اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100215
المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي Oooo14
المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي User_o10

المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي Empty
مُساهمةموضوع: المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي   المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 13:36

المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي


تمهيد:

لاحظنا فيما تقدم ما امتاز به علماؤنا في بحوثهم الأخلاقية أنهم يتعاملون مع الإنسان في حياته وحركته الدائبة الواقعية استرشادًا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا الإنسان الساكن، أو الإنسان في (عالم المثل) كما تخيلته الفلاسفة.



ويأتي الإمام ولي الله الدهلوي فيضخم هذا التصور ويغذيه بعمله وتجاربه الوجدانية فيجعلنا نعايش الإنسان المؤمن الحريص دائمًا على الارتفاع بمستوى نفسه وروحه إلى مستوى الملائكة، وهو دائم الحركة النشطة لتزكية نفسه بالعبادات وتصحيح سلوكه في ضوء العلوم الفقهية الدالة على اجتياز سلوك الطريق المستقيم (فلا يزال المؤمن طوال عمره في مجاهدة نفسه)[1].



ويصح وصف هذه الظاهرة بأنها تعبر عن عظمة الإسلام التي تتجلى دائمًا في شخصيات حسية تفهمه حق الفهم، وتؤمن به أعمق الإيمان، وتعيش كل مبادئه وتعاليمه ومن ثم ينعكس إيمانها في ((سلوك)) إسلامي هو (أعمال صالحة)[2].



أمر آخر لم يعالجه الفلاسفة وهو اكتشاف الصلة الوثيقة بين الطهارة الجسمية الحسية والطهارة النفسية الروحية، ومن هنا شرع الاغتسال والوضوء والتطهر من النجاسات وتنظيف البدن والثياب وأثر كل ذلك على النفس والروح والسلوك، وأيضًا صلة الأطعمة والأشربة بالسلوك الخلقي.



إن الإمام الدهلوي يحذر من تناول الأطعمة والأشربة المحرمة لصلتها الوثيقة أيضًا بالخلق. قال: (اعلم أنه لما كانت سعادة الإنسان في الأخلاق الأربعة - أي الطهارة والإثبات والسماحة والعدالة - وشقاوته في أضدادها، أوجب حفظ الصحة النفسانية وطرد المرض النفساني أن يفحص عن أسباب غير مزاجه إلى إحدى الوجهتين. فمنها أفعال تتلبس بها النفس ومنها أمور تولد في النفس هيئات دنية توجب مشابهة الشياطين والتبعد من الملائكة وتحقق أضداد الأخلاق الصالحة[3] فإن ما يتناوله اللإنسان يؤثر في بدنه ويتحول مزاجه إلى مشابهة الحيوان المأكول فيجل على الأخلاق المضادة للأخلاق المطلوبة من اللإنسان.



وسنعرض في الصفحات التالية بإيجاز شديد لبعض معالم المذهب الأخلاقي للإمام الدهلوي بعد التعريف به وبمنهجه.


التعريف بولي الله الدهلوي

يعد هذا الإمام - كما وصفه الشيخ أبو الحسن الندوي - من نوابغ بلاد الهند، ومن عباقرتها الأفذاذ الذين قل أن يوجد لهم نظير حتى في العالم الإسلامي أيضًا، وكان معروفًا بحكيم الإسلام[4].



وُلد عام 1114هـ وتلقى العلوم عن والده وقرأ أمهات الكتب في العلوم المختلفة، وفرغ من التحصيل وهو في الخامسة والعشرين من عمره واشتغل بالتدريس نحوًا من اثنى عشرة سنة.



وكانت إقامته بالحرمين الشريفين لمدة عامين كاملين فرصة سانحة لتلقي دروس عن كتب السنة على الشيخ أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكردي بالمدينة المنورة فأجازه، كما حضر دروس الشيخ تاج الدين القلعي المكي.



وامتاز الإمام الدهلوي بالفصاحة في اللغة العربية نثرًا وشعرًا، والتبحر في علوم القرآن وأصول الحديث وأصول الفقه والدين مما جعله موضع ثناء علماء عصره، وانتفع بعلمه الكثيرون، كما سعى لإزالة فتن الإشراك والبدع ومحدثات الأمور في الدين[5].



وله مصنفات عدة في علوم القرآن والحديث وأصول الدين والسلوك والسير وله مصنفات عدة في علوم القرآن والحديت وأصول الدين والسلوك والسير والأدب[6].



أما كتابه الشهير (حجة الله البالغة) - مصدر هذه الدراسة - فهو مأثرة الإمام الدهلوي العلمية الرائعة، وهو كتاب موسوعي يحتوي على اجتهاداته في علوم الفقه والحديث والتفسير والعقائد والتصوف ومقارنة الأديان والأخلاق، والسيرة النبوية وأشراط الساعة، كما ينفرد ببيان وشرح أسرار العبادات كلها، وثمراتها المتحققة في الأخلاق الفاضلة وتحقيق السعادة. توفي - رحمه الله - سنة 1176هـ بمدينة (دلهي وله ثنتان وستون سنة).



