كليم الله موسى عليه السلام (5)
المبارزة والنصر
الحمد لله رب العالمين؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فأقام بهم حجته على الخلق أجمعين ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء:165] نحمده على ما هدانا وكفانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أيد رسله بالآيات، ونصرهم بالمعجزات، وأعز من آمن بهم وصدقهم، وأذل من كفر بهم وكذبهم، فأتباعهم هم الأعلون، وأعداؤهم هم الأسفلون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان في ابتلائه يستحضر ما أصاب الرسل قبله من الأذى؛ ليتأسى بهم، فيقوى قلبه، ولا يلين عزمه، وقَسَمَ مرة قِسْمَةً فقال رَجُلٌ: ((والله ما أَرَادَ مُحَمَّدٌ بهذا وَجْهَ الله، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وقال: رَحِمَ الله مُوسَى لقد أُوذِيَ بِأَكْثَرَ من هذا فَصَبَرَ)) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم، واثبتوا على شريعتكم، ولا تغتروا بمقامات المبدلين والمغيرين؛ فإن أقوما من هذه الأمة يؤخذ بهم ذات الشمال، فيسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له
(إِنَّكَ لَا عِلْمَ لك بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِمْ القهقرى)).
أيها الناس: في قصص الأنبياء تثبيت لقلوب المؤمنين، وشحذ لهمم الدعاة والمصلحين.. حين يرى قارئها ما حاق بهم من الابتلاءات، وما أصابهم من الأذى والتكذيب، وما نالهم من المطاردة والتهجير والتعذيب، ومقابلتهم ما أصابهم بالصبر والثبات. وكل ذلك في ذات الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وتبليغ دينه، وإنقاذ الناس مما لا يحبه الله تعالى من الكفر والفساد في الأرض.
بشر مثلنا اختصهم الله تعالى بالنبوة فأرسلهم للناس فبذلوا في سبيل ذلك أموالهم وأوقاتهم، وخاطروا بأرواحهم وأهلهم، وأمضوا حياتهم كلها لهذه الغاية النبيلة.
وقفوا في وجوه طغاة الأرض، وصدعوا بالحق أمامهم؛ ليحرروا الناس من كل عبودية إلا عبودية الله تعالى.
وموسى بن عمران عليه السلام أنموذج في ذلك يحتذى، ومثال به يقتدى..وقف أمام من عبّد الناس لنفسه من دون الله تعالى غير هياب ولا خائر، يدعوه لعبادة الله وحده، ويعارضه في ادعائه الربوبية والألوهية.
ناظره وناقشه، وأبطل حجته، ودحض مقولته، وأظهر له الآيات، وقذفه بالمعجزات، وأقام البراهين التي تقطع بصدقه، ولكن فرعون حين أسقط في يده، وظهرت معجزة موسى عليه السلام، وبان صدقه؛ أراد الخلوص من هذا الموقف فاتهم موسى بالسحر ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الشعراء:34] وذلك لينفي عنه ما أتى به من المعجزات؛ لأن السحرة أشرار، وهم محل ذم وتنقص عند الناس..ثم أتبع فرعون اتهامه باتهام آخر ﴿ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الشعراء:35].
لقد جد الجد، وحاق الخطر بفرعون وممارساته، ووجد من يقف في وجهه يريد تقويض كبريائه؛ ولذا لجأ فرعون للاستشارة؛ لأنه محتاج إليها، فالأمر أخطر من أن يستبد به وحده، فأشاروا عليه بأن يؤجل مناقشة موسى وجداله إلى وقت إحضار من يستطيع مقارعته وهم السحرة؛ لأنهم ظنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل السحر، ولا سيما أن السحر كان منتشرا في ممالكهم آنذاك ﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [الأعراف:111-112] وهذا يدل على أنهم أهل سياسة ونظر، كما يدل على أن دعوة موسى قد ظهرت في الناس، وأن الإشارة بقتله أو سجنه بعد ظهور حجته ستضعف عبودية الناس لفرعون، فلا بد من كسر الحجة قبل معاقبة صاحبها بالقتل أو السجن، وقد كانوا يظنون أن السحرة لكثرتهم وبراعتهم واستباقهم للتقرب من فرعون قادرون على كسر حجة موسى عليه السلام، وإلا لما غامروا في هذا الشأن العظيم.
وأخذ فرعون بمشورة ملئه، وقال ﴿ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ﴾ [طه:57-58].
وكان من إلهام الله تعالى لموسى عليه السلام أن واعدهم في يوم عيدهم حيث اجتماع الناس وكثرتهم؛ لتظهر حجته فيكون ذلك أدعى لإيمان الناس بربهم سبحانه وتعالى، ولا شك أن في هذا مخاطرة عظيمة من موسى عليه السلام سواء غلب هو السحرة أم غلبوه، فإن هم غلبوه حقت عليه العقوبة أمام هذا الجمع الكبير، والعقوبة أمام الناس أشد من ألم العقوبة ذاتها، وإن غلب هو السحرة فلا يأمن غضب فرعون وفتكه به، وهو الذي أله نفسه، ولم يجد من يعارضه في كبريائه فضلا عن أن يهزمه ويدحض حجته أمام جموع كثيرة من الناس، ولكن الأنبياء عليهم السلام يضحون بكل غال ونفيس في ذات الله تعالى، ويحرصون على هداية الناس ولو كان في ذلك قتلهم، فسلام الله تعالى على موسى وسائر النبيين، وجزاهم عن عباده المؤمنين خير الجزاء ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه:59].
فاجتهد أعوان فرعون وجنده في حشد أمهر السحرة وأقواهم وأشهرهم، ويبدو أن الدعاية لهذه المبارزة العظيمة قد غطت جميع أنحاء مملكة فرعون، وسرى خبرها في الناس كلهم، وأصبحت حديث مجالسهم وأسواقهم، وهذا ما أراده فرعون ومستشاروه؛ ظنا منهم أن هزيمة موسى ستكون مدوية، وأن ذلك سيعزز في نفوس الناس عبوديتهم لفرعون، فلا يجترئ أحد بعد موسى أن يعترض على ذلك، ويا لله العظيم كم لله تعالى من تدابير تقع على خلاف توقع الناس ومرادهم، وكم من طاغية يحفر قبره بيده، ويسعى إلى هلاكه برجله، فسبحان مدبر الأمر، ومسير الخلق ﴿ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ ﴾ [الشعراء:38-40] وفرح السحرة بحاجة فرعون لهم، وانتظروا يوم الزينة بفارغ الصبر، وتطلعوا لجائزته ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ ﴾ [الشعراء:41-42] سألوا الأجر فوعدهم فرعون بالأجر والقرب منه، وهذا يدل على ما كان يعتمل في قلب فرعون من إرادة الفوز الساحق؛ ليقضى على موسى ودعوته، ويحافظ على كبريائه وألوهيته وعبودية الناس له..
واصطف السحرة في الميدان للمبارزة؛ فذلك أهيب لهم أمام موسى عليه السلام، وفرعون ورجال دولته يرقبونهم ويشجعونهم، وجموع الناس تحيط بهم تشهد هذا الحدث العظيم، وفرعون يعدهم إن فازوا، ويا للعجب من موسى عليه السلام؛ إذ ما نسي الموعظة في موضع المناظرة، ولم يرده عنها ما هو فيه من موقف عصيب، وأعطى السحرة حظهم منها قبل مبارزتهم ﴿ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى الله كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ﴾ [طه:61]..
ولكن السحرة أجمعوا بعد المشورة على المبارزة، فحالهم حال من يريد الظفر وإرضاء سيده؛ ولذا استعجلوا موسى في بدء المعركة ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ ﴾ [الأعراف:115] واعتزوا بفرعون، وكان موسى معتزا بالله عز وجل ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ ﴾ [الشعراء:44] والواقع أن السحرة برعوا في سحرهم، وأتوا بالأعاجيب في فنهم، ولم يقصروا في أداء واجبهم ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف:116] ومن براعتهم في سحرهم خشي موسى عليه السلام على عامة الناس من الفتنة بهم؛ لعظيم ما جاءوا به من السحر، فيكون سحرهم صدا عن دين الله تعالى، فرضي الله عن موسى ما أشد حرصه على هداية الخلق للحق، ولكن الله تعالى أوحى إليه أن سحرهم سيبطل ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه:67-69].
ألقى موسى عصاه المعجزة بعد أن قال ﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ﴾ [يونس:82] فتغير مجرى المعركة، وظهر الحق، وتنزل النصر، وانقلبت العصا ثعبانا حقيقيا يبتلع حبال السحرة وعصيهم، وهذا لا يمكن أن يكون سحرا، وإنما آثار قدرة ربانية ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ [الأعراف:117-119]..
في تلك اللحظة أنزل الله تعالى الإيمان والتسليم على قلوب السحرة، فخروا من طولهم لله تعالى سجدا موقنين تائبين مبهورين من قدرته سبحانه وتعالى، وعلموا أن فرعون ليس إلا بشرا ضعيفا مثلهم ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف:120-122]..
يا لها من معركة فاصلة بين الحق والباطل، بين جندي الرحمن وجند الشيطان، يقابل فيها رجل واحد جموعا من السحرة وطاغوتا عبد الناس لنفسه وأرهبهم وعذابهم في حشود من ملئه ووزرائه وجنده ورجال دولته، فتهزم القلة الكثرة، وينتصر الواحد على الجمع؛ لأن الله تعالى معه.. انتصر بإيمانه ويقينه، واعتزازه بالله تعالى، وركونه إليه سبحانه، وتوكله عليه عز وجل ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج:78].
اللهم املأ قلوبنا إيمانا ويقينا بك، وتوكلا عليك، وإنابة إليك، ورضا بك وعنك، وأرضنا وارض عنا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران:131-132].
أيها الناس: كانت مبارزة موسى عليه السلام للسحرة من أعظم المعارك في التاريخ البشري، وهي في سيرة موسى عليه السلام كغزوة بدر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلا المعركتين حاسمتان في إحقاق الحق، وكشف الباطل، وقد قال الله تعالى في معركة موسى عليه السلام ﴿ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف:118] وقال في معركة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال:8].
وفي معركة موسى كسر فرعون، ودحضت حجته، وآمن جنوده من السحرة، وهذا أقوى ما يكون نصرا لموسى عليه السلام. وفي معركة محمد صلى الله عليه وسلم كسر جيش المشركين، وقتل فرعون هذه الأمة أبو جهل في جماعة من صناديد الشرك؛ ولذا كانت المعركتان فرقانا بين الحق والباطل.
وفي قصة موسى عليه السلام تجلى ما تفعله البطانة الفاسدة من تزيين سوء العمل لصاحبه؛ فإن موسى عليه السلام لما أتاهم بالبينات والبراهين عدوها سحرا، وذكر الله تعالى أن ملأ فرعون قالوا ذلك ﴿ قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف:109] وفي موضع آخر ذكر الله تعالى أن قائل ذلك هو فرعون ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الشعراء:34] ومعنى ذلك أن الملأ من قوم فرعون علموا مراده، فلما استشارهم استبقوا إلى ما يريد ولم ينصحوا له، وهذه عادة الوصوليين والانتهازيين عند الكبراء المتنفذين، ولا سيما إذا كانوا طغاة ظالمين كما هو حال فرعون.
وهذا يدل على أن البطانة الفاسدة لا تمحض النصح لصاحبها، وإنما تجتهد في البحث عما في نفسه لتسبقه إليه، ويكون قربها من الطاغية بحسب القدرة على فهم مراده، واستجلاء ما في نفسه، وهذه هي العبودية التي تعطل العقول والمدارك، وتجعل الأعوان نسخا مكرورة من الطاغية ذاته، وقطعانا تستبق إلى التبعية، وتمتهن الوصولية، وتتخلق بالانتهازية، فيسود الظلم، ويتلاشى العدل، وتفسد الأخلاق، ويتوقف العمران..ولذا جاء في الحديث أن المستشار مؤتمن، وإذا كان المشير يبحث عما في نفس المستشير؛ لنيل حظوة عنده؛ كان ذلك من الخيانة في المشورة، وأخطر من ذلك وأعظم جرما أن يتخلق بهذا الفعل الدنيء من ينتسب للعلم فيطوع النصوص والأقوال؛ لمراد من استشاره دون مراد الله تعالى؛ فيكون سببا في ضلاله وإضلال غيره، ونشر الضلال في الناس، كما هو حال من يشترون بدين الله تعالى عرضا من الدنيا، وهم متوعدون بأشد العذاب ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:77].