اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الذخيرة في إصلاح السريرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100265
 الذخيرة في إصلاح السريرة Oooo14
 الذخيرة في إصلاح السريرة User_o10

 الذخيرة في إصلاح السريرة Empty
مُساهمةموضوع: الذخيرة في إصلاح السريرة    الذخيرة في إصلاح السريرة Emptyالجمعة 3 مايو 2013 - 4:33

الحمد لله بارئ البريَّات، العالم بالظواهر والخفيَّات، المطَّلع على الضمائر والنيَّات، أحمده على ما أسداه مِن الفضائل والكرامات، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحْدَه لا شريك له، فهو المستحقُّ لجميع العبادات، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله خاتم الرسالات، صلى الله عليه وعلى آله وصحْبه المسارعين للخيرات، وسلم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين.



أما بعدُ:

فاتقوا الله عباد الله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾[البقرة: 281].



معاشر المؤمنين والمؤمنات، إنَّ المتأمل في نفْسه ومَنْ حوله من الناس بكافة طبقاتهم ليرى اهتمامًا بالغًا وانصرافًا تامًّا - إلا مَن رحم الله - إلى العناية بالمظاهر المرئية، والأشكال السطحية، وغفلة تكاد تكون عامَّة عن العناية بالأعمال القلبيَّة، والذخائر الخفيَّة، فكم يُتعب كثيرٌ من الناس نفْسَه، ويُرهق بدنه، ويذهب ماله دون أجر أو ثواب، بل لربما لَحِقه من ذلك الوزر والعقاب - والعياذ بالله تعالى.



أليس يعمل بعض الناس ويُنفق طلبًا لمصالح دنيوية، وأغراض شخصية، وآخرون يُظهرون الحبَّ والتصنيع، ويُبطنون البُغض والقطيعة، وغيرهم يتزيَّنون للناس بالطاعة، وإذا خلَوْا بارزوا الله بالمعصية!! فالمظاهر زاهية والبواطِن واهية، وهم في ذلك ما بين مستقلٍّ ومستكثرٍ، والله المستعان؟! مظاهرُ تخلب الأبصار، ولكن ماذا لو انكشف الخمار، وأزحنا الستار عمَّا تكنه القلوب وتخفيه، ويُجلله الظلام ويغطيه، مما لا يطلع عليه إلا الله، ولا يعلمه أحد سواه؟!



يقول الله - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 29]، ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4].



إنَّها الغفلة التي تجعل العبد يُبدي ما لا يُخفيه، ويُخفي ما لا يُبديه؛ ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [النساء: 108]، إنَّ العناية بالسريرة وهي ما يستتر عن الناس، ولا يطلع عليه إلا الله مِن أعمال القلب أو الجوارح، لهو أمرٌ في غاية الأهمية، ويزداد أهميةً كلما رأينا إغفالَ الناس له مع قلة التذكير به، قال حذيفةُ بن قتادة: "إنْ أطعتَ الله في السِّر أصلح قلبَك شئت أو أبيت".



إنَّ العناية بإصلاح أعمال القلوب مِن أهمِّ المهمات، وأوجب الواجبات، وأجلِّ القربات والطاعات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحتْ صلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب)).



قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: "فأخبر أنَّ صلاح القلب مستلزمٌ لصلاح سائرِ الجسد، وفساده مستلزمٌ لفساده، فإذا رأى ظاهر الجسد فاسدًا غير صالح علم أنَّ القلب ليس بصالِح بل فاسد، ويمتنع فساد الظاهر مع صلاحِ الباطن، كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن؛ إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازمًا لصلاح الباطن وفساده"، وقال أبو حاتم: "قطبُ الطاعات للمرءِ في الدنيا: هو إصلاح السرائر، وترْك إفساد الضمائر"، وسُئل أحمد بن الخضر: أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: "رعاية السِّرِّ عن الالتفات إلى شيءٍ غيرِ الله - عزَّ وجلَّ" اهـ.



فينبغي للمرء المسلم أن يعتنيَ بهذا الباب العظيم بالقلْب وإصلاحه، وتزكيته وتهذيبه؛ قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أعمال القلوب أفضلُ مِن أعمال الجوارح". اهـ.



فينبغي للعبد أن يتعرَّف على ما يحبُّ الله ويرضاه، وأن يُخلص قلبه ممَّا يضاده.



وأعمال القلوب تتضمَّن: إخلاصَ الدين لله تعالى، والنصح له ولعباده، وسلامة القلْب لهم من الغشِّ والحسَد والحِقْد، وتوابع ذلك من أنواع الأذى، وكذلك وَجَل القلوب مِن ذِكْر الله تعالى، وخشوعها عندَ سماع ذِكره وكتابه، وزيادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكُّل على الله، وخوف الله تعالى سرًّا وعلانيةً، والرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - رسولاً، واختيار تلَف النفوس بأعظم أنواع الآلام على الكُفر، واستشعار قُرْب الله تعالى من العبد ودوام استحضاره، وإيثار محبَّة الله ورسوله على محبَّة ما سواهما، والحب في الله والبُغض في الله، والعطاء له والمنع له، وأن تكونَ جميعُ الحركات والسكنات له، وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية، والاستشعار بعملِ الحسنات والفرَح بها، والمساءة بعمل السيِّئات والحُزن عليها، وإيثار المؤمنين لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أنفسهم وأموالِهم، وكثرة الحياء، وحُسْن الخُلُق، ومحبَّة ما يُحب لنفسه لإخوانه المؤمنين، ومواساة المؤمنين ومناصرتهم والحُزن بما يحزنهم، ومعاداة الكافرين وبُغْضهم وعدم الرُّكون إليهم، وغيرها مِن أعمال القلوب.



هذه الأعمال - عباد الله - هي محل نظر الربِّ - عزَّ وجلَّ؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامِكم ولا إلى صُوركم، ولكن ينظُر إلى قلوبكم وأعمالِكم))؛ رواه مسلم.



ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّه ليأتي الرجلُ العظيم السمين يومَ القيامة لا يَزِن عندَ الله جَناح بعوضة؛ اقْرَؤوا: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]))؛ رواه مسلم.



وما أصابَ المسلمين ما أصابَهم اليوم مِن الذُّل والصَّغار وهم الأعلون في الأصل إلا بسبب فسادِ بواطنهم؛ يقول - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود: ((يُوشِكُ أن تَدَاعى عليكم الأمم كما تَدَاعى الأكَلَةُ إلى قصعتها))، قالوا: أمِن قِلَّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم كثير، ولكنكم غثاءٌ كغُثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله المهابةَ مِن صدور أعدائكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهَن))، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموت)).



إنَّ الخلوة بالنفْس الأمَّارة بالسُّوء أمرٌ خطير، وابتلاءٌ عظيم، فها هو اللَّيل قد أرْخَى سدوله على العبد، وأخفاه عن أعيُن الناس، وها هي الأبوابُ قدْ أغلقت وأحكم إغلاقها، وقدِ اجتمعتْ على العبد دواعي الشهوة، وأسباب المعصية ووساوس الشيطان، فهل يا تُرى يقدم على المعصية ناسيًا أو متناسيًا نظَرَ الرب - جل وعلا - مُتجاهلاً نظرَ مَن لا تخفى عليه خافية، أم يغلبُ نفْسُه وهواه، فيتركها لوجه الله؟ أيقدم على المعصية حال خلوته مع ربِّه، ويبتعد عنها عندَما يكون بين الناس؟ ولسان حاله يقول:


أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الْأَبْوَابَ مُجْتَهِدًا
عَلَى المَعَاصِي وَعَيْنُ اللَّهِ تَنْظُرُنِي
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلاَ تَقُلْ
خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً
وَلاَ أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ



إنها مزلَّة أقدام، ومضلَّة أقوام، أين الخوفُ مِن الله؟ أين اليقينُ بمُراقَبته؟ أهو الخوف من الخَلْق دون الخالِق: ﴿ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ ﴾ [التوبة: 13]، قال ابن عباس - - رضي الله عنهما - يا صاحب الذنب، لا تأمنن مِن سوء عاقبتِه، ولمَا يتبع الذنب أعظمُ مِن الذنب الذي عملتَه، وخوفك من الرِّيح إذا حرَّكت سِترَ بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادُك من نظَر الله إليك، أعظمُ مِن الذنب إذا فعلتَه. اهـ.



وقال بلال بن سعد - رحمه الله -: لا تَكُن وليَّ الله في العلانية، وعدوَّه في السر.



إنَّ مَن يُقدِم على الذنب في تلك الحالة يكون قد عرَّض نفسه للعقوبة والفضيحة العاجلة في الدُّنيا، والآجلة في الآخِرة أمامَ الناس أجمعين يومَ تُبْلى السرائر وتنكشفُ الضمائر، ألا ما أشدَّ خسارَتَه، وما أعظمَ ندامَتَه!



ويكفيه ذلك الوعيد الشديد، الذي يُزلزِل القلوب خوفًا وفرقًا عندَما قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمَّتي يأتون يومَ القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تِهامةَ بيضاءَ، فيجعلها اللهُ هباءً منثورًا))، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أمَا إنهم من جِلدتكم، ويأخذون مِن الليل كما تأخذون، ولكنَّهم إذا خَلَوْا بمحارم الله انتهكوها))؛ رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني "السلسة" (505).



إنه لأمرٌ خطير، وفعلٌ حقير، أن يجعل الإنسان نظرَ المخلوق أعزَّ عليه من نظرِ الخالق، يقول بعض السلَف: ما أسَرَّ عبدٌ سريرةً إلا أظهرها الله على قسمات وجهه، أو في فلتات لسانه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]، نعم والله ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾، ألا ترون مَن بات على معصية وعَكَف على منكر كيف يصبح أسودَ الوجه، خبيثَ النفس، ضيِّقَ الصدر، سريع الغضب، بذيء اللِّسان، ساءت به الظنون، يظهر عليه ذلك أو بعضه مهما اجتهد في إخفائِه، يراه كلُّ مَن نوَّر الله بصيرتَه، وأما مَن شاركه في الحال، فهيهات أن يرَى ذلك؛ لأنَّ المؤمن يرى بنور الله - جلَّ وعلا.



سبحان الله! أتخون مَن يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؟ أمَا يعلم هذا أنَّ الله - جل جلاله - يغار، وأن غَيْرته أن يأتي العبدُ محارمَه، مِن أجْل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهَر منها وما بطن، ألا يعلم بأنَّ الله يرى، يعلم السِّرَّ والنجوى، بَيْدَ أنه سبحانه يُمهِل للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، يأخذه بذنبه ويوفيه حسابه، والله سريعُ الحساب، ولا يظْلِم ربُّك أحَدًا.



يقول أبو سليمان الدراني - رحمه الله -: مَن صَفَّى صُفِّي له، ومَن كدَّر كُدِّر عليه، ومَن أحسنَ في نهاره كوفئَ في ليله، ومَن أحسنَ في ليله كوفئَ في نهاره، ومن صَدق في ترْك الشهوة ذَهَب الله بها مِن قلبه، والله أكرمُ مِن أن يُعذِّب قلبًا بشهوة تُرِكت له. اهـ.



لقد كان سَلَفُ الأمَّة أشدَّ عنايةً بإصلاح سرائرهم، وحفظ جوارحهم، وإليكم - عباد الله - طائفةً من قصصهم، أعتذر أثناءَها عن التعليق، حتى لا أُكدِّر صفوها، وأفسد رونقها، ولكن أسوقها إليك وأسردها عليك؛ لتسبح في فضائها الرحيب، وتطلعَ على خبرها العجيب؛ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].



ففي الجهاد: يقول محمد بن المثنَّى: حدثنا عبدالله بن سنان، قال: كنت بطرسوس فصاح الناس: النفيرَ النفيرَ: فخرَج ابن المبارك والناس، فلمَّا اصطفَّ الجَمْعانِ خرَج رُومي فطلب البراز، فخرَج إليه رجل فشدَّ عليه العلج فقتلَه، حتى قتَل سِتَّةً من المسلمين، وجعَل يتبختر بين الصفَّين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إليَّ ابنُ المبارَك، فقال: يا فلان إن قُتلتُ فافعل كذا وكذا، ثم حرَّك دابته وبرز للعلج، فعالج معه ساعةً فقَتَل العلج، وطلب المبارزة، فبَرز له علج آخر، فقتَله حتى قتل ستَّةَ علوج، فطلب البراز، فكأنهم كانوا كاعوا عنه فضرب دابته، وطرد بيْن الصفين ثم غاب، فلم نشعرْ بشيءٍ، وإذا أنا به في الموضِع الذي كان، فقال لي: يا عبدَ الله، لئن حدَّثتَ بهذا أحدًا وأنا حي... فذَكَر كلمة.



وفي الصلاة والدعاء: يقول سلام بن أبي مطيع: كان أيُّوب يقوم الليل يُخفِي ذلك، فإذا كان قبيل الصبح رفَع صوته كأنَّه إنما قام تلك الساعة.



وفي الصيام: عن إسحاق بن خف قال: أقام عمرُو بن قيس عشرين سنَةً صائمًا ما يعلم به أهلُه، يأخذ غداءَه، ويغدو إلى الحانوت فيتصدَّق بغدائه ويصوم وأهلُه لا يدرون.



وفي الصدقة: عن محمَّد بن إسحاق، قال: كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين يؤتون بالليل.



وفي قراءة القرآن الكريم: عن الأعمشِ قال: كنت عند إبراهيم النَّخَعي، وهو يقرأ في المصحف، واستأذن عليه رجل، فغطَّى المصحف، وقال: لا يرَى هذا أني أقرأ فيه كلَّ ساعة.



وفي البكاء: عن حمَّاد بن يزيد قال: كان أيُّوبُ ربَّما يُحدِّث بالحديث فيُرى، فيلتفت ويمتخط، فيقول: ما أشدَّ الزكامَ!



هؤلاء رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات يحفظ الله بهم الأرْض، بواطنهم كظواهرِهم بل أجْلَى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحْلَى، وهمتهم عند الثريا بل أعْلَى، إن عُرِفوا تنكَّروا، وإن رُئيت لهم كرامةٌ أنكروا، فالناس في غفلاتهم وهم في قطع فلاتهم، تحبُّهم بقاع الأرض، وتفْرَح بهم أملاك السماء.



فهلا استيقظت الهمَّة وانكشفت الغُمَّة، واتضحت الطريق للحاق بهم ولو في الساقة أو من بعيد، فلله هاتيك القلوب وما انطوتْ عليه من الضمائر، وماذا أودعنه مِن الكنوز والذخائر، ولله طيب أسرارِها يوم تُبْلَى السرائر.


سَيَبْدُو لَهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ
وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ



تاللهِ لقدْ رُفِع لها علَم عظيم فشمَّرت إليه، واستبان لها صراطٌ مستقيم فاستقامتْ عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعْلى فلم تستجب إليه، واختارتْ على ما سواه وآثرت ما لديه، قيل للحسن: سبقَنَا القوم على خيلٍ دُهمٍ، ونحن على حُمُرٍ معقرة، فقال: إن كنتَ على طريقهم فما أسرعَ اللحاق بهم.



نسأل الله - عزَّ وجلَّ - التوفيقَ لاتباعهم، وأَن يجعلنا من أتباعهم.



الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فيا عباد الله، مِن أهم عوامل ارْتقاء العبد عندَ الله تعالى، ونيل الدرجات العلى، إصلاحُه لسريرته، فيَنبغي على العبد أن يبذل جهدَه كلَّه في أن يكونَ في إصلاح قلْبه وتدارك حاله، وأن يكونَ ظاهرُه في مستوى باطنه، وكم نحن بحاجةٍ - عباد الله - بحاجة عظيمة إلى إصلاح سرائرِنا!



وهناك وسائلُ تُعدُّ ذخيرةً لإصلاح السريرة، وهي كثيرة: منها الخلوة المشروعة، إنه لا بدَّ للعبد من أوقات يخلو بها مع نفسه، يَذكُره ويناجيه، ويحاسب نفسه ويعاتبها، ويتدبَّر ويَتَفَكَّر، وإلا وقَع في شِراك الغفلة، وقساوة الخُلطة.



يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: "من فقَدَ أُنسه بين الناس ووجدَه في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومَن وجده بين الناس وفقدَه في الخلوة فهو معلول، ومن فقَدَه بين الناس وفي الخلوة فهو ميِّت مطرود، ومن وَجَده في الخلوة وبين الناس فهو المحب الصادق القويُّ في حاله، ومَن كان فتحه في الخلوة لَم يكن مزيدُه إلا منها، ومن كان فتحُه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيدُه معهم، ومَن كان فتحه في وقوعه مع مراد الله حيث أقامه وفي أيِّ شيءٍ استعمله، كان مزيدُه في خلوته ومع الناس". اهـ.



قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ورجلٌ ذَكَر الله خاليًا ففاضتْ عيناه)).



ومِن وسائل إصلاح السريرة: المراقبة، وهي أن يتيقَّن العبد بأنَّ الله تعالى مطلعٌ عليه، وأنه لا تخفَى عليه خافية، مهما بالَغ العبدُ في إخفائها؛ قال - تعالى -: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [التغابن: 4].



فمتى ما أحسَّ العبدُ بانفراده وخلوته، وتحرَّكَ في نفسه داعي المعصية، فليتذكَّر أنَّ الله يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور، فيدفع تلك الخاطِرة، ولسان حاله يقول:


وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ
وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ
فَاسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الْإِلَهِ وَقُلْ لَهَا
إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي



والحياءُ من الله - جل وعلا - مِن أعظمِ وسائل إصلاح السرائر؛ لأنَّ الحياء من الله تعالى يدفع إلى تَرْك كلِّ قبيح يكرهه الله، وفِعْل كل خير يحبُّه الله بحيث لا يراك أبدًا حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرَك، قال رجلٌ ذات يوم للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أوْصِني قال: ((أوصيك أن تستحي الله كما تستحي رجُلاً صالحًا مِن قومك))؛ حديث صحيح السلسلة الصحيحة (2 /366)، قال عبدُالله بن مسعود - رضي الله عنه -: مَن صلَّى صلاةً والناسُ ينظرون إليه، فإذا خلا فليصلِّ مثلها، فإن لم يفعلْ فإنَّه استهانةٌ يستهين بها ربه، ألا يستحي أن يكونَ الناسُ أعظمَ في عينه مِن الله تعالى. اهـ.



وممَّا يعين على إصلاح السريرة: تذكُّر المساءلة بين يدي الرب - عزَّ وجلَّ - فيتذكر العبدُ موقف الحساب والعرْض على ربِّ الأرباب؛ قال - تعالى -: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24]، وقد وقَف الناسُ للحساب، ودنت الشمس من رؤوس العباد، وجِيء بجهنمَ تُقاد بسبعين ألف زِمام، ووقَف الملائكة الكِرام، واشتدَّ الزحام، ﴿ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108]، فيتذكر ذلَّه وفرَقَه عندما يُدْعَى للوقوف بين يدي الجليل؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 93 - 95]، بأيِّ قدَم تقف بين يدي الله، وبأيِّ عمل تَقْدَمُ عليه؟ وبأيِّ لسانٍ تتحدَّث إليه، وفي يدِك كتاب عملك لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحْصاها.


إِذَا مَا قَالَ لِي رَبِّي
أَمَا اسْتَحْيَيْتَ تَعْصِينِي
وَتُخْفِي الذَّنْبَ عَنْ خَلْقِي
وَبِالْعِصْيَانِ تَأْتِينِي



فأعِدَّ للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.



ومِن الوسائل المهمَّة لإصلاح السرائر التوبة: فإنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنبَ له، فيتوبُ العبدُ توبةً نصوحًا خاصَّة لله تعالى، يقلعُ معها عن معاصيه، ويندم على ما سَلَف في ماضيه، ويعزم على ألاَّ يعود، وهو يتمثَّل قول القائل:


كَمْ قَدْ زَلَلْتُ فَلَمْ أَذْكُرْكَ فِي زَلَلِي
وَأَنْتَ يَا سَيِّدِي فِي الْغَيْبِ تَذْكُرُنِي
كَمْ أَكْشِفُ السِّتْرَ جلاًّ عَنْد مَعْصِيَتِي
وَأَنْتَ تَلْطُفُ بِي حَقًّا وَتَسْتُرُنِي
لَأَبْكِيَنَّ بِدَمْعِ الْعَيْنِ مِنْ أَسَفٍ
لَأَبْكِيَنَّ بُكَاءَ الْوَالِهِ الْحَزِنِ



يقول الربيع بن خثيم: السرائر اللاتي يخفين من الناس وهُنَّ لله بواد، الْتمسوا دواءَهنَّ، وما دواؤهن؟ إلا أن تتوبَ فلا تعود. اهـ..



والإكثارُ مِن الأعمال الصالِحة في السرِّ والعَلَن والاشتغال بما ينْفَع:

فالأعمال الصالحة مِن المحافظة على الفرائِض، والإكثار من النوافِل، والمداومة على الذِّكْر سببٌ في الهداية والتوفيق، والمحبَّة والحفظ من الله ربِّ العالمين؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ [يونس: 9]، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، قال أبو الحسن الزاهِد - رحمه الله - عندما سُئِل: كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال: كما عصيتَ الله تعالى سرًّا، تطيعه سرًّا، حتى يدخلَ إلى قلبك لطائفُ البر. اهـ.



وآخرها وهو أهمُّها الدعاء: فيُكثر العبدُ مِن الدعاء والتضرُّع لله - عزَّ وجلَّ - أن يُصلِح سريرتَه، ويطهر باطنَه ويتحرَّى بذلك أوقاتَ الإجابة، وأسباب الاستجابة. ومِن تلك الأدعية: قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 38]، وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].



ومما ورد في السُّنة المطهَّرَة عن علي - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا قام إلى الصلاة يكون مِن آخِر ما يقول بين التشهُّد والتسليم: ((اللهمَّ اغفِرْ لي ما قدمتُ وما أخَّرْت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفتُ، وما أنتَ به أعلم مني، أنتَ المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت))؛ رواه مسلم.



اللهمَّ إنَّا نسألك أن تمنَّ علينا بسِترك الجميل، وفضلك الجزيل، اللهمَّ اجعلْ سريرتنا خيرًا من علانيتنا، واجعلْ علانيتنا حَسَنة، اللهمَّ إنا نسألك الإيمان والعفو عمَّا سلف وكان من الذنوب والعصيان، سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصفون، وسلامٌ على المرسَلين، والحمد لله ربِّ العالمين.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الذخيرة في إصلاح السريرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: