الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله خير خلْق الله أجمعين، وعلى آله وأزواجه وأصحابِه الأخيار الطاهرين.
وبعد:ففي أعقابِ الأحداث الأخيرة كَثُر الحديث
عن السَّلفيَّة والسلفيِّين بين متسائل عن معنَى السلفية والمقصود بها،
ومستفْسِر عن حقيقتها ومبادئها، ومستفهِم عن مشروعيةِ التسمِّي بها
والانتساب إليها، وبين طاعِن فيها منتقِد لها وللمنتسبين إليها - شيوخًا
وطلاَّبًا وأفرادًا.
مِن أجلِ
ذلك؛ كان لزامًا أن تتَّضح الحقائق، وتُصَحَّح المفاهيم؛ حتى يمكنَ الوصولُ
إلى تصوُّر صحيح يقود إلى حُكم سديد، وهذا ما سأُحاول أن أقومَ به فيما
يلي:أولاً: إنَّ السلفيَّة تعني باختصار:
اتِّباع السلف، أو بعبارة أُخرى: اتباع القرآن والسنة بفَهْم سلَف الأمة، ومِن ثَم فإنَّ السلفيِّين هم أهلُ السنة والجماعة.
ثانيًا: إنَّ السلفية في حقيقتها منهجٌ شمولي لا يخصُّ حزبًا أو جماعةً أو تنظيمًا
بعينه، وإنما ينبغي أن ينتسبَ لذلك المنهج كلُّ مسلِم حريص على اتِّباع
سنة النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهدْي سلفِنا الصالح، سواء
كان هذا المسلِم عضوًا في جمعية أو حزْب أو لم يكن؛ لأنَّ حقيقة السلفيَّة
هي اتباع هذا المنهج.
ثالثًا: إنَّ أهمَّ أصول السلفيَّة: الاتباع والاجتماع؛ أي: اتباع القرآن والسُّنة
بفَهم سلف الأمَّة، والاجتماع على ذلك وعدم التفرُّق؛ مصداقًا لقول الله
تعالى:
﴿
وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ
مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -:"وقوله ﴿
وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ أمرَهم بالجماعة ونهاهم عن التفرِقة، وقد وردتِ الأحاديث المتعدِّدة
بالنهي عن التفرُّق والأمرِ بالاجتماع والائتلاف... وقد ضمنت لهم العِصمة -
عندَ اتفاقهم - من الخطأ"[1].
ومِن ثَمَّ يظهر أنَّ الدعوة إلى السلفية
في حقيقتها دعوةٌ للاجتماع والاتِّحاد، وليستْ كما يظنُّها البعض دعوةً
لتفريق المسلمين إلى شِيع وأحزاب شتَّى.
لكن هذا الاجتماع يجب أن يكونَ على منهج
صحيح، وهو الاعتصام بحبل الله ودِينه كما أنزله على رسوله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - فمَن خرَج عن هذا المنهج، وشذَّ عن هذا الصِّراط، فهو الذي
ابتغى الابتداعَ والفُرقة.
قال ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "إنَّ سبب الاجتماع والأُلفة جَمْع
الدِّين والعمل به كله، وهو عبادةُ الله وحده لا شريكَ له كما أمر به
باطنًا وظاهرًا، وسبب الفُرْقة ترك حظٍّ ممَّا أمر العبد به، والبغي بينهم،
ونتيجة الجماعة: رحمةُ الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخِرة،
وبياض الوجوه، ونتيجة الفُرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة
الرسولِ منهم"[2].
رابعًا: إنَّ السلفيِّين مع تمسُّكهم بمنهجهم، والتزامهم بمبادئهم - لا يَجِدون
بأسًا في التعاون مع المخالفين لهم في تحقيقِ المصالح وتحصيلِ الخيرات،
ودفْع المفاسد ورفْع المظالم؛ اتباعًا لقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿
وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
خامسًا: إنَّ التَّسمي بالسلفية ليس نوعًا مِن الابتداع، أو دعوةً للتعصُّب
والغلو؛ وإنما هو وسيلةٌ لبيان المنهج الحق في الأصول، والتميُّز عن أهل
الأهواء والبِدع.
