقِيَمًا
ومفاهيمَ، وعِلمًا اجتماعيًّا وحياتيًّا، وتَجسيدًا للفطرة الإنسانية
السَّوية، والسُّنن الكونيَّة واقعًا زمانيًّا ومكانيًّا، ومُواجهة أزْمة
الإرادة والوجدان للمُسْلم، التي تكمن في مَجال التربية ووجدان الطُّفولة؛
وذلك بالعناية بِمَجال "
التربية وبرامِجِها وأدبيَّاتِها بالدرجة الأولى"[16].
فالقرآن الكريم يُقرِّب معارِفَ السابقين،
ويَدْعو إلى إقامة وَحْدةٍ لِمَعارف الوحي، مع اعتمادِه أسلوبَيِ
التَّصديق والْهَيمنة، وذلك بأن يُوافِقَ كلَّ معرفةٍ فيها لَم يطرأ عليها
تحريفٌ أو انتحال "مِن غيْر أن يعني ذلك التَّصديقُ أو تلك الْهيمنةُ
التوقيعَ على كلِّ معرفةٍ فيها، بِقَطع النَّظَر عن سلامتها من الخطأ، بل
يُعمِل فيها منهجه التقديريَّ التمحيصيَّ؛ كي يتميَّز السليم فيها من
الْمُنحرف، في صورة عمَليَّة استرجاعيَّة، شاملةٍ لذلك الميراث، تتضمَّن
نقْدَه، وتَحليلَه، وتطهيرَه مِمَّا أُلْحِق به من إضافاتٍ واجتهادات
تتنافَى مع مضمونه"[17].
والقرآن نزل مكمِّلاً وناسخًا لِما قبله؛ ﴿
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وقال: ﴿
وَمِنْ
قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ
لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأحقاف: 12].
الخاتِمة:نَخْلص إلى أنَّ مشروع
"أسلمة المعرفة"؛
وإنْ كان ذا نوايا حسَنةٍ، ومُنطلَقات منهجيَّة، إلاَّ أن مُراعاة
الاصطلاحات شابَها شيءٌ من الاعتراض، إذا ما نظَرْنا لتعقيب اللُّغوي بكر
أبو زيد، وغيْرِه مِمَّن رَدُّوا المصطلح، أو المشروعَ كَكُل، أو بعضَ
مبادئِه العلميَّة أو العمَلية، كالمرزوقي والبوطي وطه عبدالرحمن، غيْر
أنَّ كون المشروع والمعهد قائمَيْن على النَّقْد الذاتِيِّ والنَّظر إلى
ردودِ الفِعْل الْمُخالفة، وكَوْن ذاك تطوُّرًا نوعيًّا في برنامج المشروع
والمصطلح - جعل البعضَ يقترح مصطلحَ
"تكامل المعرفة"، وذا بيانٌ جليٌّ على التطوُّر المنهجي للمشروع، وهنا كان طَرْحُ مصطلح
"وحْدة المعرفة" كبديلٍ واضح لأُطْروحة المعهد، وخالٍ من الاعتراضات اللُّغوية أو
العقَديَّة، وهو يتوافق مع المبادئِ التي وضَعَها إسماعيل الفاروقي،
والتطوُّراتِ الحاصلة على يد أبي سليمان ولؤي الصَّافي، ولا نكيرَ عليه
مِمَّن اعترضوا على المصطلح الأوَّل؛ إذْ لا يَحْمِل مدلولُه دواعِيَ
اعتراضاتِهم.
Bas du formulaire
[1] لؤي صافي: "إسلامية المعرفة؛ من المبادئ المعرفيَّة إلى الطرائق الإجرائيَّة" مجلَّة إسلاميَّة المعرفة، العدد 3، 1996، ص 11.
[2] إسماعيل الفاروقي: "إسلامية المعرفة؛ المبادئ العامة وخطة العمل"، م ع ف إ: واشنطن، 1987، ص 9.
[3] بكر أبو زيد: "الْمَناهي اللفظية"، دار العاصمة: الرياض، ط (3)، 1996، ص 371.
[4] المرجع نفسه: ص373.
[5] المعهد العالَمي للفكر الإسلامي: "المنهجيَّة الإسلامية والعلوم السُّلوكية والتربوية" م ع ف إ: واشنطن، ط (2)، 1994، ص 94.
[6]
محمد أبي القاسم حاج حمد: "منهجيَّة القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم
الطبيعيَّة والإنسانية"، دار الهادي: بيروت، ط (1)، 2003، ص 207.
[7] محمد الحسيني البهشتي: "المعرفة في نظر القرآن"، تر: علي الهاشمي، دار الهادي: بيروت، ط (1)، 2002، ص (81 - 82).
[8] جَمال سلطان: "دفاعٌ عن ثقافتنا"، دار الوطن: الرياض، ط (1)، 1412، ص 24.
[9]
"المعنى: أن تعلِّمني علمًا ذا رشد، وهذه قصَّة قد حرَّضَت على الرِّحلة
في طلب العلم، واتِّباع الفاضل للمفضول؛ طلَبًا للفضل، وحثَّتْ على الأدب
والتواضع للمصحوب"؛ أبو الفرج جمالُ الدِّين، عبدالرحمن بنُ علي بن محمد
الجوزيُّ القرشيُّ البغداديُّ: "زاد الْمَسير في علم التفسير"، دار ابن
حزم: بيروت، ط (1)، 2002، ص 862.
[10] عمر عبيد حسنة: "حتَّى يتحقَّق الشُّهود الحضاري"، المكتب الإسلامي: بيروت، ط (1)، 1992، ص 11.
[11]
أبو القاسم محمود بن عمر الزَّمَخشري الْخُوارزمي: "الكشَّاف عن حقائق
غوامض التَّنْزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"، تح: مصطفى حسين أحمد،
دار الفكر: بيروت، ط (2)، 1987، ج6، ص 403.
[12]
محمد بن علي الشوكاني: "فَتْح القدير، الجامع بين فنَّي الرِّواية
والدراية من علم التَّفسير"، دار الفكر: بيروت، ط ()، د.ت، 1994، ج5، ص
468.
[13] القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن"، ج20، ص 119.
[14] خليل بن عبدالله الحدري: "منهجية التفكير العلمي"، دار عالم الفوائد: مكة المكرمة، ط (1)، 2005، ص (88 - 89).
[15] ماجد الكيلاني عرسان: "فلسفة التربية الإسلامية"، مكتبة هادي: مكة المكرمة، ط (2)، 1409هـ، ص (85 - 86).
[16] عبدالحميد أبو سليمان: "الرُّؤية الكونيَّة الحضارية القرآنيَّة المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني"، 2008.
[17]
طه العلواني: "منهجيَّة التعامل مع التُّراث" حوار مع صحيفة
"المستقِلَّة"؛ نقلاً عن: أحمد محمد حسين الدغشي: "نظرية المعرفة في القرآن
الكريم وتضميناتُها التربوية"، دار الفكر: دمشق، ط (1)، 2002، ص 132.