اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100240
موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1) Oooo14
موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1) User_o10

موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1) Empty
مُساهمةموضوع: موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1)   موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 13:28

مع بحث الدكتور إبراهيم الناصر [1]
موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1)


يمكن القول: أنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد.



إن وظيفة الجهاز المصرفي في الاقتصاد، يشبه إلى حد كبير وظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تمامًا، فكما أن القلب يتولى ضخ الدم في عروق جسم الإنسان؛ كذلك يقوم البنك بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية لأي بلد لتعيش وتزدهر، لكن هناك من يحاول تعطيل هذا الجهاز عن القيام بوظيفته خوفًا من أن تكون أعماله مشبوهة بالربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم.



والسؤال الذي لم نعثر له على جواب حتى الآن هو:

كيف ينظر فقهاء المسلمين إلى الظاهرة الاقتصادية للفائدة؟


ولماذا يعتبر القرض بفائدة محرم في نظرهم؟



لمعرفة موقف الشريعة الإسلامية من المصارف يجب أن نستعرض ما يلي:

أولًا: مفهوم الربا في القرآن الكريم.

ثانيًا: مفهوم الربا في السنة النبوية.

ثالثًا: موقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف.

رابعًا: طبيعة أعمال المصارف.

خامسًا: خلاصة البحث.



أولاً: مفهوم الربا في القرآن الكريم:

جاءت آيات القرآن الكريم تحذر من الربا، وتوصي الدائن بالصدقة على مدينه وهكذا، فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: 39]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 275، 276].



وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278 - 280]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130].



وقال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 160، 161].



هذه الآيات الكريمة تبين لنا الربا المحرم في القرآن الكريم، وأسباب التحريم على النحو التالي:

السبب الأول: أن المدين محتاج للصدقة عملًا بظروف الدين، ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه.



السبب الثاني: أن الدائن ينفرد وحده بالمنفعة من الربا، ويستغل أبشع استغلال ظروف ذلك المحتاج للصدقة؛ ولذلك فهو ظالم قد استحق الوعيد الكبير إن لم يذر الربا مع مدينه، عملًا بقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279].



السبب الثالث: إن أخذ الربا هو مجرد تنمية أموال الدائن في أموال المدينين، واستغلال لحاجاتهم من غير تجارة ينتفع بها الطرفان، ولذلك شجب الله سبحانه وتعالى هذه التنمية الظالمة، فقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الروم: 39]. ثم أكد ذلك بإعلان حرمتها بشدة، فقال تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، مشيرًا إلى العمل التجاري الذي ينتفع به الطرفان في كلمة البيع، وإلى فقدان ذلك في الذي ينتفع به طرف واحد.



السبب الرابع: قوله سبحانه وتعالى في أكلة الربا: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وذلك لأن هؤلاء قد استحلوا الأرباح فأتوها من غير طريق التجارة، وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا للمرابين، ولذلك فإن هذه المغامرة في استغلال حاجة غير القادر ومضاعفة الربا عليه كلما حل الأجل وعجز عن الوفاء، تجعل من هؤلاء المستغلين عند عجز المدين عن الوفاء كالذي يتخبطه الشيطان من المس؛ لأنه قد فقد رأس ماله إلى جانب فقده لأرباحه الاستغلالية بعد ان انتظر هذه الأضعاف المضاعفة بفارغ الصبر.



وقد جرى كثير من المفسرين على أن القيام في هذه الآية هو القيام للبعث، ولكن لِمَ لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب معًا؟.



يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:

(قال ابن عطية في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع، كما يقال عمن يسرع بحركات مختلفة، قد جن. أقول: وهذا هو المتبادر، ولكن ذهب جمهور المفسرين إلى خلافه، وقالوا: إن المراد بالقيام هو القيام من القبر عند البعث، وأن الله تعالى جعل من علامة الذين يأكلون الربا يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا في ذلك عن ابن عباس وابن مسعود)[2].



وبعد أن وهن هذا الرأي من جهة ضعف نقله قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه، فإن أولئك الذين فتنهم المال، واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه لذاته، وتركوا لأجله الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال، الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وبين تخبط الممسوس، فإن التخبط من الخبط، وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء، وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية، وما قاله الجمهور.



ومضى الشيخ محمد عبده قائلًا:

(ذلك بأنه إذا كان ما شنع به على المرابين، من خروج حركاتهم عن النظام المألوف وأثر اضطراب نفوسهم، وتغير أخلاقهم، كان لا بد أن يبعثوا عليه؛ فإن المرء يبعث على ما مات عليه؛ لأنه يموت على ما عاش عليه، وهناك تظهر صفات النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها، كما تتجلى صفات النفس الزكية في أبهى مجاليها) [3].



السبب الخامس: أن الربا زيادة طارئة في الدين تفرض على المحتاج للصدقة، وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، تلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول، ولا يقابلها في هذا العقد الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين أي نفع مادي للمدين، وهذا هو أكل أموال الناس بالباطل من غير تجارة ولا رضاء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].



ولذلك كان هذا ظلمًا صريحًا وقد حرمه الله في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]، واستحق الدائن عليه الوعيد الكبير من الله سبحانه وتعالى؛ حيث قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه﴾ [البقرة: 278، 279].



ثانيًا: مفهوم الربا في السنة النبوية:

لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم، وإنما ورد تعيينها في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، رواه محمد بن أبي حنيفة، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الذهب بالذهب، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضل ربا، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضل ربا، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يدًا بيد"[4].



وقد ظهر منذ البداية في السنين الأولى من الصدر الأول من الإسلام تياران متعارضان في أمر الربا، المتشددون فيه يوسعون دائرته حتى تطغى على كثير من ضروب التعامل، والمضيقون منه يحصرونه في دائرة محدودة لا يجاوزها.



يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قُبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة) [5].



فالربا والريبة، أو الربا وشائبة الربا، هذا هو ما دعا المتشددين - وهم في هذه الحيرة من أمر الربا - أن يوسعوا في أبوابه حتى يتقوا، لا هو بالذات فحسب؛ بل هو وريبته، أي: الربا وشائبة الربا.



وعمر نفسه هو الذي يقول: (إنا والله ما ندري لعلنا نأمركم بأمور لا تصلح لكم، ولعلنا ننهاكم عن أمور تصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن الكريم نزولًا آيات الربا، فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم)[6].



ثم يقول: (لقد خفت أن نكون قد زدنا في الربا عشرة أضعافه بمخافته)[7]، ويقول: (تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا)[8].



ويعارض هذا التيار من التشدد في الربا تيار آخر يتلطف فيه ويحصره في دائرة ضيقة، وعلى رأس من يمثلون هذا التيار عبدالله بن عباس ومعه طائفة من الصحابة، يقصرون الربا على الذي كان معروفًا منه في الجاهلية، ونزل فيه القرآن؛ لكن ما لبث التيار الأول أن جرف التيار المعارض، وقامت الكثرة الغالبة في الفقهاء يساندونه ويؤيدونه؛ حتى كانت له الغلبة في الفقه الإسلامي.



على أن فريقًا من الفقهاء وعلى رأسهم ابن رشد وابن القيم، حاولوا أن يكسروا من حدة تطرف المتشددين في الربا، فميزوا بين ربا النسيئة وجعلوه هو الربا الجلي أو الربا القطعي، وهو حرام لذاته، وبين ربا الفضل وجعلوه ربًا خفيفًا أو ربًا غير قطعي، وهو حرام أيضًا؛ لكن لا لذاته؛ بل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فتحريمه هو إذن من باب سد الذرائع.



ثم تأكد هذا الاتجاه باتجاه أكثر منه تضييقًا لمنطقة الربا، فجعل كلًّا من ربا الفضل وربا النسيئة الواردين في الحديث الشريف محرّمين؛ لا لذاتهما؛ بل سدًّا للذرائع، وربا الجاهلية هو وحده المحرم لذاته.



فنحن إذن نواجه - إذا أضفنا اتجاه ابن عباس - اتجاهات ثلاثة متدرجة في التضييق من منطقة الربا، أقلها تضييقًا لهذه المنطقة هو اتجاه ابن رشد وابن القيم الذي يميز ما بين ربا الفضل وربا النسيئة؛ فالأول هو ربًا خفي والثاني هو الربا الجلي.



ثم يتلوه في التضييق الاتجاه الثاني، وهو الذي يميز ما بين الوارد في الحديث الشريف، والربا الوارد في القرآن الكريم، فالثاني دون الأول هو الربا الجلي.



وأشد الاتجاهات تضييقًا لمنطقة الربا هو الاتجاه الثالث الذي كان عبدالله بن عباس يتزعمه، وهو لا يعتمد إلا بالربا الوارد في القرآن الكريم، وهو ربا الجاهلية، فهو وحده الذي يحرمه، ولا يحرم غيره من ضروب الربا؛ فضلًا كان أو نسيئة.



يقول ابن رشد في بداية المجتهد:

(واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفي ما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك.



فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان:

• صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون، فكانوا يقولون: (أنظرني أزدك)، وهذا هو الذي عناه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: "أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بنِ عَبدِالُمطَّلِبِ"[9].



• والثاني: ضع وتعجل، وهو مختلف فيه)[10].



أما ابن القيم فعنده أن ربا النسيئة محرم لذاته تحريم مقاصد، وهو الذي نزل فيه القرآن الكريم، وكانت عليه العرب في الجاهلية، وهو الربا الذي لا شك فيه كما يقول أحمد بن حنبل.



أما ربا الفضل فهو محرم أيضًا، ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع، لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، ووجه ذلك أن بيع خمسة دنانير بسته نسيئة غير جائز، وهذا هو ربا النسيئة، وكذلك هو غير جائز بيعًا حالًّا وهذا هو ربا الفضل، ذلك أننا لو أجزناه حالًّا وحرمناه نسيئة لاتخذ الناس الحال ذريعة إلى النسيئة، ولباع رجل من آخر خمسة دنانير في ستة بزعم أن البيع حال، ويتواضعان على أجلٍ يَقبضُ البائع عند حلوله ستة الدنانير، فيكون قد باع الخمسة في السنة نسيئةً واتخذ ذريعة له في ذلك صورة لبيع الحال، ويكون ربا الفضل ذريعة إلى ربا النسيئة، فحرم تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد كما قدمنا.



