السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.أكتُب
لك يا سيدي هذه الاستشارة، وأنا في قمَّة حيرتي وهمي، الموضوع: أنِّي كنتُ
أعمل وأجتهدُ في عملي، وكان المدير يُقدِّر مجهودي، وفى الشهور الأخيرة
قام بترقيتي، وفرحتُ كثيرًا؛ فهذا ما كنت أرجوه، وأصبحت أنا وشخصٌ آخَر
شَريكين في هذا المنصب، ولكنَّ الشخص الآخَر أقدَمُ مني، والمدير هو مَن
يرأسنا أنا وإياه، وقال لي: إنَّه سوف يقسم العمل بيننا، وأعطاني بعض
المهام الصغيرة التي تستغرقُ بعض الوقت القليل، وقريبًا قامت الشركة بفصْل
مديري، ودمْج إدارتنا مع إدارةٍ أخرى، وأنا لم أستلمْ كلَّ مهامي، وهو
الوحيد الذي يعلمُ طبيعة عملي، وقام زَمِيلي القديم بكلِّ الحِيَل لطمْس
معالمي وأنْ يستولي على جميع المهامِّ؛ لكي يُحافِظ على مَكانِه ولا تقوم
الشركة بفصله، خُصوصًا أنَّه سيِّئ السُّمعة، وأصبحت في حَيْرة، ليس لديَّ
الأعمال الكافية، والمدير الجديد لا يعرفُ شيئًا، وليس له شخصيَّة قياديَّة
تحميني من شَرِّ زميلي، وطلبت النقل ولم يستجبْ لطلبي، فأنا الآن خائفٌ من
أنْ تقوم الشركة بفَصْلِي، وراتبي هو مصدر الدَّخل الوحيد لديَّ، ولا يوجد
في بلدتنا مكان آخَر يعطيني هذا الراتب الكبير، وأنا قَلِقٌ جدًّا،
وتغيَّرت ملامحي من الهمِّ والحزن، فماذا أفعل سيدي؟ وبِمَ تنصحني؟ فأنا في
انتظار كلمة تنقذني ممَّا أنا فيه. آسف على الإطالة، وأرجو الإفادة بالله عليكم. الجواببسم الله المُلْهم للصَّواب
وهو المُستعان
أيُّها الفاضل:كنتُ قد قرأتُ للآسي؛ طبيبِ القُلوب ابن قيِّم الجوزيَّة كلامًا فيه بُرء علَّتكَ، في كتابه المُعجِب "
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، فأردتُ أنْ أستقطع لكَ منه فلمْ أستطع إلا نسخه كلَّه على طوله، فعلى هذا البحر الزَّاخر رحمةُ الله ورضوانُه.
قال ابن القيِّم: "قال - تعالى -: ﴿
أَمَّنْ
هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ
إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي
يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴾ [الملك: 20، 21]، فجمَع - سبحانه - بين النَّصر والرِّزق؛ فإنَّ العبدَ
مضطرٌّ إلى مَن يدفع عنه عدوَّه بنصْره، ويجلب له منافعَه برِزقه، فلا
بُدَّ له من ناصرٍ ورازقٍ، والله وحدَه هو الذي ينصُر ويرزق؛ فهو الرزَّاق
ذو القوَّة المتين، ومن كَمال فطنة العبد ومعرفته أنْ يعلم أنَّه إذا مسَّه
الله بسوءٍ لم يرفعه عنه غيره، وإذا ناله بنعمةٍ لم يرزُقه إيَّاها سواه.
ويُذكَر أنَّ الله - تعالى -
أوحى إلى بعض أنبيائه: "أَدرِكْ لي لطيفَ الفِطنة، وخَفِيَّ اللُّطف،
فإنِّي أحبُّ ذلك، قال: يا رب، وما لطيفُ الفِطنة؟ قال: إنْ وقعتْ عليك
ذُبابةٌ فاعلمْ أنِّي أنا أوقعتها، فاسألني أرفعها، قال: وما خَفِيُّ
اللُّطف؟ قال: إذا أتَتْك حبَّة فاعلَمْ أنِّي أنا ذكرتك بها.
وقد قال - تعالى - عن السِّحر: ﴿
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102]، فهو - سبحانه - وحدَه الذي يَكفِي عبده وينصرُه ويرزُقه
ويكلؤه، قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزَّاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبًا
يقول: قال الله - تعالى - في بعض كتبه: "بعِزَّتي، إنَّه مَنِ اعْتَصَمَ
بي، فإنْ كادَتْهُ السَّماوات بِمَن فيهنَّ، والأرَضُون بِمَن فيهنَّ،
فإنِّي أجعل له من ذلك مَخرَجًا، ومَن لم يعتصمْ بي، فإنِّي أقطعُ يديه من
أسباب السَّماء، وأخسف به من تحت قدمَيْه الأرض، فأجعَله في الهواء، ثم
أَكِلُه إلى نفسه، كفى لعبدي مَلأى، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أنْ
يسألني، وأستجيب له قبلَ أنْ يدعُوني؛ فإنِّي أعلم بحاجته التي ترفق به
منه.
قال أحمد: وحدثنا هاشم بن
القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدِّب، حدثنا مَن سمع عطاء الخراساني قال: لقيتُ
وهب بن منبِّه، وهو يَطوفُ بالبيت، فقلتُ له: حدِّثني حديثًا أحفظه عنك في
مَقامي هذا وأوجز، قال: نعم، "أَوْحَى اللهُ - تبارك وتعالى - إلى داود:
يا داودُ، أما وعزَّتي وعظَمتي لا يعتصمُ بي عبدٌ من عبيدي دُون خلقي أعرفُ
ذلك من نيَّته، فتكيده السَّماوات السَّبع ومَن فيهنَّ، والأرَضون السَّبع
ومَن فيهنَّ، إلا جعلت له من بينهنَّ مَخرَجًا، أما وعزَّتي وعظَمتي لا
يعتصمُ عبدٌ من عِبادي بمخلوقٍ دُوني أعرف ذلك من نيَّته، إلا قطعت أسباب
السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدَمَيْه، ثم لا أُبَالِى بِأَيِّ وَادٍ
هَلَكَ"، انتهى.
فالاعتصام بالله والثِّقة به -
سبحانه وتعالى - أهم ما أنصحكَ به، ثم حصِّن نفسكَ بالدُّعاء، ومن أنفع
الدُّعاء دعاء الخوف من ظُلْمِ السُّلطان:
• صَحَّ
عن عبدالله بن مسعودٍ موقوفًا أنَّه قال: إذا كان على أحدِكم إمامٌ يخافُ
تغطرسَه وظُلمَه، فليتوضَّأ، وليُصلِّ ركعتين، ثم ليقُلْ في دبر صلاته:
"اللهم رب السَّماوات السبع، ورب العرش العظيم، كُنْ لي جارًا من فلان بن
فلان، وأحزابه من الجنِّ والإنس أنْ يفرطوا عليَّ وأنْ يطغوا، عَزَّ جارُك،
وجلَّ ثَناؤك، ولا إله إلا أنت".
• وصَحَّ عن ابن عباسٍ موقوفًا أنَّه قال: "إذا أتيت سُلطانًا مهيبًا، تخافُ
أنْ يسطو بك، فقُلْ: الله أكبر، الله أعزُّ من خَلقِه جميعًا، الله أعزُّ
ممَّا أخافُ وأحذر، وأعوذُ بالله الذي لا إله إلا هو، الممسِك السَّماوات
السبع أنْ يقعنَ على الأرض إلا بإذْنه، من شَرِّ عبدك فلان، وجنوده وأتباعه
وأشياعه من الجن والإنس، اللهم كُنْ لي جارًا من شرِّهم، جلَّ ثَناؤك،
وعزَّ جارُك، وتبارَك اسمُك، ولا إله غيرك" ثلاثَ مَرَّاتٍ.
ومن الأدعية والتعويذات النَّافعة أيضًا:• "أعوذُ
بكلماتِ الله التامَّاتِ التي لا يُجاوِزُهُنَّ بَرٌّ ولا فاجرٌ، مِن شرِّ
ما خلق وذرَأ وبرَأ، ومن شرِّ ما ينزلُ من السَّماء، ومن شرِّ ما يَعرُجُ
فيها، ومِن شرِّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرِّ ما يخرُج منها، ومن شرِّ فِتَنِ
الليلِ والنهارِ، ومن شرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلا طارقًا يَطرُق بخيرٍ يا
رحمَن"؛ رواه أحمد والنسائي والطبراني.
• ودعاء الحُسَيْن بن عليٍّ - رضي الله عنهما وأرضاهما - لما صبَّحته الخيل
في كربلاء رفَع يديه وقال: "اللهمَّ أنتَ ثقتي في كلِّ كرْب، ورجائي في
كلِّ شدَّة، وأنتَ لي من كلِّ أمر نزَل ثقة وعُدَّة، فكم من هَمٍّ يَضعُف
فيه الفؤاد، وتقلُّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصَّديق، ويشمت فيه العدوُّ،
فأنزلته بكَ وشكوته إليكَ؛ رغبةً فيه إليكَ عمَّن سواكَ، ففرَّجتَه وكشفتَه
وكفيتَنِيه، فأنتَ لي وليُّ كلِّ نعمةٍ، وصاحب كُلِّ حَسنةٍ، ومُنتَهى
كلِّ غاية"،
"البداية والنهاية" لابن كثير.
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في "
الفوائد":
"إذا حملتَ على القلبِ همومَ الدُّنيا وأثقالها، وتهاونتَ بأورادها التي
هي قوَّته وحَياته، كنتَ كالمُسافر الذي يُحمِّل دابَّته فوق طاقتها ولا
يوفيها علَفَها، فما أسرع ما تقفُ به!".
فلا يفترنَّ لسانكَ عن هذه
الأدعية، وعسى الله أنْ يستجيبَ، ويرد كيد الكائد في نحره؛ فما خاب مَن وثق
بربِّه، ولا اهتدى مَن أراد النَّاسَ بسُوئه ومَكرِه؛ ﴿
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43].
وإنْ كنتُ أخشى أنْ تكون قد
ظلمتَ زميلكَ بسوء ظنِّكَ، فليس كل مَن اجتهد وثابَر شخصًا مُتآمِرًا
ويريدُ طمس المعالم، وكم من شخصٍ صافي النيًّة والطويَّة قد أوَّل أعداؤه
تصرُّفاته إلى غير ما يريدُ، فلا تجمع بين سُوء الظنِّ بالله وسُوء الظنِّ
بالنَّاس؛ فتخسَر بذلك نفسكَ ودِينكَ.
لستُ بحاجةٍ إلى أدلَّةٍ
لإقناعي بأنَّ هذا الزميل إنما يريدُ المكر بكَ ومكايدتك؛ لأنَّنا قد نخسر
وظائفنا بحوادث عارضة يُقدِّرها الله لنا من مرض أو سفر أو ملل؛ فخسارة
الوظيفة ليست هي القضيَّة؛ وإنما تهيئة النُّفوس لتَقبُّل الأقدار الأليمة
هي القضيَّة؛ حتى لا نجمع بين خَسارتَيْن في آنٍ: خسارة الوظيفة، وخسارة
الأجر والمثوبة!
ثم هَبْ أيُّها الكريم أنَّ الله - تعالى - بعِلمه وحِكمته قد قدَّر عليكَ ما لا تحبُّ وخسرت وظيفتك، هل ستُصارع القدَر؟!
كُنْ على يقين أنَّ الله قد طوى تحت كلِّ شرٍّ خيرًا عظيمًا، لا تراه إلا البصائرُ المُوقنة والقلوبُ المُطمئنَّة؛ بقول الباري: ﴿
وَعَسَى
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا
شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
ألستَ تذكُر كيف تآمَر الأقباط لقتْل مُوسى الكليم - عليه الصلاة والسلام -: ﴿
وَجَاءَ
رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، ففَرَّ موسى هاربًا إلى مَدْيَنَ حيث
تزَوَّج هناك، وعمل مع الرَّجل الصًّالح عشر سنين قبل أنْ يعود إلى مصر
نبيًّا مُمَكَّنًا من لَدُنْ حكيم خبير؟!
وكيف كاد إخوة يوسف لإقْصاء
يوسف الصِّدِّيق - عليه الصلاة والسلام - عن أبيه، فعاش في مصر وحيدًا
غريبًا، حتى دار الزَّمانُ دورته، وأصبح يوسف عزيزًا في مصر وعليها؛ ﴿
وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56].
وكذلك لَمَّا فَرَّ الأميرُ
الأُموي عبدُالرَّحمن بن مُعاوية المُلقَّب بالدَّاخِل من بلاد الشَّام بعد
ظهور الدَّولة العبَّاسية، وتقتيلهم بني أُميَّة ومَن شايَعهم، "فلم يزل
مُسْتتِرًا ينتقل في بلاد المغرب حتى دخَل الأندلس، ودخَل حين دخَلها
طريدًا وحيدًا لا أهل له ولا مال، فلم يزلْ يُصرِّف حِيَله ويَسمُو
بهِمَّته، والقَدَر مع ذلك يُوافِقه، إلى أنِ احتوى على مُلكِها، وملَك
بعضَ بلاد العُدوة"، كما يقول المراكشيُّ في "
المعجب في تلخيص أخبار المغرب".
وَكَمْ نِعْمَةٍ للهِ فِي صَرْفِ نِعْمَةٍ تُرَجَّى وَمَكْرُوهٍ حَلاَ بَعْدَ إِمْرَارِ وَمَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوسُ بِنَافِعٍ وَلا كُلُّ مَا تَخْشَى النُّفُوسُ بِضَرَّارِ
|
فلا يقف بكَ الطُّموح حيث
مكتبكَ، فمَن رزقكَ هذه الوظيفة يرزُقكَ بأحسن منها، ولا تنسَ أنَّ المناصب
لا تَدُوم، وأحوال الناس مُتقلِّبة، وهذه الدُّنيا إلى فَناء، وقد أصاب
مَن قال:
إِنَّ المَنَاصِبَ لا تَدُومُ لِوَاحِدٍ إِنْ كُنْتَ تُنْكِرُ ذَا فَأَيْنَ الأَوَّلُ فَاغْرِسْ مِنَ الفِعْلِ الجَمِيلِ فَضَائِلاً فَإِذَا عُزِلْتَ فَإِنَّهَا لا تُعْزَلُ
|
فاغرِسِ الفضائل، وابذلْ وسعكَ،
وأثبت وجودكَ في مكانكَ، ولا تنتظِر تعليمات من أحدٍ، ما دُمتَ تعرف ما
الذي يتعيَّن عليكَ فِعلُه، وإذا كان مديركَ يجهل طاقاتكَ الحقيقيَّة،
فأنتَ تعلم من نفسكَ ما لا يعلمه إلا الله؛ فعَرِّفه بنفسكَ وأظهر
مَهاراتكَ في صورة أفعال، عِوَضًا عن الرُّكون إلى جِدارٍ يريد أنْ ينقضَّ
من القلق والترقُّب وسوء الظنِّ!
﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، ونحن مع ذلك لا نُقدِّم لأنفُسنا مِثقالَ ذرَّة من يقين!
وها أنتَ ترى مِقدار ثقتكَ بربِّكَ، ومَتانة يقينكَ بعد كلِّ النِّعَمِ
المتطاولة التي أنعَمَ بها عليكَ المُنعِم المُتفضِّل سُبحانه، فلا تكن
لربكَ كنُودًا وتنسى إكرامه وإنعامه عليك.
قال الحسن البصريُّ في "
تفسيرالكنُود" في قول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ [العاديات: 6]: "هو الذي يعدُّ المصائبَ ويَنسى النِّعَمَ"، وقال
الفُضَيل بن عِياض: "الكنُود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخِصال
الكثيرة من الإحسان"، فاتَّقِ الله وتَذكَّر أنَّ ﴿
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]، ولا تخشَ فَوات الرِّزق وقد قسمه الله بين الخلائق قبل أنْ
يُخلَقوا، ورفَعه عنده في السَّماوات حيث لا تصلُ إليه أيادي الطُّغاة
والظالمين؛ قال تعالى: ﴿
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23].
قال الشنقيطيُّ في "
تفسيره": "وقال بعضُ أهل العلم: معنى قوله: ﴿
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ﴾ [الذاريات: 22]: أنَّ أرزاقكم مُقدَّرة مكتوبة، والله - جلَّ وعلا - يُدبِّر أمرَ الأرض من السَّماء؛ كما قال - تعالى -: ﴿
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ... ﴾ [السجدة: 5]".
وقد ذكَر الطبريُّ في "
تفسيره"
شاهدًا على هذا التأويل حيث قال: "حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا هارون بن
المُغيرة من أهل الرأي، عن سُفيان الثوري، قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية ﴿
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22] فقال: ألا إنَّ رِزقي في السَّماء وأنا أطلبه في الأرض،
فدخَل خرِبةً فمكث ثلاثًا لا يصيب شيئًا، فلمَّا كان اليوم الثالث إذا هو
دَوخَلَّة رطب، وكان له أخٌ أحسن نيَّةً منه، فدخل معه، فصارتا
دَوخَلَّتين، فلم يزلْ ذلك دأبهما حتى فرَّق الموت بينهما".
قال الصَّادق الأمين - صلَّى
الله عليه وآله وسلَّم -: ((لا تستَبطِئُوا الرِّزق؛ فإنَّه لم يكن عبدٌ
ليَموت حتى يبلُغ آخِر رزق هو له، فأجمِلوا في الطَّلَبِ، أخذ الحلال وترك
الحرام))؛ حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه.
وأَصْدِقْ بالأمير الشَّاعر إبراهيم بن المهدي حين قال:
لَوْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ عَبْدٌ إِلَى جَبَلٍ دُونَ السَّمَاءِ لأَلْفَى رِزْقَهُ فِيهِ
|
وستَلفى رزقكَ في كلِّ مكانٍ
يكتبه لكَ الله هنا أو هناك، فكان الله لكَ حيثُما كنتَ، وأراكَ ما تحبُّ،
ورزقكَ من حيث لا تحتسِب.. آمين.
والله - سبحانه وتعالى - أعلمُ بالصَّواب، وله الحمدُ كما هو أهله.