من سنن الله تعالى في خلقه (2)
الحمد لله العليم الحكيم؛ أتقن كل شيء صنعه، وأحكم خلقه وأبدعه، وجعل في خلقه وقدره من الحكمة ما نعلمه وما نجهله؛ نحمده حمدا يليق بجلاله وعظمته، ونشكره شكرا يوازي نعمه وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اقتضت حكمته سبحانه أن يخلق الناس مختلفين، ولو شاء لخلقهم متفقين بل متماثلين على قلب رجل واحد منهم ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة:48] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخبر بافتراق أمته كافتراق الأمم السابقة، وأمر بوحدة الكلمة، والتمسك بالسنة، ولزوم الجماعة، وحذر من الاختلاف والتفرق، ومن تفرقة الدين وتبديله، فكان المبلغ الأمين، والناصح الشفيق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، واصبروا على الأذى فيه؛ فإنه الحق من ربكم، وسوف تسألون عنه في قبوركم ويوم حشركم ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزُّخرف:43-44].
أيها الناس: آيات الله تعالى في خلقه عجيبة، وسننه في عباده كثيرة، وهي سنن ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.. لا يملك البشر لها دفعا ولا رفعا، ولا يجدون منها ملجأ ولا مفرا.. سنن حتمية تنزل بهم كما نزلت بمن قبلهم ﴿ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب:62].
ومن سنن الله تعالى في البشر سنة التدافع؛ وهي سنة مذكورة في القرآن الكريم، فكل الآيات التي تدل على اختلاف البشر، والصراع بينهم، وحكاية أخبار حروبهم، ووقوف الرسل عليهم السلام في وجوه الملأ من أقوامهم فهي دالة على وقوع سنة التدافع فيهم ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة:253].
وجاء التصريح بسنة التدافع في موضعين من كتاب الله تعالى؛ فأما الموضع الأول فبعد قصة حرب طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت ومن معه من الكافرين؛ إذ بعد الإخبار عن هزيمتهم أخبر سبحانه عن سنته قائلا ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾ [البقرة:251].
وأما الموضع الثاني فعند الإذن بالجهاد وبيان مشروعيته؛ إذ إن الجهاد سبب لمدافعة الكفر وأهله ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا ﴾ [الحج:40] أي لولا مدافعة المؤمنين من أهل كل ملة كفار أمتهم لهدمت دور العبادة التي شرعها الرسل، وأنشأها أتباعهم، ولمُنعوا من ذكر الله تعالى فيها.
إن آثار هذه السنة الربانية عجيبة لمن درسها وتأملها، وإن صور المدافعة الواقعة لا تحصى من كثرتها، وهي دليل على استدامة هذه السنة، وأنها قانون مستمر لإصلاح ما فسد من حياة البشر وعقائدهم وأفكارهم وعباداتهم وأخلاقهم، وهي دليل على جريان سنة الابتلاء فيهم واستمرارها إلى آخر الزمان.
بسنة التدافع يُسخر الله تعالى المؤمنين للدفاع عن دينه، والذود عن حياضه مسترخصين أرواحهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى.
وبسنة التدافع يُبتلى المؤمنون بالكفار والمنافقين الذين يقذفون شُبههم في الدين، فينبري لهم حملة العلم وأولو الفكر والرأي دحضا لباطلهم، وكسرا لحججهم، وإزالة لشبههم، وحفظا للعامة منهم، فتنشط العقول من كسلها، وتحسن الألسن فن الجدل والمناظرة ودفع الباطل، وتعرض أحكام الإسلام بأحسن صورة وأبهى حلة، فيعتز الإسلام وأهله، ويزداد يقين المسلمين بدينهم.
وبسنة التدافع ينبري المحتسبون لإزالة المنكرات والأخذ على أيدي أهلها، ومدافعة منشئيها ومروجيها في الناس.
وبسنة التدافع يسعى أهل الحق في إقامة شريعة الله تعالى في الناس، وتحكيمها فيهم، ومقاومة القوانين الوضعية البشرية.
وبسنة التدافع يرفع الله تعالى العذاب العام عن البشر، فلولا دفع الله تعالى بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح:25].
إن من تأمل سنة التدافع في البشر أدرك شيئا من حكمة الله تعالى في تقديرها، وعلم أنها رحمة منه سبحانه بعباده؛ إذ لا سبيل للنمو في الأرض، وتناسل الأحياء، وتقدم العمران إلا بها.
إن الاجتماع البشري لا بد أن ينشأ عنه اختلاف في الأهواء والرغبات، وتعارض في المصالح، والنفوس البشرية فيها حب الأثرة، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض، ومن سنن الله في كونه أن يوجد فيه الشيء وضده، فيوجد الغني والفقير، والصحيح والمريض, والضعيف والقوي, والعالم والجاهل, وغير ذلك من الأضداد التي تقتضيها سنة التدافع البشري، ولا بد أن تنتج هذه المتضادات اختلافا في الآراء والمقاصد والغايات، وتتعدد وجهات النظر وتتصارع الأفكار، كل فريق يبحث عن مصلحته قبل الفريق الآخر، وهذا أمر واقع ومشاهد في جميع المجتمعات، وقد أشار الله تعالى إلى هذا التدافع باعتباره سنة من سننه سبحانه في الاجتماع البشري ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود:118].
إن قضية التدافع بين الحق والباطل قديمة ومتجددة في كل عصر؛ لأنها سنة من سنن الله تعالى في كونه، وهذه القضية مرتبطة بالوجود الإنساني، ومن طلب نهاية لها فقد طلب المستحيل ما دام الإنسان حيا متحركا على ظهر الأرض.
ولذا فإن من الجهل الفاضح، والحماقة المطبقة تغييب المعاني الشرعية العظيمة التي تكرس تميز المسلم عن غيره أو تحريفها وتأويلها كإثبات الولاء والبراء، وحصر الإخاء في أهل الإسلام، واتخاذ الكافرين والمنافقين أعداء، واستبعاد مصطلحات الحروب الدينية، والغزو الفكري، والحملات الصليبية، ومحاولة محو ذاكرة الأمة التاريخية بحجج التعايش والسلام، وهو سراب وأحلام وأوهام يعيشها من لا يعرفون سنة التدافع، ولا يدركون حقائق الواقع، إن هم إلا بيادق يحركها الأعداء لإخضاع أمة الحق لباطل المحرفين للكتاب.
ومن تأمل تاريخ الإسلام وجد فيه صورا من التدافع؛ ففي مكة كان الإسلام ضعيفا، وأتباعه قليل، ثم بالهجرة النبوية وغزوة بدر عز الإسلام وقوي، وبفتح مكة بدأت مرحلة مدافعة الكفر وأهله خارج جزيرة العرب، إلى أن توج ذلك بالقضاء على فارس والروم؛ لتكون السيادة للمسلمين، وانتشر الإسلام في الأرض، ثم سلط الصليبيون والتتر على المسلمين فاستباحوهم، وانتزعوا كثيرا من بلدانهم، فحفز ذلك المسلمين على مدافعتهم وردهم فكان لهم ذلك، ثم سقطت ممالك الأندلس في أيدي الصليبيين، وانحسر مد الإسلام؛ ليقوى مرة أخرى في دولة بني عثمان، التي سقطت بعد ذلك، فاقتسم المستعمرون بلاد المسلمين يحكمونها، فقاومهم المسلمون ودافعوهم، وبذلوا تضحيات جسيمة حتى اقتنع المستعمرون أنه لا بقاء لهم في بلاد المسلمين، فزرعوا عملاءهم بدلا عنهم، فكانوا أخلص للغرب من رعاياهم، وكانوا أشد على الإسلام وأهله من النصارى، وكانوا أشرس في محو الإسلام واجتثاثه، حتى إذا أمنوا وأمن الغرب من ورائهم أن شعائر الإسلام تمحى شعيرة شعيرة، وأن عراه تنقض عروة عروة، وأن بلدانه تنتقص بلدا بلدا، وتقسم دولهم وتفتت، وتعطى للأقليات غير المسلمة؛ انتفضت الشعوب المقهورة على دينها ودنياها؛ لتقوض عروش المستبدين والعملاء، وهذا من أظهر صور المدافعة؛ فالشعوب هي الشعوب، والحكومات هي الحكومات، والقبضة الأمنية هي القبضة الأمنية، ما الذي حدث؟ ما الذي تغير؟ لا شيء إلا أمراً ربانيا لم يتصوره أحد قلب الأمور رأسا على عقب. وبه بدأت حقبة جديدة من سنة التدافع ستغير مجريات الواقع.
والقوى الغربية المستكبرة أمام خيارين أحلاهما مرٌّ، فإما الرضا بعودة الإسلام من جديد، وهو ما لا يريدونه؛ لأنه سيقوض سيادتهم، ويقضي على ظلمهم وجبروتهم، وإما السعي لنشر الفوضى في بلاد المسلمين، فتتعطل مصالح الغرب فيها، ويتقهقر اقتصاده، وتفرز بؤر التوتر والفوضى كفاءات مدربة تغزو الغرب في عقر داره، وتبث الرعب فيها، ولن تكون الفوضى الخلاقة خلاقة للغرب بل ستكون عليه، وإذا أحسن المسلمون توظيف الأحداث لصالحهم، وفقهوا سنة التدافع التي تجري في أرضهم، فاجتمعت كلمتهم، وتراصت صفوفهم، ولم يجعلوا الشيطان ينزغ بينهم فلن يقدر الأعداء على شيء من أمرهم... ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران:103] ﴿ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال:46].
حمى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وتربص المتربصين، وردهم على أعقابهم خاسرين، وكتب العزة لنا وللمسلمين، اللهم آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة:281].
أيها المسلمون: من مقتضيات سنة التدافع الربانية أن الأرض لا ينفرد بحكمها قوة واحدة فتقضي على سواها من القوى، بل في أغلب فترات التاريخ البشري هناك قوتان وقطبان متدافعان يقتسمان غيرهما من الضعاف حتى يكون النصر لأحدهما، وفي الجاهلية وأول الإسلام كانت القوتان فارس والروم، وكان العرب قسمة بينهما، وفي التاريخ الحديث كان المعسكران الشرقي الشيوعي والغربي الليبرالي، ولا يكاد يخلو التاريخ البشري من قوتين متصارعتين، فتلك من ضروارت سنة المدافعة، حتى ذكر أحد من استقرؤوا التاريخ البشري كله أن الحرب هي أحد ثوابت التاريخ، وأنها ضرورة من ضرورات الإعمار في الأرض، ولا شك في أن الحرب هي الأسلوب الأقوى والأظهر لسنة التدافع.
ولذا كان من حماقة صاحب نظرية نهاية التاريخ ظنه بعد اندحار الشيوعية سيادة القيم الليبرالية الرأسمالية ، وأن العالم سينصهر كله فيها، وينتهي التاريخ البشري عندها، وأحمق منه من تبعه من الليبراليين العرب وهم يسمعون آيات الله تعالى تتلى في حتمية التدافع، وبقاء هذه السنة إلى نهاية التاريخ البشري.
ومن حماقة اللبراليين والتنويريين أنهم ظنوا أن الديمقراطية هي نهاية النظم السياسية في الأرض حتى لا يحكم بغيرها، لثبوت صلاحيتها، وأن الحرية بمفهومها الغربي حقيقة مطلقة لا يمكن مناقشتها فضلا عن التشكيك فيها أو ردها، ثم نجد أن الغرب عند الامتحان الحقيقي يتخلى عن أعلى قيمة يمتلكها وهي الحرية لما مسه شيء مما يسمى بالإرهاب فيصادر حرية الرأي المخالف، ويضع الإعلام والثقافة تحت المراقبة الصارمة، وينتهك خصوصية الأفراد بدعوى المحافظة على الأمن القومي.
ولما انتشر النقاب في أوربا، وكان فيه دعوة إلى الإسلام اهتدى بسببه كثير من النساء الغربيات، ضحى الغرب في بلاد الحرية والأنوار بأعلى أقسام الحرية وهي الحرية الشخصية، فمنع المسلمات من النقاب بحجج يضحك منها الصبيان، فهزم نقاب المسلمة الضعيفة أعلى قيمة لدى الغرب القوي، وهذا من التدافع الذي يعمى عنه كثير من الناس.
فإذا كانت ليبرالية الغرب قد هزمت في أغلى شيء قام فكرها عليه وهي الحرية الشخصية، وكان الليبراليون العرب وأذنابهم التنويريون قد هزموا شر هزيمة في الشارع الإسلامي، وانحازت الشعوب في صناديق الاقتراع لمن يمثل الإسلام حقيقة فإن ذلك سيكون بداية طي الصفحة الليبرالية من التاريخ البشري كما طويت قبلها الاشتراكية، ليخلفها فكر جديد ونظام جديد، نسأل الله تعالى أن يكون الإسلام. ولقد كانت مدافعة المسلمين للأفكار الليبرالية سببا لهذا الاندحار السريع، وكان البث الفضائي الذي سخره الغرب لتمرير قيمه في بلاد المسلمين هو السبب في بث الوعي الشرعي والسياسي والفكري في الشارع الإسلامي، وكانت وسائل الاتصال الحديثة سببا أكبر في نجاح التغيير لمصلحة الإسلام بأدوات الغرب وهم لا يشعرون.
وصدق الله العظيم حين قال ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطًّارق:15-17].