منهجه:

تجاوز الإمام الدهلوي علاج قضية الأخلاق في نطاق العقل النظري باحثًا في أسرار الدين بمنهج علمي سماه علم (المصالح والمفاسد) مبرهنًا على أن العبادات تثمر مصالح، أي فوائد نفسية وأخلاقية مرتفعًا بالأخلاق العملية المتحققة بالطهارة والإخبات لله تعالى والسماحة والعدالة إلى مستوى الاقتراب من الملائكة.



إنه يرتفع بنا إذا ما صاحبناه بنظراته النافذة وتوجيهاته المخلصة إلى مستوى السلوك الإيماني في مقامات تبلغ بالإنسان مرحلة القرب من الله عز وجل وتذوق محبته، مخططًا لنا المنهج العملي الذي يجعل نفوسنا (الملكية) قاهرة لنفوسنا (البهيمية)، ثم تتجاوز هذا الخط الرفيع فتنتقل من حياة دنيوية الحس والغرائز إلى مستويات تلامس درجات الملائكة وتحيا على حافة الجنة متطلعة إلى نعيمها.



ويبدو للباحث في ثنايا كتابه (حجة الله البالغة) أنه يسجل أذواقه ومواجيده في عبارات صادقة وأسلوب متميز بخصوصيته في التعبير، فإنه مثلًا يفصح عن أثر السهر في العبادة فيصفه بأنه خاصية عجيبة في إضعاف البهيمية (أي إحدى صفتي النفس وهي المضادة للملكية) وهو بمنزلة الترياق[7].



أو عندما يشرح المفعول المجرب لصلاة الاستخارة فيذكر أن فوائدها أن يغني الإنسان عن مراد نفسه وتنقاد بهيميته لملكيته ويسلم وجهه دمه عز وجل، فيسمى العبد في الأمر بعدها بداعية إلاهية لا داعية نفسانية، ثم يضيف بأن ثمرتها ترياق مجرب لتحصيل شبه الملائكة[8].



وهو في كتاباته واجتهاداته وفتاويه يستند إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فقال في (باب الاعتصام بالكتاب والسنة):

(قد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - مداخل التحريف بأقسامها وغلظ النهي عنها وأخذ العهود من أمته فيها، فمن أعظم أسباب التهاون ترك الأخذ بالسنة)[9].



ومن أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي))، وخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة خطًا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].



وبعد أن أورد الإمام الدهلوي هذه النصوص عقب عليها بقوله (الفرقة الناجية هم الآخذون في العقيدة والعمل جميعًا بما ظهر من الكتاب والسنة وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين وإن اختلفوا فيما بينهم فيما لم يشتهر فيه نص ولا ظهر من الصحابة اتفاق عليه استدلالًا منهم ببعض ما هنالك أو تفسيرًا لجمله، وغير الناجية كل فرقة انتحلت عقيدة خلاف عقيدة السلف أو عملا دون أعمالهم[10].



ونراه ينقد بعنف علماء عصره المخالفين لهذا المنهج محذرًا من اتباعهم فوصفهم بعلماء السوء طلاب الدنيا (فإنك إذا أردت أن ترى لفاذج اليهود في هذه الأمة فانظر إلى علماء السوء، طلاب الدنيا، المولعين بتقليد آبائهم، المعرضين عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الذين يستندون إلى تعمقات العلماء وتشديداتهم، واستنباطاتهم التي لا أصل لها من الكتاب والسنة، تاركين كلام الشارع المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحاديث الموضوعة، ويجرون وراء التأويلات الفاسدة"[11].



مكانة الإنسان بين المخلوقات:

في تعريفه للإنسان جعل مدخل الدراسة اختصاص الإنسان بتعريف خاص يميزه عن سائر المخلوقات مع اشتراكه معها في بعض الصفات - كالطول وعظم القامة - فإن كانت السعادة هذه فالجبال أتم سعادة، وصفات يشارك فيها النبات كالنمو المناسب والجمال، فإن كانت السعادة هذه فالورود أتم سعادة وصفات يشارك فيها الحيوان كشدة البطش وجهورية الصوت، وكثرة الأكل والشرب ووفور الغضب والحسد، فإن كانت السعادة هذه فالحمار أتم سعادة.



كذلك فإن التدبيرات والصنائع لا ينفرد بها الإنسان لأن بعض الحيوانات تنفرد بالشجاعة وحب الانتقام والثبات في الشدائد والإقدام على المهالك، وهذه كلها متوفرة في الفحول من البهائم وكذلك أصل الصناعات موجود في الحيوان كالعصفور الذي ينسج العش، بل رب صنعة يصنعها الحيوان بطبيعته لا يتمكن منها الإنسان بتجشم.



ولكن من مزايا الإنسان وصفاته التى لا يشاركه فيها الحيوان القدرة على التعليم، لا بقوى الإدراك العقلية فحسب، بل يتلقى أيضًا المعارف بطريق الحدس أو الرؤيا أو الهاتف مع اختلاف الأفراد، فمنهم الكامل ومنهم الناقص، والناقص يحتاج الكامل، وله صفات يحل طورها عن طور صفات البهائم وهي صفات أخلاقية كالخشوع والنظافة والعدالة والسماحة[12].



كما (أن النفس الإنسانية تبلغ من أرواح الأعمال ما اتفق عليه أمم بنى آدم من عمل الرياضات والعبادات ومعرفة أنوار كل ذلك وجدانًا وشعبة هي أحوال ومقامات سنية كمحبة الله والتوكل عليه مما ليس في البهائم جنسها)[13] (فإن كمال الإنسان أن يتوجه إلى ربه ويعبده)[14].



وينفرد الإنسان أيضًا بطائفة من العلوم التى ترتفع به إلى المستويات العليا الإيمانية أي إلى مقامات تبلغ بالإنسان درجة القرب من الله تعالى بمعرفته ومحبته، وهذه العلوم (يسد بها العقل خلته فيكمل كماله المكتوب له، وتلك الطائفة منها علم التوحيد والصفات، ويجب أن يكون مشروحًا بشرح يناله العقل الإنساني.. فشرح هذا العلم المشار إليه بقوله (سبحان الله وبحمده) فأثبت لنفسه صفات يعرفونها ويستعملونها بينهم من الحياة والسمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام والغضب والسخط والرحمة والملك والغنى، وأثبت مع ذلك أنه ليس كمثله شيء في هذه الصفات فهو حي لا كحياتنا بصير لا كبصرنا قدير لا كقدرتنا مريد لا كإرادتنا متكلم لا ككلامنا ونحو ذلك)[15].



ومن الصفات التي يختص بها الإنسان ولا يشاركه فيها باقي المخلوقات من الحيوانات والنباتات فهي الأخلاق المهذبة والتدبيرات الصالحة والصنائع الرفيعة والجاه العظيم[16].



ويبدو من بحوث كتاب (حجة الله البالغة) اهتمام الإمام الدهلوي بإنقاذ الإنسان من التردي نحو هاوية إشباع الغرائز والشهوات التي تغذي ما سماه (بالنفس البهيمية) والاستعلاء عليها بتزكية ما سماه (بالنفس الملكية) أي إعدادها لتلقي هواتف الملك كما ورد في الحديث النبوي.



(إن للملك لمة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق)[17]، وذلك تفسيرًا لقوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].



التدافع بين قوى النفس البهيمية والملكية:

يشرح الإمام الدهلوي المقصود بقوقي النفس البهيمية والملكية والتدافع بينهما فيأتي إلى قصة خلق آدم عليه السلام، ويرى أن الله تعالى أراد بخلقه أن يكون نوع الإنسان خليفة في الأرض، يذنب ويستغفر فيغفر له، ويتحقق فيهم التكليف وبعث الرسل والثواب والعذاب ومراتب الكمال والضلال، وكان أكل الشجرة حسب مراد الحق ووفق حكمته.



وكان آدم عليه السلام - ما لم يأكل الشجرة - لا يظمأ ولا يضحى ولا يجوع ولا يعرى، وكان بمنزلة الملائكة، فلما أكل غلبت البهيمية وكمنت الملكية.



وتنتهي القصة بأنه عليه السلام استغفر وتاب فتاب الله عليه[18].



ومن هنا فعلى العبد المؤمن السعي الدائم لردع !يميته وتقوية ملكيته، ومن أدبه أن لا يجترئ على طلب سلب نعمة، والحياة نعمة كبيرة لأنها وسيلة إلى كسب الإحسان ويظل يترقى حبًا في لقاء الله، حسب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)).



وهذا بخلاف العبد الفاجر الذي لم يزل يسعى في تغليظ البهيمية يشتاق إلى الحياة الدنيا ويميل إليها[19].



ومن استلهام الإمام الدهلوي لقصة خلق آدم عليه السلام يرى أن السعادة الحقيقية لبنيه في هذه الحياة (انقياد البهيمية للنفس النطقية، واتباع الهوى للعقل وكون النفس الناطقة قاهرة على البهيمية، والعقل غالبًا على الهوى)[20].



وهنا تتحقق مصلحة الإنسان في أن يجعل غاية همته ومطمح بصره تهذيب النفس وتحليتها بهيئات تجعلها شبيهة بما فوقها من الملأ الأعلى وهم أفاضل الملائكة، وتحقيق السعادة عند هذا المقام بالعبادات حيث تنجذب إلى النفس انجذاب الحديد إلى المغناطيس[21].



فبالصلاة تظهر النفس الملكية وتقهر البهيمية، وبالصوم تنكسر البهيمية وتذعن للملكية[22]. وسمحت له حصيلته الوفيرة في حفظ وفهم الآيات والأحاديث من تتبع الآثار المتبادلة بين تزكية النفوس ونشأة الخواطر بواسطة الملائكة[23]، أو أثر النظافة المؤثرة في جذر النفس تقدس النفس وتلحقها بالملائكة[24].



ويحثنا دائمًا على التعرض لصلاة الملائكة والاستعداد لذلك كالحديث النبوي الذي يصف المصلي المحافظ على هيئته بعد صلاة الجماعة بالمسجد أنه إذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث[25].



وفي حثه إلى الدعوة إلى الله تعالى ونشر دينه، يبشر الدعاة بجائزة غالية من وراء الغيب تكسبه سعادة في الدنيا قبل الآخرة، فإن الداعي إذا ذكر الله في ملأ وكان همه إشاعة دين الله وإعلاء كلمة الله، فجزاؤه أن الله تعالى يلهم محبته في قلوب الملأ الأعلى يدعون له ويبركون عليه، ثم ينزل له القبول في الأرض.



هدفه من شرح أسرار الدين:

إن ما يقصده بشرح أسرار الدين، يهدف به تجلية المصالح العائدة على العباد من التدين وأداء العبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج وأفعال الخير كلها.



يقول الدهلوي: (إن مدار السعادة النوعية وملاك النجاة الأخروية هي الأخلاق الأربعة، فجعلت الصلاة المقرونة بالطهارة سببًا ومظة لخلقي الإخبات والنظافة، وجعلت الزكاة المقرونة بشروطها المصروفة إلى مصارفها مظنة للسماحة.. ولابد من طاعة قاهرة على النفس ليدفع بها الحجب الطبيعية ولا شيء في ذلك كالصوم)[26].



والحاج من شأنه أن يذلل نفسه لله فضلًا عن المصالح المرعية وأعظمها تعظيم شعائر الله[27].



إنه بهذه التفسيرات يرد على من يظن أن الأحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح وإنه ليس بين الأعمال وبين ما جعل الله جزاء لها مناسبًا وإن مثل التكليف بالشرائع كمثل سيد أراد أن يختبر طاعة عبده فأمره برفع حجر أو لمس شجرة مما لا فائدة فيه غير الاختبار فلما أطاع أو عصى جوزي بعمله.



ويرى الإمام الدهلوي أن هذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجماع القرون المشهود لها بالخير، فإن الأعمال معتبرة بالنيات والهيئات النفسانية التي صدرت منها وهي شرط في الثواب والعقاب. لا مجرد أعمال آلية[28]، فإن النية روح والعبادة جسد ولا حياة للجسد بدون الروح.. وشبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المواضع من صدقت نيته ولم يتضمن من العمل لمانع بمن عمل ذلك العمل كالمسافر والمريض لا يستطيعان وردًا واظبا عليه فيكتب لهما، وكصادق العزم في الإنفاق وهو مملق يكتب كأنه أنفق.



ويضيق المقام عن ذكر المواضع التي يتضح فيها أن الأحكام معللة بالمصالح، وأن الأعمال يترتب عليها الجزاء من جهة كونها صادرة من هيئات نفسانية تصلح بها النفس وتسر وتدفع الإنسان إلى إصلاح قلبه، ففي الحديث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).



وهي مواضع تجل عن الحصر نكتفي باجتزاء بعضها، فمنها أن القصاص شرع زاجر عن القتل، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 179]، وأن الحدود والكفارات شرعت زواجر عن المعاصي كما قال الله تعالى: ﴿ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ [المائدة: 95] وأن الجهاد شرع لإعلاء كلمة الله وإزالة الفتنة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] وأن أحكام المعاملات والزواج شرعت لإقامة العدل وهكذا..[29].



وغيرها وغيرها، فتحيا الأمة في ظل شجرة الأخلاق الوارفة الظلال، وتتضاءل آلام الحياة الدنيوية إلى أدنى مستوى.



إنه تتبع العبادات كلها وقدم تفسيرًا نفسيًا وأخلاقيًا لكل منها، وعندما عارضه البعض، ناقش اعتراضاتهم بالأدلة وفندها واحدًا فواحد وهى:

1- أن هذا العلم يضيف نوعًا من المعجزات لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى من الله تعالى بشريعة هي أكمل الشرائع متضمنة لمصالح يعجز عن مراعاة مثلها البشر وعرف أهل زمانه شرف ما جاء به بنحو من أنحاء المعرفة حتى نطقت به ألسنتهم، فلما انقضى عصرهم وجب توضيح وجوه هذا النوع من الإعجاز.



