السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تقدَّم
لخطبتي شابٌّ، يظهر عليه الالتزامُ، يعمل بائعًا في محلٍّ، مُستواه
التعليمي قليل، لاحظتُ اهتمامه بي بحكم أني (زبونة) عنده، أشتري منه
كثيرًا.
كان
كثيرًا ما يسألني أسئلةً تخصُّ حياتي؛ مثل: العمر، والعمل، وهل أنهيتُ
دراستي أو لا؟... إلخ، وكنتُ أجيب ببراءةٍ، ولم أكنْ أعيره اهتمامًا لا
علمًا ولا شكلًا، لمستواه العلمي القليل، وشكله الذي لم يعجبني.
عرَض
عليَّ الزواج، وأخبرني أنه ليس ضد عمل المرأة، وسيُعطيني حرية التصرُّف،
أعطيته موعدًا لأقابله فيه في مكانٍ عامٍّ، فالتَقَيْنا، وتبيَّن لي أنه
شابٌّ متفتِّح، وشرح لي ظروفَه وحياته، وماذا يحب وماذا يكره، علمتُ أنه
يتاجِر في السوق السوداء، ومُستواه المادي ممتاز؛ بسبب مثل هذه التجارة غير
القانونيَّة.
بصراحة
أنا أريد الزواج لأتخلَّص مِن سيطرة أبي عليَّ، ولأنَّ سنِّي متقدِّم،
وأريد انتهاز فرصة لأتخلص مِن العنوسة، فاستخرتُ الله، وشاورتُ أهلي، وكان
الرفضُ هو الجواب النهائي.
ذهبتُ
لأخبره بهذا الجواب، فإذا به يخبرني هو برفضِه، وأنني أهنتُه عندما سألتُه
عن عمله ودخْلِه ووظيفة والده، وأنه لا يحق لي فِعْل مثل هذا، وأنني من
المفترض أن أشكره على أنه سيعطيني الحرية التي حُرِمتُ منها في بيت أهلي،
وكان يتوجب عليَّ أن أساعدَه في عمله، وأن أساعدَ معه في النفقات، بدل أن
أسأله!!
لا
أخفيكم سرًّا نزل مِن عيني؛ فالرجولةُ الحقيقيةُ هي التي بها يكون الرجلُ
منْفِقًا على عياله وبيته حسب مقْدوره، لكنِّي شعرتُ أنه انتهازيّ، وجد
فتاةً جميلةً ثريَّة متعلِّمة؛ فأراد اقتِناصها ليستفيد!
لي بعض الأسئلة منها:
1- هل رفْضُه لي هو نتيجة الاستخارة؟
2- هل أخطأتُ عندما سألتُه عن راتبه، ووظيفة أبيه؟
أشيروا عليَّ عما يجب السُّؤال عنه في المرات القادمة؛ حتى أستفيدَ من هذه التجربة.
وجزاكم الله خيرًا، ومعذرة على الإطالة.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حياكِ اللهُ مجددًا، ونشكر لكِ تواصُلكِ معنا, وصَلكِ الله بطاعته ورضوانه.
نعم أخطأتِ بلا شك, لكن الخطأ
ليس في جِنس الأسئلة التي طرحتِها؛ فمِن حقكِ التعرُّف على وضعِه الاجتماعي
والمادي، وظروفه المعيشيَّة لتقيِّمي مُستواه، ومن ثَم تقررين: هل هو
مناسب للارتباط أو لا؟
وإنما خَطَؤكِ في التجاوُز،
وتخطِّي حُدود التعامُل مع رجلٍ أجنبيٍّ لا يمتُّ لكِ بصِلة، وخروجكِ معه،
ومواعدته في مكان خارج البيت، وبمنأى عن الأهل والمحارم, والتحاوُر معه في
أمور شخصيَّة، والإجابة بـ"براءة" عنْ أسئلةٍ خاصة, كل ذلك لا يجوز, ولا
يليق بعاقلةٍ مثلكِ تجاوزت الثلاثين أن تقعَ في مثْل ذلك, والرغبة في
الزواج لا تدفع بالمسلمة الملتَزِمة إلى تخطِّي كلِّ هذه الحُدود مع
الأجانب, واعلمي أنَّ ما عند الله لا يُنال إلا بطاعة الله, فراجعي الخطأ
الحقيقي، وتداركيه؛ للاستفادة في المرات القادمة, وتجنَّبي الحوارات مع
البائعين أو السائقين أو غيرهم من الرجال؛ فَهُم كغيرهم من الرِّجال، لا
يختلفون عنهم لمجرَّد أنهم بائعون، أو أننا قد نضطر للتعامُل معهم في بعض
الأحيان, لكن التمادي في المحادَثة، وتَكْرار المعاملة يرقِّق قلب المرأة
شيئًا فشيئًا, حتى تشعرَ بفارقٍ ولو يسيرٍ بين هذا الرجل الذي اعتادتْ أن
تتحدثَ إليه وغيره من الرجال, وتزداد الأُلفةُ بتَكْرار الشِّراء، واستشعار
المرأة اللطف في أسلوب البائع، والمصيبةُ الأكبر أن يمتدحها أو يُثني على
حُسن اختيارها، أو يوهمها أنه يُعاملها مُعاملةً خاصة؛ لأنها مِن زبائنِه،
ولها مكانة خاصة, فتقع المرأة في الفخِّ بسُهولة، وتشعر بالارتياح لهذا
البائع، وتُؤثِر الشِّراء منه في كلِّ مرة, وتتهاون في الحديث معه،
وتتبسَّط على نحو لا يرضاه الله, لكنها لا تكاد تشعر مِن ذلك بشيءٍ
لتدرُّجه!
أمَّا بخصوص وضعِه الماديِّ
والاجتماعيِّ, فمِن حقكِ اختيار مَن يناسبكِ ومَن ترجين معه حياةً طيِّبة
في غير حاجة أو فاقةٍ, لكن الأساس الأول لا بُدَّ أن يُبنَى على طاعة الله،
وعليكِ أن تنظري إلى دين الرجل وخُلقه قبل سائر الصفات؛ عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا خطب
إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه, إلَّا تفعلوا تكنْ فتنة في الأرض
وفسادٌ عريض))؛ رواه الترمذي، وابن ماجَهْ، وحسَّنه الألباني.
فإن صلح الدِّين، وحَسُن
الخُلق, فلكِ أن تنظري في سائر ما تتمنين من صفات طيِّبة؛ كالوضع
الاجتماعي، والأسري، وخلقته، ومدى القبول لديكِ.
مِن الأخطاء التي تقع فيها
طائفةٌ كبيرة من الفتيات: المبالغة في خوفِها مِن تقدُّم العمر، وقلة
الراغبين فيها, ولا أخالفكِ هنا في أنَّ رغبة الرجال تقلُّ في المرأة مع
تقدُّمها في العُمر, لكن لن يحولَ ذلك دون رِزْقٍ كَتَبَهُ الله لها، أو
يجلب أمرًا لم يكتبه اللهُ لها, فمن الإيجابية أن تنظرَ المرأة في شأنها
وعمرها وحالها، وتعيدَ التفكير في أسلوبها، وما قد يصرف الخطَّابَ عنها,
على ألَّا يحملها ذلك على إساءة الظنِّ بالله، أو الاعتقاد بأن تفتحها
وتعامُلها مع الرجال قد يغيِّر من الأمر شيئًا، أو يُحدث في الأقدار بدعًا!
ومهما زادت الرغبةُ الفطريَّةُ
في الزواج، فلا يكون تقديم التنازُلات في جانب الدين أو الخلُق أبدًا،
وطائفة أخرى تُبالغ في العكس؛ فترفض الأخْذ بالأسباب، بل وترفض مَن يتقدَّم
إليها، وإن تقدَّم بها العمر على اعتبار أن هذا رزق مِن الله، وأنه متى
أراد الله تحقَّق وإن أبتْ هي وجميع أهلها!
ومِن أجمل ما قرأتُ في هذا المعنى ما قاله شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "يقول - تعالى:﴿ وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 47].
فذَمَّ مَن يترك المأمور به
اكتفاءً بما يجري به القدرُ، ومِن هنا يُعرف أنَّ السببَ المأمور به، أو
المباحَ، لا يُنافي وُجوب التوكُّل على الله في وُجود السبب، بل الحاجةُ
والفقر إلى الله ثابتةٌ مع فِعْل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده
سببٌ تام لحُصول المطلوب.
ولهذا لا يجب أن تقترنَ الحوادثُ بما قد يُجْعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكنْ.
فمَن ظَنَّ الاستغناء بالسبب عن
التوكُّل، فقد ترك ما أوجب الله عليه مِن التوكُّل، وأخَلَّ بواجب
التوحيد، ولهذا يُخذَل أمثالُ هؤلاء إذا اعتَمدوا على الأسباب، فمَن رجا
نصرًا أو رِزْقًا من غير اللهِ خَذَلَه اللهُ؛ كما قال علي - رضي الله عنه
-: "لا يرجُوَن عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافن إلا ذنبه"، وقد قال تعالى: ﴿ مَا
يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2]".ا.هـ "الفتاوى الكبرى - ج 1 / ص 107".
أخيتي الكريمة, لا تَرغب المرأة
في رجلٍ ينظر إلى مالها ويعتمد عليه, ولا تُؤثِر إلا مَن ينفق عليها
ويؤويها ويحميها، ويُظهر محبته لها، مع استغنائِه عنها, لكن لا يُقدح في
دين رجل تزوَّج امرأة رغبة في دينها وخلقها، ومع ذلك مالها؛ عن أبي هريرة -
رضِيَ الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تُنكح المرأة
لأربع: لمالها، ولحسَبِها، وجمالها، ولدينها، فاظفرْ بذات الدِّين تربتْ
يداك))؛ متفق عليه.
فرغبتكِ في رجلٍ يستغني عن
مالكِ، ولا يحتاج لمساعدتكِ، لا تعني بالضرورة تحقير من يبحث عمن تُساعده
على ظروف الحياة، وتُعينه ماديًّا، ما لم ترتكب بعملها معصيةً.
سؤالكِ: "هل رفضه لي هو نتيجة الاستخارة؟".
قال الشيخ محمد بن صالح المنجد -
حفظه الله -: " يظن كثيرٌ من الناس أنه يشترط في نتيجة الاستخارة أن
يتبعها رؤيا منام, أو راحة ملموسة في الصدر، أو ما شابه ذلك، مع أن الأمر
ليس كذلك، فلو لم يحدثْ شيء من ذلك وكان الإنسانُ قد استخار، وبذل الأسباب
الممكنة في معرفة الأصلح له من الاستشارة، والتحرِّي, وسؤال أهل الخبرة، ثم
أقدم بعد ذلك، فيرجى أن يكونَ هذا هو الخير له، ولو لم ينشرحْ صدرُه
ابتداءً، بل حتى لو فرض عدم توفيقه في هذا الأمر الذي أقدم عليه بعد
الاستخارة، فقد يكون فيه خير له لا يعلمه هو، ويعلمه ربه - عز وجل".
سؤالكِ: "أشيروا علي عما يجب السؤال عنه في المرات القادمة؛ حتى أستفيدَ من هذه التجربة".
في المرات القادمة - بإذن الله -
عليكِ أن تضعي شرع الله، وطلَب مرضاته، نصْبَ عينيكِ؛ فلا مواعدة في أماكن
عامة، ولا محادثة خارج البيت وبعيدًا عن الأهل، ولا تحاوُر مع رجال أجانب،
مهما بدا لكِ مِن أخلاقِهِم ما يرضيكِ، ومِن أفعالهم ما يُطمئنكِ, وفي
المرَّات القادمة عليكِ أن تضعي حدودًا للتعامُل مع البائعين أو السائقين
ونحوهم، مما قد تتهاون الفتاة في التعامل معهم، وتُحسن الظن بهم.
لا أجد ما يمنعكِ من الاستفسار
عن الخاطب وأحواله، والتعرُّف على شخصيته في وجود المحرم, على أن تتركي
التحدُّث في الأمور المادية للوالد, ليس لحُرمة ذلك، وإنما لأنَّ بعض
الرجال في مجتمعاتنا قد ينظرون للفتاة التي تتحدث في مثل هذه الأمور بنفسها
نظرة غير محايدة، ويختلف ذلك باختلاف الطبائع والبيئات، وقد يحصل المقصود
باستفسار المحرم عما تريدينه أنتِ.
أخيرًا:
ليس المهم أنه رفَض الزواج بكِ
قبل أن تفعلي, وليس في ذلك ما يهينكِ، أو يَحط مِن قدركِ, وإنما المهم الآن
أنَّ الله قد صرفه بعد أن صليتِ الاستخارة، وعليكِ بالرضا عن أقدار الله,
وسليه أن يُخلفَ عليكِ خيرًا، وهو خير الرازقين.
وفقكِ الله، وأكرمكِ بما تُحبين من خيري الدنيا والآخرة, والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.