السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.الإخوة
الأعزَّاء، لدي مشكلة وأتمنَّى المساعدة للتخلُّص منها؛ حيث إنني - والحمد
لله - أُصلي وأقوم بفرائضي، ولكن في بعض الأحيان لا أستطيع امتلاك نفسي،
ولا أستطيع الغضَّ من بصري، فلقد حاوَلت الابتعاد عن بعض الأشخاص الذين
يقومون بهذا الفعل، ولكني ما زِلت لا أستطيع غضَّ بصري عمَّا يُغضب الله،
ولقد أثَّر هذا في خشوعي، فأصبَحت أُصلي وكأني أؤدي شيئًا روتينيًّا، ولا
أستشعر خشوع وحلاوة الصلاة، ولا أستشعر أيَّ شيء فرَضه الله - عز وجل -
علينا. أتمنَّى مساعدتكم.والسلام الله عليكم ورحمة وبركاته. الجواببسم الله المُلْهِم للصَّواب
وهو المستعان
أيها الأخ الكريم، قال ابن
الجوزي - رحمه الله - في "ذمِّ الهَوى": "اعلمْ - وفَّقك الله - أن البصر
صاحب خبر القلب، يَنقل إليه أخبار المُبصرات، ويَنقش فيه صُوَرَها، فيجول
فيها الفكر، فيَشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة، ولَمَّا كان
إطلاق البصر سببًا لوقوع الهوى في القلب، أمَرَك الشرع بغضِّ البصر عمَّا
يُخاف عواقبه، فإذا تعرَّضت بالتخليط وقد أُمِرت بالحمية، فوقَعت إذًا في
أذًى، فلِمَ تضجُّ من أليم الألَم؟
قال الله - عز وجل -: ﴿
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [النور: 30]، ﴿
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ [النور: 31].
ثم أشارَ إلى مُسَبِّب هذا السبب، ونَبَّه على ما يؤول إليه هذا الشر، بقوله: ﴿
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30]، ﴿
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 31].
وصدَق الأمير إبراهيم بن المهدي حين قال:
نَظَرُ العُيُونِ عَلَى العُيُونِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ العُيُونَ عَلَى العُيُونِ وَبَالاَ
|
فاغضُض من بصَركَ اتِّباعًا
لأمر الله - عزَّ وحلَّ - واغضُضه مُروءةً وأخلاقًا؛ فغضُّ البصر من مكارم
أخلاق العرَب قبل أن تُشرق شمسُ الإسلام على الأرض، ألَم تَسمع بفَخْر
عنترة العَبسي حين قال:
وَأَغُضُّ طَرْفِيَ مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَأْوَاهَا
إِنِّي امْرُؤٌ سَمْحُ الْخَلِيقَةِ مَاجِدٌ لاَ أَتْبَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ هَوَاهَا
|
فإذا لَم يصُدَّكَ الوازع
الدِّيني، ولَم تتحرَّك فيكَ شِيَم العَربي، فأيُّ واعظٍ تَنتظر أن يَنهاكَ
عن النَّظر إلى ما لا يَحِلُّ لكَ؟!
اتقِّ الله - أيُّها الأخ
الكريم - وثِقْ أنَّه متى تحرَّكَ في القلب تقوى الله - عزَّ وجلَّ - ما
وسعكَ إلاَّ أن تغضَّ طرْفَكَ عن الحرام، ولو كنتَ في مَرقصٍ!
ولذلك كانت أوَّلُ كلمةٍ
قالتْها الصِّدِّيقة مَريَم - عليها السلام - لجبريل - عليه السلام - حين
تمثَّل لها بشَرًا سَويًّا، قَالَت: ﴿
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 18]، "تأويله: إنِّي أعوذ بالله، فإن كنتَ تقيًّا، فسَتَتَّعِظ بتعَوُّذي بالله منكَ"؛ كما ورَد في "
لسان العرب".
فتأسَّ بالأنبياء والصَّحابة
والصَّالحين في ذلك، على أنَّه لَم يكن للنَّبي يحيى - عليه الصلاة والسلام
- مثَلٌ في أمر النساء، فلقد كان - عليه الصلاة والسلام - عفيفَ القلب، ﴿
وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]، وليس أدل على تفسير كلمة "الحَصُور" من قول الله - عزَّ وجلَّ - في الثَّناء عليه: ﴿
وَكَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 13].
و((التقوى ها هنا - ويُشير إلى
صدره ثلاثَ مراتٍ))؛ رواه مسلم، "يعني قال: التقوى ها هنا، التقوى ها هنا،
التقوى ها هنا؛ تأكيدًا لكون القلب هو المُدبِّر للأعضاء"؛ كما يقول الشيخ
ابن عثيمين - رحمه الله - في شرح الحديث الخامس والثلاثين من كتابه "
شرح الأربعين النَّوويَّة":
فاتَّقِ الله بقلبكَ - أيُّها
الأخ الكريم - فليس مثل التقوى شفاء للعُيون التي تخون، وخالِف هواكَ إذا
دعاكَ إلى إطلاق بصركَ، تَسْلم لكَ الطَّاعات من النَّقص والتَّضييق
والتَّكدير.
إِذَا طَالَبَتْكَ النَّفْسُ يَوْمًا بِشَهْوَةٍ وَكَانَ عَلَيْهَا لِلْخِلاَفِ طَرِيقُ
فَخَالِفْ هَوَاكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّمَا هَوَاكَ عَدُوٌّ وَالْخِلاَفُ صَدِيقُ
|
قال أبو سليمان الدَّاراني:
"ومَن صَدَقَ في تَركِ شَهوَةٍ، ذهبَ اللهُ بها مِن قلبه، واللهُ أكرمُ مِن
أن يُعذِّبَ قلبًا بشهوةٍ تُرِكَت له".
أمَّا شكواكَ من ضَعْف الخُشوع
في الصلاة، فلا شكَّ أنَّ هذه ثمرة فِجَّة من ثمار المعصية؛ فعن علي - رضي
اللهُ عنه - أنَّه قال: "جزاءُ المَعصية الوهَن في العبادة، والضِّيقُ في
المَعيشة، والنَّقص في اللَّذَّة"، قيل: وما النَّقص في اللَّذَّة؟ قال:
"لا يَنال شهوةً حلالاً إلاَّ جاءَه ما يُنغِّصه إيَّاها".
ولكي تصل إلى كمال الخشوع في
الصلاة، وتَستطعم حلاوة الإقبال على الله، فعليكَ أن تُقبل على الصلاة
بجوارح طاهرة مُتوضِّئة، وأمَّا وَضُوء القلب فماء التقوى ومخافة الله -
عزَّ وجلَّ.
رزَقني الله وإيَّاكَ كنوزَ التَّقوى والمَخافة، وأوْرَثنا والمُتَّقين جنَّات عَدن؛ ﴿
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾} [مريم: 63]، آمين.
والله - سُبحانه وتعالى - أعلم بالصَّواب.