2- يحصل به الاطمئنان الزائد على الإيمان، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام (بلى ولكن ليطمئن قلبي).



3- تدفع طالب الإحسان إلى الاجتهاد في الطاعات وهو يعرف وجه مشروعيتها ويقيد نفسه بالمحافظة على أرواحها وأنوارها نفعه قليلها، ولهذا المعنى اعتنى الإمام الغزالي في كتب السلوك بتعريف أسرار العبادات.



4- معرفة الصواب في حالة الخلاف بين الفقهاء فإن علم أسرار الدين بمنزلة علم أصول الفقه بتفاريع الفقهاء، وسبب اختلافهم في الفروع هو اختلافهم في العلل المخرجة المناسبة، وتحقيق ما هو الحق هنالك لا يتم إلا بكلام مستقل في المصالح.



5- الرد على المبتدعة المتوهمين لتعارض بعض أمور الشرع مع العقل ولا دفع لهذه المفسدة إلا ببيان المصالح وتأسيس القواعد.



6- الرد على من زعم رد الأحاديث المخالفة للقياس، فبين أهل الحديث أنها توافق المصالح المعتبرة في الشرع[30].



من مقاصد الشريعة اكتساب الأخلاق الفاضلة:

وفي شرح هذا الغرض يرى الإمام الدهلوي أن الشارع أفادنا نوعين من العلم متمايزين:

أحدهما:

علم المصالح والمفاسد (أي جلب المصالح ودرء المفاسد).



الثاني:

علم الشرائع والحدود والفرائض.



ويعني الدهلوي - في حديثه عن أسرار الدين - بالنوع الأول لأنه المختص بتهذيب النفس باكتساب الأخلاق النافعة في الدنيا والآخرة وإزالة أضدادها، غير مقدر لذلك بمقادير معينة، بل رغب في المحامد وزهد في الرذائل، تاركًا كلامه إلى ما يفهم أهل اللغة، مديرًا للطلب أو المنع على أنفس المصالح، فمدح الشجاعة وأمر بالرفق والتودد والقصد في المعيشة[31].



إنه بهذا التحليل يضفي الصبغة الأخلاقية على الشريعة، وإن من مقاصدها توفير الحياة السعيدة للأفراد والجماعة والأمة بل العالم.



كذلك فإنه دائب الإلحاح على هذا المعنى فأخذ يتتبع صيغ الترغيب والترهيب في الآيات اقرآنية والأحاديث النبوية، مقررًا أن كل مصلحة حثنا الشرع عليها وكل مفسدة ردعنا عنها، فإن ذلك لا يخلو من الرجوع إلى أحد أصول ثلاثة:

1- تهذيب النفس بالخصال الأربع المبنية عليها السعادة وتهذيب النفس إثباتًا أو نفيًا، وهي النظافة والخشوع لرب العالمين وسماحة النفس والسعي في إقامة العدل بين الناس.



ويشرح على ما يترتب على الأعمال من الثواب والعذاب ومعرفة مناسبة الأعمال لأجزيتها وأنها ترجع إلى أصل معقول المعنى، وأن الأحكام معلقة بأصول كلية.



ونظير ذلك ما قاله الفقهاء في حديث (لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى).



ومنها أن الصدقات ترجع إلى تهذيب النفس كالتسبيح والتهليل والتكبير[32].



وهكذا، فإن للترغيب والترهيب طرق، ولكل طريقة سر.. فمنها بيان الأثر المترتب على العمل في تهذيب النفس من انكسار إحدى القوتين أو غلبتها وظهورها، ولسان الشارع أن يعبر عن ذلك بكتابة الحسنات ومحو السيئات كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير في يوم مائة مرة - كان له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه))[33].



ومنها تشبيه ذلك العمل بما تقرر في الأذهان حسنه أو قبحه، كما شبه المرابط في المسجد بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس بصاحب حجة وعمرة، وشبه العائد في هبته بالكلب العائد في قيئه[34].



ومنها ما ينبه على حال العمل إجمالًا من غير تعرض لوجه الحسن أو القبح كقول الشارع (تلك صلاة المناق[35] وليس منا من فعل كذا وهذا العمل عمل الشياطين أو عمل الملائكة، ورحم الله امرءًا فعل كذا وكذا) ونحو هذه العبارات.



ومنها حال العمل في كونه متعلقًا لرضا الله أو سخطه وسببًا لانعطاف دعوة الملائكة إليه أو عليه كقول الشارع - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب كذا وكذا ويبغض كذا وكذا))- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى وملائكته يصلون على ميامن الصفوف))[36].



2- إعلاء كلمة الحق ولقكين الشرائع والسعي في إشاعتها فإن (غلبة الدين على الأديان لها أسباب، منها إعلاء شعائره على شعائر سائر الأديان، وشعائر الدين أمر ظاهر يختص به ويمتاز صاحبه من سائر الأديان كالختان وتعطم المساجد والأذان والجمعة والجماعات).



3- انتظام أمر الناس وإصلاح سلوكياتهم وذلك لأن أكثر المكلفين لا يعرفون المصالح ولا يستطعون معرفتها إلا إذا ضبطت بالضوابط وصارت محسوسة يتعاطاها كل متعاط[37].



النوع الثاني من العلم:

وهو علم الشرائع والحدود والفرائض حيث حدد المقادير وضبط أنواع البر بتعيين الأركان والشروط والآداب بين الندب والإيجاب والتحريم، أي الأحكام المنصوص عنها بالشرع، وهي الأمور التي لا سبيل إلى إدراكها إلا الإخبار الإلهي[38].



ويجعل التوحيد أصل أصول البر وعمدة أنواعه وذلك لأنه يتوقف عليه الإخبات لرب العالمين الذي هو أعظم الأخلاق الكاسبة للسعادة وهو أصل التدبير العلمي[39].



وتتحقق السعادة في رأيه على مستويين:

المستوى الأول:

للقلة من أهل الرياضات الشاقة والتفرغ القوي لإصلاح النفس للآخرة، وهم من المتألهين من الحكماء والمجذوبين من الصوفية فوصل بعضهم غاية مداها، ولكن لو اتبع أكثر الناس طريقتهم لخربت الدنيا[40].



المستوى الثاني:

هم العاكفون على إصلاح أنفسهم البهيمية وتقويم اعوجاجها ودفع الآلام المتوقعة في المعاد عنها (إذ لكل نفس أفعال ملكية (أي تتشبه فيه بالملائكة) تتنعم بوجودها وتتألم بفقدها)[41].



وتتم طرق سعادة هؤلاء بأخلاق أربعة:

1- الطهارة:

وحقيقتها أن الإنسان عند سلامة فطرته وصحة مزاجه وتفرغ قلبه من الأحوال السفلية الشاغلة له عن التدبير إذا تلطخ بالنجاسات وما شابهها انقبضت نفسه وأصابه ضيق وخزي ووجد نفسه في غاشية عظيمة، فإذا ما اغتسل وتطهر ولبس أحسن ثيابه وتطيب اندفع عنه ذلك الانقباض ووجد مكانه انشراحًا وسرورًا وانبساطًا[42].



2- الإخبات لله تعالى:

وحقيقته أن الإنسان عند سلامته وتفرغه إذا ذكر بآيات الله تعالى وصفاته وأمعن في التذكر تنبهت النفس النطقية وخضعت الحواس والجسد لها، فتتهيأ النفس للتوجه نحو بارئها عز وجل وإيمانها في جلاله واستغراقها في تقديسه[43].



3- السماحة:

وحقيقتها كون النفس بحيث لا تنقاد وتخضع مستسلمة لدواعي القوة البهيمية من الشهوات بأنواعها، أو الغضب أو الشح، ولكنها تظل متيقظة، فإذا استغرقت منها هذه الأحوال البهيمية ساعة، فإنه سرعان ما تتخفف وترتفع فوق العلائق الظلمانية إلى مستوى النفس الملكية فيحصل لها الأنس وتصير في أرغد عيش[44].



والسماحة وضدها لها ألقاب كتيرة بحسب ما يكونان فيه: فما كان منهما في المال يسمى سخاوة وشحًا، وما كان في داعية الغريزة الجنسية يسمى عفة وشره، وما كان في داعية الرفاهية والبعد عن المشاق يسمى صبرًا وهلعًا، وما كان في داعية المعاصي الممنوعة شرعًا يسمى تقوى وفجورًا.



ومن وظائف السماحة جعل نفس صاحبها يسعى نحو الكمال المطلوب علمًا وعملًا.



وإذا تمكنت السماحة من الإنسان بقيت نفسه عرية عن شهوات الدنيا واستعدت للذات العلية المجردة[45].



4- العدالة:

وهي متأصة في النفس تصدر عنها الأفعال التي يقاوم بها نظام المدينة والحي بسهولة وتصبح بهذه الصفة كالملائكة. والنفوس المجردة عن العلائق الجسمانية التي ينطبع بها ما أراد الله في خلق العالم من إصلاح النظام بإقامة العدل، فإذا بعث الله نبيًا لإقامة الدين وليخرج الناسخ من الظلمات إلى النور ويقوم الناس بالعدل، فمن سعى في إشاعة هذا النور ووطأ له في الناس كان مرحومًا، ومن سعى لردها وإخمادها كان ملعونًا مرجومًا[46].



إنه بهذا الرأي يعالج قيمة العدل على المستويين الأخلاقي والسياسي، وهذا دأب علمائنا - لا تقليدًا لبعضهم البعض - ولكن بسبب وحدة المنهج الملتزم بالكتاب والسنة لأن قيمة العدل من أبرز القيم الأخلاقية في الشريعة الإسلامية، وتختص بها الحضارة الإسلامية دون غيرها من الحضارات.



