الصراط
الحمد لله الذي أرادَ فقدرَ، وخَلَق فأمر، جعَلَ الحياة الدنيا دارَ عبورٍ ومَمَر، وجَعَل الآخرة دارَ مقامٍ ومَقر، أشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، كتَبَ على عباده اجتيازَ الصراط، كلٌّ حسبَما قدَّم من حسنات وسيِّئات، وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبَ قلوبنا محمدًا رسولُ الله، أول العابرين، والشافع والمشفَّع يومَ الدِّين، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومَن تَبعهم ونَهَجَ نهجَهم من المؤمنين، صلاةً عَطِرة موصولة إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
إخوة الإيمان والعقيدة، تحتاج الأنفسُ أن تُذَكَّر بين حِينٍ وآخَر بما ينتظرُ الإنسان من مواقف وعَقَبات يوم القيامة، ولقاؤنا في هذا اليوم المبارَك يكون عند الصراط، فبعد مشهد الحشر والعَرْض والحساب بأرض الْمَحْشر، بعدما كانت الشمس فوق الرؤوس والعباد منهم مَن يبلغ عَرَقُه رقبتَه، ومنهم ما دون ذلك، ويَمضي عَرَقُهم في الأرض سبعين ذراعًا تختفي الشمس عن الخلائق، ويدخُل الناس في ظلامٍ دامسٍ لَم يعرفوا مثيلاً له قطُّ؛ ليبدؤوا سَيْرَهم نحو الصراط وهم في ذلك على ثلاثة أصناف:
• مؤمنون نورُهم يُضِيء لهم الطريق.
• كفَّار لا نورَ لهم، وهم في ظلامٍ شديدٍ.
• منافقون لهم نورٌ زائفٌ كلَّما أضاء انطفَأ؛ يقول الصحابي أبو أُمَامة: تُبْعَثُ ظلمة يوم القيامة، فما من مؤمنٍ ولا كافر يرى كَفَّه؛ حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقَدْرِ أعمالهم؛ يقول الله - جل جلاله -: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾ [الحديد: 12].
لكلِّ مؤمنٍ نورٌ خاصٌّ به؛ جاء في صحيح الترغيب قولُ حبيبنا - صلى الله عليه وسلم-: ((فمنهم مَن يُعْطَى نورَه مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم مَن يُعْطَى نورَه أصغرَ من ذلك، ومنهم مَن يُعْطَى نورًا مثل النخلة بيمينه، ومنهم مَن يُعْطَى نورًا أصغرَ من ذلك، حتى يكون آخرُهم رجلاً يُعْطَى نورَه على إبهام قَدَمِه، فيُضيء مرَّة ويُطْفِئ مرَّة، فإذا أضاء قدَّم قَدَمه فمشى، وإذا أُطْفِئ قامَ))، ونور هذه الأُمَّة بفضْلٍ من الله ورحمةٍ مِن آثار وضوئها وسجودِها.
سُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن حاله وحال أُمَّته في ذلك الموقف العظيم، فقال - وقوله عند الإمام أحمد -: ((أنا أوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ له بالسجود يومَ القيامة، وأنا أول مَنْ يُؤْذَن له أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَه، فأرْفع رَأْسي، فأَنْظُر إلى بين يديَّ، فأعرف أُمَّتي من بين الأُمم))، فقال له رجلٌ: يا رسول الله، كيف تعرف أُمَّتك من بين الأمم؟ قال: ((هم غُرٌّ مُحَجَّلون من أثَر الوضوء، ليس أحدٌ كذلك غيرهم،ينطلقون نحو الصراط والملائكة من حولهم يبشِّرونهم بجنات النعيم))؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12].
أمَّا أهل النفاق الذين يُظهِرون ولاءَهم لهذا الدِّين، ويُخْفون كفْرَهم وإلحادَهم، فإنَّ نورَهم إذا بلغوا مشارف الصراط ينطفِئ، فيُناشِدون أهلَ الإيمان أنْ يعطوهم بعضًا من نورهم، لكن هَيْهَات! لا المؤمن قادر على أنْ يعطيَ بعضًا من نوره ولو لوالده أو ولده، ولا المنافق يحصل على شيءٍ؛ يقول ربُّ العالمين - جل جلاله -: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 13 - 14].
المنافقون ينادون المؤمنين: ﴿ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ﴾ ألَم نصلِّي جميعًا؟ ألَم نصمْ مثلكم رمضان ونصلِّي التراويح، ونفعل الخير كما تفعلون؟ يقولون لَهم: نعم، كنتُم على ذلك معنا ﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ تظاهرتُم بولائكم للإسلام، وأخفيتُم كُرْهَكم له ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ بأهْل هذا الدِّين، انتظرتُم منهم هَفْوة أو زَلَّة لسان ﴿ وَارْتَبْتُمْ ﴾ وتشكَّكتُم في الإسلام ورسول الإسلام، وقلتُم: إن القرآن ليس من عند الله، وإنَّ السُّنة لَم تَعُدْ صالحةً لزماننا، ﴿ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ﴾ زعمتُم أنكم على حقٍّ، وأنكم أصحاب الرأي والفِكر ﴿ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ والتفَّتِ الساق بالساق، وحضركم الموتُ، وعلمتُم الحقيقة؛ حقيقةَ أنَّ الذي جاء به محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقٌّ، وأنَّ الله لا يقبل غير الإسلام دينًا ﴿ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ غرَّكم الشيطان، وزَيَّن لكم كبرياءَكم وكُرْهَكم للإسلام والمسلمين، يرى المؤمنون حال الكفار والمنافقين وهم يتخبَّطون في الظلام، فيتضرَّعون إلى ربِّهم؛ حتى يحفظ لهم نورَهم؛ يقول - جل وعلا -: ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
يصِلُ الجميع إلى الصراط، والصراط: جسر فوق جهنَّم لا يَصِل الناس إلى الجنَّة إلا بعد المرور منه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وقوله عند الإمام أحمد -
(ولجهنَّمَ جِسْرٌ أدقُّ من الشعر، وأحَدُّ من السيف، عليه كلاليبُ وحَسَك، يأخذون مَن شاء الله)).
أمَّا أهل الكفر والنفاق، فتتلقَّاهم زبانِيَة العذاب بالأغلال والسلاسل، أما الأغلال فيجمعون بها بين الأيدي والأعناق، وأما السلاسل فيُقَيِّدون بها الأرْجُلَ ويَصِلُونها بالأغلال، ثم تجرُّهم الزبانِيَة بعنفٍ ويُلْقون بهم في النار؛ يقول الله - جل جلاله -: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴾ [القمر: 48].
وأما أهل الإيمان، فيتزاحمون فوق الصراط، والرُّسل يتضرَّعون إلى خالقهم، والملائكة ينادونه: ربِّ سَلِّم، سَلِّم؛ يقول حبيب هذه الأُمَّة - صلى الله عليه وسلم، وقوله في صحيح الترغيب -: ((فيمرون على قَدر نورهم؛ منهم مَن يمرُّ كطرْفة العين، ومنهم مَن يمرُّ كالبَرْق، ومنهم مَن يمرُّ كالسحاب، ومنهم مَن يمرُّ كانقضاض الكواكب، ومنهم مَن يمرُّ كالريح، ومنهم مَن يمرُّ كشدِّ الفرس، ومنهم مَن يمرُّ كشدِّ الرجل، حتى يمر الذي يُعْطَى نورَه على ظهْر قَدَمَيه، يحبو على وجهه ويديه ورِجْليه، تَخرُّ يدٌ وتُعَلَّق يدٌ، وتَخرُّ رِجْلٌ وتُعَلَّقُ رِجْلٌ، وتُصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خَلص وقفَ عليها، فقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لَم يُعْطِ أحدًا؛ إذ أنجاني منها بعد إذ رأيتُها)).
هذا مرور المؤمنين على الصراط، لكن هل من المؤمنين مَن لا يعبرون، ولا يجتازون الصراطَ، ولا يصلون إلى الجنة؟ أورد الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خَلَق الله الْخَلْق، فلمَّا فرَغَ منه قامتِ الرَّحِم قالتْ: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا تَرْضينَ أنْ أصِلَ من وَصَلك، وأقطعَ مَن قَطَعك، قالتْ: بَلَى يا ربُّ، قال: فذاك لكِ)).
هذه الرَّحِم تكون بيننا في حياتنا الدنيا، يَسْعَد مَن قام بحقِّها في هذه الحياة، ويعيش في وحْشَةٍ وغُرْبة من قَطَعها، ولو كان بين أهْله، أمَّا يوم القيامة، فإنَّها تَقِف على جانب الصراط تُنادِي: يا رب، أنجزْ لي ما وعدتَني، فيقف أمامها كلُّ قاطعِ رحمٍ، يحاول أن يتجاوزَها، فلا يستطيع، حتى ينزلق في النار؛ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله في الصحيحين واللفظ لمسلم
(لا يدخُلُ الْجَنَّة قَاطِعُ رحمٍ))، فلينظر الإنسان إلى حاله مع رَحِمِه وليحذرْ؛ فإنَّ الموقف خطير، قد يعبد الإنسان ربه، ويجتهد في العبادة، قد يعمل الصالحات ويفعل الخير، لكن إذا قطعَ رحمه، إذا خاصَمَ إخوته، وأقسم حتى لو ماتَ أحدُهم لا يتبع جنازته، وأوصى إنْ مات هو أن يمنعوهم من إتباعه، إذا حُكِم عليه أن يهجرَ أُمَّه أو لا يقبلها للعيش عنده، ولا يزورها، إنْ عاش الأب في خَصَاصة والولد في رَفَاهة - ضاعت الصلوات والعبادات، وذابتِ الحسنات، ووقفتِ الرَّحِم على الصراط، وانزلقَ الإنسان في الهاوية؛ ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 10 - 11].
فليراجع المؤمن أمرَه في الدنيا، وليصفح ويعفو، وعليه بصِلَة رَحِمه ولو قطعوها؛ ليجتازَ الصراط مع الآمنين.
ثم ماذا؟ الجانب الأول من الصراط عليه الرَّحِم، فمَن على الجانب الثاني؟ على الجانب الثاني تقف الأمانة، وما أدراك ما الأمانة؟ فحياتُنا أمانة وأجسادُنا أمانة، والعمل أمانة، والبيت أمانة، والوالدان أمانة، والزوجة والأبناء أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والقلبُ أمانة، والجارُ أمانة، والبيع والشراء أمانة، والدَّين أمانة، وكلُّ ما يُحيط بالإنسان أمانة، من أجل ذلك عَرَض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأَبَيْنَ أن يتحمَّلْنَ مسؤوليَّتها وأشْفَقْنَ منها؛ يقول ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
تقفُ الأمانة يوم القيامة على الصراطِ، فتستوقف كلَّ مَن ضيَّعها، يأتيه مَلَكان وهو على الصراط يقولان: أدِّ الأمانة حتى تمرَّ، فيقول: ذهبتِ الدنيا بالأمانة، فيقولان له: انظر تحتك، فيراها في قاع جهنَّم، فيأمرانه بالإتيان بها، فيخرُّ في النار، هذا موقف الأمانة، فعلى المؤمن في هذه الحياة أنْ يرافقَه الشعورُ بهذه المسؤوليَّة العُظْمى التي أخبرَنا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، في صحيح الإمام مسلم - بقوله: ((تُرْسَل الأمانةُ والرَّحِمُ، فتقومان جَنبَتَي الصراط يمينًا وشمالاً)).
فمَن وصَل رَحِمَه وأدَّى أمانته فازَ يوم القيامة، وتجاوز الرَّحِم والأمانة بأمان وسلامة، وذلك قول الله - جل جلاله-: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185].
اللهم اجعلْنا من عبادك الفائزين، وعن النار مُزَحْزَحين، وعلى الصراط من الناجين، وبالجنَّات من الغانمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم.