السؤالإلى الأستاذ الكريم:كثيرًا
ما نعاني - نحن المسلمين المقيمين في أوروبا - مِن الفساد الجِنسي
المستشري هنا، ولا نَعلم ماذا نفعل، ونحن نخافُ مِن الوقوع في الزِّنا -
والعياذ بالله - علمًا بأنَّنا شبابٌ متزوِّجون، ومقيمون في أحدِ مراكز
اللاجئين هنا في بلجيكا دون زوجاتنا، ولا نعلم ماذا نفْعل، فليس لنا
الإمكانيةُ على الزواج من ثانية، وكل يومٍ نرَى ما نراه، أفيدونا؛ جزاكم
الله خيرًا. الجوابالحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فلا شكَّ أن ما تشعُر به من
فتنةِ تَغَوُّلِ الشهوات أمرٌ عظيم، يتطلَّب منك اليقظةَ الشديدةَ، وعدم
الغَفْلة عن النفس، مع الصَّبر والقوَّة في طاعة الله، وكمال العقْل،
والعمل على صحَّةِ القلب، والبُعْد عن كلِّ ما من شأنِهِ أن يمرضه؛ لأنَّ
القلب المريض لو عُرِضَتْ له فِتنة الشهوات، فإنَّه يميل إليها بِحَسَبِ
قوَّة المرض وضعفِهِ.
قال ابن القيم: "ففِتنة الشبهات
تُدفَع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفَع بالصبر؛ ولذلك جَعَلَ - سبحانه -
إمامةَ الدِّين منوطة بهذين الأمرين، فقال: ﴿
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]؛ فدلَّ على أنَّه بالصبر واليقين، تُنال الإمامة في الدِّين، وجمَع بينهما - أيضًا - في قوله: ﴿
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3].
فتواصوا بالحقِّ الذي يدفع
الشبهات، وبالصَّبر الذي يكفُّ عن الشهوات؛ فبكمال العقلِ والصبر، تُدفَع
فِتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين، تُدفَع فِتنة الشبهة، والله
المستعان"؛ إغاثة اللهفان (2 /167).
وسأذكُر لك ولإخوانك بعضَ الخُطوات العمليَّة لعلاج تلك الفِتنة:
منها: تدبُّر القرآن الكريم؛
فإنَّه شفاءٌ لمن في قلْبه أمراضُ الشبهات والشهوات جميعًا، ففيه مِن
البيِّنات ما يميِّز الحقَّ مِن الباطل؛ فيزيل أمراضَ الشُّبهة المفسدة
للعِلم والتصور والإدراك، وفيه مِن الحِكمة والموعظة الحسَنة، بالترغيب
والترهيب، ما يُوجِب صلاحَ القلْب، فيرغب القلْبُ فيما ينفعه، ويرْغب عمَّا
يضرُّه.
ومنها: تدريبُ القلْب على إيثار
طاعةِ الله والخوف منه بترْك الشهوة المحرَّمة - وإنْ كان فيه الخروج عنِ
المال والرِّياسة - على قضاء الشهوة، ونيْل الرِّياسة والمال مع المعصية.
ومنها: تذكير النَّفْس حال
سكرتِها بالشهوة، أنَّها إنْ نالت غرضَها بهذه المحرَّمات، فإنه يعقبه مِن
الضرر في الدنيا والآخرة أعظمُ ممَّا حصَل من عاجل الشهوة، فتوازن بينهما
حتى تُقَدِّمَ ما رَجَحَتْ مصلحتُه على مفسدتِه، وإن كَرِهَتْهُ النفوس؛
كما قال - تعالى -: ﴿
كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وفي "
الصحيحين" عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((حُفَّتِ الجنة بالمكارِه، وحُفَّتِ النار بالشهوات)).
ومنها: معرفة ما تَوَعَّد الله به المستمتعين بفِتنة الشهوات المحرَّمة مِن العقاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ كقوله - تعالى -: ﴿
كَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً
وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [التوبة: 69]، إشارة إلى اتِّباع الشهوات، وهو داءُ العُصاة؛ ولذلك استحقُّوا من العقوبة والإهلاك.
أمَّا المؤمِنون فهم - وإن استمتعوا بنصيبهم وما خُوِّلوا مِن الدُّنيا - فإنَّه على وجه الاستعانة به على طاعةِ الله.
ومنها: الاستعاذة بالله من شرِّها؛ كما قال - تعالى-: ﴿
وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف:
200-202]، مع السَّعيِ في إبعادها عن نفْسه، والفرار منها؛ كما في الصحيحين
عن أبي هُريرة، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((ستكون
فِتن، القاعِد فيها خيرٌ مِن القائم، والقائِم فيها خيرٌ مِن الماشي،
والماشي فيها خيرٌ مِن الساعي، مَن تَشَرَّف لها تستشرفْه، فمَن وجد فيها
ملجأً، أو معاذًا، فليَعُذ به))، فالتعرُّض للفِتن من الذنوب، والمؤمِن
الصادق لا يفْعل ذلك بنفسه.
ومنها: الانخراط مع صُحْبة صالحة مِن المتمسِّكين بدينهم؛ فإنَّ الشيطان مع الواحِد، وهو مِن الاثنين أبعد.
ومنها: المحافظة على أداء ما أوْجَبه الله - تعالى - ومنه الصلوات، وأداء النوافِل بعد الفرائض؛ قال - تعالى -: ﴿
إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].
ومنها: إدْمان الصَّوم؛ فإنَّه قاطع لفِتنة الشهوة لمن أكْثر منه؛ كما في "
الصحيحين"
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّج، ومن لم يستطعْ
فعليه بالصَّوْم؛ فإنَّه له وجاء))؛ أي: قاطِع للشهوة.
ومنها: كثرة المطالعة في كُتب
الترغيب والترهيب، وأحوال القبور والآخرة، فلا شكَّ أنَّ الاطلاع على أهوال
القيامة مِن أعظم ما يقْمَع الأهواء والشهوات؛ كما قال - صلَّى الله عليه
وسلَّم -: ((لو تَعلمون ما أعلم، لضحِكْتُم قليلاً، ولبكيتُم كثيرًا، وما
تلذذتُم بالنِّساء على الفُرُش، ولخرجتُم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى
الله))؛ رواه الترمذيُّ وابن ماجه.
ومنها: تقوية خشية الله - تعالى
- والرغبة فيما عندَه، واستشعار مراقبته - جلَّ جلاله - كأنَّك تراه،
وكلَّما اشتدتْ هذه المراقبة، أوجبت لك الحياءَ مِن الله من الوقوع في
المحرَّمات، والخوف والرجاء ما لا يحصُل بدونها، فالمراقبة أساسُ الأعمال
القلبيَّة كلها، وعمودها الذي قيامُها به، ولقدْ جمع النبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم - أصولَ أعمال القلب وفروعها كلها في كلمةٍ واحدة، وفي قوله في
"الإحسان": ((أن تَعبُد اللهَ كأنَّك تراه)).
ومنها: انتظار الأجْر عندَ الله على مجاهدة النفْس وحبْسها عن الشهوات، وهو ممَّا يُهوِّن الصِّعاب، ويُحيلها إلى راحة وطُمأنينة.
ومنها: الفرار مِن موضع
الفِتنة، والهرَب مِن مظانها، والبُعد عنها؛ فقد قال رسولُ الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: ((مَن سمِع بالدجَّال فليَنْأ عنه؛ فواللهِ إنَّ الرجل
ليأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فيتبعه مما يبعَث به مِن الشبهات، أو لما
يبعث به مِن الشبهات))؛ رواه أحمد وأبو داود، فما استُعِين على التخلُّص من
الفتن بمِثل البُعد عن أسبابها ومظانها.
ومنها: الفِرار إلى الله بصِدق،
مع أخْذ النفْس بالشِّدَّة وعدم التَّهاون معها، وعدم التعلُّل بحجج واهية
مِن شدَّة الشهوة وما شابَه، فلا يوجد دواء في معصية الله ألبتةَ، بل في
التوبة النَّصوح والعزْم الأكيد على عدمِ العود، وتقطُّع النفس بالندم على
ما فات.
وفي الختام تأمَّل ما وصفه
طبيبُ القلوب ابنُ القيِّم في "الجواب الكافي" حيث يقول: "فلو نظَر العاقل،
ووازن بيْن لذَّة المعصية وما تولَّد فيه مِن الخوف والوحشة، لَعَلِمَ
سوءَ حاله، وعظيم غبْنه؛ إذْ باع أُنسَ الطَّاعة وأمنَها وحلاوتَها، بوحشةِ
المعصية وما تُوجبه مِن الخوف.
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
|
وسرُّ المسألة: أنَّ الطَّاعة
تُوجِب القُرب مِن الرَّبِّ - سبحانه - وكلَّما اشتدَّ القرب قوِيَ الأُنس،
والمعصية توجِب البُعد من الرَّبِّ، وكلَّما زاد البُعْد قوِيت الوحْشة؛
ولهذا يَجد العبدُ وحشةً بيْنَه وبيْن عدوِّه؛ للبُعد الَّذي بيْنهما، وإنْ
كان ملابسًا له قريبًا منه، ويجد أنسًا قويًّا بيْنه وبيْن من يُحب، وإنْ
كان بعيدًا عنْه، والوحشة سبَبُها الحجاب، وكلَّما غلظ الحِجاب زادتِ
الوحشة، فالغفْلة تُوجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشةُ
الشِّرك والكُفر، ولا تَجد أحدًا يُلابس شيئًا مِن ذلك إلاَّ ويعْلوه مِن
الوحشة بِحسب ما لابَسه منه، فتعلو الوحشةُ وجْهَه وقلْبَه، فيستوْحِش
ويُستوحَش منه".
ونسأل الله - لنا ولكَ ولجميع المسلمين -
العصمةَ مِن مضلاَّت الفِتن، والثباتَ على الدِّين، وأن يزيِّننا بزينةِ
الإيمان، ويجعلنا هداةً مهتدين، آمين.