أفضل أيام الدنيا
الْحَمْدُ للهِ؛ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَيُفَضِّلُ مَا يُرِيدُ بِحِكْمَةٍ وَاقْتِدَارٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ، دَلَّ عَلَى أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارُ، وَأَعْبَدُ الْخَلْقِ للهِ فِي السِّرِّ وَالْجِهَارِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَخْيَارِ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِخَيْرِ الزَّادِ، ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَدَلاَئِلِ رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ جَلاَلِهِ وَكَمَالِهِ: تَخْصِيصَ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ بِمَزَايَا وَفَضَائِلَ، وَهُوَ الْقَائِلُ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، فَقَدْ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ مَوَاسِمَ عَظِيمَةً، وَأَيَّاماً فَاضِلَةً؛ لِتَكُونَ مَغْنَماً لِلطَّائِعِينَ، وَمَيْدَاناً لِتَنَافُسِ الْمُتَنَافِسِينَ، فَهَا هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أقبلت عَلَيْنَا، أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ، وَذَخَائِرُ نَفِيسَاتٌ، وَسُوَيْعَاتٌ جَلِيلاَتٌ، تُضَاعَفُ فِيهَا الأَعْمَالُ، وَتَزْدَادُ فِيهَا الدَّرَجَاتُ، وَيَعْظُمُ فِيهَا الثَّوَابُ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ اللهُ -:
"وَمَا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاسِمِ الْفَاضِلَةِ مَوْسِمٌ إِلاَّ وَللهِ تَعَالَى فِيهِ وَظِيفَةٌ مِنْ وَظَائِفِ طَاعَاتِهِ، يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَللهِ فِيهِ لَطِيفَةٌ مِنْ لَطَائِفِ نَفَحَاتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَعُودُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِ، فَالسَّعِيدُ مَنِ اغْتَنَمَ مَوَاسِمَ الشُّهُورِ وَالأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَتَقَرَّبَ فِيهَا إِلَى مَوْلاَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ، فَعَسَى أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّفَحَاتِ، فَيَسْعَدَ بِهَا سَعَادَةً يَأْمَنُ بِهَا مِنَ النَّارِ وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّفَحَاتِ". أ.هـ
فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْراً، فَإِنَّكُمْ عَلَى أَبْوَابِ عَشْرٍ مُبَارَكَةٍ، أَقْسَمَ اللهُ بِهَا فَقَالَ: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر:1 - 2] " فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ بِالْعَشْرِ الأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهِيَ الأَيَّامُ الَّتِي قَالَ عَنْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ" - يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أيام العمل فيهن أفضل من عشر ذي الحجة قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا من عقر جواده وأهريق دمه" وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَيَّامٍ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ".
وفي رواية عند الدارمي: "مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَعْظَمَ أَجْراً مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى".
وهذه الأيام المباركة أفضل أيام الدنيا؛ فعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب) رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني.
وكونها أفضل أيام الدنيا لأنها تجتمع فيها أعمال صالحة متعددة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتّى ذلك في غيره).
وسئل شيخ الإسلام بن تيمية عن عشر ذي الحجة وعن العشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل فأجاب رحمه الله أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
وَفِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَعْمَالٌ فَاضِلَةٌ، لاَ يَنْبَغِي التَّفْرِيطُ فِيهَا، فَمِنْ أجلّ الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، والمحافظة على الصلاة في وقتها فهي صلاح وفلاح للإنسان في أحواله كلها.
قال تعالى: ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 31].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) (متفق عليه).
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر الصِّيَامُ، فَهُوَ مِنْ جَلاَئِلِ الأَعْمَالِ، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله. إلا باعد الله، بذلك اليوم، وجهه عن النار سبعين خريفا". رواه مسلم، فَيُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ صِيَامُ هَذِهِ التِّسْعِ الْمُبَارَكَةِ؛ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ"، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي صِيَامِهَا: "إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ اسْتِحْبَاباً شَدِيداً؛ لاَسِيَّمَا التَّاسِعُ مِنْهَا؛ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ". وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة ففي حديث أبي قتادة لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة؟ فقال "يكفر السنة الماضية والباقية" قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال "يكفر السنة الماضية" (رواه مسلم).
ومن الأعمال المباركة الإنفاق والصدقة في سبيل الله ويستحب للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام، وقد حث الله عليها قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر:29 - 30].
وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾[آل عمران: 92].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسبتم ﴾ [البقرة: 267].
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) متفق عليه.
وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -؛ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة، فليفعل". (رواه مسلم).
ومن الأعمال الصالحة كثرة ذكر الله عز وجل قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ [الأحزاب: 41].
وقال تعالى: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35] وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) رواه البخاري.
وأعظم الذكر قراءة القرآن الكريم.
يقول عز وجل في محكم كتابه ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -. قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"اقرأ القرآن في كل شهر" قال قلت: إني أجد قوة. قال: "فاقرأه في عشرين ليلة" قال قلت: إني أجد قوة. قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك". رواه مسلم.
فلو قرأ المسلم ثلاثة أجزاء من القرآن كل يوم من أيام العشر لختم القرآن بإذن الله في هذه العشر المباركة.
وَمِنْ الأعمال الصالحة في هذه العشر: إِظْهَارُ التَّكْبِيرِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَنَازِلِ وَالطُّرُقَاتِ، يَجْهَرُ بِهِ الرِّجَالُ، وَتُسِرُّ بِهِ النِّسَاءُ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مُعَلَّقاً بِصِيغَةِ الْجَزْمِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَصِيغَتُهُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ. وَيَصِحُّ التَّكْبِيرُ بِصِيَغٍ أُخْرَى.
وَالتَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ صَارَ مِنَ السُّنَنِ الْمَهْجُورَةِ؛ لاَسِيَّمَا أَوَّلُ الْعَشْرِ، فَلاَ تَكَادُ تَسْمَعُهُ إِلاَّ مِنَ الْقَلِيلِ، فَيَنْبَغِي الْجَهْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعِهِ إِحْيَاءً لِلسُّنَّةِ، وَتَذْكِيراً لِلْغَافِلِينَ.
وَمِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ: أَدَاءُ الْحَجِّ؛ حَيْثُ فَرَضَهُ اللهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَجَعَلَهُ رُكْناً مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [الإسراء: 9]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه). رواه البخاري وَقَدْ حَذَّرَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَأْخِيرِ الْحَجِّ مَعَ الاِسْتِطَاعَةِ أَشَدَّ تَحْذِيرٍ، فَقَالَ: "تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ" (أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا)، وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: "مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ مَاتَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً" وَصَحَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ.
أَفَبَعْدَ هَذَا يَبْقَى مُسْلِمٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تَارِكاً لِلْحَجِّ الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ؟! كَيْفَ يَلْقَى اللهَ وَقَدْ تَرَكَ رُكْناً مِنْ أَرْكَانِ دِينِهِ؟! وَمَنْ يَضْمَنُ لَهُ الْبَقَاءَ إِلَى السَّنَةِ الْقَادِمَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ؟! أَلاَ تَرَوْنَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَأْتُونَ مِنْ بِلاَدٍ بَعِيدَةٍ، قَدْ تَرَكُوا الأَهْلَ وَالأَوْطَانَ، وَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِمَخَاطِرِ الطُّرُقِ وَالأَسْفَارِ؛ لِيَصِلُوا إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ؟! فَمَا بَالُكَ أَيُّهَا الْمُتَهَاوِنُ؟!.
عِبَادَ اللهِ:
وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ: ذَبْحُ الأَضَاحِي؛ تَقَرُّباً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاسْتِنَاناً بِهَدْيِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِحْسَاناً إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَتَحَبُّباً لِلأَصْدِقَاءِ وَالْجِيرَانِ وَالأَقْرَبِينَ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ؛ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ" (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)، وَعَنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْعَجُّ وَالثَّجُّ" (أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَالْعَجُّ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ – وَالثَّجُّ: سَيَلاَنُ دِمَاءِ الْهَدْيِ وَالأَضَاحِي.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرَتِهِ شَيْئاً حتى يضحي؛ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلاَلَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ" (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)، فالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كثيرة، فَاعْمُرْ ياعبد الله هَذِهِ الأَيَّامَ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ مِنْ صَلاَةٍ وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ، وَذِكْرٍ وَدُعَاءٍ، وَصَدَقَةٍ وَصِلَةٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَأَبْوَابُ الْخَيْرِ مُشْرَعَةٌ؛ فَذَاكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ، ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون:60 - 61].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْهُدَى وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الأُمَّةِ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ.
الْخُطْبة الثّانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهِ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتْبَاعِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَعْمَالِ: تَجْدِيدَ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ الأَزْمَانِ، مُتَأَكِّدَةٌ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لِلْمُسْلِمِ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ مَعَ أَعَمَالٍ صَالِحَةٍ فِي زَمَانٍ فَاضِلٍ؛ فَذَاكَ عُنْوَانُ الْفَلاَحِ؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67].
إِنَّ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ شَرَفٌ لِلْعَبْدِ وَكَرَامَةٌ، فَبِهَا يَسْعَدُ وَيَغْنَمُ، وَبِهَا يَفْرَحُ وَيَرْبَحُ، وَإِنَّهَا لَبَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ السَّعَادَةِ، تُنَالُ بِهَا الْحَسَنَاتُ، وَتُحَطُّ بِهَا السَّيِّئَاتُ، وَيَتَنَزَّلُ بِهَا الرِّزْقُ، وَيَدُومُ الْحَظُّ وَالتَّوْفِيقُ، وَيَزُولُ الشَّقَاءُ وَالْحُزْنُ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ؛ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).
فَسَارِعْ - أَخِي - إِلَى طَاعَةِ رَبِّكَ بِالتَّوْبَةِ وَالاِسْتِغْفَارِ وَكَثْرَةِ خِصَالِ الْخَيْرِ، عَلَّ اللهَ أَنْ يَخْتِمَ لَكَ بِخَاتِمَةِ السَّعَادَةِ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112].
فتُبْ للهِ حَقّاً ثُمَّ أَقْبِلْ
بُعَيْدَ التَّوْبِ وَالدَّمْعِ الْمُسَالِ
سَتَلْقَى اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً
مُجِيباً لِلدُّعَاءِ وَلِلسُّؤَالِ
فَيَا رَبِّي أَنَبْتُ إِلَيْكَ طَوْعاً
تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَالْطُفْ بِحَالِي
فَعَهْداً أَنْ أُلاَزِمَ كُلَّ وَقْتٍ
دُرُوبَ الْخَيْرِ، غَيْرَكَ لاَ أُوَالِي
فَثَبِّتْنِي عَلَى التَّقْوَى فَإِنِّي
لَأَرْجُو مِنْكَ حُسْناً فِي الْمَآلِ
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم....وارض اللهم عن أبي بكر.... اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين من الكفرة واليهود والملحدين اللهم انصر المجاهدين المسلمين في كل مكان يا حي يا قيوم اللهم انصر من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا اللهم انصرهم نصرا مؤزرا يارب السماوات والأرضين اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان اللهم انصرهم في بورما وانصرهم في سوريا اللهم وعجل بفرجهم وعجل بنصرهم اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم وتقبل شهداءهم واشف جرحاهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم يا حي يا قيوم اللهم عليك بطاغية الشام فإنه قد عاث في الأرض فسادا اللهم عليك به وأعوانه وجنوده فإنهم لا يعجزونك اللهم اخذهم اخذ عزيز مقتدر اللهم أهلكهم بأيديهم واقذف الرعب في قلوبهم وخالف بين كلمتهم وقتلهم شر قتله واشف صدور قوم مؤمنين اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا اللهم اجعل دباباتهم في نحورهم وطائراتهم فوق رؤوسهم يا قوي يا قهار.
اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك، واكلأهما برعايتك، ووفقهما لما تحب وترضى، واخذ بناصيتهما للبر والتقوى وارزقهما البطانة الناصحة الصالحة التي تعينهما على الخير وتدلهما عليه ياحي يا قيوم.
واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وحكامنا وعلماءنا وأمننا بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرآ عليه يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنَا، وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا، وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا، وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، وَاحْفَظْنَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا, وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا, وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا, وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً وَاسِعاً، وَعَمَلاً صَالِحاً مُتَقَبَّلاً، وَنَسْأَلُكَ - اللَّهُمَّ - عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَمَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَالشُّكْرَ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الْبَلاَءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ أُمُورَنَا، وَاشْرَحْ صُدُورَنَا، وَاخْتِمْ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا، وَرِضَاكَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم اهد شباب المسلمين وردهم إليك ردا جميلا واهد اللهم فتياتهم ونساءهم وشيبهم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم واجعلها روضة من رياض الجنة ولا تجعلها حفرة من حفر النيران اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين اللهم اغفر لنا ولوالدينا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].