فإنَّ وقوعَ الافتراق في هذه الأمَّة
سُنَّة كونية لا يمكن دفعُها كما أخبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
بقوله: ((إنَّ أهلَ الكتابين افتَرقوا في دِينهم على ثِنتين وسَبعين
مِلَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين مِلة - يعني الأهواء -
كلها في النار، إلا واحِدة، وهي الجماعة))[3].
وحيث وقَع ذلك الافتراقُ وكثُرت الفِرَق،
صار مِن الضروري إبانةُ سبيل أهل الحق، ووقوع التمايز بينهم وبيْن مَن خالف
سبيلهم؛ لتُعرفَ الفرقة الناجية - وهي أهلُ السُّنة والجماعة - ويظهر
منهجُها، ويُجتَنب سبيلُ أهل الأهواء والبِدع ممَّن خالفوا طريقَ السُّنة.
قال ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - عن أهل السُّنة والجماعة: "طريقتهم هي دِين الإسلام الذي بعَث الله
به محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكن لما أخْبر النبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم - أنَّ أمَّته ستفترِق على ثلاث وسبعين فِرْقة، كلها في النار
إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنَّه قال: ((هُم مَن كان على مِثل ما
أنا عليه اليوم وأصحابي))، صار المتمسِّكون بالإسلامِ المحض الخالِص عن
الشَّوْبِ هم أهلَ السُّنة والجماعة"[4].
وحيث إنَّ كثيرًا من أهل البِدع يزعمون
اتباعَ القرآن والسُّنة، بَيْد أنهم يتأوَّلون النصوص، ويلوون أعناقَها
ليستدلوا بها على مناهجِهم الباطلة، فقد صار لزامًا وضعُ ضابطٍ يميِّز
طريقة أهل الحق في تلقي النصوص والاستدلال بها، فكان هذا الضابط هو
موافقة فَهْم السلف ومنهجهم.
قال ابن تيمية - رحمه الله -:"مَن فسَّر القرآن أو الحديث وتأوَّله على
غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين، فهو مفترٍ على الله مُلحِد في
آيات الله، مُحرِّف للكَلِم عن مواضعه، وهذا فتحٌ لباب الزندقة والإلحاد،
وهو معلومُ البطلان بالاضطرار من دِين الإسلام"[5].
وقال ابن رجب: "فالعِلم النافِع من هذه العلوم كلها:
ضبْط نصوص الكتاب والسُّنة وفَهْم معانيها، والتقيُّد في ذلك بالمأثور عنِ
الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورَد عنهم مِن
الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائِق والمعارف وغير ذلك.."[6].
وقال ابن عبدالهادي:"لا يجوز إحداثُ تأويل في آية أو سنة لم
يكن على عهْدِ السَّلف، ولا عرَفوه ولا بيَّنوه للأمَّة، فإنَّ هذا يضمن
أنهم جهِلوا الحقَّ في هذا وضلُّوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترِض
المستأخِر" [7].
ولذلك صار اتِّباعُ منهج السلف، والانتساب لطريقتهم، واعتماد فَهْمهم للنصوص من أخصِّ خصائص أهل السُّنة وأهم مميزاتهم.
سادسًا: لا
يجوز الخلطُ بيْن السلفية في منهجها العام، وبيْن السلفيِّين في تصرفاتهم
واجتهاداتهم الفردية، حيث إنَّ المنهج السلفي معصومٌ في أصله؛ لأنَّ حقيقته
اتِّباع القرآن والسنة، أما أفعال مَن انتسب لهذا المنهج فهي كجملة
الأفعال البشريَّة؛ عُرضةٌ للخطأ والغفلة، والنسيان والسهو.
ومِن ثَمَّ فلا يجوز أن ننسب أخطاءَ بعض
المشايخ والدُّعاة من السلفيِّين إلى المنهج السلفي ذاته؛ لأنَّهم مهما علا
شأنهم، وارتفع قدرهم بشرٌ غير معصومين يُؤخَذ من كلامهم ويرد، وأقوالهم
وأفعالهم يُحتجُّ لها ولا يُحتج بها.
مع التأكيد على أنَّ الخطأ فيما يسوغ فيه
الاجتهادُ وتختلِف فيه الأنظار ليس محلاًّ للتثريب والطعن، فإنَّ الفقيهَ
إذا بذل جهدَه واستفرغ وسعه في مسألةٍ اجتهاديَّة ثم أخطأ في اجتهاده، فله
أجْرُ هذا الاجتهاد ولا تثريب عليه في خطئِه، بل هو مغفور - بإذن الله.
قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم
-: ((إذا حَكَم الحاكم فاجتهدَ ثُم أصاب، فله أجْرَان، وإذا حَكم فاجتهدَ
ثم أخطأ، فله أجْرٌ))[8].
ومِن هنا يتبيَّن خطأ مَن يطعن في
السلفيِّين لمواقفِ بعض علمائهم من بعض المسائل العمليَّة التي يسوغ فيها
الاجتهادُ، وتختلف فيها الأنظارُ حول التكييف الفِقهي للمسألة، وقياس
المصالِح والمفاسد، ورؤية الواقِع، ونحو ذلك.
سابعًا: إنَّ
الانتسابَ للسلفية لا يعني الانعزالَ عن الواقع، وعدم المشاركة في الأحداث
والنوازل؛ لأنَّ مِن أصول أهل السنة والجماعة إقامةَ الحق، وإعلاءَ كلمة
الله بالدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على
البرِّ والتقوى.
ولذلك كان مِن الطبيعي أن نجِد السلفيِّين
دومًا هم أكثر الناس نشرًا للتوحيد وحربًا للشِّرْك، وأعظمهم إقامةً
للسُّنة وقمعًا للبدع، وأكثرهم اشتغالاً بطلب العِلم النافِع ونشْره
وتعليمه، وأشدهم حرصًا على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم
الأحرص على مواجهة أهلِ الباطل والضلال، بالحُجَّة والبرهان في مقام
الجدال، وبالسَّيف والسنان في ميادين القِتال.
ذكَر ابنُ تيمية - رحمه الله تعالى -:أنَّ من أصول أهل السنة أنهم "يأمرون
بالمعروف وينهَوْن عن المنكر على ما تُوجِبه الشريعة، ويرون إقامةَ الحج
والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء - أبرارًا كانوا أو فجَّارًا -
ويُحافظون على الجماعات، ويَدينون بالنصيحة للأمَّة، ويعتقدون معنَى قوله -
صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((
المؤمِن للمؤمن كالبنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا - وشبَّك بين أصابعه))، وقوله: ((
مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم كمَثَل الجسدِ؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالحمى والسهر)).
ويأمرون بالصبر عندَ البلاء، والشُّكر عند
الرخاء، والرضا بمُرِّ القضاء، ويدْعُون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسنِ
الأعمال، ويعتقدون معنى قوله: ((
أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا))،
ويندبون إلى أن تصِلَ مَن قطعك، وتعطيَ مَن حرمك، وتعفوَ عمَّن ظلمك،
ويأمرون ببرِّ الوالدين وصِلة الأرحام وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى
والمساكين وابن السبيل، والرِّفْق بالمملوك، وينهَوْن عن الفخر والخيلاء،
والبغي والاستطالة على الخَلْق بحقٍّ أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق
وينهون عن سفسافِها، وكلُّ ما يقولونه أو يفعلونه مِن هذا أو غيره فإنَّما
هم فيه مُتَّبِعون للكتاب والسُّنة وطريقتهم هي دِين الإسلام الذي بعَث
الله به محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم"[9]
.ثامنًا: إنَّ السلفيِّين أهل السُّنة والجماعة إن قصَّروا في بعض أعمالهم، فإنَّ
اتِّباعهم للسنة يرفعُهم ويقوم بهم، أمَّا أهل البِدع والأهواء فإنْ برزت
بعضُ أعمالهم، فإنَّ ابتداعهم يخفضهم ويقعد بهم.
والمقصودُ في هذا المقام هو بيانُ عظمة
العقيدة الصحيحة وأهميتها، وتوضيح شرف الاتباع وفضْله، وليس التوهين مِن
قدْر العمل الصالح الذي يحبُّه الله تعالى وهو جزءٌ مِن الإيمان[10].
قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "فمَن دعا إلى العِلم دون العمل المأمور
به كان مضلاًّ، ومَن دعا إلى العمل دون العِلم كان مضلاًّ، وأضل منهما مَن
سلك في العِلم طريقَ أهل البدع، فيتَّبع أمورًا تخالف الكتاب والسُّنة
يظنُّها علومًا وهي جهالاتٌ، وكذلك مَن سلك في العبادة طريقَ أهل البِدع،
فيعمل أعمالاً تخالف الأعمال المشروعة يظنُّها عباداتٍ وهي ضلالات، فهذا
وهذا كثيرٌ في المنحرف المنتسِب إلى فِقه أو فقْر يجتمع فيه أنه يدْعو إلى
العِلم دون العمل، والعمل دون العِلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بِدع تُخالِف
الشريعةَ، وطريقُ الله لا تتمُّ إلا بعِلم وعمل يكون كِلاهما موافقًا
الشريعةَ"[11]
.فأصل هذا الدِّين هو توحيدُ الله في
إلهيته وربوبيَّته وأسمائه وصِفاته، والإخلاص إليه واتِّباع سُنة نبيِّه -
صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَن حفِظ ذلك الأصلَ، فقد حاز الخيرَ العظيم،
ومَن خرَج عنه وابتدع، فقدْ فاته ذلك الخيرُ وتلك النِّعْمة.
ولذلك قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "القصْدُ في السُّنة خير من الاجتهاد في البِدعة"[12].
وقال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -:
"لا أعلمُ شيئًا في الإسلام أفضلَ عندي مِن أنَّ قلبي لم يخالطْه شيءٌ مِن
هذه الأهواء المختلِفة"[13].
وقال أيوب السَّختياني - رحمه الله تعالى -: "ما ازداد صاحبُ بِدعة اجتهادًا إلا ازداد مِن الله بُعدًا"[14].
وقال الشافعي - رحمه الله تعالى -: "لأنْ يلقَى اللهَ العبدُ بكلِّ ذنب خلاَ الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بشيءٍ مِن الأهواء" [15].
تاسعًا: إنَّ
العلماء المعتبَرين بحقٍّ هم علماءُ أهل السُّنة والجماعة، المقتفون
للسُّنن والآثار، المتَّبعون لمذهب السَّلف، أما المنتسبون لأهل العِلم من
المبتدعة، فليسوا مِن العلماء الربانيِّين، ولا الشيوخ المرضيِّين.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى -: "أجْمع أهلُ الفقه والآثار مِن جميع
الأمصار أنَّ أهل الكلام أهلُ بِدَع وزيغ، ولا يُعدُّون عندَ الجميع في
طبقات الفقهاء، وإنَّما العلماء أهل الأثر والتفقُّه فيه، ويَتفاضلون فيه
بالإتقان والميز والفَهم"[16].
وقال الشاطِبي - رحمه الله -: "إنَّ أهل البِدع أصاغِرُ في العِلم؛ ولأجْل ذلك صاروا أهل بِدع"[17]،وقال: "والبِدع لا تقَع مِن راسِخ في العِلم، وإنَّما تقَع ممَّن لم يبلغْ مبلغَ أهل الشريعة المتصرِّفين في أدلَّتها"[18].
ولذلك جاء تحذيرُ علماء السَّلَف من مجالسةِ أهل البِدع ومخالطتهم والاستماع إليهم، ومحبَّتهم والتقرُّب منهم:قال الإمامُ أحمد - رحمه الله تعالى -: "أهلُ البِدع ما ينبغي لأحدٍ أن يجالسَهم ولا يخالطَهم ولا يأنس بهم" [19].
وقال سفيانُ الثوري - رحمه الله تعالى -: "مَن أصْغى بأذنه إلى صاحِب بدعة، خرَج مِن عصمة الله ووكل إليها - أي: وكل إلى البِدعة"[20].
وعن ابن سِيرينَ - رحمه الله تعالى -
أنَّه كان إذا سمِع كلمةً من صاحب بدعة وضَع إصبعيه في أذنيه، ثم قال: "لا
يحلُّ لي أن أكلِّمَه حتى يقوم مِن مجلسه"[21].
وقال يحيى بن أبي كَثير - رحمه الله تعالى -: "إذا لقيتَ صاحبَ بِدعة في طريق، فخُذْ في طريق آخَر" [22].
وقال الفُضيل بن عِياض - رحمه الله تعالى -: "مَن أحبَّ صاحب بِدْعة، أحبَط اللهُ عملَه، وأخْرَج نور الإسلام مِن قلْبه" [23].
ومن هنا يتبيَّن أن المنتسبين للعلم مِن
أهل البدع لا يَنبغي أن يُفتن بهم الناس فيَرفعوا شأنَهم ويُعلوا قدرَهم،
لا سيَّما الداعين إلى بِدعتهم، الطاعنين في أهل السُّنة أتباع السلف، وإنْ
صدر مِن أولئك ما يرضي الله تعالى مِن مواقف شجاعة، وجهْر بالحقِّ، وجهاد
للباطل، وفعل للخيرات، فإنَّنا ينبغي أن نَحمَد لهم ذلك ونعينهم عليه؛
نُصرةً للدِّين، وإنصافًا لهم، على أن نحذر مِن افتتان العوام بما عندَهم
مِن بدع وضلال.
عاشرًا: ليس مِن منهج السلفية مداهنةُ الحكَّام واسترضاء السلاطين بالباطل، بل هم
يُنكرون ذلك وينهون عنه، ويرون أنَّ واجبهم أن يَنصحوا للحكَّام ويدْعوا
لهم بالصلاح، وأن يأمروهم بالمعروف ويعينوهم عليه، وأن يُنكروا المنكرَ
وينهوا عنه، ولا يُجيزون السكوتَ عن الظلم والفِسق والابتداع، لكنَّهم لا
يرون الخروجَ عليهم بالقوَّة ما التزموا الإسلام جملةً، وأقاموا فيهم شرْعَ
الله؛ لما يترتَّب على ذلك مِن الفتن، وإراقة الدماء.
فعن تميمٍ الداري - رضي الله عنه - أنَّ
النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الدِّين النصيحة))، قلنا: لمَن؟
قال: ((للهِ ولكِتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامتهم))[24].
قال النووي: "وأمَّا النصيحة لأئمَّة المسلمين:
فمعاونتُهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برِفْق
ولُطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغْهم من حقوقِ المسلمين، وترْك
الخروج عليهم، وتألُّف قلوب الناس لطاعتهم" [25].
وقال الخطَّابي - رحمه الله تعالى -: "ومِن النصيحة لهم الصلاةُ خلفهم، والجهاد
معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترْك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهَر منهم حيفٌ
أو سوءُ عِشرة، وألاَّ يغروا بالثناءِ الكاذب عليهم، وأن يُدْعَى لهم
بالصلاح"[26].
وعن عُبادةَ بنِ الصامت قال: "دعانا رسولُ
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبايعناه، فكان فيما أخَذ علينا أنْ
بايعنا على السمْع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعُسْرنا ويُسرنا، وأَثَرةٍ
علينا، وألاَّ ننازعَ الأمر أهله، قال: ((
إلا أن تَروا كفرًا بواحًا عندكم مِن الله فيه برهان))[27]
.قال النووي: "ومعنى الحديث: لا تنازعوا
ولاةَ الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منهم مُنكرًا
محقَّقًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكِروه عليهم، وقولوا
بالحقِّ حيث ما كنتم، وأمَّا الخروجُ عليهم وقتالهم فحرامٌ بإجماع
المسلمين، وإنْ كانوا فسقةً ظالمين".
قال العلماء: وسببُ عدم انعزاله وتحريم
الخروج عليه ما يترتَّب على ذلك مِن الفتن، وإراقة الدِّماء، وفساد ذات
البَين، فتكون المفسدة في عَزْله أكثرَ منها في بقائه"[28]
.فإن ترجحتِ المصلحةُ في خلْعه وعزله مع
أمْن مفسدة إراقة الدِّماء وذهاب النفوس، فقد ذهب جمهورٌ مِن العلماء إلى
مشروعيةِ الخروج عليه وعزله.
قال القرطبي: "الإمامُ إذا نُصب ثم فسَق بعد انبرام
العقد، فقال الجمهور: إنه تنفسِخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛
لأنَّه قد ثبت أنَّ الإمام إنَّما يُقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق،
وحِفْظ أموال الأيتام والمجانين، والنَّظر في أمورهم إلى غير ذلك، وما فيه
مِن الفِسق يُقعده عَنِ القيام بهذه الأمور والنُّهوض بها.
فلو جوَّزنا أن يكونَ فاسقًا، أدَّى إلى
إبطال ما أُقيم لأجْله، ألاَ ترى في الابتداء إنَّما لم يجز أن يعقد للفاسق
لأجْلِ أنَّه يؤدي إلى إبطال ما أُقيم له؟ وكذلك هذا مثله".
أمَّا إنْ وقَع من الحاكم ما يكفر به
ويخرُج عن ملَّة الإسلام، فإنَّ ولايته تسقط وينعزِل، ويجب الخروجُ عليه إن
وُجِدت القدرة وترجَّحت المصلحة.
قال القاضي عِياض: " أجمع العلماءُ على أنَّ الإمامة لا
تنعقِد لكافر، وعلى أنَّه لو طرأ عليه الكُفر انعزَل، وكذا لو ترَك إقامة
الصلوات والدعاء إليها، فلو طرأ عليه كُفْر وتغيير للشَّرْع أو بِدعة، خرَج
عن حُكم الولاية، وسقطتْ طاعته، ووجَب على المسلمين القيامُ عليه وخلْعُه،
ونصْبُ إمام عادل إن أمْكَنهم ذلك، فإنْ لم يقع ذلك إلا لطائفة، وجَب
عليهم القيام بخَلْع الكافِر"[29].
ومِن هنا يظهر أنَّ المداهنين للحكَّام
الظلمة، المجاملين لهم بالباطِل ليستْ أفعالهم تلك مِن السلفية في شيء، بل
هم قد خالفوا منهجَ السلف في ذلك وخرَجوا عن طريقتهم.
ومما سبق: يتبيَّن أنَّ الطاعن في السلفيَّة لا يعدو أن يكون إلا جاهلاً بمعناها
وحقيقتها ومنهجها، أو مبتدعًا يُخالِف السُّنة والأثَر، وينأى عن الصراط
المستقيم والطريقة المرضيَّة.
فإنَّه لا صلاحَ لآخِر هذه الأمَّة إلا
بما صلَح به أولها، وكلُّ خير في اتِّباع من سلَف، وكل شرٍّ في ابتداع مَن
خلَف، والجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدَك؛ ﴿
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
نسأل الله أن
يُنوِّر بصائرَنا، وأن يهديَ قلوبنا، ويسدِّد ألسنتنا، ويَسْلُل سخيمة
صدورنا، وأن يُريَنا الحق حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، وأن يُريَنا الباطل
باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرزُقنا اتِّباع سُنَّة رسوله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على عبده ورسوله محمَّد خير الأنام، وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسان.
[1] "تفسير القرآن العظيم" (1/582).
[2] "مجموع الفتاوى" (1/17).
[3] أخرجه أحمد (16339) وأبو داود (3981)، وصحَّحه الألباني في "الطحاوية" (383).
[4] "العقيدة الواسطية" (ص: 48).
[5] "مجموع الفتاوى" (13/243).
[6] "فضل علم السلف على الخلف" (ص: 150).
[7] الصارم المنكي (ص: 427).
[8] أخرجه البخاري (6805)، ومسلم (3240).
[9] مجموع الفتاوى (3/158-159).
[10] فالإيمان عندَ أهل السُّنة هو قولٌ وعمَل ونيَّة، أو قول القَلْب واللِّسان وعمل القلْب واللِّسان والجوارح.
[11] مجموع الفتاوى (11/27)
[12] الدارمي (219)، و"البدع والنهي عنها" لابن وضَّاح (ص: 25).
[13] "الحُجَّة في بيان المحجَّة" للأصفهاني (1/303).
[14] "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/9).
[15] "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 9).
[16] "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 942).
[17] "الاعتصام" (2/ 204).
[18] "الاعتصام" (2/ 290).
[19] "الإبانة" لابن بطة (2/ 475).
[20] "شرح السنة" للبربهاري (ص: 60).
[21] "الإبانة" لابن بطة (2/ 473).
[22] "الإبانة" لابن بطة (2/ 475).
[23] "الجامع لأحكام" القرآن للقرطبي (7/ 140).
[24] مسلم (82).
[25] "شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 38).
[26] المرجع السابق.
[27] مسلم (3427).
[28] "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/314).
[29] شرح صحيح مسلم للنووي (6/314).