ونذكر في هذا الصدد ابن أبي الربيع مؤلف كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) الذي حققه حديثًا الدكتور حامد ربيع - رحمه الله - وقال تعقيبًا على مفهوم العدالة بالذات: (ولعل مفهوم العدالة ليحتل الشطر الأكبر من اهتمامات ابن أبي الربيع. هي ليست مجرد وظيفة، ولكنها أيضًا شرط لازم لصلاحية الممارسة، والعدل هو حكم الله تعالى في أرضه، وهذا النظام للقيم يخلق مجموعة التزامات لا تقتصر على أن تكون نظامية ودينية بل إنها كذلك معنوية.. والواقع أن مفهوم العدل لدى ابن أبي الربيع يتسع فإذا به يشمل جميع أنواع وعناصر المثاليات السياسية، وهو في هذا إنما يعكس التقاليد الإسلامية في أنقى خصائصها)[47].


كيفية اكتساب الأخلاق

وبعد هذه التعريفات النظرية المجملة، تأتي التفصيلات وتخطط الطريق العملي لاكتسابها، وهي:

1- طرق النظافة والطهارة:

لا يخلو منها كتاب من كتب الفقه، وأثرها مجرب يلحق صاحبها بالملائكة وربما يقصد خروج المتطهر من الذنوب كما وردت بالأحاديث، ومنها: ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظافره)) رواه مسلم.



2- يكتسب الإخبات لله تعالى:

بالتجرد من الرذائل البشرية وعدم قبول النفس نقوش الحياة الدنيا وعدم الاطمئنان بها وذلك بالتفكر وهو أنواع:

أ- التفكر في آلاء الله تعالى.



ب- التفكر في صفات الله كالعلم والقدرة والرحمة والإحاطة أي المراقبة عملًا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).



لم يتصور آيات المعية كقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، وقوله عز وجل: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، وقوله سبحانه: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 18]، وغيرها من الآيات والأحاديث.



ج- التفكر في أفعال الله تعالى الباهرة، والأصل فيه قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ﴾ [آل عمران: 191] فيلاحظ إنزال المطر وإنبات العشب ونحو ذلك ويستغرق في منة الله تعالى.



د- التفكر في الموت وما بعده والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذكروا هادم اللذات)) وصفته أن يتصور انقطاع النفس عن الدنيا وانفرادها بما اكتسبته من خير وشر وما يرد عليها من المجازاة[48].



(3- 4) السماحة والعدالة:

يجمع الإمام الدهلوي بين هذين الخلقين، ويعكل اهتمامًا خاصًا للعدالة في ضوء شرح لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((خياركم أحاسنكم أخلاقًا))، ويتركب حسن الخلق من مجموع أمور جامعة بين السماحة والعدالة، فخص باب السماحة: الجود والعفو عن ظلم والتواضع وترك الحسد والحقد والغضب ومن باب العدالة: التودد إلى الناس وصلة الرحم وحسن الصحبة مع الناس ومواساته المحتاجين.



والباب الأول يعتمد على الثاني الذي لا يتم إلا بالأول فبينهما تشابك وارتباط.



وتكتسب أخلاق السماحة بخصال تتوافر في النفس فمنها:

1- الزهد:

فإن النفس ربما تميل إلى شره الطعام واللباس والنساء حتى تكتسب من ذلك لونًا فاسدًا يدخل في جوهرها، فإذا نفضه الإنسان عن نفسه فذلك الزهد في الدنيا، وليس ترك هذه الأشياء مطلوبًا بعينه، بل إنما يطلب تحقيقًا لهذه الخصلة.



2- القناعة:

وذللث أن الحرص على المال ربما يغلب على النفس حتى يدخل في جوهرها فإذا نقضه من قلبه وسهل عليه تركه فذلك القناعة وليست القناعة ترك ما رزقه الله تعالى من غير إشراف النفس[49].



قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض (أي المتاع) ولكن الغنى غنى النفس".



3- الجود:

وذلك لأن حب المال وحب إمساكه ربما يملك القلب ويحيط به جوانبه، فإذا قدر على إنفاقه ولم يجد له بالًا فهو الجواد وليس الجواد إضاعة المال. وليس المال مبغضًا لعينه فإنه نعمة كبيرة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)) ويرى اللإمام الدهلوي أن أنفع الأخلاق في المعاد بعد الإخبات لله تعالى هو سخاوة النفس[50].



4- قصر الأمل:

وذلك لأن الإنسان يغلب عليه حب الحياة حتى يكره ذكر الموت. وليس العمر في نفسه مبغضًا بل هو نعمة - لأنه يصدر عنه الأعمال الصالحات المفضيات إلى درجة الملائكة - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وخط خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط فقال:

هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض (أي الآفات والبليات والأمراض)، فإن أخطأه هذا نهمه هذا، وإن أخطأه هذا نهمه هذا[51].



وقد عالج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بذكر هادم اللذات وزيارة القبور والاعتبار بموت الأقران.



5- التواضع:

وهو أن لا تتبع النفس داعية الكبر والإعجاب حتى يزدري بالناس فإن ذلك يفسد نفسه ويثير على ظلم الناس والازدراء.



6- الحلم والأناة والرفق:

وحاصلها أن لا يتبع داعية الغضب حتى يروى ويرى فيه مصلحة، وليس الغضب مذمومًا في جميع الأحوال.



7- الصبر:

وهو عدم انقياد النفس لداعية الدعة والهلع والشهوة والبطر.





8- خلق العدالة:

وهي تجمع مما إطارها كل هذه الأخلاق ونضيفه إليها بيان حقوق المسلم على أخيه المسلم وحق الوالدين والزوجة على زوجها والزوج على زوجته والأولاد والجار والمريض والشيخ الكبير وحامل القرآن وذي السلطان المقسط.



وقد أورد الإمام الدهلوي أحاديث كثيرة في هذه العلاقات وهي تنبه على خلق العدالة وحسن المشاركة.

[1] حجة الله البالغة ج 2 ص 101.

[2] الشخصية الإنسانية في ضوء القرآن الكريم للدكتور أحمد عبد الحميد غراب ص 11/12 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985م.

[3] حجة الله البالغة ج 2 ص 179- 180 وسيأتي شرح هذه الأخلاق تفصيلًا.

ويحدد ذكر أنواع الحيوانات والطيور المحرمة كالخنزير والسبع والحمار والغراب والحية والعقرب إلخ.. فمنها ما جبل على الإيذاء والاختطاف ومنها ما جبل على الصغار والهوان، ومنها ما تتعيش بالنجاسات أو الجيفة.

[4] ص 5- 7 من مقدمة كتاب (الفوز الكبير في أصول التفسير للإمام الدهلوي بقلم المترجم سلمان الحسيني الندوي). ط دار الصحوة 1407هـ- 1986م.

[5] نفسه ص 14-18.

[6] نفسه ص 20-23.

[7] ج 2 ص 16،15.

[8] ج 2 ص 19.

[9] ج 1 ص 169.

[10] نفسه ص 170.

[11] الفوز الكبير في أصول التفسير، ص 53. ويبدو أنه لقي العنت من معاصريه حيت قال في مقدمة كتابه: (إني في زمان الجهل والعصبية والتعنت واتباع الهوى وإعجاب كل امرئ بآرائه الردية وإن المعاصرة أصل المنافرة، وإن من صنف قد استهدف).

[12] ج 1 ص 22.

[13] ج 1 ص 23.

[14] ج 1 ص 55.

[15] ج 1 ص 23.

[16] ج 1 ص 51- 52.

[17] قال الترمذي (هذا حديث حسن غريب).

[18] ج 1ص 166 باختصار.

[19] ج 2 ص 34.

[20] ج 1 ص 50-51.

[21] ج 1 ص 51.

[22] ج 2 ص 24، 48.

[23] ج 1 ص 166.

[24] ج 2 ص 174.

[25] ج 1 ص 192.

[26] ج 1 ص 164.

[27] ج 2 ص 58-59.

[28] ج 1 ص 9.

[29] ج 1 ص 7.

[30] ج 1 ص 9.

[31] ج 1 ص 129.

[32] ج 1 ص 144.

[33] ج 1 ص 113.

[34] ج 1 ص 115.

[35] تمام الحديث (يجلس يرقب الشمس حتى إذا اصفرت وكانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا) رواه مسلم.

[36] ج 1 ص 115.

[37] ج 1 ص 119.

[38] ج 1 ص 130.

[39] ج 1 ص 58-59.

[40] ج 2 ص 25-53.

[41] ج 1 ص 53.

[42] ج 1 ص 53.

[43] نفسه ص 54.

[44] نفسه ص 54.

[45] ج 1 ص 54.

[46] ج 1 ص 54-55.

[47] سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي ربيع ج 2 ص 292 تحقيق د/ حامد ربيع دار الشعب بالقاهرة 1403هـ 1983م.

[48] ج 2 ص 84- 85.

[49] ج 2 ص 39.

[50] ج 2 ص 85- 86.

[51] ج 2 ص 86- 88.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المذهب الأخلاقي عند الإمام ولي الله الدهلوي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قول الإمام "إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج"
» قول بعض المأمومين نشهد وحقا عند ثناء الإمام على الله
» مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه و أحد الرافضة
» معالم القانون الأخلاقي في القرآن الكريم
» طرق الإلزام الأخلاقي وتنوعها (أو وسائل الردع والزجر)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: