الوسطية
إنَّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغْفِره، ونَعوذ بالله من شرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليْه وعلى آلِه وصحْبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
أمَّا بعد:
فإنَّ خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّد، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرَّ الأُمُورِ مُحدَثاتُها، وكلّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلّ ضلالةٍ في النَّار.
عباد الله:
اللَّه - جلَّ وعلا - ميَّزَ هذه الأمَّةَ بالوسطيَّةِ بين الأممِ؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ثمَّ ميزَ أهلَ السنَّةِ والجماعةِ بالوسطيَّةِ بين فِرَقِ المسْلمين، فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ))، فأهلُ السّنَّةِ هم في جُملتهم أهلُ التوسُّطِ والاعتِدالِ في كلِّ أمورِ الدينِ، عقيدةً وعلمًا وعملاً وأخلاقًا ومواقفَ، وسط بين الغُلُوِّ والتَّقصيرِ, وبين التفريطِ والإفراطِ في سائرِ الأمورِ.
قال ابن القيّم - رحمه الله -: "فدينُ اللهِ وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيرُ النَّاسِ النَّمطُ الأوسطُ الَّذين ارتفعوا عن تقصيرِ المُفَرِّطين, ولم يَلحَقوا بغُلُوِّ المُعتَدين".
وتأْتي الوسطيَّةُ مقابلةً للغُلُوِّ، وهو مجاوزةُ الحدِّ.
يقولُ الله تعالى: ﴿ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ [النساء: 171]، ويقول - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((إيَّاكُم والغُلُوَّ في الدِّين))، قال شيخ الإسلام - رحِمه الله -: "وهذا عامٌّ في جميعِ أنواعِ الغلوِّ في الاعتقاداتِ والأعمالِ".
فأهلُ السنةِ وسطٌ في ذلك كلِّهِ بين الغالي فيه والجافي عنه.
فهم وسطٌ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ بين المُعطِّلةِ والمُشبِّهةِ؛ فيُثبِتونَ ما أثبته اللهُ لنفسِه وما أثبتَه له رسولُه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على الوجْه الَّذي يليقُ بالله, من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكيِيفٍ ولا تَمثيلٍ، لا يتجاوزونَ القرآنَ والحديثَ.
وهم وسطٌ في محبَّةِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيعتقدون أنَّها أصلٌ من أصولِ الإيمان, ويعتقِدون بأنَّ الإيمانَ لا يكتملُ حتَّى يحبَّهُ المرءُ أكثرَ من نفسِه وأهله وماله وولده والنَّاس أجمعين, فلا يقدِّمون محبَّةَ أحد من الخلق على محبَّته, وأيضًا لا يَغلون في محبَّته فيُعطونَه شيئًا من الخصائص الَّتي لا تجوزُ إلاَّ لله؛ لأنَّه بشرٌ, لا يعلم الغيبَ, ولا يُدْعَى من دون الله, ولا يستغاثُ به، كما يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [الكهف: 110], ويقول تعالى: ﴿ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ ﴾ [الأعراف: 188]، ويقول - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((لا تُطْروني كما أطْرت النَّصارى ابنَ مريمَ, إنَّما أنا عبدٌ، فقولوا عبدُ الله ورسولُه)).
وفي القبور: هم وسطٌ بين مَن يغْلو فيها, فيُزخْرِفها أو يُشيِّدها, أو يتخذُها مساجدَ, ويصلي عندها أو إليها, أو يطوفُ بها, ويذبحُ عندها ويدعو أصحابَها، وبين من يُهينُها, أو يطأُ عليها ولا يعرفُ لأصحابِها حرمةً، بل يُوارون أهلَها على ما يَقتضيه الشَّرعُ, ويزورون القبورَ للسَّلامِ على الميت والدعاء والاستِغْفار له, ولا يتجاوزون ذلك.
وفي باب الإيمان والدين: وسطٌ بين الخوارجِ الذين يُكفِّرون أهلَ الكبائر, وبين المُرجئةِ الذين يقولون: لا يضُرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ ما دام صاحبُه ينطقُ بالشهادتَين.
وفي باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر: وسطٌ بين أهل الغلوّ من الخوارج والمعتزلة الَّذين يَغلون في الإنكار حتَّى يصلَ بهم الأمرُ إلى إخراجِ المسلم من الإسلام واستِحْلال دمه, والخروجِ على وليّ الأمر المسلم وشقّ عصا الطَّاعة، وسفْك الدَّم وزعزعة الأمن، وبين مَن يسعون لتعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
وهم وسط أيضًا في أداء العبادات الظَّاهرة, كالصلاة والصيام وسائر العبادات, فلا ينقطعون بها عن الدنيا والسَّعي في تَحصيلِ ما ينفعهم ممَّا أباح اللهُ, ولا ينشغلون بالدُّنيا عنها، بل يفعلون ما أوجبَ اللهُ عليْهم، ويُكَمِّلونَه بالنَّوافل على حسب القدرة والاستِطاعة, ويعتقدون جازمين أنَّ الوسطيَّةَ في ذلك لا تتحقَّقُ إلاَّ بِمتابعة النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ خيرَ الهدي هديُ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا يزيدون على هديِه بعباداتٍ لم تُشرع, ولا ينقصون.
بل هم وسطٌ أيضًا حتَّى في أمور الدنيا: فلا يغلون في طلبها وتَحصيلها حتَّى تكونَ شغلَهم الشَّاغلَ, ولا ينقطعون عن بذْل أسبابِ الرِّزْقِ الحلال والعيْش الهني, والتمتُّع بما أباحَ اللهُ, من غير إسراف ولا مَخِيلَةٍ.
بارك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغْفِر الله لي ولكُم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، إنَّه هو الغفور الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدْوان إلاَّ على الظَّالمين، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصْحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد، عباد الله:
فقد قال العلماء: ما أمرَ اللهُ بأمرٍ إلاَّ وللشَّيطان فيه نْزغتان:
إمَّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ, وإما إلى إفراطٍ وغُلُوٍّ، ودين الله وسطٌ بين الجافي عنْه, والغالي فيه, كالوادي بين جبلَين, والهُدَى بين ضلالتَين، فكما أنَّ الجافيَ عن الأمْر مضيعٌ له, فالغالي فيه مضيعٌ له, هذا بتقْصيره عن الحدِّ، وهذا بتجاوزِه الحدَّ.
بل أَمَرَ الشرعُ بنَقِيضِ الغُلُوِّ والتشدّدِ، وهو اليُسرُ؛ وذلك رحمةً بعباده ولطفًا بهم، وهو مُقتَضَى اتِّصافِهِ تعالى بصفاتِ الرَّحمةِ، والرَّأفةِ، والرفقِ، واللُّطفِ.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه، والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين يا ربَّ العالمين.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدّين.
اللَّهُمَّ انصر دينَك، وانصُر مَن نصر دينَك، واجعلنا من أنصارِ دينِك، يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغنى.
اللَّهُمَّ اجعلْنا ممَّن إذا أُعطِي شكر، وإذا أَذنب استغْفر، وإذا ابْتُليَ صبر.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَعَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا، اللَّهُمَّ أَعْطِنَا ولا تَحْرِمْنا، وأكْرِمْنَا ولا تُهِنَّا، وزِدْنا ولا تَنْقُصْنا، وآثِرْنا ولا تُؤْثِرْ عَلَيْنا.
اللَّهُمَّ ربَّنَا حَبِّبْ إلَيْنا الإيمانَ وزَيِّنْهُ في قُلُوبِنا، وكَرِّهْ إليْنا الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ، واجْعَلْنا يَا رَبَّنا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
اللَّهُمَّ اغفِر لنا ولآبائِنا ولأمَّهاتِنا، ولأوْلادنا ولأزْواجِنا، ولجميع المسْلمين والمسلمات، والمؤمِنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللَّهُمَّ وآمنَّا في أوْطاننا، وأصْلِح أئمَّتَنا وولاة أمورنا، اللَّهُمَّ وارزقهم البطانة الصَّالحة النَّاصحة.
اللَّهُمَّ ارفعْ عنَّا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفِتَن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدِنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة، يا رب العالمين.
﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]. ﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]. ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].