قصة مناظرة ابن عطاء الله السكندري لشيخ الإسلام ابن تيمية
مما يتناقله بعض مَن يُخاصِم السلفية، خاصة الصوفية الطرُقية، ويتكاثر الحديث بينهم، رواية مناظرة حصلت بين ابن عطاء الله السكَندري وابن تيمية، ويَحكونها من قبيل التفاخر أن ابن عطاء الله ألزم ابن تيمية الحُجَّة، وأظهر عليه المحجَّة، واعترف ابن تيمية بتفوق ابن عطاء الله السكندري عليه وولايته.
ومَن يَخبُر أهل الفِرَق يَعلم أن لذَّة الانتماء لجماعة أو مذهب تكسب الفرد نشوةَ هُويَّة الجماعة، ويَستشعِر دفءَ القوة مِن داخلها، فيفرح ويطرَب لانتصارات أفرادها، كأنما هو الفاعل، مما يَخلق لدَيه ميلاً فِطريًّا لتقبُّل ما يُروى عن فضائلها، وأحيانًا بلا تمحيص؛ لأن فيه تنغيصًا للذَّة السماع بها، ففيها رفْعٌ للمعنويات، وشحذٌ لهمَّة الانتماء، كذا تجده يَستنكِر ما يكون قدحًا فيها أو في بعض أفرادها مِن الأعلام قبل أن ينظر في أصل الكلام.
كل ذلك حاصل مع أيِّ فرد في أيِّ مِلَّة أو نِحلة، غير أن المسائل التي يُبنى عليها تصورات أو تتكاثر بين قوم ما، إن أسهبوا فيها بلا سنَد ولا توثيق إنما يكشف ذلك عوارهم، ويفضح كُبراءهم، فيكونون هزؤًا بين الناس.
شخصية القصة:
هو ابن عطاء الله الإسكندري، أحمد بن محمد بن عبدالكريم، أبو الفضل تاج الدِّين، ابن عطاء الله الإسكندري (ت 709هـ/ 1309م): متصوِّف، شاذلي، من العلماء، كان مِن أشدِّ خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية، له تصانيف منها:
• "الحِكم العطائية"، في التصوُّف.
• "تاج العروس"، في الوصايا والعِظات.
• "لطائف المِنَن في مناقب المرسي وأبي الحسن".
• ويُنسَب إليه كتاب: "مفتاح الفلاح"، وليس مِن تأليفه[1].
صحب الشيخ أبا العباس المرسي صاحب الشاذلية، وصنَّف مناقبه ومناقب شيخه، وكان المتكلِّم على لسان الصوفية في زمانه.
وهو ممَّن قام على الشيخ تقيِّ الدِّين ابن تيمية فبالغ في ذلك، وكان يتكلم على الناس، وله في ذلك تصانيف[2].
قال الذهبي: كانت له جلالة عجيبة، ووقْع في النفوس، ومُشارَكة في الفضائل، ورأيتُ الشيخ تاج الدين الفارقي لما رجع مِن مصر مُعظمًا لوعظه وإشارته، وكان يتكلم بالجامع الأزهر، يمزج كلام القوم بآثار عن السلف وفنون من العلم، فكَثُر أتباعه، وكان عليه سيما الخير، ومن جملة من أخذ عنه الشيخ تقيُّ الدِّين السُّبكي.
وقال الكمال جعفر: سمع مِن الأَبرقُوهي، وقرأ النحو على المُحيي، وشارك في الفقه والأدب، وصحب المرسي فتكلَّم على الناس، فسارعت إليه العامة وكثير مِن المُتفقِّهة، وكَثُر أتباعه، ومات في نصف جمادى الآخرة سنة 709هـ بالمدرسة المنصورية كَهلاً، وكانت جنازته حافلة - رحمه الله تعالى[3].
وكان أعجوبة زمانه في كلام التصوُّف، وله نظْم حسَن في الوعظ[4].
وله ترجمة في:
• "حسن المحاضرة"؛ للسيوطي، (1: 524).
• "خطط مبارك" (7: 69).
• "دائرة المعارف الإسلامية"، (1: 240).
• "الدرر الكامنة"؛ لابن حجر، (1: 291).
• "الديباج المذهب"؛ لابن فرحون، (70).
• "شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب"؛ لابن العماد، (6: 18).
• "طبقات الشافعية"؛ للسبكي (5: 176).
• "طبقات المفسرين للداوودي"؛ (1: 77).
• "العِبر في خبر من غبر"؛ للذهبي، (271).
• "الرحلة العياشية"، (1: 357).
• "كشف الظنون"، (675).
• "معجم المطبوعات"، (184).
• "المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي"؛ لابن تغري بردي، (1: 38).
• "النجوم الزاهرة"؛ لابن تغري بردي، (8: 280).
أما من ترجموا لابن تيمية فخلقٌ كثير، منهم:
• ابن عبدالهادي في "العقود الدرية في مناقب ابن تيمية".
• ابن كثير في تاريخه.
• أبو المظفر ابن الوردي في تاريخه.
• الذهبي في: "تذكرة الحفاظ"، "المعجم المختص بالمحدثين"، "سير أعلام النبلاء"، "ذيل تاريخ الإسلام".. إلخ.
• الحافظ أبو حفص البزار في: "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية".
• المقريزي.
• ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة".
• مرعي الكرمي في "الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية".
• الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية.
• السخاوي في: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ".
وغالب مَن ترجمَ لابن عطاء الله السكندري ترجم لابن تيمية، وذكَر الخصومة بينهما.
رواية القصة:
وردَت في شريط للدكتور علي جمعة - مفتي مصر (سابقًا) - يقول فيه وهو يتكلم عن ابن عطاء الله السكَندري: "وكان ابن تيمية - رحمه الله - يُجلُّه ويُقدِّره، ويناديه: "يا وليَّ الله".
شهد على ابن تيمية في عِدة مسائل فكان سببًا في دخوله السجن، فلما خرَج قال: "لا ألومك؛ لأنك ما قلت إلا حق".
يعني: "مالناش دعوة، يسجنوني ولا ما يسجنوني، لكن أنت قلت الحق، وأعلم أنك ما قلت ذلك إلا لله".
موجودة على موقع "الطريقة الشاذلية الدرقاوية" ما يلي:
"نقَل ابن كثير وابن الأثير من أصحاب الطبقات والسيَر الصحيحة هذه المناظرة التاريخية العظيمة بحق".
http://www.shazellia.com/tasawouf/chosentpc/DiskusionbtwIbnTaymiehAndElskanderi.htm مع العلم أن ابن الأثير قد توفي قبل أن يولد ابن تيمية بأكثرَ من ثلاثين سنة، وبين وفاته وبين زمن المناظرة المفترضة قريبٌ من ثمانين سنة!!
وأما ابن كثير فلم يَذكُر هذه المناظَرة قطُّ.
• مجلة "جريدة المسلم" الصادرة عن العشيرة المحمدية بالقاهرة، والتي بدَورها نقلتْها عن أحد "المُحدِّثين" - هكذا قالوا - وهو "عبدالرحمن الشرقاوي"!!
• وكان قد نشرها الطبيب الجميلي في كتابه: "مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره"، وذكر أنه نقَلها عن تلك المجلَّة، وأنها نقلتها عن أحد "المحدثين"، وهو "عبدالرحمن الشرقاوي".
قصة المناظرة مِن كتاب عبدالرحمن الشرقاوي:
• الكتاب بعنوان: "ابن تيمية الفقيه المعذب"؛ عبدالرحمن الشرقاوي، دار الشروق: القاهرة، ط (1)، 1990، الفصل السابع، ص (201 - 210).
النص:
"بلغ ابن تيمية القاهرة بعد صلاة العصر، وحوله الأمراء الذين اصطحَبوه مِن الإسكندرية، كأنهم حرس شرف..، ثم خرج إلى الأزهر في انتظار أذان المغرب، وقال ابن عطاء الله: "ألفْتُ أن أُصلِّي المغرب في جامع مولانا الحسين، وأصلي العشاء هنا، فانظر تقدير الله، قدَّر لي أن أكون أول مَن يَلقاك، أعاتِبٌ أنت عليَّ يا فقيه؟".
فقال ابن تيمية: "أَعرِف أنك ما تعمَّدت إيذائي، ولكنه الخلاف في الرأي، على أن كل مَن آذاني فهو منذ اليوم في حلٍّ منِّي"، (لاحِظ أن ما حكاه مفتي الديار المصرية لم يَرِد).
قال ابن عطاء الله: "ماذا تَعرِف عني يا شيخ ابن تيمية؟".
قال: "أعرف عنك الورع، وغزارة العلم، وحِدَّة الذِّهن، وصِدقَ القول، وأشهد أني ما رأيتُ مثلكَ في مصر ولا في الشام حبًّا لله، أو فناءً فيه، أو انصياعًا لأوامره ونواهيه، ولكنه الخلاف في الرأي، فماذا تعرف عني أنت، وتَحكم عليَّ بالضلال إذ أُنكِر استغاثة غير الله؟".
قال ابن عطاء الله: "إني أعجب لك يا فقيه، فأنت نَصير السنَّة، تَستوعِب الآثار حِفظًا وفهمًا، كامل الفِكر، سريع الإدراك.
ولكنك تُطلِق عبارات أحجَم عنها الأولون والآخِرون، وتَخرُج فيها عن مذهب إمامك أحمد، ومذاهب سائر الأئمة".
فقال ابن تيمية: "مَن تعصَّب لمذهب بعَينه، فقد أشبه أهل الأهواء..."، (يتابع الشرح).
قال ابن عطاء الله: "أما آن لك يا فقيه أن تَعرِف أن الاستغاثة هي الوسيلة والشفاعة، وأن رسول الله يُستغاث ويتوسَّل به، ويُستشفع به؟".
قال ابن تيمية: " أنا في هذا أتبَع السنَّة الشريفة..."، (يُتابِع الشرح).
أما الاستغاثة ففيها شبهة الشرك بالله - تعالى - ولهذا منعها سدًّا للذرائع، قال - تعالى -: ﴿ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18] صدق الله العظيم..."، (لاحظ العبارة).
قال ابن عطاء: " أصلحكَ الله يا فقيه، أما (تفصيل).. وأما فهمك أن الاستغاثة بغير الله فهي شرك، فمَن مِن المسلمين الذين يؤمنون بالله ورسوله يَحسب أن غيره - تعالى - يَقضي ويُقدِّر ويُثيب ويُعاقِب؟
إنما هي ألفاظ لا تؤخذ على ظاهرها، ولا خوف مِن الشرك لنسدَّ إليه الذريعة، فكل مَن استغاث الرسول فهو إنما يَستشفِع به عند الله مثلما تقول أنت: أشبعَني الطعام، فهل الطعام هو الذي أشبعك أم أن الله - تعالى - هو الذي أشبعك؟
أما تحريمك الاستغاثة لأنها ذريعة إلى الشرك، فإنك كمَن أفتى بتحريم العِنَب لأنه ذريعة إلى الخمر، ويخصي الذكور غير المتزوِّجين سدًّا للذريعة إلى الزنا.
ثم عاتبه على كلامه في ابن عربي "إنَّ الأخذ بظاهر المعنى يوقِع في الغلَط أحيانًا يا فقيه، ومِن هذا رأيُك في ابن عربي؛ فقد فهمتَ ما كتبَه على ظاهره، والصوفية أصحاب إشارات وشطحات روحية، ولكلماتهم أسرار، فكان يتعيَّن على مَن هو في مثل حذقك، وحِدَّة ذهنك وعلمك باللغة أن يبحث عن المعاني المكنونة الخفية وراء الكلمات؛ فالمعنى الصوفيُّ روح، والكلمة جسد، ثم إنك اعتمدت في حُكمِك على ابن عربي على نصوص قد دسَّها عليه خصومه" (يُتابِع الكلام).
ثم سأله عن الإمام أحمد، فأجاب، ثم عن الإمام عليٍّ، فأجاب، فقال ابن عطاء ما معناه: هل يُحاسَبون بما فعَل المُتعصِّبون لهم والغالون فيهم؟
فاقتنع ابن تيمية أن ابن عربي بريءٌ مما يفعله أتباعه، فسأله عن لبس الخِرَق، وما يُروى من الكلام فيها، فتبرَّأ ابن عطاء منها، وقال: "نحن نُعلِّم الصوفية أن القذارة ليست مِن الدِّين، وأن النظافة من الإيمان... (تأمل الأسلوب).
لقد ظهر بين الصوفية منذ قرنَين من الزمان أشياء كالتي تُنكِرها الآن، واستخفُّوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وادَّعوا أنَّهم تحرَّروا من رقِّ الأغلال، ثم لم يرضوا بما تعاطوه مِن سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال.."، (يُتابِع الكلام).
قال ابن تيمية: "هذا الكلام عليك لا لك، فالقُشيريُّ لما رأى أتباعه يَضلون الطريق قام عليهم ليُصلحهم، فماذا فعل شيوخ الصوفية في زماننا؟
إنما أريد مِن الصوفية أن يَسيروا على سنَّة هذا السلف العظيم مِن زُهاد الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.."، (يُتابِع الكلام).
(التصرف بالحذف غير مخلٍّ بمعنى القصة، فقد كان لبعض ما هو مفهوم مِن سياق الكلام، فقط للاختصار، وليس بالشيء الكثير، والقصة لا تتعدى بعض الصفحات، إلا أن كتابتها بأسلوب الفقرات المتباعدة يزيد مِن الأَسطُر).
من هو الشرقاوي:
هنا لا أعلم هل القوم بهم هوس، أم أن الغيظ يجعل مُفتي الديار المصرية في حكم العامي؟ والله قد سمعته بأذني، وشاهدته حينما كان بجامعتنا "جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية" بقسنطينة الجزائر يَحكي كلامًا بطريق السخرية عن الشيخ ابن باز، ويتهكَّم مِن اللجنة الدائمة، بل وصرَّح بالعبارة أن الشيخ ابن باز ليس بعالِم، وعلى ذلك شهودٌ مِن الطلبة السلفيين والإخوان المسلمين وغيرهم.
فوصل به الأمر أن يَحكي كلامًا كنتُ أسمعه من بعض السفهاء - ممَّن لا علم له حتى يُناقَش - مِن أتباع الطرقية القبوريَّة، أو بعض المثقَّفين المُتفكِّهين بفتات العلوم، فوالله الحرَج يُسيل العرَق مِن ذي مروءة، ولكن لا علينا.
فالغرض مِن مناقشة القصة ليس المفتي ولا مَن سلك شعابه، بل الغرض أن تُفضَح هذه، لئلا يأتي زمان علينا فتَكثُر روايتها استنقاصًا لشيخ الإسلام أولاً، وغمزًا في أتباعه ثانيًا، وتهكُّمًا على السلفية ثالثًا، ثم لا يكون مَن يردُّ، حتى تدور الليالي، وتتداول الأيام، ويصير بعض طلبة العلم يَعتقِدون صحَّة القصة، فيكونون بين متوقِّف ومؤول يبالغ.
ولا يَستنكر أحدٌ ذا؛ فقد حدث معي مرارًا أن بعض الإخوة من طلبة العلم وحملة الشهادات العُليا يَظنُّون، وقد ينسبون أقوالاً لابن تيمية أو ابن باز أو الألباني أو الإمام محمد بن عبدالوهاب أو حتى غيره، لكثرة ما أوردت عليهم مِن الأساتذة أو طلبة آخَرين حتى استأنسوا لصحَّتها لكثرة تردادها على أسماعهم.
وكان أن سألني بعضهم عن أدلة ابن تيمية في قوله بقِدَم العالم، فاستغربتُ القول منه، وهو من حملة الشهادة العليا! غير أنه ما قرأ شيئًا، إنما تلقاها مِن بعض مَن يُحسِن بهم الظنَّ، وهذا الأخ مِن طلبة العلم، وهو يُدَرِّس في الثانوية، فتصور معي أنه نقلها للتلاميذ، فمَن يَنزعِها منهم بعد؟!
وإن تعجب فعجب قول القوم: إن الشرقاوي محدِّث، والله إنها لفاقرة.
قال الأستاذ محمد خير رمضان يوسف في كتابه: "تتمة الأعلام للزركلي" (1: 277 - 279) مُعرِّفًا بالشرقاوي: "شاعر، روائي، كاتب مسرحي، مفكِّر.
ولد في قرية الدلاتون في دلتا مصر عام 1339هـ، وأتمَّ دراسته للحقوق في جامعة فؤاد الأول، وتولى بعد قيام ثورة يوليو عددًا مِن المناصب والمراكز القيادية في مجالات الثقافة والنشر".
فهل هو صاحب توجه "إسلامي" أصلاً؟
يقول رجاء النقاش في حديث عنه: "الشرقاوي كان صاحب فكر يساريٍّ، يدعو إلى التغيير، ويؤمن به؛ فقد اصطدم أيضًا بمشكلة أخرى خطيرة، هي مشكلة التوفيق بين الفكر اليساري والتراث العربي والإسلامي، وقد جاءته هذه الفكرة منذ وقت مبكِّر في أواخر الخمسينيات.
كان يدرك بهذه المواهب كلها أن الفكر اليساري إذا انعزلَ عن التراث فسوف يَبقى فكرًا جافًّا غريبًا ضعيف التأثير.
ولم يكن الشرقاوي يُطيق لفنِّه وفِكره أن يكون قطعة باردة معروضة في متحف يتفرَّج عليها الزائرون والسائحون.
وما كان شيء من ذلك يمكن أن يتحقق إلا بالدخول القوي في عالم التراث، وأهمُّ ما في هذا التراث هو التاريخ الإسلامي والفِكر الإسلامي، وهنا دخل بأفكاره الجديدة إلى التاريخ الإسلامي والفِكر الإسلامي.
ولكن محاولته "التوفيقية" بين فكره اليساري والتراث الإسلامي جرَّت عليه الكثير من المعارك العنيفة؛ لقد ثار عليه الكثيرون، ولم يتقبَّلوا منهجه في دراسة الإسلام وتراثه، وكان من مظاهر هذه المعارك أن كتابه "محمد رسول الحرية" ما زال مُصادَرًا في عدد كبير من بلدان العالمَين العربي والإسلامي، وكان مِن مظاهر هذه المعركة العنيفة ما دبَّ بينه وبين الشيخ عبدالحليم محمود في السبعينيات من خلاف بالغ العنف والحِدَّة، وكان من ذلك أيضًا ما دبَّ بينه وبين الشيخ محمد الغزالي مِن خلاف صاخب عندما كان الشرقاوي يَكتب دراسته الواسعة عن "عليّ إمام المتقين"[5].
وذكره الأستاذ أنور الجندي في كتابه "جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام"، (ص: 223 - 252): "ثم نجد تلك الصفحات التي وُسمَت باسم "الإمام علي" في جريدة الأهرام، والتي كتبها عبدالرحمن الشرقاوي، وكيف جدَّد خصومته القديمة للإسلام تحت أسلوب براق مِن الانتماء للإسلام، وغفل عن أن تاريخه لا يزال معروفًا ومذكورًا، وأن كتابه (محمد رسول الحرية) وتقرير الإمام "أبي زهرة" ما يزال بين أيدي الناس.
فإذا تجاوزه قليلاً فرواية: (الحسين شهيدًا) قد دُمغت أيضًا مِن جماعة مِن العلماء، مِن بينهم الدكتور الطيب النجار بالظلم الشديد للمجتمع الإسلامي، على الذي افترى به طه حسين، على العصر الثاني للهجرة في كتابه: (حديث الأربعاء) حين وصفه بأنه عصر شكٍّ ومُجون.
وهو ما ذهب إليه عبدالرحمن الشرقاوي في رواية: (الحسين شهيدًا)، الذي كشف عن أن كاتب الرواية كان حريصًا على تصوير المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنصف قرن فقط في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى، وصار مجتمع عربدة وفجور، ومجتمع شِقاق ونفاق، ومجتمع جبْن وضعف، ومجتمع خيانة ونكث للعهود!
وقد وسم علماء الأزهر المسرحية بأنها تُشهِّر بجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم قدوة لنا، وقد تردَّدت في المسرحية عبارات الاتهام بالكفر والخروج عن الإسلام، وعبارات اللعن والتعريض والتشنيع بالحرمان، كما تناثرت في المسرحية عبارات مأخوذة من جوٍّ غير إسلامي".
يقول سليمان الخراشي:
"فإذا أضفنا هذا التقرير إلى تقرير الشيخ "أبي زهرة" حول كتاب (محمد رسول الحرية) أمكن أن تتكون لنا صورة ذات هدف واضح من كتابات عبدالرحمن الشرقاوي، الذي قدم صلاح الدين الأيوبي في قصة "النسر الأحمر" في قالب غير كريم، ومُجافٍ لحقائق التاريخ.
وهكذا تترابط أعمال عبدالرحمن الشرقاوي على طريق واحد، وهدف واحد، وهو يتابع مخطَّط طه حسين حول بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان كتابه: (محمد رسول الحرية) حلقة رابعة لكتاب: "على هامش السيرة"، كذلك فقد كان كتابه عن: (عليّ) هو الحلقة الثالثة من كتاب: "الفتنة الكبرى".
إنها نفس الأفكار والطريقة والغاية التي رسَمها الاستشراق لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمفاهيمه الباطنية والوثنية، اعتمادًا على مصدر غير مصادر أهل السنة والجماعة، والتوسُّع في الأساطير والخيال القصصي، والاعتماد على كتاب "الأغاني"، ومتابعة خصوم الشيخَين أبي بكر وعمر، كل هذا لا يقدِّم عملاً تاريخيًّا أو أدبيًّا له قيمة ذاتية.
وكتاب "محمد رسول الحرية"، في المناقشة التي قام بها الشيخ أبو زهرة، ركزت على السموم الناقعة في الكتاب، قال: "لم يسلم الكاتب مِن الخطأ، أو بالأحرى كان له اتجاه غير إسلامي من البداية؛ فهو ما درس محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على أنه رسول يوحى إليه، بل على أنه رجل عظيم له آراء اجتماعية فسَّرها الكاتب على هوى ما يريد، مدعيًا أنه قصاص أديب يَصوغ التاريخ في قالَبٍ قصصي فنِّيٍّ.
وفي كتابه له مزاعم، هي:
• أن النبي لم يلقَ جبريل، بل كان حلمًا في المنام.
• يذكر الهمهمة ثم يَقرنها بآية على أنها مِن همهمتِه، ثم يتلو آية أخرى غيرها دون أن ينسبها إلى الله تعالى، ولا لأحد؛ فهي بمنطقه من همهمة النبي أيضًا.
• ادعاء خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن.
• ادعاء أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان رحَّالة مَعنيًّا بما عند الرومان والفُرس.
• يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم الكتابة مِن ملاحظته الحروف.
• هناك نزعة نصرانية نجدها في مواضيع كثيرة، نذكر منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُنادَى مِن السماء: "يا ولدي".
قال الخراشي:
هذا التقرير الذي كتبه الشيخ محمد أبو زهرة عام 1962، وقد حصل عليه منه قبل وفاته الأستاذ محمد نعيم الصحفي الإسلامي، وقد احتفظ به حتى أتيحَت له فرصة نشره عام 1975م.
ولقد صدق الشيخ محمد الغزالي حين وصف الشرقاوي بأنه يَجمع القمامات مِن كتُب التاريخ.
وقال الأستاذ إسماعيل الكيلاني في كتابه "لماذا يزيِّفون التاريخ؟"، (ص: 117 - 119):
"والشرقاوي هذا؛ كاتب تدثَّر بدثار التقدُّمية الماركسية، فلما وجد أن بضاعته مزجاة، وكتبه كاسدة لجأ إلى التاريخ الإسلامي ليقرأ حوادثه مِن خلال المادية التاريخية".
هذا هو المحدِّث الشرقاوي، راوي القصة!!
فهل الشرقاوي مجرَّد أديب يَحيك الخيال، وهو يتبرَّأ مِن التُّهم مِن بداية القصة؛ إذ هو يصرِّح أنها رواية، أي فيها الغثُّ والسمين، فيها نسج الخيال ونسيج العنكبوت، وبين دفات الورق محض خرافة مُمتعة، فالصدق لا يُشترط فيها، فما الذنب إن جاء جاهل وصدَّق كلَّ ما فيها، والفَطِن يعلم أن العلوم تؤخذ مِن مظانها.
قال أنور الجندي:
"أما أسلوب تفسير التراث فإن هناك محاولات لإخضاعه لغير مذهب من المذاهب المطروحة في أفق البحث العلمي، وكلها غريبة عنه، ومنها المنهج المادي، والمنهج الاقتصادي، والمنهج الماركسي، والصِّهيَوني، وكلها مذاهب تقف من تاريخ الإسلام ومِن تراثه موقف خصومة، وتهدف إلى تزييفه والإدالة منه (تفسيرات عبدالرحمن الشرقاوي وأحمد عباس صالح ومحمد عمارة)[6].
وذكر الأستاذ محمد عبدالله السمان أن مجلة (روز اليوسف):
"شنَّت حملةً شيوعيَّة محمومة، على فضيلة الدكتور عبدالحليم محمود، والهدف من هذه الحملة المحمومة التي تولَّى كبرها الكاتب الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي - رئيس مجلس إدارة روز اليوسف- هو القِصاص من شيخ الأزهر؛ لأن فضيلته ذكر في تحقيق صحفي أجرته مع فضيلته مجلة "آخر ساعة"، فقال كلمة الحق معبِّرًا عن رأي الإسلام في الشيوعية.
أقول:
عندما تصدَّى بعض العلماء والكتَّاب للرد على تطاولات الشرقاوي، جنَّ جُنون الأقلام العاملة في فلك "روز اليوسف"، والتي رأت أن واجب الولاء للسيد رئيس مجلس الإدارة يفرض عليها أن تتقيَّأ هي الأخرى أحقادها دفاعًا عنه.
والعجيب أن مهاترات أهل اليسار ليست إلا مغالطات جريئة، وادعاءات ليس فيها بصيص من الحقيقة، ليس هذا وحسب؛ بل إن هذه المهاترات يتخلَّلها أحيانًا ألوان من الدس الرخيص، والاستعداء الرخيص المكشوف"[7].
فلا يأتين أحد يزعم أن الشرقاوي مجرَّد أديب بريء حامَ حول القصص، وهامَ به الخيال في السرد، بل هو صاحب فكْر ودعوة ونشاط، يعلم ما يصنع بحُنكة وخِبرة لقَّنته أن القصص بريد المكْر، ومنفَذ النجدة مِن طائلة القانون، وأنعمُ أسلوب لتمرير الأفكار الشيوعية في قالب المُدافع عن شخصيات إسلامية.
مناقشة قصَّة المُناظرة:
سمَّيتها قصة منذ البداية؛ لأنها فعلاً قصة أدبية، بها خيال الأديب الجامح الذي يَروي شيئًا مِن مُقتَطفات التاريخ، ثم يُحاول الربط بين السلاسل الزمنية، فيبتدع شخصيات وحوارات وأحداثًا.
غير أن هذا الأديب الذي نَجزم أن لا أدب معه، ليس يَروي غَرامًا ولا مغامرات، بل يَحكي عن أصول في الدِّين جرى الجدال فيها، ولكلِّ طرف أتباعه وقومه.
وهذا الأديب يحمل خبثًا قديمًا تفنَّن فيه الزنادقة ثم الباطنية، ثم طلع أفراخهم مِن العَلْمانيِّين والشيوعيين واليساريين، ممن يريد مزج أصول الإسلام بتلك المذاهب، فكان أسلوبهم السهل هو الروايات الأدبية، فإن قرأ الجاهل بتاريخ المسلمين وخلافات الإسلاميِّين، ودقائق المسائل، وثوابت السيَر - علق بذهنِه ذلك الإفك، وإن قرأها أهل الاختصاص زعَم الكاتب أنه كان يَحكي رواية، وخصائص الرواية الخيال و"الكذب"، وهو بريء مِن سوء الفهم، وذا تراه في الأفلام والمسلسلات التاريخية، وما يُسمى بالدينية.
ومثلهم على سبيل المثال سلمان رشدي في كتابه: "آيات شيطانية"، فقد زعم أحد المُدافِعين عنه، وهو مِن المثقفين - ولا نحسبه إلا مِن المُشقفين - أنه كما يجوز للفرد أن ينام ويحلم أنه يأتي أمه، فلا عيب أن يتخيَّل أشياء ويُعبِّر عنها في رواية أدبية، (لا داعي للرد؛ فالسخيف مَفضوح بلسانه).
والقصة لم ترد في كل الكتب التي ترجمَت لابن عطاء الله السكندري ولابن تيمية، لا عند الصوفية ولا غيرهم؛ فهي نسيج خيال، بل مَن حكاها يُقرُّ بذلك، بل حتى أتباع ابن عطاء الله السكندري ممن كانوا مِن أشدِّ الخصوم، بل والفرية على ابن تيمية؛ كالسُّبكيِّ وغيره لم يَحكوا تلك القصة، ولو ثبتَت لتطايروا بها فرحًا.
وكتاب الشرقاوي ليس كتاب علم ولا تاريخ ولا ترجمة، بل هو رواية أدبية، ليس فيه تهميش
ولا توثيق واحد، وكثير مما فيها مِن اللقاءات والحوارات لم تقع أصلاً.
أما القصة - كما أوردَها - فليس فيها شيء يُبيِّن تراجع شيخ الإسلام عن معتقده فيما اتهموه، ولا أنه بهت أمام ابن عطاء الله، ولا أن ابن عطاء الله تفوَّق عليه.
بل طالب العلم الحاذق يَتنبه لضعف اللغة والعبارات وأسلوب المجادلة من ابن عطاء الله - لو فرضْنا صحَّتها.
ففي القصة ما يُزري بابن عطاء الله، ومَن لا يعلم قدر ابن عطاء الله السكندري وملكته اللغوية سيَظنُّ به الظنون، ويحسبه مُبتدئًا في العلم؛ فكلام ابن عطاء الله أرفع مقامًا وبلاغة ونظمًا مما في القصة، فبها طعَن فيه قبل الطعن في شيخ الإسلام.
ومَن حوى جملة مِن العلم وعرف لسان القوم يَعِ كلامي، ويَسترعِ سمعُه عبارات القصة، فيستيقِن أن لا هذا مستوى ابن عطاء الله ولا شيخ الإسلام.
ختامًا:
فبأيِّ كتاب تَحكمون؟! هل هذا دِين مؤمن أم مروءة رجل أن يُجادل بالخرافات؟! بل هل يُصبح قول الصوفية الطرقية القبورية حقًّا إن غلب شيخ الإسلام زعمًا؟
أيصل الكره والغيظ ضدَّ أعلام الناس دينًا وعلمًا أن يُلزمَهم جمع زبالة الكلام مِن قمامة اليساريين، فيتلقفون الكذبة ويُكِّورونها بينهم حتى تَرنو حقيقة؟
وأُنبِّه طلبة العلم ألا يتساهلوا في مثل هذا، فكثير مِن العامة قد يُحسن الظنَّ في أناس، فيتلقَّفون معتقدات باطلة، والأَولى البحث في كل شبهة تشتهر لتُوأَد في مهدها.
[1] الأعلام؛ الزركلي، (1: 221).
[2] البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، (1/ 100).
[3] الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، (1/ 92).
[4] الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب؛ ابن فرحون، (1: 39).
[5] مجلة المصور: حوار مع الشرقاوي، ع 3293 - 28/ 3/1408هـ، (ص: 37 - 38).
[6] محاذير وأخطاء في مواجهة إحياء التراث والترجمة؛ أنور الجندي، (ص: 1).
[7] مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: الوجود الشيوعي الكريه في مصر؛ العدد11، (ص: 76).