نتيجة التمييز بين ربا النسيئة وربا الفضل:

يترتب على التمييز بين ربا النسيئة وربا الفضل نتيجة هامة، ذلك أنه لما كان ربا النسيئة محرمًا لذاته تحريم المقاصد، وكان ربا الفضل محرمًا باعتباره وسيلة تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد، فإن درجة التحريم في ربا النسيئة أشد منها في ربا الفضل، ومن ثم لا يجوز ربا النسيئة إلا لضرورة ملجئة، كالضرورة التي تبيح أكل الميته والدم، أما ربا الفضل فيجوز للحاجة، ولا يخفى أن الحاجة أدنى من الضرورة، فكلما اقتضت الحاجة للتعامل بربا الفضل جاز ذلك، ومن ثم تضيق منطقة هذا الربا إذا قامت الحاجة إلى إباحته في بعض صوره؛ بحيث يتبين في هذه الصور أنه لا يمكن اتخاذه ذريعة لربا النسيئة فينتفي سبب التحريم.



الاتجاه الذي يميز ما بين الربا الوارد في القرآن الكريم (وهو الربا الجلي) والربا الوارد في الحديث (وهو الربا الخفي).



وهذا الاتجاه يقسم الربا إلى ثلاثة أنواع:

الأول: ربا الجاهلية وهو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم، وخصيصته الأولى هي أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول أجل الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي.



الثاني: ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف، وهو أوسع كثيرًا في مداه من ربا الجاهلية؛ بل ويختلف عنه اختلافًا بينًا في كثير من الصور؛ فهو بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون، والجنس بجنسه، نسيئة لا فورًا، ولو من غير تفاضل، وهذا عند الحنفية، أما عند الشافعية فهو بيع الطعام بالطعام، أو الثمن بالثمن، نسيئة لا فورًا، ولو من غير تفاضل.



الثالث: ربا الفضل الوارد في الحديث الشريف، وهو بيع المكيل أو الموزون بجنسه متفاضلًا عند الحنفية، أو بيع الطعام أو الثمن بجنسه متفاضلًا عند الشافعية.



الاتجاه الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم وحده؛ لا ربا إلا في النسيئة:

يستدل أصحاب هذا الاتجاه وعلى رأسهم ابن عباس بحديث رواه ابن عباس نفسه عن أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ربا إلا في النسيئة"[11]، فهم لا يحرمون ربا الفضل، ولا يحرمون إلا ربا النسيئة[12].



وقد ذكر السّبكي في تكملة المجموع:

(أن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وابن الأرقم والبراء بن عازب وروى عن معاوية ما يحتمل موافقتهم، ولفهم كثير من التابعين مثل عطاء، وطاووس، وجابر بن زيد وسعيد بن جبير، وعكرمة وفقهاء الأمصار؛ أن هذه الطائفة رأت أن الربا لا يكون إلا في النسيئة، وكانوا يجيزون ربا النقد[13].



وقال سعيد بن جبير رضى الله عنه: (صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف)، أي: قوله بجواز التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع القبض، وقصر الربا على ربا النسيئة، وهو ربا القرآن الكريم.



ويقول سعيد: (سألت ابن عباس أيضًا قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير فيه بأسًا)[14].



وقال الشافعي رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث: (كان ابن عباس لا يرى في دينار بدينارين، ولا في درهم بدرهمين يدًا بيد بأسًا، ويراه في النسيئة، وكذلك عامة أصحابه)[15].



حقيقة لا تحتاج إلى دليل:

من خلال دراسة مفهوم الربا في السنة المطهرة، يتضح لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن الربا المحرم الذي لا شك فيه هو الربا الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، والتي هي آخر مرة خاطب فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته؛ حيث قال: "أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ ابنِ عَبدِالُمطَّلِبِ"[16]، ونحن نعرف أن ربا الجاهلية باتفاق العلماء هو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم، وخصيصته هي أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول أجل الدين: إما أن تقضى، وإما أن تربى؛ فإن لم يقضِ زاد المدين المال، وزاد الدائن الأجل.



أما ربا الفضل الذي عرّفه سيد قطب بأنه:

(فهو أن يبيع الرجل الشئ بالشيء من نوعه مع زيادة؛ كبيع الذهب بالذهب، والدراهم بالدراهم، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير...وهكذا)[17]، فهو محرم أيضًا، ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع، لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدًا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة.



وقال ابن القيم:

(والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة)[18].



ويؤكد هذا الرأي ما قال به ابن حجر الهيثمي؛ حيث قال:

(كان الربا يتم بأن يدفع الرجل ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر مقدارًا معينًا ورأس المال باقٍ بحاله، فإذا حل الأجل طالبه برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل)[19].



أما الدليل على أن الربا يتخذ صورة التضعيف فهو ما أكده قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، وقد ورد في سبب نزولها: (إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن - العمر -، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني؛ فإن كان عنده شئ يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقه، ثم جذعه، ثم رباعيًّا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل؛ فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مئتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة، يضاعفها له كل سنة أو يقضيه)[20].



لقد بين أهل اللغة والتفسير أن (المضاعف) تفيد إعطاء مثل الشيء مرات، (والضعف): إعطاء المثل مرة؛ لذلك ورد قوله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40].



ثالثًا: موقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف:

إن استعراض مجمل الأحكام المسلم بها لدى أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام يتبين لنا ما يلي:

1- إن الربا محرم تحريمًا (قطعيًا) لا شك فيه.



2- إن الربا المجمع على تحريمه بلا شك هو ربا (النسيئة) الذي كان في الجاهلية، وقد بينه الإمام أحمد لما سئل عن الربا (الذي لا شك فيه) فقد بينه وميَّزه عن غيره، بأن وصفه بأنه (أخذ الزيادة في مقابل التأجيل)، فقال: (هو أن يكون له دين فيقول للمدين إذا حل الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي؛ فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل)[21].



ويقول ابن القيم رحمه الله عن ربا النسيئة:

(هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال؛ حتى تصير المئة عنده آلافًا مؤلفه، وفي الغالب لا يقبل ذلك إلا معدوم محتاج، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوداته)[22].



3- أما ربا الفضل فقد حرِّم سدًّا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز (للمصلحة)، كما قال به العلامة بن القيم.



وقال السيد رشيد رضا في فتواه:

(واعلم أن الزيادة الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل)، وإن كانت لأجل التأخير؛ لكن (ربا النسيئة) المعروف هو ما يكون بعد حلول الأجل لأجل الإنساء (أي: التأخير)[23].



ومعنى ذلك: أن النص عند عقد الدين على الزيادة على أصل الدين في مقابل الأجل هو ربا الفضل، أما إذا حلّ الأجل المحدد في العقد، وطلب المدين تأجيله في مقابل حلول أجل الدين، وذلك لأجل الإنساء فقط، أي: التأخير فقط للدَّيْن القديم، فهذا ربا لا شك فيه، ولا تجوز إباحته بأي حال من الأحوال.



4- قال ابن القيم رحمه الله في موضوع المصلحة في كتاب زاد المعاد تحت عنوان حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرجل ما ليس عنده: (والشرائع مبناها على رعاية مصالح العباد، وعدم الحجر عليهم فيما لابد لهم منه، ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به).



فتناول رحمه الله (الضرورات) أولًا في قوله: (فيما لابد لهم منه)، ثم تناول الحاجات، وهي ما دون الضرورات في قوله: (ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به)[24].



وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في المصلحة أيضًا:

(فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتف شرعًا)[25]، وهذا أيضًا في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات.



وقال الإمام موفق الدين بن قدامه في المغني:

(إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز، وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، وإنما يرد بمشروعيتها)[26].



وقال ابن حزم رحمه الله:

(المفسدة إذا عارضتها مصلحة راجحة، قدمت المصلحة وأُلْغِي اعتبار المفسدة).



ومن ذلك أيضًا القاعدة الشرعية في مختلف المذاهب، وهي: أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة أو حاجة راجحة أبيح المحرم.



5- إن الحكمة في تحريم الربا هي: (إزالة الظلم والجشع) بنص القرآن الكريم، والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون، وأن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279].



وقال الشيخ رشيد رضا رحمه الله في ذلك: (ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطى والتي لولاها فاتتها المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل: ﮋﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ؛ لأنها ضد الظلم، وأن المعاملة التي يقصد بها (الاتجار) لا (القرض للحاجة) هي من قسم (البيع) لا من قسم استغلال حاجة المحتاج)[27].



ثم يضيف الشيخ رشيد رضا شرحًا لذلك فيقول: (وليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد، ولا قسوة على محتاج؛ حتى في دار الإسلام)[28].



6- إن المصارف هي مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة في عهد نزول أحكام الربا في الشريعة الإسلامية، ولذلك تخضع المصارف لأحكام الشريعة على طريق القياس؛ فإذا كان الشبه كاملًا من غير أي فارق بينها وبين ما قد حرمته الشريعة من الربا القطعي فهي محرمة أيضًا قطعًا، أما إذا اختلفت المصارف عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريمًا قطعيًا، وإنما يجب النظر فيها على أساس مصالح الناس في معاشهم؛ فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب دفعًا للحرج الواجب دفعه عملًا بنص القرآن الكريم.



رابعًا: طبيعة أعمال المصارف:

بعد دراسة مفهوم الربا المحرم في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وموقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف، سوف نحاول هنا دراسة طبيعة أعمال المصارف؛ لنرى هل هي تقع ضمن الأعمال الربوية التي ورد تحريمها في القرآن الكريم تحريمًا قطعيًا لا شك فيه؟ أم أنها تختلف عنها تمام الاختلاف؟


وبالتالي ينظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لابد لهم منه، ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به، وذلك طبقًا لما قال به شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله؛ حيث قال: (فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتف شرعًا)[29]، مشيرًا بذلك إلى قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].



وعليه فإن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن الكريم على النحو التالي:

أولًا: في المعاملات المصرفية الدائن هو دائمًا من المالكين لرأس المال؛ غير أنه يملك سيولة صغيرة، أي: وفرًا قليلًا لا يستطيع استثماره، أما المدين فهو دائمًا من كبار المالكين لرأس المال؛ غير أنه لا يملك أية سيولة لتسيير أعماله الكبرى.



وهكذا يتضح لنا هنا أن الذي يحتاج للآخرين في المعاملات المصرفية هم دائمًا الأغنياء الكبار الذين يمدون أيديهم لوفر المالكين الصغار دون العكس.



وبالنتيجة فإن هؤلاء الأغنياء الكبار لا تحل لهم صدقة المالكين الصغار، فيما لو طلبنا إلى هؤلاء الصغار أن يتوبوا وأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء، عملًا بقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 280].



وهذا هو أول ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم؛ حيث أن المدين محتاج إلى الصدقة بعكس المدين في المعاملات المصرفية.



ثانيًا: إن الدائن في المعاملات المصرفية وهو المالك الصغير لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين، كما هو الحال في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم، ولا يستغل مدينًا محتاجًا للصدقة؛ بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري، لا استغلال فيه، فالمدين في حالة الربا الذي حذر منه القرآن الكريم لا منفعة له، وإنما المنفعة قاصرة على (الدائن) وحده؛ بينما الأمر يختلف بالنسبة للمدين في المعاملات المصرفية؛ لأن المدين وهو المالك الكبير مشترك في المنفعة مع الدائن، وهو المالك الصغير، وذلك باستثمار أموال المدين بما فيه مصلحة الجميع.



ثالثًا: المعاملات المصرفية ليست مجرد تنمية لمال الدائن وحده في أموال المدينين، كما هو الحال في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم، وإنما هي تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها، ودعت إليها حاجة الناس أجمعين؛ حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها، وينتفع بها الطرفان المعطي والآخذ، ولولا هذه المعاملة لفاتت المنفعة في آن واحد على المعطي والآخذ، وتعطلت مصالح الطرفين، ولذلك قال المرحوم الشيخ رشيد رضا في فتواه كما سبق: (ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معًا، لا تدخل في تعليل قوله تعالى: ﴿ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]؛ لأنها ضده، وأن المعامله التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع، لا من قسم استغلال حاجة المحتاج)[30]، ويشير بذلك إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].



ويؤكد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر بها على أحد قول الإمام موفق الدين ابن قدامة في المغنى: أن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها، وإنما يرد بمشروعيتها؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتف شرعًا)[31].



ويؤخذ من كل ذلك أن الدائنين في المعاملات المصرفية هم صغار المالكين، ولم يستغلوا المدينين الذين هم جميعهم هنا من كبار المالكين؛ بل قد تبادلوا المنافع معهم بصورة تجارية، وعقد رضائي، من غير أن يكون هناك ظالم أو مظلوم، وهذا هو ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم؛ الذي هو مجرد تنمية لمال الدائن وحده في أموال المدينين، بينما الأمر يختلف بالنسبة (للمدين) في المعاملات المصرفية؛ حيث أن كلًّا من الدائن والمدين مشترك في منفعة بعقد رضائي؛ لا ظلم فيه ولا استغلال.



رابعًا: المتعاملون في المعاملات المصرفية من معط وآخذ جميعهم يشعرون بالأمان والاطمئنان، وذلك لقيام إدارة المصرف نيابة عنهم باتخاذ الإجراءات والضمانات اللازمة لسلامة المعاملة، على السواء لمصلحة الدائن والمدين، بينما الأمر على عكس ذلك في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم القائم في الأصل على توظيف أموال المرابين لدى العاجزين عن وفاء الدين؛ طمعًا فى الأضعاف المضاعفة؛ من دون أي ضامن لذلك، ويكفي في ذلك مغامرة تجعل الدائنين لا يقومون في كل لحظة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وذلك حينما تأتيهم الأخبار والمعلومات الأكيدة من سوء أحوال مدينيهم وعجزهم عن الوفاء، وهذا أيضًا من أهم ما يميز المعاملات المصرفية عن تلك الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم.



خامسًا: الزيادة في المعاملات المصرفية إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية من مدينين أغنياء من رجال الأعمال، وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة، وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية، أي: في مقابل منافع متبادلة، وهذه الزيادة تختلف تمامًا عن الزيادة التي أشار إليها القرآن الكريم، والتي اعتبرها محرمة؛ لأنها لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة، وبعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء.



سادسًا: الفائدة جزء من ربح المضاربة:

إن الفائدة جزء من ربح المضاربة، فنحن نعرف أن البنك يقدم قرضين: قرض استهلاكي وقرض إنتاجي، وقرض الإنتاج: ما هو إلا أخذ مبلغ من المال من البنك للاستثمار والنماء عن طريق النشاط التجاري أو الصناعي أو كليهما معًا، ويلتقي هذا التصرف مع نظير له في المعاملات الإسلامية أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعرف باسم المضاربة أو القراض، وقوامه المال من شخص والعمل لاستثمار هذا المال من شخص آخر؛ بجزء مسمى على جهة الشيوع من الربح.



وبناء عليه: فالفائدة التي تؤخذ على القرض الإنتاجي يمكن احتسابها جزءًا من ربح المضاربة المشروعة.



ولإعطاء الدليل والبرهان على صحة ما نقول به نستعرض ما يتصل بتعريف المضاربة ودليلها، وما ذكره فقهاء الإسلام في العصر الحديث بشأنها:

1- تعريف المضاربة:

يرى الفقهاء أن المضاربة عقد بين اثنين يتضمن أن يدفع أحدهما للآخر مالًا ليتجر به بجزء شائع معلوم من الربح كالنصف أو الثلث أو نحوهما[32].



2- دليل المضاربة:

اختلف الفقهاء في دليلها: فمنهم من قال: إن كل ما دل على جواز البيع وعلى جواز الإجارة وعلى جواز الوكالة دل عليها، ومن هؤلاء أبو الطيب صديق حسن، فقد قال ما نصه: (إن دليل المضاربة داخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275] ، وتحت قوله تعالى: ﴿ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29]؛ بل كل ما دل على جواز البيع وعلى جواز الوكالة دل عليها.



وبيان ذلك:

أن المالك للنقد إذا دفعه إلى آخر ووكله بالشراء له بنقده ما رآه ووكله أيضًا ببيعه، وجعل له أجرة على تولي البيع وتولي الشراء؛ وهي ما سماه له من الربح، فذلك جائز، وجواز البيع والشراء داخل تحت أدلة البيع والشراء، وجواز التوكيل بهما داخل تحت أدلة الوكالة، وجواز جعل جزء من الربح للوكيل داخل تحت أدلة الإجارة، فالقراض - المضاربة - غير خال من دليل يدل عليه العموم؛ بل الذي لم يثبت هو الدليل الذي يدل عليه بخصوصه في عصر النبوة)[33].



ولعل هذا الفقيه لم يثبت عنده ما روي عن المضاربة التي فعلها العباس ابن عبدالمطلب، واشترط لها شروطًا، وأقرها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد ورد: كان العباس بن عبدالمطلب إذا دفع مالًا مضاربة اشترط على صاحبه ألا يسلك به بحرًا، ولا ينزل به واديًا، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجازه[34].



3- ما ذكره فقهاء الإسلام في العصر الحديث بشأن المضاربة:

نُسبَ إلى فضيلة الشيخ الإمام محمد عبده قوله: بجواز تحديد الربح في المضاربة، وأفتى بأن ذلك لا يكون من الربا، فقد ورد عنه: (ولا يدخل منه أيضًا - يقصد الربا - من يعطي آخر مالًا ويجعل له من كسبه حظًا معينًا؛ لأن مخالفة قواعد الفقهاء في جعل الحظ معينًا - قل الربح أو كثر - لا يدخل في ذلك الربا الجلي المخرب للبيوت؛ لأن هذه المعاملة نافعة للعامل ولصاحب المال معًا، وذلك الربا الضار بواحد بلا ذنب غير الاضطرار، ونافع لآخر بلا عمل سوى القسوة والطمع؛ فلا يمكن أن يكون حكمهما في عدل الله واحدًا؛ بل لا يقول عادل ولا عاقل من البشر أن النافع يقاس على الضار، ويكون حكمها واحد)[35].



واتفق فضيلة الأستاذ عبدالوهاب خلَّاف مع رأي فضيلة الشيخ الإمام محمد عبده؛ حيث قال: (إن هذا صحيح شرعًا، واشتراط الفقهاء لصحة هذا العقد: أن لا يكون لأحدهما نصيب معين من الربح اشتراط لا دليل له).



ثم قال: إن هذا تعامل صحيح فيه نفع لرب المال الذي لا خبرة له على استثمار ماله بنفسه، وفيه نفع للتاجر الماهر أو المقاول الناجح، على أن يكون له رأس مال يعمل به ويربح؛ فهو تعامل نافع للجانبين (رب المال والتاجر)، وليس فيه إضرار ولا ظلم لأي أحد من الناس، وسد هذا الباب من التعاون، فيه إضرار، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ")[36][37].



وفي فتوى أخرى لفضيلة الأستاذ؛ ردًّا على سؤال أحد الموظفين:

هل يجوز لي أخذ الربح الذي آخذه من صندوق التوفير؟

ذكر فيها قول (الإمام محمد عبده) السابق، ثم انتهى إلى القول: بأن الإيداع في صندوق التوفير هو من قبيل المضاربة، والمضاربة عقد شركة بين طرفين على أن يكون المال من جانب والعمل من جانب والربح بينهما، وهذا صحيح شرعًا واشترط الفقهاء لصحة العقد أن لا يكون لأحدهما من الربح نصيب معين اشتراط لا دليل عليه، وكما يصح أن يكون بالنسبة يصح أن يكون حظًا معينًا، ولا يدخل في ربا الفضل ولا في ربا النسيئة؛ لأنه نوع من المضاربة، وهذا الاشتراط مخالف لأقوال الفقهاء، ولكنه غير مخالف نصًّا في القرآن الكريم أو السنة[38].



ويرى الأستاذ وفيق العصار عضو مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية أن فائدة القرض جائزة، وعلل بما يلي:

1- الفائدة بمثابة العوض للمقرض عن حرمان نفسه من الانتفاع بماله.



2- الفائدة نوع من المشاركة بين المقرض والمقترض في الربح الذي حصل عليه المقترض باستغلاله واستثماره لمال المقرض.



3- القرض بفائدة يحتمل الخسارة كالتجارة، وذلك عند إعسار المدين وعجزه عن الوفاء؛ إذ يهلك المال على صاحبه فتقابل خسارته لماله الكسب الذي حصل عليه من فائدته.



4- لا يختلف الحال كثيرًا في شركة التوصية عنه في القرض بفائدة، فالشريك الموصى في هذا النوع من الشركات يقدم مقدارًا معينًا من المال، ويكون مسئولًا عن خسائر الشركة بقدر المال المقدم منه، بينما يكون الشريك المفوض الذي يدير أعمال الشركة مسئولًا عن الخسائر بالقسم الذي يقدمه من رأسمالها وفي سائر أمواله؛ فالتعاون في الكسب والخسارة موجود بين الشركاء في شركة التوصية، ومع ذلك لا يعتبر ربح الشريك الموصي حرامًا.



شركة المضاربة أحد الشريكين فيها يقدم المال وآخر يقدم الخبرة والاختصاص والعمل، ويتقاسمان الأرباح، ولا يتحمل فيها الخسائر إلى الشريك المضارب، وهذا النوع من الشركات جائز وشائع[39].



رابعًا: خلاصة البحث:

بعد هذه المقارنة الواضحة بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم، وبين المعاملات المصرفية، يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تمامًا عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا، ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة؛ إقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحته بيع (السلم) رغم ما فيه من بيع غير موجود، وبيع ما ليس عند البائع؛ مما قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأصل.



وقد أجمع العلماء على أن إباحة (السّلم) كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على (السّلم)، وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها.



إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها[40]، ولذلك فإنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه، وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج معاشهم لا مثيل له؛ بل إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية، ويقضي نهائيًا على مصالحهم الاقتصادية، ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم الذين يتحكمون في ثرواتهم؛ بل يستخدمونها لزيادة قوتهم ضد أمة الإسلام.



إننا نتوجه بالدعوة الملحة إلى أهل الخبرة والرأي والإفتاء للتعاون من أجل الوصول إلى إجماع في الرأي يضمن حاجات الناس فيها، لا تتم مصالح معاشهم إلا به، أي تكييف المعاملات المصرفية في حالتي الإيداع والاقتراض على أساس يضمن للأمة الإسلامية الاستفادة من قوتها الاقتصادية في حدود قواعد الشريعة الإسلامية[41].



إن توفير السيولة في المصارف مصلحة اقتصادية ضرورية لإشباع الحاجات المشروعة، ولذلك يجب إلزام المصارف والمقترضين منها بحد أدنى من الأرباح؛ لأن ذلك سوف يشجع على ظهور السيولة في المصارف وعلى إشراك أصحاب الأموال الصغيرة في أرباح المشاريع التجارية الكبيرة والصغيرة ذات المصلحة المحققة، وفي ذلك بلا شك مصالح معاشية ضرورية من غير استغلال ولا ظلم مما هو من خصائص الربا المحرم في القرآن الكريم.



نحن نعرف أن المصارف تقرض بأجل، أي توظف الزمن، ولا شك أن للزمن في ميدان النشاط الاقتصادي دورًا بارزًا لا مجال لإنكاره، ومن ثم فمن حق المتعامل أن يستفيد به، ولذلك جاز بيع السلعة بثمن أعلى نظير الأجل، ومهما قيل في تفسير تلك العملية فإن عنصر الزمن بارز فيها، وأي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف، ونعرف أيضًا أن للزمن قيمة مالية في الإسلام.



وتأييدًا لما نقول نقدم بعض العبارات للإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ؛ حيث قال:

(للطعام الذي إلى الأجل القريب أكثر قيمة من الطعام الذي إلى الأجل البعيد)، وقال: (مئة صاع أقرب أجلًا من مئة صاع أبعد أجلًا منها، أكثر في القيمة)[42]، أي: إن القيمة الحالية لمائة صاع قريبة الأجل أكبر من القيمة الحالية لمئة صاع بعيدة الأجل.



وقرر الفقهاء بمناسبة كلامهم عن ربا النساء أو عن زكاة الديون أن العين خير من الدين (العين خلاف الدين)، والحاضر أفضل من الغائب، والناجز أحسن من غيره، وأن الخمسة نقدًا تساوي ستة مؤجلة[43].



وهذا يُستنبط من تعريف ربا النسيئة نفسه، قالوا فيه:

(هو فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين)[44].



ويقول أيضًا صاحب البدائع:

(ولا مساواة بين النقد والنسيئة، لأن العين خير من الدين، والمعجل أكثر قيمة من المؤجل) [45].



وقد عبر بعض الفقهاء عن القيمة المالية للزمن بقولهم: (يزاد على الثمن لأجل الأجل)، أو بأن: (الثمن المؤجل أنقص في المالية من الحال.



لكن سؤالي هنا في حالة أن البنك المركزي يقوم بتحديد نسبة الفائدة، وهو الجهة المكلفة من الحكومة: ما الحكم في الفائدة المضاعفة التي يفرضها البنك على المقترضين؟[46] [47].



المستشار القانوني

د. إبراهيم بن عبدالله الناصر

• • •
خلاصة ما جاء في بحث
الدكتور إبراهيم بن عبدالله الناصر



1- يرى أن تحريم الربا لاحتياج المدين للصدقة، فلذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه.



2- أن الدائن وحده ينتفع بهذه العملية.



3- أن الربا مجرد تنمية أموال الدائن في أموال المدين، واستغلال ظروفه من غير تجارة ينتفع بها الطرفان.



4- أن نتيجة هذه المعاملة هو أن الدائن يتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس؛ لشعوره بذهاب رأس ماله وربحه عند من لا يستطيع سداده.



5- يرى أن الربا هو من الأرباح المركبة، أما الذي يؤخذ على المستدين من بداية التعاقد - يقصد الربح الأول -، فهو يرى أنه ربا فضل، ويرى أن ربا الفضل تجيزه مصلحة الطرفين.



واستدل على ذلك بأن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن الربا الصريح فقال: هو أن يكون له دين فيقول للمدين إذا حل الأجل: إما أن تقضي، وإما أن ترابي، فإن لم يقض زاد المدين المال - أي: الأرباح -، وزاد الدائن الأجل - أي: أخذ الزيادة - في مقابل التأجيل، وهي ما تسميها البنوك: الأرباح المركبة.



واستدل على أن ربا الفضل:

هو الأرباح المتفق عليها في العقد الأول من غير اشتراط دورانها وتركيبها عند عدم التسديد في الوقت المحدد.



وأن ربا الفضل هذا الذي شرحه جائز للمصلحة بالآتي:

قول السيد رشيد رضا في فتواه: واعلم أن الزيادة الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل وإن كانت لأجل التأخير.



ثم أضاف الشيخ رشيد رضا فقال: ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاهما فاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في تعليل: ﴿ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]، لأنها ضد الظلم، وأن المعاملة التي بقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج.



ثم يضيف نقلًا عن الشيخ رشيد رضا فيقول: وليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج.



واستدل بالقاعدة المشهورة: (أن المشقة تجلب التيسير)، وبكلام شيخ الإسلام في هذه القاعدة وأن الله قال: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وبكلام الإمام أحمد حول هذا المبدأ، وكلام ابن القيم رحم الله الجميع.



ثم أضاف: إن المصارف ضرورية، ولا تقوم الحياة الاجتماعية الحاضرة إلا بها، وإن طبيعة عملها تختلف تمام الاختلاف عن المعاملات الربوية.



واستدل بأن الدائن هو صاحب رأس المال الصغير، أما المستدين عادة فهو الذي يملك العقارات والآلات، ولكنه يحتاج إلى سيولة لينمي ويشغل أجهزته، وأن الدائن وهو المالك لرأس المال لا يختص وحده بالمنفعة من هذا القرض؛ بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة؛ لأن المالك مشترك مع المالك الكبير في المنفعة في هذا القرض...الخ. وهذا لا ضرر فيه على واحد منهما.



ثم يقول ويؤكد شرعية المنفعة التي لا ضرر بها على أحد، بقول الإمام ابن قدامة في المغني: إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز، وإن الشرع لم يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها.



ويقول شيخ الإسلام:

إن ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج ومنتفٍ شرعًا، ثم قال: إن المعطي والآخذ كليهما يشعران بالأمان؛ لأن البنك قد ضمن الجميع وعمل جميع ما يحفظ الطرفين.



ثم طلب من أهل الخبرة والرأي والإفتاء الوصول إلى إجماع في الرأي لتكييف المعاملات المصرفية في حالة الإيداع والاقتراض على أساس يضمن للأمة الإسلامية الاستفادة من المصارف في حدود الشريعة.



ثم قال:

إن توفير السيولة في المصارف مصلحة اقتصادية وطنية لأزمة الأمة، وإن النقود فقدت قيمتها بعد أن أصبحت ليست من الذهب والفضة، وأنها تنتقص قيمتها الشرائية مع الزمن، وبناء على ذلك فإنه يجب الترخيص بالقروض بفائدة.



وقال: لأنه من العدل والإنصاف أن يشترك الدائن والمدين معًا في احتمالات التقلبات النقدية التي تفرضها الظروف الاقتصادية، وذلك بأن يتحمل بعض قيمة النقود في مقابل الفوائد.



هذا خلاصة ما جاء في بحث الدكتور إبراهيم بن عبدالله الناصر.



من كتاب "رسالتان في القدر والربا ومقالات متنوعة" للمؤلف.

[1] هذا هو بحث الدكتور إبراهيم بن عبدالله الناصر، وقد رأيت من المناسب أن أورده كاملًا ليطلع عليه القارئ الكريم، وليعرف ما ورد فيه، ثم أقوم بعد ذلك بالمناقشة والرد، أسأل المولى عز وجل التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والدكتور إبراهيم بن عبدالله الناصر من مواليد عام 1364هـ، وقد حصل على عدة شهادات في الحقوق والقانون، وهو مبتعث من قبل وزارة المعارف لإكمال دراسة المرحلة الثانوية في بغداد، العراق عام 1967م، وحصل على درجة الليسانس في الحقوق عام 1972م، من جامعة بيروت العربية، وحصل على شهادة الدراسات المعمقة في القانون الخاص عام 1977م، من جامعة مرسيليا، فرنسا، ونال درجة دكتوراه الدولة في الحقوق، عام 1984م، فرنسا.

[2] كلام ابن عطية أورده الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار (3/79).

[3] انظر: تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا (3/79).

[4] هذا الحديث بهذا السند والمتن ورد في كتاب الآثار لأبي يوسف برقم (842)، وأبو حنيفة متكلم فيه من جهة ضبطه للحديث، وعطية العوفي ضعفه أحمد وغير، لكن صح الحديث بألفاظ أخر وأسانيد أخر عند البخاري ومسلم، وانظر: شرحه في كتاب المبسوط للسرخسي (12/110، 111).

[5] أخرجه أحمد في المسند (1/36)، رقم (246)، وابن ماجه برقم (2276)، قال البوصيرى (3/35): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، قال أحمد شاكر في تحقيق المسند (246): إسن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
موقف الشريعة الإسلامية من المصارف (1)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الشريعة الإسلامية متهمة بالتناقض والتخلخل
»  سد الذرائع في الشريعة الإسلامية
» الشريعة الإسلامية وفضائلها الأخلاقية
» الشريعة الإسلامية ومتطلبات الحضارة الحديثة
» الحقوق السياسية للمرأة في ظل الشريعة الإسلامية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: