السؤال
السلام
عليكم، أنا أم ثلاث أطفال، تزوجت في سنٍّ مبكرة، والآن عمري 24، وكانت
أمنيتي - ولا زالت - أن أربِّي أطفالي تربية صحيحة سليمة، على كتاب الله
وسُنَّة نبيِّه - عليه السَّلام - رغم الانتقادات، ورغم كلِّ ما يوجَّه لي،
لكنْ عندي هدف، وسوف أحقِّقه إن شاء الله؛ أن يكون لأبنائي شأن في
الدِّين، يقولون الحق، ولا يخافون لومة لائم.
ولكن
تجري الرياح بما لا تشتهي السُّفن؛ فأنا الآن أعيش حالة صراعٍ نفسيٍّ قوي،
أحسُّ بفتور في الدِّين، أحس أنِّي غير متمسِّكة به مثل الماضي، تغيَّرتُ
كثيرًا من 9 شهور عندما حملتُ بطفلتي الأخيرة صرتُ مثل المراهقين أبحث عن
المسلسلات الغراميَّة، والصُّور رغمًا عني، وألوم نفسي: لماذا أنا هكذا؟
لماذا فعلتُ كذا؟ وأستغفر وأجاهد نفسي، وأذكِّر نفسي بأنَّ مَن ترك لله
شيئًا عوَّضه الله خيرًا منه، وما هي إلاَّ فترة؛ يوم أو ساعات، وأرجع!
وانتهت
فترة حملي وولادتي، وانتهت - والحمد لله - الحالة، ولكن الآن رجعت وأحسُّ
بالذنب، وأصبحتُ أبحث عن مسلسل تركي خاض الناس فيه كثيرًا، وشاهدتُ حلقات
منه مع ناسٍ كنت في زيارتهم، وأصبحتُ أبحث عنه في النت؛ شدَّني أسلوبُهم،
شدني لبسهم، المشكلة أن المسلسل غيرُ هادفٍ، يَحكي عن قصَّةِ عشق بين ولد
وزوجة عمِّه! وكيف خان عمه؟
في
قرارة نفسي أمقتُه، ولكن شدني إثارتهم، وخوفهم من أن يراهم أحد، بالرَّغم
من أنِّي إذا رأيتهم في مقاطع مخلَّة بالأدب أُغلق أو أُغَيِّر حتى ينتهي
المشهد! فكنت أحسُّ بالحياء، لكن في اللحظات الأخيرة الآن أحسُّ أنِّي أريد
أن أشاهد هذه اللقطات بعد انتهائي من المشاهدة!
أحزن وأقول: لماذا؟ وأستغفر كثيرًا، ولكن أرجع!
دلُّوني،
أعطوني أملاً أنِّي سأتغير عن هذا الشيء المزعِج، وتصرُّفاتي التي تدلُّ
على مراهقتي الغبيَّة، هل يكون للعذر الشَّرعي دورٌ في هذا الشيء؟ لأنِّي
أحسُّ أنه يصيبُنِي كثيرًا عند قرب العذر الشرعي، أو أثناء وجوده!
أريد أن أكون أُمًّا ومربية رائعة، أفعل شيئًا للإسلام، أنا متناقضة جدًّا، والله كرهتُ نفسي، لا حول ولا قوة إلا بالله!
كيف
أُرجع حلاوة الإيمان التي فقدتُها؟ والله دعوت كثيرًا أن يبعدني الله عن
المعاصي، كنت في شوقٍ إلى مكَّة؛ لكي أدعو وأبتهل، ولعلَّني أجد الخشية من
الله التي فقدتها بسبب ذنوبي، ولكن النتيجة المحبِطة والغريبة لي حتَّى
الآن: أنِّي لم أكن خاشعة كثيرًا! لا أعلم؛ هو انشغالي بأطفالي، أو المباني
المحيطة بالحرم؟ يا ربِّ ارحمني، وخذ بيدي، أصبحت أعجز عن الدُّعاء، أو
أدعو بدون لذة أو إحساس.
ماذا أفعل؟ كيف أرجع كما كنت، أو أفضل حالاً مما كنت عليه؟ وآسفة على الإطالة، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكلِّ من أرادتْ طريقَ
الله، وعزمتْ على العودة, ورغبتْ في نفع الإسلام، وتمنَّتْ إصلاح أبنائها،
والحفاظ عليهم من شرِّ كل فتنة.
نعم، ستعودين أفضل مما كنتِ -
بإذن الله - مادام قلبُكِ ينبض بِحُبِّ الله, وجروحُكِ تحِنُّ إلى الطاعة,
ونفسكِ تَهْفو إلى العبادة, فلن تهدأ النَّفس ولن تسكن الجوارح، ولن يكفَّ
القلب عن اضطرابه حتَّى يعود إلى خالقه ومولاه، ويسكن إلى نعيم الطاعة
ولذَّة العبادة!
يقول رسولنا - صلَّى الله عليه
وسلَّم -: ((إن لكلِّ عملٍ شِرَّةً، ولكلِّ شرَّة فترة، فمن كان فترتُه إلى
سُنَّتِي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلَك))؛ رواه أحمد
والبزَّار وابن حِبَّان، وصحَّحه الألباني.
فليس من العجيب أن يَفْتر
إيمانُكِ، وليس من الغريب أن تركَن نفسُكِ إلى الرَّاحة والدَّعَة, وإنما
يَجْدر بكِ أن تتابعي أفعالكِ وتجعلي من نفسكِ على نفسكِ رقيبًا، فتُسارعي
إلى التَّنفيس الانفعالي، والبحث عما تروِّحين به عن نفسكِ مما أباح الله
لكِ.
فالفتور من أقوى علاجه
التَّنفيس؛ وقد ورد عن حنظلة الأُسَيِّدي - وكان من كُتَّاب رسول الله،
صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: لقِيَنِي أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟
قال: قلت: نافَقَ حنظلةُ! قال: سبحان الله! ما تقول؟! قال: قلتُ: نكون عند
رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - يذكِّرنا بالنار والجنة حتَّى كأنَّا
رأْيَ عين، فإذا خرجنا من عندِ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -
عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله
إنَّا لنَلْقَى مثل هذا.
فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتَّى
دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قلتُ: نافق حنظلةُ يا رسول
الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول
الله، نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنَّة حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا
من عندك عافَسْنا الأزواجَ والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما
تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحَتْكم الملائكة على فرُشِكم، وفي طرقكم،
ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة))؛ رواه مسلم.
فالأجدر بكلِّ مَن يستشعر من
نفسه بوادِرَ الفتور، ويَخشى عليها منه أن يُسارع بالتغيير في نظام يومِه،
وفي أفعاله؛ فالخُروج مع الأهل, ومشاركة الأبناء بعض ألعابِهم, وزيارة
الأقارب, وتنظيم بعض الرحلات برفقة الزَّوج، وغيرها، قد يعيد إلى النَّفس
حيويَّتَها ويُعلي همتها, وإن لم تشعري بالرَّغبة الجادَّة في فعل ذلك, فكم
تخبِّئ النفس ما لا نعلمه! وكثيرًا ما يكون الإنسانُ نفسه يجهل ما يريد،
ولا يتبيَّن له احتياجه إلى فعل شيءٍ، حتَّى يُتِمَّه، ويجد أثره على
حياته.
وعلى المؤمن أن ينهض عند سقوطه
أقوى مِمَّا كان، وأن يتخذ من كلِّ موقف عبرةً وعظة, فكم تضعف النَّفْس،
ولا تقوى على مواجهة الفِتَن! والمعصوم من عصَمَه الله, لكن كيف يواجه
المرءُ هذه الفتنة؟ وكيف يتصدَّى لها؟
يخطئ من يظنُّ في نفسه الكمال،
ويرجو منها الثبات.. النفس البشريَّة ضعيفة, والفِتَن في تصاعُد مستمر, ولا
يعني سقوطُ مرَّةٍ أو مرتين أنَّه لا أمل في صلاح النَّفس وعودتها, بل
عليه أن يتقبَّل الخطأ، ويعمل على تصحيحه؛ فقد ورد عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده، لو لَم تُذْنِبوا
لذهب الله بكم، ولَجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم))؛ رواه
مسلم.
فالله - تعالى - يحب أن يُتَاب إليه ويُستغفَر, يحبُّ سماع أنين التائبين العائدين، ويرى صدقهم.
وليعلم المرء أن الله - عزَّ
وجلَّ - يتقبَّل توبته متَى ما صدق فيها واستوفى شروطها, وكم من تائبٍ من
ذنبه يعود أفضلَ مِمَّا كان عليه في السابق, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
وقد قال بعض السلف: "رُبَّ معصيةٍ أورثت ذُلاًّ وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا".
هذا بالنسبة للتوبة، وما على مَن يعاني الفتور أن يفعله، ويعلمه من نفسه.
نأتي الآن إلى النقطة الأكثر
أهمية، والتي تفضَّلْتِ بالإشارة إليها, وهي الأوقات التي تمرُّ على المرأة
تتغيَّر فيها نفسيتها وحالتها، وتجد من نفسها ما تُنْكِره؛ كالحَمْل،
والنفاس، والحيض, فقد ثبت طبِّيًّا أنَّ تغيُّر الهرمونات في هذه الأوقات
يؤثِّر على كل النساء سلبًا، على تفاوتٍ في الدَّرجات بينهن؛ فمِن النساء
مَن تفقد السيطرة على نفسها تمامًا، فتغضب لأتفه الأسباب, وتثور على كلِّ
أهل البيت بلا مُبَرِّر, ومنهنَّ من تجد في نفسها رغبة قويَّة في البكاء
لأسبابٍ لا تعلمها, ولكن بصفة عامَّة تلحظ كلُّ امرأة من نفسها تغيُّرًا في
هذا الوقت، ولا تكاد تنكره واحدةٌ من النساء.
أنصح كلَّ امرأة أن تتحاور مع
زوجها، وأن تُبَيِّن له معاناتها النفسيَّة والجسدية في تلك المراحل، وتطلب
منه المساعدة والدَّعم النفسي, وأتوجَّه إلى الأزواج بِهذا الطلب، أو
الرجاء أن يُراعوا أزواجهم ويتفهَّموا احتياجاتِهنَّ, ويرفقوا بهن, فكلمةٌ
حَنون، أو رسالة تحوي كلامًا عاطفيًّا رقيقًا, أو هدية قليلة التَّكلفة، من
شأنها أن تعمل في نفس المرأة ما لا يتوقَّعه الزوج, فالدَّعم العاطفيُّ
يؤمِّن المرأة ويُشْعِرها بالأمان والسَّكينة، ويعمل كحاجز وسدٍّ في وجه
الفِتَن.
وقد لاحظتُ أنكِ لم تُشيري إلى زوجكِ، ولم تتحدَّثي عنه بكلمة توحي بشيء, فهل يعني هذا ابتعادَه عنكِ نفسيًّا، وانشغاله عن البيت؟
كما أنَّ من أسباب حفظ النفس من
الوقوع في المعاصي: سدَّ بابِ المعصية وتحصينَها, ويكون ذلك بالتخلُّص من
الأسباب المؤدِّية إليها؛ فإن كان الإنترنت، يتمَّ التخلِّي عنها، ولو
بشكلٍ مؤقَّت, وإن كان التلفاز، يتمَّ التخلص من تلك القنوات نهائيًّا،
والاكتفاء بالقنوات الإسلاميَّة, وهكذا..
ولتتذكَّري - أيَّتُها الفاضلة -
أنَّ للفراغ دورًا لا يُستهان به في هذا الأمر؛ صحَّ عن ابن عبَّاس - رضي
الله عنهما - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلَّم -: ((نعمتان مغبونٌ
فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحة، والفراغ))؛ رواه البخاري.
فاشغلي كل يومكِ، ولا تذري منه
للفراغ شيئًا، ونظِّمي كلَّ ساعة من يومكِ حتَّى لا تدعي للشيطان لحظةً
واحدة من لحظات الضَّعف يستغلُّها منكِ، ويحاول الولوجَ منها إليكِ, وما
أكثر مداخِلَه!
وأتَمنَّى أن تقومي الآن
لتدوِّني بعض أعمال الأسبوع، وتوزِّعيها على الأيام بالتنسيق المناسبِ لكِ,
ولتبدئي العمل الجادَّ؛ فأنفسُنا إن لَم نشغَلْها بالحقِّ شغلَتْنا
بالباطل, وقد تراءت لي من بين الأسطُر التي كتبتِها شخصيَّةٌ طَموح جادَّة,
توحي بالعزم والصِّدق, وتبشِّر بتغيُّرٍ رائع في أقرب وقت, ولا تحتاج
إلاَّ إلى دفعة يسيرة، وشحنةٍ صغيرة؛ لتنطلق وتعمل كالنَّحلة التي لا تعرف
إلى الخمول طريقًا.
وفَّقكِ الله وأصلح حالكِ، وأعانكِ على الطاعة، ويسَّر لكِ كلَّ عسير, ونسعَدُ بالتواصل معكِ في كل وقت؛ فلا تتردَّدي في مراسلتنا.